إن على الذينيهتمون بالجانب العبادي، اغتنام الليالي البيض؛ ليحولواهذه الليالي المباركة إلى محطة بيضاء، وإلى فرصة لتبييض القلوب.. فإن الله -عزوجل- له تجليات متميزة في السنة، ومنها في شهر رمضان.. وأثناء الشهر أيضاً،هنالك تجليات متميزة: كليلة القدر، وليلة الجمعة، والليالي البيض، والليلةالأخيرة من الشهر الكريم.. والمؤمن صياد الفرص، لأن الفرص تمر كما تمر السحاب.. فعالم الدنيا كالسوق: هناك بعض المحلات تجعل ساعات أو أياما، تبيع فيها البضاعة بأرخصِ الأسعار!.. والإمام الهادي -عليه السلام- يقول: (الدنيا سوق؛ ربح فيها قوم، وخسر آخرون)، فالمؤمن يترقب هذه الفرص الاستثنائية،ليحقق التكامل في حياته.
-الآداب المعنوية للعمل الإسلامي:
أولا: الدمج بين الآداب الباطنية، والحركة الخارجية.. إن كلمة الآدابالمعنوية، تقترن عادةً بالعبادةِ المعنوية، مثل: الصلاة،والحج، وقراءة القرآن.. ولكن هذه النقلة الجميلة للدمجوالمزج بين عالم الآداب الباطنية، وبين الحركة الخارجية في الحياةِ، هي سمةواعية من العاملين.. وهذه الفقرة الجميلة في المناجاة الشعبانية: (فَناجَيْتَهُ سِرّاً، وَعَمِلَ لَكَ جَهْراًً)، هذا هو المنهج الذي يريده الإسلام، لا يريدمن الإنسان أن يناجي ربه سراً، فتتحول هذه الطاقة إلى طاقة مهدورة!.. هذه الأيام مصانعتوليد الطاقة الكهربائية، تحول الطاقة المختزنة إلى حركة في الخارج.. والمياه هذه الطاقة التي هي مهدورةفي عالم الطبيعة، يحولها الإنسان بتدبيره إلى طاقة في الخارج!..
- إن هناك فرقا كبيرا بينإنسان يعيش ليلةً في مناجاةٍ مع رب العالمين، حيثُ: الدموع الغزيرة، والركوعات المتصلة، والسجدات المتواصلة.. ولكنه في النهار، لا وزن له فيحركة الحياة، لا يُغير ساكناً في حياة الأمة، وأقرب الناس إليه، زوجته أولاده، هم أبعد ما يكونون عن منهجهِ.. ولكن طبيعة الإسلام ليس هكذا أبداً، يقول تعالى في كتابه الكريم: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا}، فقد جعلالإسلام النفس في كفةٍ، والأهل في كفة متقاطبة.. وعندما بعث الله -تعالى- النبي الأكرم -صلى الله عليهوآله- طلب الله -عز وجل- منه أنيُنذر عشيرته الأقربين، {وَأَنذِرْ عَشِيرَتَكَ الأَقْرَبِينَ}.. فالنبي (ص) مزج بين غار حراء، وبينالعمل الدائب في مكة: وقد تَحمل أذى قريشٍ، والمقاطعة في شعبِ أبي طالب، وكان يرى أصحابه وهم يُعذبون ويغادرون من مكانٍ إلى مكان.. وقد نال النبي (ص) رضا الله -عز وجل- حين جمعبين هاتين الحركتين.
ثانيا: الأنس بالله -عز وجل-.. إن هناك فرقا بين أن تكون الحركة في ذاتها منطلقة من أمر المولى،وبين أن ينوي الإنسان أن تكون حركته بأمرِ المولى؟!.. أي فرق بين البناء على القرب، وبين الانطلاقة القربية!.. مثلا: بإمكان الشاب أن يدعي أن زواجه هو قربة إلىاللهِ -عز وجل-، أي ينوي بداءً نيتين: نية القربة، ونية الزواج.. مع أن واقع العمل هو إشباع الغريزة!.. فلو وصل الإنسان إلىهذه الدرجة، يكون قد وصل إلى مرحلة الامتناع، والاندكاك، والتقهقر.. ولا يكون ذلك إلا عندما يصل الإنسان المؤمن إلى درجة الأنس بالله -عز وجل-.. فمثلا: ما الذي يجعل الشاب يغادر ويعمل سنوات طويلة في الصحاري، وفيعالم الغربة، وفي أماكن لا تلائم؟.. إنه يتحمل كل ذلك كي يصل إلى بناء أسرة، فإحساسهباللذة والأُنس بهذا الجو المستقبلي، هو الذي دفعه لتحمل كل هذه العقباتالصعاب.. وكذلك بالنسبة للإنسان المؤمن.
