المساعد الشخصي الرقمي

مشاهدة النسخة كاملة : في البدء كانت الاخلاق ( 1 )


العلوية ام موسى الاعرجي
25-12-2014, 08:26 PM
«عجبت لمن لا يسع الناس بماله كيف لا يسعهم باخلاقه»
علي بن ابي طالب(ع)

مدخل
«انما الامم الاخلاق ما بقيت فان هم ذهبت اخلاقهم ذهبوا»!
ذلك حقا، اصدق ما جادت به قريحة امير الشعراء، احمد شوقي. ولعله ابلغ تعبير واسنى وصف في عصرنا الموسوم بتراجع القيم، بدءا بدنيا الافراد، مرورا بالاجتماع السياسي ووصولا الى مشاهد العلاقات الدولية. وسوف يظل قول شوقي ابلغ ما نطق به شاعر عربي في العصر الحديث، يطرق مسامعنا بعظيم فحواه وجليل بهائه. فالامم - اي نعم - ترتقي في معارج نهوضها باخلاقها. ولك بعد ذلك ان تسميهاما شئت، اخلاق مروءة او اخلاق الضمير او اخلاق الدين اواخلاق العمل... فالامم ناهضة بها، باقية ببقائها. واذا سلمنا بان عصرنا الذي استفحل وضعه الاخلاقي، هو اليوم على شفى جرف هار، وفي منتهى انسداده القيمي يدوس على ما تبقى من آثار ذلك الحطام الاخلاقي، كان العالم اليوم، واكثر من اي وقت مضى، مشدودا من اعناقه كي يدرك بان الاخلاق مقوم انطلوجي وواجب ليس في تركه ادنى مندوحة للمجازفة بالنوع، فالاخلاق ضرورة لا اختيار، وواجب لا ندب.
وقد يتساءل اي باحث، في فلسفة الاخلاق، عن جدوى امركهذا في عصر انتظمت انساقه على اسس ان لم تكن لااخلاقية فهي لا تستنجد بالاخلاق. عصر ارتداد الى ما دون الاخلاق، فاصبح اقتصاده احتكارا وتشيؤا وتسليعا واستلابا.فهو على اية حال ليس ذلك الكائن المفترض بوصفه هوية اخلاقية، بل هو - بالفعل - سلالة مستحدثة ليس لها من المشترك الانساني الا المشي باستقامة، الكائن - كما تعرفه بعض الرسوم المتحركة - بالماشي واقفا. وهو هنا ما بعد ال «Homooeconomicus». وحيث، هنا، وفي ضوء الانزياح في نمط المعاش وفلسفته القائمة على المتخيل الفرداني والتبئيس الجماعي، غدا الاجتماع ارتدادا الى العبودية، ومجتمع القطيع الذي هربت منه شخصانيته، غارقافي تموجات التعويض والاستبدال والتخييل، اذ اصبح كل ماهو انساني محض اشياء تحسب وفاقا لمعايير السوق.
وحيث اصبح الاعلام نفسه صنعة الصنائع التي مسخ بها كل ما يحيط بالنوع الى سلعة قابلة للعرض والطلب. حتى الجريمة وفساد الاخلاق وتراجعات الضمير، هي ظواهر مسوقة، في مجتمع لا يمكن ان يعيش الا في قلب هذا الهدير الفاوستي، بين صناعة الفقر والغنى، كما صناعة الانحطاط وقمعه الصوري.هكذا غدا الاجتماع، ايضا، تغالبا مميتا وعصبية وتشظيا انويا...، كما غدت سياسته طغيانا بالمكشوف والمرموز واستبدادا وظلما.
