المساعد الشخصي الرقمي

مشاهدة النسخة كاملة : علاقة الجار بالجار ... هل تغيرت في القرن الواحد العشرين ؟!


العلوية ام موسى الاعرجي
25-12-2014, 02:00 AM
تجاورت الجدران وربما تلاصقت في كثير من الأحيان أما الأبواب فتقابلت في الحارات الشعبية والمخيمات المتواضعة ، و تشابهت إلى حدٍّ كبير في أحد العمارات السكنية العالية ، أدراج لا تتجاوز الخمسة عشر تفصل الطابق عن الآخر و يجمعهم مصعد كهربائي واحد ، يتقابل عنده الجيران لبرهة أثناء صعودهم و نزولهم ثم يعودوا ليغلقوا أبوابهم من جديد .
تطور و تغير أصاب كل مناحي الحياة في عصر العولمة والانفتاح الثقافي والتكنولوجي ، ارتطم بعلاقة الجار بالجار فتغيرت تفاصيلها وتباينت بين مد و جذر وفقاً لطبيعة الجيران أنفسهم أحدهم يرى علاقته بالجيران يجب أن تحدد بالسلام إن رآه صدفةً و ما بعد ذلك من سؤال عن أحواله بمثابة تدخلاً في خصوصياته والبعض الآخر يرى في ذلك واجباً عملاً بحديث رسولنا الكريم عليه أفضل الصلاة والسلام : " ما زال جبريل يوصيني بالجار حتى ظننت أنه سيورثه " و آخرون أخذتهم دوامة الحياة عن الاهتمام بما حوله وانصب همهم على توفير سبل الراحة والسعادة لأسرهم الصغيرة .
في التحقيق التالي نرصد علاقة الجار بالجار في المجتمع الفلسطيني هل تغيرت تفاصيلها في القرن الحادي والعشرين عمَّا كانت عليه في زمن جدي و أبي ... تابع معنا :
كما الرحى تماماً تدور عجلة الدنيا تمر سنون و سنون تتغير أدوار و تستجد أدوار أخرى ، يموت أُناس و يولد آخرون و بين الموت والحياة تتفاعل العلاقات الإنسانية بين مواساة و مشاركة في الفرح واستعانة على مشكلات و متاعب تنشأ بين حين و آخر .

والحديث عن الزمن الجميل يبدأ مع الحاجة أم يحيى في نهاية الستينيات من خريف عمرها ، تفاصيل وجهها تخبر بالود والإخاء الذي تغلل مشاعر قلبها الكبير ، عيناها تفيض حناناً و ما إن تبصر بيت الجيران المهجور حتى تبكي ألماً على من غادروها موتى تحت الثرى ، عن علاقتها بجيرانها قديماً و كيف بدت الآن في ظل تعاقب الأجيال تحدثنا بكلمات تتراوح بين دفء مشاعر القلوب و جفائها ، تقول "ساق الله على أيام زمان كان الجار فيها أخ و حامي عرض" أما الآن فالعلاقة باردة لا تتعدى حدود المجاملة في أيام الحزن والفرح في إطار تأدية الواجب ، و تتابع حديثها عن علاقتها بجيرانها قبل سنوات من العمر تجاوزت الثلاثين عاماً من الود والتراحم والاحترام والتكافل تقول : " بيتي يبعد عن الجيران قرابة ثلاثين متراً لكن الأبواب تقابل بعضها والنوافذ أيضاً أراهم صبحاً و مساءً كنا ندعو بعضنا البعض لتناول الفطور سوياً بعد أن يغدو أولادنا إلى مدارسهم و ننهي سوياً التحضير لوجبة الغذاء من تقطيف الملوخية أو تقميع البامية أو تقطيع الفاصوليا الخضراء أو الفول نجتمع في قطعة أرض للجيران الفاصلة بين بيتي و بيتهم علاقتي كانت بالحاجة أم يوسف كانت تماماً كأمي تشبه تفاصيلها أما زوجات أبنائها فكانوا أصغر مني سناً لكن الاحترام والتواد بيننا كان يغمر قلوبنا تحثنا عليه الحاجة أو يوسف و تعززه في نفوسنا " .
و تستكمل حديث الذكريات عن الجارة أم يوسف تقول : " كانت و زوجها يحتضنان الجار المستجد في المنطقة بحكم أنهم الأقدم الزيارة الأولى تكون لهم والطعام الأول الذي يدخل جوفنا كان من مائدتهم المتواضعة ، كانت وقتها لقمة الخبز لها طعمها المختلف مغموسة بالحب والإخاء " ، و تستمر : " كنا نتزاور كثيراً نحرص على مشاعر بعضنا البعض في الحزن قلوبنا تعتصر ألماً تشاركهم أحزانهم و كذلك قلوبهم ناهيك عن الاعتناء بمأكلهم و مشربهم في العزاء و كانا البادئين بذلك حين رحلت خالتي "حماتي" عن الدنيا و بعدها زوجي ، أطفالي لم ينادوها يوماً إلا بالجدة أم يوسف فحنانها كان يغمرهم و عطفها عليهم كان كبيراً ، و كان أطفالي له حافظون كلما طلبت إليهم تلبية حاجة من مكان بعيد أو قريب لبوها لها على الرحب والسعة كأنما يلبون طلباً لجدتهم أم أبيهم " .
تصمت قليلاً تتحدث عن ذكريات الفرن الطيني الذي يتربع على عرش أرضها تقول أم يحيى : " كان يوم الخبيز أجمل أيام الأسبوع كان جارتي أم يوسف تنتظر هذا اليوم لتطهو الخبز معي لأبنائها الثلاثة و تأخذ بعضاً منه لطعامها و زوجها في بيتها المتواضع ، فما إن تغرد الطيور بزقزقاتها حتى تقرع بابي لنعجن الخبز و نقطعه و من ثم نخبزه و أخيراً يكون طعامنا المفضل "القرصة" ـ عجين محشو بالبصل والطماطم والباذنجان ـ يطهى على نار الفرن نصنع منها أعداداً تكفينا جميعاً نجتمع على مائدتها بقلوب صافية محبة للخير " .
" الآن تفاصيل علاقة الجيران ببعضهم تغيرت ، لا شك أن الاحترام موجود لكن الوداد تاهت تفاصيله في زحمة الحياة تمر أياماً و أسابيع و لا يطرق الجيران بابي إلا لطلب مساعدة ، أعذرهم فتفاصيل الحياة تغيرت بدت أصعب كثيراً مما كانت عليه ألاحظ ذلك في علاقة أحفادي بأحفاد جارتي أم يوسف رحمها الله لا تتعدى إلقاء التحية و من ثم كل يغلق الباب على همومه ، في الأحزان يجتمعون فقط في بيت العزاء لسويعات قليلة و في الفرح لسويعات أقل قليلاً لا تتعدى أحياناً دقائق التهنئة بكلمات متراصة خالية من دفء المشاعر فقط تأدية واجب ليس على غرار فرحنا و حزننا الذي كان " .