ثالثا: الإكثار ممن يحبون الله -عز وجل-.. إن من أهم صفات المحب،أن يُكثر من محبي المحب، وفي عالم الحب يقال: "إن أفضل هدية تُقدم إلى المحبوب، هي أن تُكثر من القلوبالمحبة له".. لو جاء أحدهم لمن يحببأغلى التحف والهدايا، وهناك محب آخر روج له شخصياً.. فإنه يرى أن هذه الحركة لا تقاس بهذهالمواد الجامدة من الهدايا!.. إن من أفضل سبلالقرب إلى الله -عز وجل- أن يُكثر الإنسان ممن يحب ربه.. روي أن رسول الله -صلى الله عليه وآله وسلم- بعث عليا في سرية، فرؤيا رافعا يديه وهو يقول: (اللهم لا تمتني حتى تريني عليا)!.. فالنبي (ص) كان لا يتحمل فراق عليكثيراً، وقد ورد في الحديث الشريف أن الله –تعالى- خاطب نبيه -أثناء رحلة المعراج- بأحب الأصوات إليه، وهو صوت علي عليه السلام.. وبالرغم من هذا التوازن التام بين الروحين، فإن النبي الأكرم (ص) يبعث علياً (ع) إلى اليمن!.. في هذه السفرة التي ذهب فيها علي إلى اليمن، كم عانى من العذابعلى فراق حبيبه المصطفى، وكم عانى النبي (ص) أيضاً من فراق حبيبهِ المرتضى!.. ولكن لابدمن هذه الحركة التكاملية لعليٍّ صلوات الله وسلامه عليه.
رابعا:عدم توقع التأثير السريع.. إن في عالمالطب، نلاحظ بأن العقاقير ذات أثر سريع، فالإنسان الذي في غرفة العمليات، وهو يتكلم مع الطبيب، وإذا بوخزة إبرة تنقله إلى عالم آخر!.. فيُفتح بطنه، وتُقطع أعضائه، وهو لا يشعربذلك.. وهذا هو الذي جعل طب الحبوب، يتفوق على طبالأعشاب؛ لأن الأعشاب تأثيرها بطيء.. وفي عالم التكوين، التأثير سريع.. ولكن في عالم الأرواح ومع مرورالزمان، فإن التأثير ليس كتأثير حبوب الدواء المسكن على السلسلةالعصبية للإنسان!.. فالنفس الإنسانية روح معقدة تتجاذبها الأكوان: الشياطين تحولدون وصول الكلمة الطيبة المؤثرة، والتركيبة الاجتماعية، وأصدقاء السوء، والتجاذبالاجتماعي.. فلا يتوقع أن يتكلم الإنسان بالكلمة، وإذا بهذه الكلمة كفعل السحر فيالنفوس.. فالنبي الأعظم (ص) بعد هذه السنوات من المجاهدة: في مكة ثلاث عشرة سنة، وفي المدينة معركة بدر وأحد، وإذا بالنبي (ص) يصعد المنبر ليخطبالجمعة، فينفض الناس عن رسول الله صلى الله عليه وآله..ولكن الله -عز وجل-طيب قلب حبيبه المصطفى (ص)، بأن أنزل سورة الجمعة، وركز على تلك الخطبة اليتيمة التيانفض عنها الناس.. فرب العالمين عوضه بسورة، تُتلى في كل جمعة إلى قيام الساعة.
- إن نفس النبي (ص) لم يكن بأقل من نفس المسيح (ع)، الذيكان يُحيي الموتى.. ولكن مع ذلك فإن هذا هو ديدنه، وهذا أسلوبه: يتكلم فيرى تجاوباًفي موضع، ولا يرى تجاوباً في موضع؟!.. والبعض يستهزأ بالنبي المصطفى (ص)، ويتهم بأنه مجنون.. والقرآن قد ذكر هذه العبارة لحبيبه المصطفى -صلى الله عليه وآله-: {إِنَّ اللَّهَ فَالِقُ الْحَبِّ وَالنَّوَى}؛ أي هو الذي يفلق القلوب، إذا وضع فيها القابلية والنمووالتكامل.