وكان ان وجدنا - وذلك قدرنا - انفسنا امام عالم بلغت وقاحته مبلغا، اصبح فيه الحديث عن الابادة النووية للنوع حديثا مستساغا ومتداولا عفو الخاطر، والاخبار عن موت الاطفال بالجملة بمؤامرات وخيانات وسموم يصنعها الكبار، احدوثة لاتلين من يباس العقل السياسي الحديث، وهي لذلك مجرد صور تزدان بها معارض الفرجة الموسمية المطعمة بالشعارات والاحصائيات المغشوشة وخيبات الامل. وربما اصبحت مادة خاضعة للاستهلاك الاعلامي «Masse-mediatise»؛ في عالم موسوم بالوفرة والاستهلاك ينقاد فيه جزء من النوع زرافات الى الموت الجماعي من فرط مجاعات لم نعهدها حتى في العصور الزراعية، او في العصورالحجرية الاولى. وهذا امر يشكل ظاهرة يستانس بها مستهلك والوفرة، بوصفها شاهدا على عظمة النقلة النوعية في مشوارالاستهلاك العمومي. وان بدا ان عالم الجوعى هو هامش للنفايات وضحية الاحتباس الحراري الذي سجل فيه الفيتو الامريكي داخل «كيوطو» ضربة اخلاقية تضاف الى سلسلة الزلازل الدورية. وفي عالم لا تتطلب شعوبه اكثر من رفع الاقامة الجبرية عن مسلسل نموها الاقتصادي والسياسي والاجتماعي المعاصر، اصبح الحديث عن الاخلاق، قضية ملحة، لعلها القضية الاولى في ما ينبغي الاشتغال عليه، لا سيما وقد وجدنا انفسنا فجاة امام هذا التحول النوعي على الصعيد الـ«بيو- تقني» الذي جعل الحديث ممكنا، عن ضروب من الخلق (= تجوزا) بالتقسيط - عن طريق استنساخ الاعضاء البشرية - الانسانية، ليس بالضرورة ان يجب لها الوجود كاملة. او لعلها توجد بلا راس يحمل مسوغ انسانيتها، وبالتالي من دون اخلاق تنظم سلوكها وتسوغ وجودها. وهنا سنعود الى ذلك المشترك الانساني الحاكي بلسان الارتداد الى سفح النوع او دونه الى عرف الالة. فاي مستقبل اذن لانسان تصاغ اخلاقه وقيمه حسب ما يفرضه علم جانح لايتقيد بضرورات الاجتماع الانساني، لانسانية قد تصبح قابلة للتركيب والتفكيك الى قطع غيار. انه ليس ضربا من الخيال الممتنع، ولا حتى قطعا مع فكرة الهيولى البسيطة القابلة للصور، بل هو مسار ممكن على طريق التطور «البيو - تقني» في غياب شبه تام لاخلاق يتسع لها الضمير العلمي في جنوحه المتفلت، وذلك مذ كف عن ان يكون الانسان غايته او محورا له. بل حتى لو راينا ان ماهية هذا الكائن هي ما يتقوم بوجوده وفاعليته واشتغاله، على مذهب السارترية، مقارنة به على اساس من اصالة الوجود، فان هذا القدرمن الحقيقة الوجدانية لانسان غدااباس وجودا من مجرد وهم يتحرك على ترنيمة اطياف الوعي المتخيل، بفقد «اناه» والاستعاضة عنها بنمط آخر وبلحظ المرآوية «اللاكانية» بل هو «كله على بعضه» سيكولوجية وجسدا، اصبح متحصلا بلحظ هذه المرآوية.
