القسم الثاني
السلوك الخاطئ بين الوقاية والآثار الوضعية
قال الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيرًا مِّنَ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ}(الحجرات:12). صدق الله العلي العظيم.
أُسس الوقاية من تتبع عيوب الآخرين.
استعرضنا وإياكم أنّ الشريعة المقدسة نهت نهياً قاطعاً عن تتبع عيوب الآخرين، وجعلت الكمال في الاشتغال بعيوب الذات، فالإنسان الكامل هو من يجتهد في تتبع عيوبه ويشتغل بها عن عيوب الآخرين، فقد نظّرت الشريعة المقدسة لهذا الأمر بشيء من البيان الجميل الذي إذا التفت إليه المؤمن أدرك مراد الشارع المقدس في حفظه لنفسه وسلامة ذاته عن الوقوع في هذا الخطأ، لذا، نجد أنّ الشريعة لم تنهَ عن تتبع عورات الآخرين فحسب، بل نهت عن حفظ العيب لئلا يقع الإنسان في شرك الشيطان فيسول له ذكر ذلك العيب الذي حفظه. وقد استعرض المشرع هذا السلوك الخاطئ وأرشد إلى مجموعة من الأسس التي تقي الإنسان من الوقوع فيه:
الأولى:عدم البحث في عيوب الآخرين.
نهت الشريعة المقدسة الإنسان عن البهجة والفرح في سلوكه مع من لا يُحبه من الناس إذا رآه قد سقط في عثرة، فترتاح نفسه بمجرد أن يشاهده يسقط في بعض العثرات، قال الإمام الصادق عليه السلام: ‹‹أبعد ما يكون العبد من الله أن يكون الرجل يُؤاخي الرجل وهو يحفظ عليه زلاته ليُعيره بها يوماً ما››، فالإنسان البعيد عن الله هو الذي يصاحب بعض الناس من أجل الإطلاع على العيوب الخفية في شخصياتهم ويحفظ تلكم العيوب ليتحرى الفرصة المناسبة لإظهار عيوبهم أمام مرأى ومسمع من الناس، والإنسان الذي يحفظ زلات من يصاحبه لأجل انتقاصه في يوم ٍما، بعيد تمام البعد عن الله عز وجل.
الثانية: التحفظ عن إظهار الإطلاع على عيوب الناس.
إنّّّ من يطمح أن تكون علاقاته مع الناس أفضل لابد أن يكون ساتراً على ما اطلع عليه من عيوبهم، غاضاً طرفه عنها، محافظاً على شخصياتهم لئلا تُخدش، وهذا ما أبانه إمامنا الصادق عليه السلام عندما سُئل عن تفسير قوله: ‹‹عورة المؤمن على المؤمن حرام››، حيث أجاب عليه السلام: ‹‹ليس حيث تذهب؛ إنما عورة المؤمن أن يراه يتكلم بكلام يعاب عليه، فيحفظه عليه ليُعيره به يوماً ما››، فالمؤمن له حرمة، وعورته هو أن تستر ما اطلعت عليه من عيب وتغض عن زلته، وتحفظ عليه تلك السقطة؛ فلا تجعلها بمرأى من الناس، فقد يغضب الإنسان ولا يُسيطر على نفسه فيكون ذلك سبباً في أن يُظهر ما حفظه وستره من عيوب الآخرين، لذا، نجد الإمام عليه السلام يبلور ذلك المفهوم بقوله: ‹‹عورة المؤمن على المؤمن حرام››، كي يسير عليه الإنسان ليقي نفسه من الوقوع في تتبع عورات الآخرين.
الثالثة: الصحة النفسية في ترك عيوب الآخرين.