خامسا: عدم تحويل المؤسسات إلى مراكز مستقلة.. إن على المؤمن أن لا يحول المآتم، والمساجد،والجمعيات إلى مراكز مستقلة.. فالإنسان عندما يتوجه إلى الله -عز وجل- من خلال خدمةعبادهِ، وعمران بلادهِ؛ عليه أن ينظر إلى أن كل عمل يصب في هذا المجال.. وذلككمن يركب قاربا مع جماعة في معبر العواصف الهوجاء، وهميعلمون أنه كلما اشتدتْ سرعتهم، كلما نجوا من المخاطر، فيأخذ كل واحد منهم يشد من أزرِ الآخر..فهل هذا الإنسانيُصاب بحالة من حالات الغيرة والحسد، ممن يقوم بالعمل بشكل أسرع منه، أو أفضل منه؟!.. وبالتالي، فإنه يجب أن نطبق هذه الحركة المجدافية في حياتنا اليومية، ويجب أن نعتبر أن كل خطوة في أيِّ مسجد، وفي أيِّ مؤسسة، يصبْ في الحركة العامة..إيانا أن نحول هذه المؤسسات إلى أصنامٍ، وإلى معابدٍ تُعبد من دون الله -عز وجل-!..فالإنسان في كثير من الحالات يعشق العناوين، ويريد أن يجري الخير على يده، فإذاجرى هذا الخير على يد الغير وبشكل مضاعف.. فإنه يرى في نفسه حزازة، وهذامعنى الذمية والذاتية!.. وهنالك عبارة جميلة تقول: (لو اجتمع الأنبياء في قرية واحدة، لما وقع بينهم تنازع)؛ لأن الهدف هدف رسالي واحد.. ومن هنا، فإن الذي لا يعيش الرسالية -حتى لو كان في مقام خدمة الإسلام والمسلمين- فإنه سيقع في بعض المحاذير في هذا المجال.. فلماذا التنافس؟!.. هب أن طبيباً ذهب إلى بعضالبيئ المريضة، إذا جاء طبيبٌ آخر ليساعده في علاج الموبوءين.. فإن هذا الطبيب سيزدادفرحاً وأُنساً؛ لأنه سيرتاح في ساعة من ساعات ليلهِ ونهاره.
سادسا: ملاحظة استمرار نية القربة.. إن الإنسان من الممكن أن يبدأبداية طيبة، ولكن مع مرور الأيام تتحول القضية إلى حالة من حالات عبادة الذات..المشكلة في طلبة العلم، إنهم يبدءون بداية طيبة!.. فأول سنة هي من أفضل سنوات طلبة العلم، حيث: التقوى، والزهد، وقيام الليل، ولكنالمشكلة في النهاية؟!.. فهذا الذي بدأ هكذا بداية: طيبة، وجيدة، ومتقنة، وقربية، وفيها إنكار للذات، وتحطيم لهذه النفس.. وإذا به في مقام العمل، ينحرفعن هذه المسيرة تدريجياً.. فبعض الأوقات تتحول العقيدة إلى جزء من ذات الإنسان، فهوعندما يدعو للإسلام؛ يدعو إلى عقيدته، وإلى ما أصبحت جزءاً من ذاته، ومن قوامشخصيته.. فينسى المنطلقات الإلهية والرسالية!.. والشاهد على ذلك: ما كان يحدث زمن الشيوعية!.. فماالذي كان يدفع الشيوعي أن يُحكم عليه بالإعدام، فيذهب إلى حبل المشنقة، ويستسلم للموت؟!.. على إنكاره للمعاد، والحساب، والجزاء!.. لأن هذا الشيوعي يقول: هذا جزء من ذاتي، لا دخل لي بماركس ولا غيره، وإنما هذه العقيدة جزء من تكويني.. وبالتالي، فإن ما يخشى منه هو أنيتعامل البعض مع الشريعة الحقة، كتعامل الشيوعي مع شيوعيته!.. فتصبح الشريعة جزءا من ذاتهوتكوينه، ويرى أن هذه الشريعة هي متصلة بذلك العالم، ويدافع عن عقيدتهبما هي عقيدته!.. قد يقول البعض: ما المانع من ذلك؟!.. يا لها من مرتبة عالية، أن تصبح الشريعة جزءا من ذات الإنسان!.. نقول: لا، لأنه بالنظرة الفاحصة، وبالنظرة الدقيقة تصبح هنا مسألة "الشرك الخفي"!.. والدليل على ذلك ما قام به علي -عليه السلام-عندما جلس ليحز رأس ذلك المشرك، فبصق في وجه علي، أو أهان علياً بكلمة.. فقام وأخذ يحوم في الميدان، ثم رجع وقام بقتله، وذلك كي يكون هذا العمل لوجه الله -عز وجل- لاانتقاما وثأرا لنفسه وذميته وذاتيته.