فالاجيال الحاضرة بقدر ما تنتفض اليوم ضد سلطة التراث واركيولوجيته، فهي تنتفض ضد سلطة المستقبل ورهاناته، من خلاله التحكم بالنوع وصياغة انوياته، وايضا من خلال التحكم بالجسد في ثورة تاريخية عبثية ضد تعلق الصور بهيولاها تعلقا هو حتمية هذا الوجود الانساني نفسه، او الدازاين - الهيدغيري - المقذوف به هاهنا. هذا الكائن الذي خضعت هيولاه لهندسات بيو - تقنية كائنا محسوبا ومصمما سلفا، ليس فقط مجرد كائن مسخ، لنسميه - خلافا للسائد - كائنا «انطو - ميتريا» فان ثمة ما هو انكى في هذا المقطع «التراجيكوميدي»، هو ان الارتداد الى عصر الابوية يتم مقنعا ومخاتلا ومجتزيا، حيث ليس للاحق حق تقرير نمط فعاليته ونموه واختياراته الحضارية والاخلاقية، بل انه عصر نحدده نحن. ونصوغ مصائره نحن، فالصفعة التي تلقتها اتفاقية كيوطو هي بالاحرى واحدة من الصفعات التي وجهت للتنمية المستدامة. ومشاريع الاستنساخ الكلي او الجزئي التي بدات تتردد هذه الايام، ويحضرلها عنوة، هي ارتكاس الى اصالة الماهية المغشوشة التي يتحكم بهاالانسان في تحديد ماهية انسان الغد وصياغته، في ما يشبه انبعاثا لمنظور بيو - تقني يتواطا مع نزعة ابوية آخذة في الاستفحال!
واذا ادركنا ان نهضة الاسلام نفسها هي استكمال لهذا المشوار.ذلك لان صاحب الدعوة نفسه قال وقرر: ان بعثته هي استكمال لمكارم الاخلاق، فها هنا يصارالى القول: ان العقل وحده مجرداليس حاسما في تقدم الامم ونهوضها، ان لم تكن هنا اخلاق تقومه. فالعقل بلا اخلاق لا حظ لنشاطه، حطام بلا معنى، بل آلة لتدمير الاجتماع. لقد نهض الغرب بعقل كان في البدء متيمابالضمير، لكنه اليوم، في مسعى للطلاق الصريح، عقل بلا ضميريسوغ لمؤسسة ناهضة على المصالح العجلى، قد تعير وتسوغ عقلا على مذهب التجريد، لاعلى مذهب المصالح الباقية.
ان الغرب الناهض على ضميرحي واخلاق عمل وانتاج ذريعي يواجه اليوم مازق عقم حضارة تغول فيها العقل المجرد، وداردورته الجنونية كي يجد نفسه جانحا في مقدمة قاطرة موت الانسان. ولا يخفى ان النزيف الاخلاقي في الغرب بلغ حدا انتفت معه الحاجة الى الاطناب في عرض وجوهه، ما دام امراباديا في اعترافاتهم وقلقهم اليومي. لكن ما هو مسوغ القول الاخلاقي في عالمنا العربي والاسلامي، حيث درجة الانحطاط الاخلاقي هي اكثرظهورا في سلوك الفرد العربي ذي السيكولوجية الهشة، وفي الاجتماع السياسي ذي المؤسسات المغشوشة، وفي النشاط المهني المفرغ من الروح والمهنية... حتى لكان معضلة هذا العالم اختزلت ايما اختزال في سقوطه الاخلاقي، الذي اجتاح كافة مؤسساته السياسية والاجتماعية والثقافية والدينية.

القول الاخلاقي ومصائر الفعل السياسي
لطالما اعجب «تشرشل» بالقاعدة الماثورة في الفكر السياسي الحديث، وهي: «السياسة فن الممكن»، غير ان الزعيم البريطاني رآها تسويغا لجنوحه وتسلطه، حتى ان «لويد جورج» لم يفتا يحذر من سياسته الحمقاء، داعيا الى ضبط اندفاعاته لتجنيب السياسة البريطانية حماقات الزعيم المغامر واللامسؤول. لم يكن تشرشل الا انموذجا لهذاالنوع من الجنوح السياسي الذي لا يزال ساريا في مواقف زعماءسياسيين في اكثر الدول ديمقراطية واشدها انزياحا ليبراليا.