الجار للجار
في الأحياء الشعبية والمخيمات الفلسطينية تبدو علاقة الجار بالجار أكثر قرباً فالأبواب منفتحة على بعضها والجدران لا يصمها الإسمنت الرمادي عن الإحساس بالجار في أزماته وتباشير فرحه .
أم شادي بالأمس القريب كانت ليلة حناء ابنتها ، ساورت الهموم قلبها ، فبيتها لا تتسع أركانه لاستقبال المهنئين و كذلك المودعين لابنتها التي ستنتقل إلى حياة جديدة في مدينة أخرى جنوب القطاع بعيداً عن المخيم ، الأب آثر إكرام ابنته والاحتفاء بها فعزم على استئجار صالة أفراح قريبة من المخيم لكن لسوء حظه كانت مشغولة و عادت الهموم من جديد تتراكم و تحاصر الأسئلة قلوبهم أين سيكون الحفل دون إجابة شافية إلا من الجارة قالت " الجار للجار " و عرضت على أم شادي استضافة ابنتها والأهل والأقارب جميعاً ، كان موقفاً رائعاً ، غمرت الابتسامة الوجوه و في ساعات المساء التف الأهل والأقارب جميعهم في حلقة دائرية حول العروس في بيت الجارة يتمايلون على الأنغام أما أم شادي فلم تملك إلا تقديم الشكر والامتنان لجارتها التي رافقتها و جمعتها بها سنين عمرٍ طويلة تباينت تفاصيلها بين الفرح والأسى كانت خلالها شقيقة روح لم تلدها أمها .
تقول أم شادي : " علاقة الجيران ببعضهم في المخيم مترابطة متعاضدة أكثر تماسكاً من علاقات الجيران في المدن التي تغزوها الأبراج السكنية " ، و تتابع :" لا أذكر يوماً سئمت من إحدى جاراتي أو تذمرت من تصرف لهم نتعامل كإخوة في عائلة واحدة الجار المقتدر يؤازر جاره المقتر نتبادل أطباق الطعام التي تشتهر بها إحدى الجارات دون غيرها فمثلاً حينما أطهو "السماقية " لا أملك عدم إطعام جاراتي منها و حينما تطهو إحداهن " المفتول " يكون للحارة نصيب منه في إطار التواد والتكافل .