سابعا: عدم التعويل على المدد الغيبي.. ينبغي على المؤمن في العمل الاجتماعي، أن لا يعول على المدد الغيبي؛ لأن الإنسان لا يعلم متى يأتيالمدد؟.. فالمسلمون في معركة أحد كانوا ينظرون يميناً وشمالاً، حتى تأتيالملائكة المسومة كما في معركة بدرٍ، فلم تأت الملائكة!.. وهم أحوج ما يكونون إلى نصرةالملائكة، وذلك لأنه كان قد أُشيع بأن النبي (ص) قُتل، وكذلك الإسلاميحتاج إلى معارك تنتهي بنصرٍ، ولكن الله -عز وجل- حبس عنهم النصر..فرب العالمين هو صاحب المدد.. هنالك أمران مسلّمان في حياة الإنسان، ولكن لا قانون لهما، وهما: الشفاعة، والمدد.. إن البعض يرتكب المعاصي، على أملالشفاعة!.. ولكن هل هو متيقن أن الشفاعة ستشمله؟.. فالإمام الصادق -عليه السلام- جعل من شروطالشفاعة، عدم الاستخفاف في الصلاة!.. قال (ع): (إنّ شفاعتنا، لا تنال مستخفاً بصلاته)!.. هذا الذي ذُكر، وأما الذي لم يذكرْ فهناك الكثير..وبالتالي، فمن الذي ضمن له هذه الشفاعة؟.. ومن الذي ضمن له المددالغيبي؟.. فالنبي الأكرم -صلى الله عليه وآله- احتج على ذلك الذي ترك بعيرهفي الصحراء، فضاع.. وقال مقولته المشهورة: (أعقلها وتوكل)!..وعليه، فإن على الإنسان أن يبذل قصارى جهده: في العمل بتكليفه، والاستشارة في إتقانالقواعد المبتكرة، وفي ابتكار الأساليب المؤثرة، والفاعلة،والاستفادة من العلوم الحديثة.. فالقضية قضية حسية، ومادية.. والنبي الأكرم -صلى الله عليهوآله- قال هذه الكلمة: (إن الله يحب إذا عمل أحدكم عملاً، فليتقنه)، عندما كان يسوي قبراً من القبور، وهو يعلم بأن الرياح ستأتي وتزيل هذه الرمال.
- إن الله -عز وجل- جعل لكلزمان إماماً..وإمام زماننا هو الإمام المهدي (عج)، والذي سنحشر تحت رايته يوم القيامة، وأما في الدنيا فإن أعمالنا تعرض عليه صباحاً ومساءً، يومي الاثنين والخميس.. فالذي يريدأن يبارك له المولى في عمله، فليكن له سبيل إلى ذلك الوجود الطاهر.. وهنالك ثلاث مؤشراتلحياة القلوب:
الكاشف الأول: التفاعل مع مناجاة رب العالمين.. والتفاعل لا يكون فيمجلسٍ أو مجلسين.. فالإنسان قد يصاب بقسوة في مرحلة من المراحل، وأما أن يكون طوال شهر رمضان، لم يقرأ دعاء أبي حمزة، ولا مرة واحدة بتفاعل!.. ولم يستجرالدمعة ولا مرة واحدة في دعاء الافتتاح والسحر؟!.. فإن هذا القلب مريض!.. صحيح أن هذه الغدة هي عبارة عن ملحٍ ينزل من الغدد الدمعية في العين، ولكن هذه الدمعة كاشفة عن شيءٍ في القلب!.. فإذاً، إن التفاعل مع ذكر الله -عز وجل-بشكلٍ عام، هو من كواشف حياة القلب.
الكاشف الثاني: التفاعل مع ذكر أهل البيت (ع) ومصائبهم.. رحم الله ذلك الرجل العارف الذييقول: زبائن أهل البيت كثيرون!.. أما رب العالمين فلازبائن له؟!.. أحدنا في ذكر اسم سيد الشهداء -عليه السلام- يتفاعل، مصداقاً لحديث النبي (ص): (إن لقتل الحسين حرارة في قلوب المؤمنين، لا تبرد أبداً).. هذه حركة جيدة، ونحن لسنا من دعاةالتعويض!.. ولكن من دعاة الإضافة، والزيادة.. فالبعض يقول: دعوا هذا البكاء، وابكوافي المناجاة!.. ولكن الجمع بينهما هو طريق العبادة.
الكاشف الثالث: التفاعل مع ذكرالإمام المهدي -صلوات الله وسلامه عليه-.. لا نكاد نجد في بيئتنا هذه، ذلك التفاعل مع الإمام كإمامٍ حيٍّ.. عليٌّ -عليه السلام- يقول: (ولقد بلغني أن الرجل منهم، كان يدخل على المرأة المسلمة، والأخرى المعاهدة.. فينتزع حجلها وقلائدها ورعاثها.. فلو أن الرجل مات بعد ذلك آسفا، لما كان عندي ملوما، بل كان عندي جديرا).. فصاحب الأمر -عليه السلام- هوولد علي، وهو على امتداد خط علي -عليه السلام-، ويحمل نفس المشاعر.. فإذا أراد الإنسان أن يبارك له رب العالمين في أعماله، فليربطأعماله بهذا الوجود الطاهر المبارك.. فإذن، إن على المؤمن قبل كل عمل، وأثناء العمل، وحين العمل.. يحاول أن يتذكر صاحب الرعاية لهذه الأمة!.. فبيمنه رُزق الورى، وبوجوده ثبتت الأرض والسماء.. عن أبي جعفر الباقر -عليه السلام- أنه قال: (لو أن الإمام رفع من الأرض ساعة، لساخت بأهلها وماجت، كما يموج البحر بأهله).