فالديموقراطيات في ارقى نماذجها لم تستطع انقاذ المجتمع من النتائج الكارثية لسياساتهم. لقد خرجت الاخلاق من السياسة كي تصبح هذه الاخيرة تدبيرا جهنميا وصحكا على ذقون الشعوب المنقادة انقياد القطيع. لكن ماذا لوتعلق الامر بعالمنا العربي والاسلامي؟ وما هي المساحة التي تحتلها الاخلاق في الممارسة السياسية على مستوى الدوى والاحزاب والمنظمات المدنية؟ لا حاجة الى جواب! ان العالم العربي اليوم، ربما هو اقل منزلة مما كان عليه بالامس. فعلى الاقل حينما كان هناك مايحجب بعضا من تلك المقاتل السياسية، اي اخلاق الملك التي جعلت الارث السياسي الفارسي،وان حال دون التحول الى نظام سياسي اكثر تحررا من الاستبدادالفردي والالغارشي، فانه قدخفف من طبائع الاستبداد الوحشي.
لا تختزل مشكلة النظام السياسي، في الاسلام التاريخي،في سيادة العقل السياسي الفارسي الذي جاء متاخرا، بل المشكلة بدات في صلب الارتداد القبلي ذي النزعة الابوية شديدة القمع والبطش. ولم تكن اخلاق «الطاعة»، في النظام السياسي الفارسي التقليدي، الا ارتداداربما خفف من سطوة المفارقة السياسية او لنقل، من التوحش السياسي القبلي العربي. وان كان قد حال دون تحقق ما كان يحلم به منظرو العقل السياسي العربي. حيث لم تكن هناك صيغة ارقى من ذلك، ولا ثمة صيغة للحكم اكثر ضمانة من صيغة تضع العقل السياسي الفارسي الى جانب الحطام النظري الاسلامي والعربي. ومع ذلك نقول: ان هذا القدر نفسه من اخلاقيات «المنصور» بالله، او المستبد العادل، لم يعد لها حضور في السياسة العربية والاسلامية المعاصرة.
واليوم، ها قد تراءى لنا ان الاخلاق السياسية ما هي الا دعابة او لعبة مؤقتة، وليس محايثة حقيقية، فالاخلاق لاتحضر في السياسة الا بوصفه «تكتيكا» سياسيا او نفاقا سياسيا - فما ان تغيب الاخلاق عن السياسة حتى يتحول النفاق الى «تكتيك» - او انها مجرد ارتداد يعقوبي يحيلنا الى اعمال «روبسبير» الثوروية او انهدادا يائسا في ردهات الوعي الشقي. وما الانهيارات العربية السياسية الا مصداق واضح لهذه الانهيارات الاخلاقية التي اصابت الضمير العربي وحالت دون تحقيق وحدته او تضامنه. وما خمسون سنة من عمر الصراع العربي - الاسرائيلي، الا تعبيرعن نكسة هذا الضمير الذي اشرب في قلبه الخيانة والتمر والغدر والاستبداد. وما الاستبداد نفسه الا ضعف وخور اصاب الضمير العربي وفتك باخلاقه. فالاعداء استقووا علينا باستبدادنا لا بعدد الرؤوس النووية.