يقول إمامنا أمير المؤمنين عليه السلام في كلمة من روائعه الحكمية: ‹‹حسب المرء من سلامته قلة حفظه لعيوب غيره››، فهو عليه السلام يشير إلى سلامة الإنسان النفسية، إذ أنّ من المعلوم أنّ الصحة الجسدية تعتمد على الصحة النفسية للإنسان؛ وكثير من الأمراض التي يُصاب بها الناس ناتجة عن الاضطراب السلوكي والنفسي في شخصياتهم، الإمام عليه السلام عندما يقول: ‹‹حسب المرء من سلامته - أي من سلامة نفسه - قلة حفظه لعيوب غيره››، يؤكد على أنّ الإنسان قد يصبح في موقفٍ يجب عليه أن يحفظ عيوب الآخرين إلا أنّ ذلك لا يعطيه الصلاحية أن يجعل تلك العيوب مورد نظره، فالقلة هنا في قوله عليه السلام تشير إلى المنع عن تركيز النظر في عيوب الآخرين؛ مما يجعلها متجسدةً أمام شخصيته، بل عليه أن لا يُعيرها أية أهمية لكي يسلم من تأثيراتها السلبية، فعندما يحفظ الإنسان بعض تلك الزلات وترتكز في ذهنه بعض تلك السقطات لابد أن يكون هو الحكيم المحافظ على سلامة شخصيته وطهارة نفسه وذلك عندما لا يُركز على تلك العيوب وإنما يمر عليها مرور الكرام غير عابئ بها.
الرابعة: عدم إظهار الفرح تجاه عيوب الغير.
الابتهاج تجاه عيب يصدر من الغير هي حالة غير سوية، تُنبأ عن خطر فادح وقع فيه الإنسان، قال الإمام علي عليه السلام: ‹‹لا تَفرَحَنَّ بسقطةِ غَيرِك››، أي، لا تبتهج نفسك بتلك الزلة والعثرة التي وقع فيها بعض من لا ترتاح إليه نفسك، فتهش وتبش لذلك، بل عليك أن تبتعد عن الفرح والابتهاج لما في ذلك من الآثار السلبية كترسيخ تلك الزلة في الذهن وحفظها عليه لتُذكره بها يوماً ما، فتحسب أنّ ذلك خير لك بينما هو شرٌ عليك، فلا بد للإنسان أن يغض النظر عن ذلك، ‹‹لا تَفرَحنَّ بسقطة غيرك فإنك لا تدري ما يحدث بك الزمان››، فالإنسان لا يملك أن يحفظ نفسه من عوادي الدهر ومتغيرات الأيام والأزمنة، وهو عاجز عن حفظ نفسه من الوقوع في الزلات، بل طبيعة الإنسان هو التعثر والسقوط، وهو ما أشرنا إليه في حديثنا السابق، ‹‹كل ابن آدم خطاء وخير الخطائين التوابون››.
الخامسة: الحذر من الوقوع فيما وقع فيه الغير.
قال إمامنا أمير المؤمنين عليه السلام في التحذير من الوقوع في خطأ الآخرين، ‹‹لا تبتهجنَّ بخطأ غيرك فإنك لن تملك الإصابة أبداً››، بعض الناس يظن أنه ملك السيطرة على نفسه فلا يصدر منه ما هو سيء، لكنه لن يستطيع ذلك، وهذا ما سنوضحه لاحقاً في أنّ من غرته نفسه وسَوَل له الشيطان فتتبع عورات الغير وابتهج بحدوث بعض السقطات سرعان ما يجر لنفسه عقوبة الحق تبارك وتعالى، فيسقط فيما سقط به غيره من الزلات، ويقترف تلك العثرة التي تتبعها على الغير، والإمام عليه السلام هنا يقول: ‹‹لن تملك الإصابة››، وهو تعبير جميل، لأنّ الإنسان لا يسيطر على نفسه، وحتى لو سيطر على نفسه في سنوات محدودة، فإنّ قواه ستضعف وتؤثر فيه الأزمنة والدهور وقد يصاب ببعض الأمراض فيغضب في يومٍ ما ويرتكب محذوراً بغضبه، وهنا يتذكر أنه عاب على غيره ما وقع هو فيه.
الآثار الوضعية المترتبة على تتبع عورات الناس.