-الآداب المعنوية للعمل الإسلامي:
أولا: الدمج بين الآداب الباطنية، والحركة الخارجية.. إن كلمة الآدابالمعنوية، تقترن عادةً بالعبادةِ المعنوية، مثل: الصلاة،والحج، وقراءة القرآن.. ولكن هذه النقلة الجميلة للدمجوالمزج بين عالم الآداب الباطنية، وبين الحركة الخارجية في الحياةِ، هي سمةواعية من العاملين.. وهذه الفقرة الجميلة في المناجاة الشعبانية: (فَناجَيْتَهُ سِرّاً، وَعَمِلَ لَكَ جَهْراًً)، هذا هو المنهج الذي يريده الإسلام، لا يريدمن الإنسان أن يناجي ربه سراً، فتتحول هذه الطاقة إلى طاقة مهدورة!.. هذه الأيام مصانعتوليد الطاقة الكهربائية، تحول الطاقة المختزنة إلى حركة في الخارج.. والمياه هذه الطاقة التي هي مهدورةفي عالم الطبيعة، يحولها الإنسان بتدبيره إلى طاقة في الخارج!..
- إن هناك فرقا كبيرا بينإنسان يعيش ليلةً في مناجاةٍ مع رب العالمين، حيثُ: الدموع الغزيرة، والركوعات المتصلة، والسجدات المتواصلة.. ولكنه في النهار، لا وزن له فيحركة الحياة، لا يُغير ساكناً في حياة الأمة، وأقرب الناس إليه، زوجته أولاده، هم أبعد ما يكونون عن منهجهِ.. ولكن طبيعة الإسلام ليس هكذا أبداً، يقول تعالى في كتابه الكريم: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا}، فقد جعلالإسلام النفس في كفةٍ، والأهل في كفة متقاطبة.. وعندما بعث الله -تعالى- النبي الأكرم -صلى الله عليهوآله- طلب الله -عز وجل- منه أنيُنذر عشيرته الأقربين، {وَأَنذِرْ عَشِيرَتَكَ الأَقْرَبِينَ}.. فالنبي (ص) مزج بين غار حراء، وبينالعمل الدائب في مكة: وقد تَحمل أذى قريشٍ، والمقاطعة في شعبِ أبي طالب، وكان يرى أصحابه وهم يُعذبون ويغادرون من مكانٍ إلى مكان.. وقد نال النبي (ص) رضا الله -عز وجل- حين جمعبين هاتين الحركتين.
ثانيا: الأنس بالله -عز وجل-.. إن هناك فرقا بين أن تكون الحركة في ذاتها منطلقة من أمر المولى،وبين أن ينوي الإنسان أن تكون حركته بأمرِ المولى؟!.. أي فرق بين البناء على القرب، وبين الانطلاقة القربية!.. مثلا: بإمكان الشاب أن يدعي أن زواجه هو قربة إلىاللهِ -عز وجل-، أي ينوي بداءً نيتين: نية القربة، ونية الزواج.. مع أن واقع العمل هو إشباع الغريزة!.. فلو وصل الإنسان إلىهذه الدرجة، يكون قد وصل إلى مرحلة الامتناع، والاندكاك، والتقهقر.. ولا يكون ذلك إلا عندما يصل الإنسان المؤمن إلى درجة الأنس بالله -عز وجل-.. فمثلا: ما الذي يجعل الشاب يغادر ويعمل سنوات طويلة في الصحاري، وفيعالم الغربة، وفي أماكن لا تلائم؟.. إنه يتحمل كل ذلك كي يصل إلى بناء أسرة، فإحساسهباللذة والأُنس بهذا الجو المستقبلي، هو الذي دفعه لتحمل كل هذه العقباتالصعاب.. وكذلك بالنسبة للإنسان المؤمن.