الاخلاق والحرب

لقد شاءت طبائع الاشياء ان يكون الموت هو الثمن الوحيدللحروب، وهو ثمن مفروض على الغالب والمغلوب معا، سواء بسواء. ويبقى الحديث بعد ذلك عما يميز موتا عن موت. فثمة شهداء خالدون في تاريخ النوع، وثمة جيف تلفظها ذاكرة التاريخ. ثمة احرار وثمة عبيد. لكن التقنية قوضت اخلاقيات الحرب، وجعلت الموت ثمنا للمغلوب فقط، كما جعلت معايير النصر هي الابادة الشاملة للبيئة والنوع.اذا كان السيف قد فرض قيما واخلاقا على الحرب والمحارب، حيث لا قتال الا لمن احتك بك منازلا، فلا اكثر قبحا وجبنا ممن يطعن مقاتلا في الظهر، ولا ابشع مهانة وافسد ضميرا ممن شهرسيفه مطاردا النساء والاطفال والشيوخ او ناسفا البيوت او قالعا الاشجار او رادما الابار. فالحرب اليوم تسوغ للاقوى ان يتحاشى الجبهات ويجتاز المقاتلين ليغير على الامنين. فالحرب على المدنيين هي من يحسم الحرب، الموت للمدني والحياة للمقاتل. وما دخلت المراة الحرب الا بعد ان فقدت الحرب مدلولها الانساني، وتحولت الى صنعة سهلة لكنها قذرة، تعتمد بطش التقنية ووسائل الابادة المريعة. لقد ولى بالفعل زمن التعنتريات وحل عصر المحاربين الخفافيش الذين اكسبوهم دربة فائقة على تسميم النوع، ومرانا قل نظيره على تلويث البيئة. لم تعد القنبلة النووية التي صنعت لتدمير العالم وتخريب الكون، والتي شكلت جريمة استخدامها في الحرب العالمية الثانية، مفصلا في تاريخ الحروب ووظيفتها، هي وحدها الاختراع الجهنمي للحرب، بوصفها نقيضا للاخلاق، بل ان الاستخدام اللا اخلاقي لمادة اليورانيوم المخضب هي واحدة من ابرز علامات فساد الضمير الحربي، حرب مستدامة تجعل عمر الفتك والابادة في المجال تمتد الى بلايين السنين.
ومع ذلك، قد يهون هذا كله، متى ما سمعنا بان صناع هذه السموم القاتلة ومستعمليها الذين يخفون بها جبن مقاتليهم وانانيتهم، وان لم يكترثوا لاستعمالها ضد الاغيار، فهم يجتهدون في حماية رعاياهم مهيئينهم للطوارئ محصنينهم بقوة الاستشعار عن بعد. فقارن ذلك بمن لا يرى غضاضة - في عالمنا الموبوء بداء الاستبداد - في استخدامها ضدرعاياه، مبيدا بني جلدته وملوثا محيطهم الحيوي. وهو جرم من استعملها ضد اهله وجيرانه يتقاسمه مع من زوده بها لهذا الغرض. ذلك كله آية من آيات تراجع الضمير وفساده.
ولاعجب في ان يفسد السلاح في مخازن ويصدا السيف في غمده، مهما استباحنا الاعداء واغاروا. لكن هذا السيف الجبان يمسي مسلولا في وجه الاحرار من هذه الشعوب المعذبة. فالمقاتل المدرب تدريبا عاليا على خوض الحروب الكبرى، لحماية الرعايا الذين يسهمون في تكوينه بالضرائب التي يدفعونها على القيمة المضافة، سرعان ما يجدون انفسهم في ميادين مايسمى بمكافحة الشغب، يطاردون الاطفال والرعايا العزل. ولك بعد هذا كله ان تستفظع ما شاء لك، حينما ترى «الاباتشي» تطارد طفلا فلسطينيا او ال «بي اثنان وخمسون» تحلق فوق رؤوس الامهات في العراق الجريح او «توماهوك» الذي يسقط على ظهر حمار في افغانستان... ولكن قبل ذلك كله، وبعد ذلك كله، عن ال «سكود»الذي يدمر قبة حرم، او يسقط على لمتدرعين بعتبة مقدسة، من قبل مسؤول متعسكر، فالحديث عن الحرب والاخلاق في عالمنا العربي، هو حديث ذو شجون!