لا أعرف عنهم إلا أسماءهم
في المدينة تتناثر الأبراج السكنية التي تتراص فيها البيوت فوق بعضها فقط تفصلها أدراج تطول و تقصر وفقاً لهندسة البرج المعمارية و تصميمه وأحياناً تتباعد البيوت تفصل بينها أسوار و أشجار سرو تغلف البيوت الفخمة و تحمي ساكنيها من أعين ترمقها عن بعد .
أبو شهاب في ربيع عمره السابع والثلاثين قبل أعوام طويلة انتقل مع أبنائه للعيش في المدينة بعد أن ضاقت نفسه من التنقل في بيوت الإيجار بين كل حين و حين ، يقول أنه عمد إلى شراء شقة سكنية في أحد الأبراج مساحتها جيدة يقابله شقتين يميناً و يساراً يقطنها جيران أفاضل لكني لا أعرف عنهم إلا أسمائهم و بعضاً من أولادهم حين يلهون بالإجازة الصيفية مع أبنائي في ساحة البرج ، و عن علاقته بجيرانه يقول : " أنها محدودة جداً فكل منا يلهيه عمله عن السؤال عن أحوال جيرانه " .
و يتابع : " أقابل بعضهم عند باب المصعد الكهربائي الخاص بالبرج نتبادل التحية والابتسامة أحياناً ، و أحياناً أخرى لا يكون مجال لتبادل الكلمات والسؤال عن الأحوال لضيق الوقت الذي يستغرقه المصعد في الصعود والنزول من الطابق الأرضي إلى الطابق الخامس عشر ، علاقاتنا للأسف سطحية جداً تمر مناسبات كثيراً و لا يقرع بابنا أحد الجيران و لا نقرع أيضاً أبوابهم ، أحن للجيران في بيت أبي أولئك رغم بعد المسافات بيننا إلا أني أستشعر أفراحهم و أحزانهم أشاطرهم إياها كما علمنى أبي ، حياة المدينة مختلفة الناس تعيش فقط مع نفسها و لا مجال للاختلاط والتعمق في العلاقات الإنسانية ، و علق هذه ليس قاعدة أيضاً" .

منظومة القيم تغيرت
حق الجار على الجار معلوم لأن الرسول صلى الله عليه و سلم يقول ( لا يزال جبريل يوصيني بالجار حتى ظننت أنه سيورثه) و بذلك أوصى الرسول عليه أفضل الصلاة والسلام كثيرا بالجار و حسن الجوار على اعتبار أنه أقرب إلى الإنسان من أخيه البعيد ، وبالتالي وجود الجار يساعد على الطمأنينة والثقة والرضا النفسي للإنسان .
هل أدت الحداثة إلى التراجع في علاقات الترابط والإخوة بين الجيران من الناحية الاجتماعية ؟ سؤال يجيب عليه د . درداح الشاعر أستاذ علم الاجتماع في جامعة الأقصى بغزة فيقول لنا : " أن منظومة القيم السائدة في المجتمع الفلسطيني تراجعت إن لم نقل هناك نوع من انهيار للقيم التي سادت المجتمع الفلسطيني في الفترة الأخيرة " .
ويضيف د . الشاعر : " لا شك أن الوضع الاقتصادي القاسي جعل الكل مشغول بوضعه وذاته والواقع التكنولوجي والحضاري لم يجعل مساحة من الزمن والوقت للجار بأن يجلس لجاره فالكل منشغل في الحصول على قوته و هذا دفع لتغيير بعض العادات والقيم كاللقاءات الأسرية والاجتماعات عند الجيران والسهر فالإنسان دائم البحث عن إرضاء مطالبه و حاجياته فلا يوجد وقت فراغ مما أثر على عادة التزاور والتآخي والتقارب بين الجيران و كثير من القيم ، إضافة إلى التغير من مفهوم القيم الاجتماعية التي كنا نؤمن بها واستبدلناها بقيم مادية " .

" الاغتراب " ... غربنا عن الجيران
و يقر د . سمير زقوت أستاذ علم النفس بأن العلاقة بين الجار والجار في المجتمع الفلسطيني في القرن الواحد والعشرين تغيرت بنسبية ، و يوضح : " في المخيمات كان التغير أقل لكن في المدينة أكثر بما يعرف بالاغتراب الاغتراب بالمفهوم النفسي و هو شعور الإنسان بالاغتراب عن الواقع الذي يعيشه و ذلك نتيجة للتطور الذي لم يصاحبه تطور على المستوى الاقتصادي والاجتماعي والحضاري " .

و يقول زقوت : " نحن نقلنا قيم المجتمع الغربي نتيجة للعولمة بكل تفصيلاته إلى مجتمعنا متناسيين القيم التي تربينا عليها فالعلاقات الإنسانية والعلاقات الحميدة بين الناس شبه انتهت بالإضافة إلى مجتمع يعيش تحت الاحتلال يحتاج إلى التعاون والترابط والوحدة لكي يستطيع المجتمع الفلسطيني الاستمرار في المقاومة و زيادة التحدي أمام قوات الاحتلال بدلا من أن يفكر في الهجرة نتيجة لما يحدث من حداثة و من الانقسام كل هذه العوامل أثرت تأثير حاسم في مجتمعنا الفلسطيني و أدت إلى البعد عن الحميمية والانسجام الذي كان موجود سابقا خاصة فيما يتعلق بالعلاقة مع الآخرين "