ثالثا: الإكثار ممن يحبون الله -عز وجل-.. إن من أهم صفات المحب،أن يُكثر من محبي المحب، وفي عالم الحب يقال: "إن أفضل هدية تُقدم إلى المحبوب، هي أن تُكثر من القلوبالمحبة له".. لو جاء أحدهم لمن يحببأغلى التحف والهدايا، وهناك محب آخر روج له شخصياً.. فإنه يرى أن هذه الحركة لا تقاس بهذهالمواد الجامدة من الهدايا!.. إن من أفضل سبلالقرب إلى الله -عز وجل- أن يُكثر الإنسان ممن يحب ربه.. روي أن رسول الله -صلى الله عليه وآله وسلم- بعث عليا في سرية، فرؤيا رافعا يديه وهو يقول: (اللهم لا تمتني حتى تريني عليا)!.. فالنبي (ص) كان لا يتحمل فراق عليكثيراً، وقد ورد في الحديث الشريف أن الله –تعالى- خاطب نبيه -أثناء رحلة المعراج- بأحب الأصوات إليه، وهو صوت علي عليه السلام.. وبالرغم من هذا التوازن التام بين الروحين، فإن النبي الأكرم (ص) يبعث علياً (ع) إلى اليمن!.. في هذه السفرة التي ذهب فيها علي إلى اليمن، كم عانى من العذابعلى فراق حبيبه المصطفى، وكم عانى النبي (ص) أيضاً من فراق حبيبهِ المرتضى!.. ولكن لابدمن هذه الحركة التكاملية لعليٍّ صلوات الله وسلامه عليه.
رابعا:عدم توقع التأثير السريع.. إن في عالمالطب، نلاحظ بأن العقاقير ذات أثر سريع، فالإنسان الذي في غرفة العمليات، وهو يتكلم مع الطبيب، وإذا بوخزة إبرة تنقله إلى عالم آخر!.. فيُفتح بطنه، وتُقطع أعضائه، وهو لا يشعربذلك.. وهذا هو الذي جعل طب الحبوب، يتفوق على طبالأعشاب؛ لأن الأعشاب تأثيرها بطيء.. وفي عالم التكوين، التأثير سريع.. ولكن في عالم الأرواح ومع مرورالزمان، فإن التأثير ليس كتأثير حبوب الدواء المسكن على السلسلةالعصبية للإنسان!.. فالنفس الإنسانية روح معقدة تتجاذبها الأكوان: الشياطين تحولدون وصول الكلمة الطيبة المؤثرة، والتركيبة الاجتماعية، وأصدقاء السوء، والتجاذبالاجتماعي.. فلا يتوقع أن يتكلم الإنسان بالكلمة، وإذا بهذه الكلمة كفعل السحر فيالنفوس.. فالنبي الأعظم (ص) بعد هذه السنوات من المجاهدة: في مكة ثلاث عشرة سنة، وفي المدينة معركة بدر وأحد، وإذا بالنبي (ص) يصعد المنبر ليخطبالجمعة، فينفض الناس عن رسول الله صلى الله عليه وآله..ولكن الله -عز وجل-طيب قلب حبيبه المصطفى (ص)، بأن أنزل سورة الجمعة، وركز على تلك الخطبة اليتيمة التيانفض عنها الناس.. فرب العالمين عوضه بسورة، تُتلى في كل جمعة إلى قيام الساعة.
- إن نفس النبي (ص) لم يكن بأقل من نفس المسيح (ع)، الذيكان يُحيي الموتى.. ولكن مع ذلك فإن هذا هو ديدنه، وهذا أسلوبه: يتكلم فيرى تجاوباًفي موضع، ولا يرى تجاوباً في موضع؟!.. والبعض يستهزأ بالنبي المصطفى (ص)، ويتهم بأنه مجنون.. والقرآن قد ذكر هذه العبارة لحبيبه المصطفى -صلى الله عليه وآله-: {إِنَّ اللَّهَ فَالِقُ الْحَبِّ وَالنَّوَى}؛ أي هو الذي يفلق القلوب، إذا وضع فيها القابلية والنمووالتكامل.