القول الاخلاقي وتراجع ضمير المعاش
حتى وان كان الاقتصاد قد اصبح مجالا مستباحا لسيطرة الترويض Mathematisation - كما أراد له «فالرأس» أن يستقيل عن الانسانيات - فانه لم يعد مجالا يتسع لمطلب العدالة الاجتماعية. اما الوضع في العالم العربي فهو ابشع من ذلك الفصل التعسفي الذي وجد له - على الاقل - في البلاد المتقدمة تسويغا فلسفيا وتعويضا سياسياواجتماعيا من خلال حركة الرقابة والحقوق، وان لم يكن لهم تدخل في الانتاج، فانهم لايكلون عن طلب حقوقهم وانتزاعها عبر ممارسة مطلبية سياسية ومؤسسية تملك حداادنى من المصداقية. فالاقتصاد في المجتمع العربي لا يزال ريعيا وجبائيا، وقوامه ليس في مردوديته وادائه الانتاجي، بل قوامه استنزاف المواطن وشل قدرته الشرائية بحصار متعسف من الضريبة على القيمة المضافة، حقا مفروضا على المستضعفين من الطبقات السفلى من الناس،من الذين لا حيلة لهم امام عاصفة المحسوبية والتعقيدات الادارية التي تشكل المستنقع الاسن لازدهار الرشوة وانفلات اباطرة المال وكبار الاقطاعيين وكهنة نظام الامتيازات وصيادي «الكوتات».
ولا حديث بعد ذلك عن غياب اجراءات الرقابة على المال العام وغياب عينات واضحة وشفافة تجعل المعاش وحساباته ظاهرا للعموم، وتجعل سراق المال العام المستهدف الاول للقانون وليس طلاب الحقوق.
وحينما تصبح الرشوة والحسوبية وانهيار العدالة الاجتماعية ثقافة شائعة، او ربما عقيدة راسخة، كان لزاما على الاقتصاد عندنا ان يصبح مجالا خارج نطاق مايعرف باشكالية الانتاج والاستثمار والتنمية المستدامة... بل يغدو بالدرجة الاولى موضوعا اخلاقيا، ما دام هناك غياب لحد ادنى من اخلاقيات العمل واخلاقيات التوزيع. واذاكانت ركيزة الراسمالية «الملبرلة» متقدمة باخلاقيات العمل وحريته: دعه يعمل، فان ما لم تقف عليه هذه «الويبرية» الوصفية، ان لا نهضة الا على جناحي الحرية والعدالة. اي «دعه يعمل»، وايضا «اعطه حقه»، اخلاقيات عمل الى جانب «اخلاقيات توزيع».
العدالة الاجتماعية لا تتحقق حتى ولو امتلكنا مال الدنيا او حققنا اعلى منسوب نمو في العالم. الم يوجد بين ظهرانينا من لا عهد له بالشبع في زمن فاضت فيه الريوع على الخلافة من كل حدب وصوب، حتى كاد بعضهم يكسرقطع الذهب بالفؤوس. واقتطعت لهم من الارض ما لا عهد به لاقطاعيي العصر. اليس هناك في ارقى دولة الرفاه - الولايات المتحدة الامريكية - من لا يجد مقاما الا في مجاري المياه يزاحم الفئران ماواها الطبيعي فيما ينتصب فوق راسه تمثال الحرية شامخا يبشر بازمنة الوفرة. فالحرية وحدها لا تكفي ان هي لم تعانق العدالة الاجتماعية. فلاطوباوية «برودون»، ولا تلفيقية «فالراس» كفيلتان بحل هذه المعادلة المعقدة. فالعدالة الاجتماعية بلا حرية للمبادرة الفردية دونها خرط القتاد. ولكن لا الحرية ولا علم الانتاج الطارد للعدالة الاجتماعية الى منفاها الانساني العاطفي كفيل بذلك. فالعدالة الاجتماعية والحرية تبدآن منذ اللحظة الاولى للاقلاع، شبرا بشبر، تزعجان الانتاج ازعاجا يصل احيانا الى حافة «نكون او لا نكون». فقبل الانتاج، كانت العدالة الاجتماعية. الا ترى ان الكيان الاجتماعي قد ينهار مهما نمت وفرته وعظمت، متى ما تهددت حريته. واذن، لم المراهنة على وفرة فئوية تناهض العدالة الاجتماعية؟ وهذه الاخيرة ليست موضوعا عاطفيا، بل هي موضوع علمي - اخلاقي! فلاتنمية - اذن - بلا ضمير ولا ارادة سياسية - اقتصادية بلا مسوغ اخلاقي يطلقها ويحميها. فتصبح العدالة الاجتماعية كما ذكرنا علما للانتاج نفسه، باعتبار الانتاج هونفسه فنا وعلما انسانيا، فلا مجال للشروخ الفالراسية الكانطية.
