معنى الإمامة لغة:
أمَّ القوم أي تقدمهم، والإمام كل من ائتم به قوم سواء أكانوا على الخطأ أم على الصواب.
وإمام كل شيء قيمه والمصلح له، والإمام يعنى المثال، ويعنى المقصود.
والإمام هو الخيط الذي يمد على البناء ويسوى عليه (لإدراك استقامة البناء). والحادي إمام الإبل، لأنه الهادي لها(1).
(والإمام، في اللغة، هو الإنسان الذي يؤتم به، ويقتدى بقوله أو فعله محقاً كان أو مبطلاً)(2).
معنى الإمامة في القرآن الكريم وردت كلمة (إمام) و(إماما) و(إمامهم) و(أئمة)، في القرآن الكريم، إثنتي عشرة مرة، وقد انطبق المقصود منها انطباقاً تاماً على المعنى اللغوي لكلمة الإمامة، وتفصيل ذلك قوله تعالى:
1- (فانتقمنا منهم وإنهما لبإمام مبين)، (الحجر/79).
2- (وكل شيء أحصيناه في إمام مبين)، (يس/12).
3- (ومن قبله كتاب موسى إماماً ورحمةً..)، (هود/17).
4- (ومن قبله كتاب موسى إماماً ورحمة..)، (الأحقاف/12).
5- (يوم ندعو كل أناس بإمامهم)، (الإسراء/71).
فكلمة إمام، الواردة في هذه الآيات الخمس، تكشف عن معنى: الكتاب، والمرجع، والقيم، والمصلح، والهادي، والرمز، والمحيط.
6- (واجعلنا للمتقين إماماً)، (الفرقان/74).
7- (قال إني جاعلك للناس إماماً، قال ومن ذريتي، قال لا ينال عهدي الظالمين)، (البقرة/124).
8- (وجعلناهم أئمة يهدون بأمرنا..)، (الأنبياء/73).
9- (ونجعلهم أئمة ونجعلهم الوارثين)، (القصص/5).
10- (وجعلنا منهم أئمة يهدون بأمرنا لما صبروا..)، (السجدة/24).
فكلمة إمام، الواردة في الآيات الخمس الثانية التي سقناها، تكشف جلياً عن معنى المثل الأعلى، والقدوة الحسنه، والقيادة الراشدة والمرجعية الموثوقة، والهداية التي تقود حتماً إلى الصواب. أو بتعبير أدق أنها تعني الزعامة أو الوجاهة المؤمنة المرتبطة بالله سبحانه وتعالى.
11- (فقاتلوا أئمة الكفر إنهم لا إيمان لهم)، (التوبة/12).
وأئمة الكفر المعنيين بهذه الآية، وبالدرجة الأولى، هم زعماء بطون قريش.
12- (وجعلناهم أئمة يدعون إلى النار ويوم القيامة لا ينصرون)، (القصص/41).
والأئمة الذين يهدون إلى النار هم فرعون وجنوده فالآيتان (11و12) سلطتا الأضواء الكاشفة على طبيعة القيادة الفاسدة، والمرجعية الضالة، وقدوة السوء التي تجر أتباعها إلى دار البوار.
نوعا الإمامة في القرآن الكريم من يتتبع الآيات القرآنية المتعلقة بالإمامة والتي أوردناها في الفقرة السابقة يتبين له، بيسر، أن القرآن الكريم قد حدد الإمامة بنوعين، ورسم لها صورتين، فكل إمامة، على وجه الأرض، تندرج بالضرورة في أحد هذه النوعيين وتظهر بإحدى هاتين الصورتين، فالإمامة إما أن تكون شرعية، وإما أن تكون غير شرعية.
1- الإمامة الشرعية فقد ساق الله تعالى مثالاً لهذا النوع من الإمامة إمامة إبراهيم والأئمة الذين جاءوا من بعده، والقرآن الكريم يوضح بما لا يدع مجالاً للتأويل أن هذا النوع من الإمامة هو:
أ- عهد من الله، فالإمامة عهد الله، وهذا العهد لا تناله إلا الصفوة من عباد الله، وهو حرام على الظالمين.
ب- إن الله، سبحانه وتعالى، هو الذي يختار الأئمة، ويجعلهم أئمة، لأنه هو وحده القادر على معرفه الصفوة معرفة قائمة على الجزم واليقين. انظر إلى قوله تعالى مخاطباً إبراهيم (إني جاعلك للناس إماما) فالله تعالى هو الذي أسند منصب الإمامة لإبراهيم، وكلفه القيام بأعباء هذا المنصب، وكذلك قوله تعالى عن الأئمة الذين جاءوا من بعد إبراهيم، حيث قال (وجعلناهم أئمة)، (ونجعلهم أئمة)، فاستعمل كلمه (جاعلك، ونجعلهم، وجعلناهم).
ج- إن الأئمة طراز صالح من ذريه إبراهيم، فإسحاق هو ابن إبراهيم ويعقوب حفيده، ووصلت الإمامة إلى محمد، وهو حفيد إسماعيل وإسماعيل هو ابن إبراهيم، ذريه بعضها من بعض.
د- والعلامة الرابعة للإمامة الشرعية أن الإمام الشرعي يهدي بأمر الله أن يسوس ويوجه ويقود وفق التعاليم الإلهية العالم بها علماً قائماً على الجزم واليقين. ودليل ذلك قوله تعالى: (وجعلناهم أئمة يهدون بأمرنا) وقوله تعالى: (وجعلنا منهم أئمة يهدون بأمرنا لما صبروا).