خامسا: عدم تحويل المؤسسات إلى مراكز مستقلة.. إن على المؤمن أن لا يحول المآتم، والمساجد،والجمعيات إلى مراكز مستقلة.. فالإنسان عندما يتوجه إلى الله -عز وجل- من خلال خدمةعبادهِ، وعمران بلادهِ؛ عليه أن ينظر إلى أن كل عمل يصب في هذا المجال.. وذلككمن يركب قاربا مع جماعة في معبر العواصف الهوجاء، وهميعلمون أنه كلما اشتدتْ سرعتهم، كلما نجوا من المخاطر، فيأخذ كل واحد منهم يشد من أزرِ الآخر..فهل هذا الإنسانيُصاب بحالة من حالات الغيرة والحسد، ممن يقوم بالعمل بشكل أسرع منه، أو أفضل منه؟!.. وبالتالي، فإنه يجب أن نطبق هذه الحركة المجدافية في حياتنا اليومية، ويجب أن نعتبر أن كل خطوة في أيِّ مسجد، وفي أيِّ مؤسسة، يصبْ في الحركة العامة..إيانا أن نحول هذه المؤسسات إلى أصنامٍ، وإلى معابدٍ تُعبد من دون الله -عز وجل-!..فالإنسان في كثير من الحالات يعشق العناوين، ويريد أن يجري الخير على يده، فإذاجرى هذا الخير على يد الغير وبشكل مضاعف.. فإنه يرى في نفسه حزازة، وهذامعنى الذمية والذاتية!.. وهنالك عبارة جميلة تقول: (لو اجتمع الأنبياء في قرية واحدة، لما وقع بينهم تنازع)؛ لأن الهدف هدف رسالي واحد.. ومن هنا، فإن الذي لا يعيش الرسالية -حتى لو كان في مقام خدمة الإسلام والمسلمين- فإنه سيقع في بعض المحاذير في هذا المجال.. فلماذا التنافس؟!.. هب أن طبيباً ذهب إلى بعضالبيئ المريضة، إذا جاء طبيبٌ آخر ليساعده في علاج الموبوءين.. فإن هذا الطبيب سيزدادفرحاً وأُنساً؛ لأنه سيرتاح في ساعة من ساعات ليلهِ ونهاره.
سادسا: ملاحظة استمرار نية القربة.. إن الإنسان من الممكن أن يبدأبداية طيبة، ولكن مع مرور الأيام تتحول القضية إلى حالة من حالات عبادة الذات..المشكلة في طلبة العلم، إنهم يبدءون بداية طيبة!.. فأول سنة هي من أفضل سنوات طلبة العلم، حيث: التقوى، والزهد، وقيام الليل، ولكنالمشكلة في النهاية؟!.. فهذا الذي بدأ هكذا بداية: طيبة، وجيدة، ومتقنة، وقربية، وفيها إنكار للذات، وتحطيم لهذه النفس.. وإذا به في مقام العمل، ينحرفعن هذه المسيرة تدريجياً.. فبعض الأوقات تتحول العقيدة إلى جزء من ذات الإنسان، فهوعندما يدعو للإسلام؛ يدعو إلى عقيدته، وإلى ما أصبحت جزءاً من ذاته، ومن قوامشخصيته.. فينسى المنطلقات الإلهية والرسالية!.. والشاهد على ذلك: ما كان يحدث زمن الشيوعية!.. فماالذي كان يدفع الشيوعي أن يُحكم عليه بالإعدام، فيذهب إلى حبل المشنقة، ويستسلم للموت؟!.. على إنكاره للمعاد، والحساب، والجزاء!.. لأن هذا الشيوعي يقول: هذا جزء من ذاتي، لا دخل لي بماركس ولا غيره، وإنما هذه العقيدة جزء من تكويني.. وبالتالي، فإن ما يخشى منه هو أنيتعامل البعض مع الشريعة الحقة، كتعامل الشيوعي مع شيوعيته!.. فتصبح الشريعة جزءا من ذاتهوتكوينه، ويرى أن هذه الشريعة هي متصلة بذلك العالم، ويدافع عن عقيدتهبما هي عقيدته!.. قد يقول البعض: ما المانع من ذلك؟!.. يا لها من مرتبة عالية، أن تصبح الشريعة جزءا من ذات الإنسان!.. نقول: لا، لأنه بالنظرة الفاحصة، وبالنظرة الدقيقة تصبح هنا مسألة "الشرك الخفي"!.. والدليل على ذلك ما قام به علي -عليه السلام-عندما جلس ليحز رأس ذلك المشرك، فبصق في وجه علي، أو أهان علياً بكلمة.. فقام وأخذ يحوم في الميدان، ثم رجع وقام بقتله، وذلك كي يكون هذا العمل لوجه الله -عز وجل- لاانتقاما وثأرا لنفسه وذميته وذاتيته.