ثم ها هم لا يفتؤون يحدثوننا عن الاستهلاك العام. وينزفون ال «Homo-oeconomicus» عروس الأزمنة الحديثة، حيث كل شيء تنكر، مع اننا نعيش عصر الارتداد الاكبر الى حيث عهود التوحش والعبودية. فالاقتصاد حينما اصبح علما وفنا رياضيا وكفى، اعاد صياغة الانسان وتدخل في ماهيته ماسخا اياه الى كائن اقتصادي لعله اصبح عنوانا للاستهلاك. بل غدا الاستهلاك رمزا من رموزكينونته، وعلامة من علامات وجوده الاجتماعي كما يؤكد - تقريبا - بودريار. كائنا هاربا من ذاته ابدا. يجد معناه في لعبة الاستهلاك الذي فاق الضروريات حدا اصبح معه اشبه بدائرة السوء، جعل الاقتصاد محورالفعالية هذا الكائن او بالاحرى المسخ «الانتو - ميتري»، بدل ان يكون مجرد وسيلته لطلب كمالات انسانيته الروحية والنفسية والحضارية. اين هو الانسان الماهوي الذي وجد نفسه مستدرجا لاكذوبة اقتصادية حولته الى جملة ارقام تبادلية،وخرجت من مجال تحكمه لتلتف عليه مجددا، وتحوله الى عرض اقتصادي، قد لا يكون هوبالضرورة الاشرف من باقي الاعراض.
ولا اريد هاهنا الاطناب في ماتبشر به العولمة الاقتصادية من حيث هي ثالثة الاثافي في هذاالمشروع او الموجة التسلطية الكاسحة، التي لا تزال تبحث لهاعما لم يتقوم بعد من نشاز في معزوفتها التسليعية التمامية. فلا هامش بعد اليوم لمنطقة عذراءتستعصم من فحولة هذه العولمة التي اخذت على عاتقها تحويل العالم الى «Super market»، او مشروع سوق على غرار «نافتا»، يستجيب لكافة قرارات مؤامرة ال«Mai» - بما يعني تحويل الشعوب الى اياد عاملة بلا حقوق تنقاد لسوط المستثمر، للقبول بهذه الديكتاتورية الراسمالية «المتلبرلة»، الفيكتورية الجديدة، التي تسعى الى محو كل اثرلسياسة اجتماعية ما.
وفطاما للاساطير المغذية لهذه اللغة المطلبية المزعجة والدخيلة على حرم الليبرالية المتوحشة. فلا حقوق للمجتمع ولا للبيئة، ولامسؤولية تجاه بقاع الارض او بهائمها. هذا كله لا رادع له ولامنتهى الا بيقظة الضميرالاخلاقي. ذلك لانه وضع ما كان له ان يكون الا بلعبة الاستبعاد الفالراسية تلك. والتي ما هي الا التعبير المناسب عن فصل شارخ بين الانتاج والعدالة الاجتماعية. من هنا تعين ان تؤخذ العدالة الاجتماعية في موضوع الانتاج نفسه. لا ينهد في اهواء المتسلطين على النوع. اليس الاختراق الذي عانت منه العدالة الاجتماعية، هو نتيجة استبعادالعدالة الاجتماعية ونفيها الى هوامش العاطفة الانسانية، بينماكان المطلوب، ان تغدو علما محسوبا خاضعا لقانون الاشياء، اليست العدالة الاجتماعية قانونا وعلما، «فما رايت من نعمة موفورة الا وبجانبها حق مضيع».