أكد الأئمة من أهل البيت عليهم السلام على أنّ من أُصيب بهذا الداء يُبتلى ببعض الآثار الوضعية المترتبة على ذلك:
الأول: انتقال عدوى تتبع العورات.
لابد للمؤمن أن يبتعد عن أولائك الذين أصيبوا بهذا الداء، إلاّ إذا أراد أن يصحح سلوكهم؛ فقد أُمرنا في الروايات أن لا نصاحب من يتتبع عورات الآخرين، لأنه قد تصيبنا العدوى من هذا الداء، فيسهل علينا ذكر الغير بعيوبه ونتأثر من ذلك السلوك الخاطئ، يقول إمامنا أمير المؤمنين عليه السلام: ‹‹ليكن أبغض الناس إليك وأبعدهم منك أطلبهم لمعايب الناس››، فإذا أردت أن تصاحب أحداً من الناس فعليك أن تختبره في سلوكياته وفي نظرته للآخرين؛ فهل هو ينظر إلى الآخر نظرة كمال واحترام أم أنه ينظر إليه نظرة انتقاص ؟ فإذا كان ينظر نظرة انتقاص فعليك الابتعاد منه؛ كي لا يُنزل مستواك الإيماني وتتأثر بشكل طبيعي أو غير طبيعي بسلوكه الخاطئ.
الثاني:ابتعاد الناس وتجنبهم مصاحبته.
إنّ من يتتبع عورات الآخرين سوف يطرد الناس عن مصاحبته، فالإنسان لا يحب مصاحبة من فيه رائحة نتنة، وسوف يبتعد عنه بشكل طبعي، أما من يعتني بهندامه ونظافته، فستجد أنك ترتاح إليه وتقترب منه، فمن يتتبع عورات الآخرين أنتن رائحة من ذلك، قال إمامنا أمير المؤمنين عليه السلام: ‹‹من تتبع خفيات العيوب حرمه الله مودات القلوب››، فالإنسان لا يحب مثل هؤلاء الأشخاص ولا يقترب منهم، لأنّ رائحتهم المعنوية - التي هي أعظم من الروائح المادية - نتنة.
الثالث:محاربة الله له.
إنّ الله تبارك وتعالى يحارب من يتتبع عثرات الآخرين، ومن تصدى الله له بالمحاربة هزمه، لأنّ الله غالب على أمره، ولا يستطيع أحد أن يحارب الحق تعالى، الذي بيده ملكوت كل شيء وهو على كل شيء قدير، فمن الآثار الوضعية لمن يتتبع عورات الآخرين التي أشارت لها الروايات أنّ الله تعالى يتصدى إليه بالمحاربة فيُسقطه ويفضحه، يقول النبي صلى الله عليه وآله: ‹‹من كشف عورة أخيه المسلم كشف الله عورته حتى يفضحه بها في بيته››، وقوله: ‹‹في بيته››، تعبير جميل يُشير إلى أنّ أقرب الناس إليه يفتضح أمره عنده. ففي العادة أنّ الإنسان يحب أن يظهر بالمظهر الحسن والجميل عند المقربين إليه، لكنّ الله تعالى لمحاربة هذا الإنسان يُظهر سوأته أمام أقرب المقربين إليه، قال إمامنا أمير المؤمنين عليه السلام: ‹‹من بحث عن أسرار غيره أظهر الله أسراره››، فتلك العيوب أسرار يحاول الإنسان أن يستر على نفسه بها، فإذا تُتُبعت تلك السقطات والزلات التي يحاول الإنسان أن يسترها عن أعين الآخرين فإنّ المولى تبارك وتعالى يُظهر المخفي والمستور من عيوب ذلك المتتبع، وهذا ما أكده النبي صلى الله عليه وآله في قوله: ‹‹لا تتبعوا عورات المؤمنين، فإنّ من تتبع عورات المؤمنين تتبع الله عورته، ومن تتبع الله عورته فضحه ولو في جوف بيته››، فلن يستطيع أن يستر على نفسه الزلات والسقطات والمعايب التي يحاول جاهداً أن يخفيها عن المقربين إليه.