سابعا: عدم التعويل على المدد الغيبي.. ينبغي على المؤمن في العمل الاجتماعي، أن لا يعول على المدد الغيبي؛ لأن الإنسان لا يعلم متى يأتيالمدد؟.. فالمسلمون في معركة أحد كانوا ينظرون يميناً وشمالاً، حتى تأتيالملائكة المسومة كما في معركة بدرٍ، فلم تأت الملائكة!.. وهم أحوج ما يكونون إلى نصرةالملائكة، وذلك لأنه كان قد أُشيع بأن النبي (ص) قُتل، وكذلك الإسلاميحتاج إلى معارك تنتهي بنصرٍ، ولكن الله -عز وجل- حبس عنهم النصر..فرب العالمين هو صاحب المدد.. هنالك أمران مسلّمان في حياة الإنسان، ولكن لا قانون لهما، وهما: الشفاعة، والمدد.. إن البعض يرتكب المعاصي، على أملالشفاعة!.. ولكن هل هو متيقن أن الشفاعة ستشمله؟.. فالإمام الصادق -عليه السلام- جعل من شروطالشفاعة، عدم الاستخفاف في الصلاة!.. قال (ع): (إنّ شفاعتنا، لا تنال مستخفاً بصلاته)!.. هذا الذي ذُكر، وأما الذي لم يذكرْ فهناك الكثير..وبالتالي، فمن الذي ضمن له هذه الشفاعة؟.. ومن الذي ضمن له المددالغيبي؟.. فالنبي الأكرم -صلى الله عليه وآله- احتج على ذلك الذي ترك بعيرهفي الصحراء، فضاع.. وقال مقولته المشهورة: (أعقلها وتوكل)!..وعليه، فإن على الإنسان أن يبذل قصارى جهده: في العمل بتكليفه، والاستشارة في إتقانالقواعد المبتكرة، وفي ابتكار الأساليب المؤثرة، والفاعلة،والاستفادة من العلوم الحديثة.. فالقضية قضية حسية، ومادية.. والنبي الأكرم -صلى الله عليهوآله- قال هذه الكلمة: (إن الله يحب إذا عمل أحدكم عملاً، فليتقنه)، عندما كان يسوي قبراً من القبور، وهو يعلم بأن الرياح ستأتي وتزيل هذه الرمال.
- إن الله -عز وجل- جعل لكلزمان إماماً..وإمام زماننا هو الإمام المهدي (عج)، والذي سنحشر تحت رايته يوم القيامة، وأما في الدنيا فإن أعمالنا تعرض عليه صباحاً ومساءً، يومي الاثنين والخميس.. فالذي يريدأن يبارك له المولى في عمله، فليكن له سبيل إلى ذلك الوجود الطاهر.. وهنالك ثلاث مؤشراتلحياة القلوب:
الكاشف الأول: التفاعل مع مناجاة رب العالمين.. والتفاعل لا يكون فيمجلسٍ أو مجلسين.. فالإنسان قد يصاب بقسوة في مرحلة من المراحل، وأما أن يكون طوال شهر رمضان، لم يقرأ دعاء أبي حمزة، ولا مرة واحدة بتفاعل!.. ولم يستجرالدمعة ولا مرة واحدة في دعاء الافتتاح والسحر؟!.. فإن هذا القلب مريض!.. صحيح أن هذه الغدة هي عبارة عن ملحٍ ينزل من الغدد الدمعية في العين، ولكن هذه الدمعة كاشفة عن شيءٍ في القلب!.. فإذاً، إن التفاعل مع ذكر الله -عز وجل-بشكلٍ عام، هو من كواشف حياة القلب.
الكاشف الثاني: التفاعل مع ذكر أهل البيت (ع) ومصائبهم.. رحم الله ذلك الرجل العارف الذييقول: زبائن أهل البيت كثيرون!.. أما رب العالمين فلازبائن له؟!.. أحدنا في ذكر اسم سيد الشهداء -عليه السلام- يتفاعل، مصداقاً لحديث النبي (ص): (إن لقتل الحسين حرارة في قلوب المؤمنين، لا تبرد أبداً).. هذه حركة جيدة، ونحن لسنا من دعاةالتعويض!.. ولكن من دعاة الإضافة، والزيادة.. فالبعض يقول: دعوا هذا البكاء، وابكوافي المناجاة!.. ولكن الجمع بينهما هو طريق العبادة.
الكاشف الثالث: التفاعل مع ذكرالإمام المهدي -صلوات الله وسلامه عليه-.. لا نكاد نجد في بيئتنا هذه، ذلك التفاعل مع الإمام كإمامٍ حيٍّ.. عليٌّ -عليه السلام- يقول: (ولقد بلغني أن الرجل منهم، كان يدخل على المرأة المسلمة، والأخرى المعاهدة.. فينتزع حجلها وقلائدها ورعاثها.. فلو أن الرجل مات بعد ذلك آسفا، لما كان عندي ملوما، بل كان عندي جديرا).. فصاحب الأمر -عليه السلام- هوولد علي، وهو على امتداد خط علي -عليه السلام-، ويحمل نفس المشاعر.. فإذا أراد الإنسان أن يبارك له رب العالمين في أعماله، فليربطأعماله بهذا الوجود الطاهر المبارك.. فإذن، إن على المؤمن قبل كل عمل، وأثناء العمل، وحين العمل.. يحاول أن يتذكر صاحب الرعاية لهذه الأمة!.. فبيمنه رُزق الورى، وبوجوده ثبتت الأرض والسماء.. عن أبي جعفر الباقر -عليه السلام- أنه قال: (لو أن الإمام رفع من الأرض ساعة، لساخت بأهلها وماجت، كما يموج البحر بأهله).