2- الإمامة غير الشرعية بعد أن بين الله، سبحانه وتعالى، معالم الإمامة الشرعية، وساق لها مثلاً إمامة إبراهيم والأئمة من بعده، وضح معالم الإمامة غير الشرعية، وساق مثلاً لها إمامة فرعون وجنوده، وأئمة الكفر من قبلهم، ومن بعدهم كزعامة بطون قريش التي أخرجت النبي وحاربته وصدت عن سبيل الله حتى أحيط بها، وقد حدد، سبحانه وتعالى، مميزات تلك الإمامة غير الشرعية ومعالمها تحديداً يحتمل التأويل.
أ- الإمام غير الشرعي رجل ظالم، وعرفه بالظلم لأن الظلم جماع كل قبح وعدوان، وهو غير جدير بالإمامة التي هي عهد الله، فضلاً عن عدم اتصافه بصفاتها، وعدم أهليته لها، لكل هذا فهي محرمة عليه.
ب- وعلى الرغم من أن الإمام غير الشرعي يعلم بعدم أهليته للإمامة الشرعية ويعلم بحرمتها عليه، وعدم أهليته لها، ومع علمه بوجود الإمام الشرعي إلا أن هذا الرجل تجاهل الشرعية تجاهلاً كاملاً وجمع أسباب القوه والتغلب والقهر، واستولى على منصب الإمامة الشرعية بالغصب والقهر، بعد أن أقصى الإمام الشرعي عن منصبه وحمل الناس بالقوة على القبول بهذا الوضع الشاذ الذي فرضه.
ج- ومن مميزات إمامة فرعون وجنوده وأئمة الكفر من بعدهم، ومن قبلهم، أن الإمام المتغلب يعطل الشرع الإلهي، أي التعاليم الإلهية: (أمر الله) ويستبدله، بآرائه الخاصة، واجتهاداته الشخصية، ويفرض بالقوة والقهر تلك الآراء والاجتهادات حتى تكون، مع الأيام، بمثابة شرع بديل للشرع الإلهي خاصة القواعد المتعلقة بمنصب الإمام.
د- ومن مميزات إمامة فرعون القدرة على تحريف الكلم عن مواضعه وقلب الحقائق، فهو يسمى الصلاح الإلهي فساداً، ويدعو فساده صلاحاً، انظر إلى قوله تعالى، على لسان فرعون، مخاطباً قومه: (إني أخاف أن يبدل دينكم أو أن يظهر في الأرض الفساد) (غافر/26). ونرى فرعون يطعن بالإمام الشرعي، ويصفه بأنه مهين، ولا يكاد يبين. ولا مجال للمقارنة بين الفرعون وموسى. انظر إلى قوله تعالى، وهو ينقل هذه الظاهرة على لسان فرعون، مخاطباً الملأ من أهل مصر (أم أنا خير من هذا الذي هو مهين) (الزخرف/52). وقد يتلطف الغاصب لمنصب الإمامة بالقوة فيقول: إن الإمام الشرعي هو الأفضل، ولكن قدم المفضول على الأفضل لمصلحة رآها الناس، أو أن العرب لا تجتمع على إمام من بني هاشم، لأنها تأنف أن تكون النبوة والإمامة معاً في البطن الهاشمي!! إلى آخره من خزعبلات الإمام الغاصب التي يسخر كل وسائل الإعلام لتضليل الناس وإبعادهم عن الشرع الإلهي.
معنى الإمامة في سنه الرسول:
تنصب مهمة الرسول الأولى على تبليغ القرآن الكريم، وبيان أحكامه للناس، وقد قام الرسول بمهمته خير قيام، فبلغ القرآن فعلا، وبين أحكامه كما أمر (لتبين للناس ما نزل إليهم) (النحل/44) (إن اتبع إلا ما يوحى إلي) (الأنعام/50، يونس/15، الاحقاف/9) فوضح كافه المعاني الواردة في القرآن الكريم لكلمه إمام، وأئمة، وبين مترادفات هذه الألفاظ، فبين أن الإمام هو الرجل الأول، وصاحب الكلمة العليا، وأكد ما جاء في القرآن الكريم من وجود نوعين من الإمامة، إحداهما إمامة برة كإمامة موسى والأئمة من بعده وإمامته (ص)، والأخرى إمامه فاجرة، كإمامه فرعون وجنوده، وإمامة زعامة بطون قريش، وإمامة الذين غصبوا منصب الإمامة بالتغلب والقهر، فالإمامة البرة تهدي بأمر الله وتتقيد بأحكام الشرع، والثانية تهدي إلى النار، لأنها قائمة على الغصب والظلم، واستبدال النصوص الشرعية بالآراء والاجتهادات الشخصية.
الإمامة هي القيادة الشرعية بعد النبي لقد بين الرسول أن الإمام هو القائد الشرعي، والمرجع الموثوق من بعد النبي، وهو المؤهل إلهياً ليخلف النبي ويقوم بمهامه من بعده، وهو المتصف بصفات الإمامة الشرعية والذي شهد الله ورسوله له بأنه الأعلم، والأفهم بالدين والأقرب للّه ولرسوله، والأتقى، والأفضل في زمانه، فبعد أن أعلن الرسول أن علياً بن أبي طالب (ع) هو الخليفة، والوصي والولي من بعده، وبعد أن توجه رسول الله بأمر من الله تعالى أميراً على المؤمنين، وولياً لهم مجتمعين، ومولى لكل واحد منهم وبعد أن ربط ربطاً محكماً بين الولاية للّه ولرسوله (ص) وبين الولاية لعلى بن أبي طالب (ع)، عندئذ أعلن الرسول أمام أصحابه مجتمعين ومنفردين، في مرات، وأماكن متعددة، أن علياً بن أبي طالب هو الإمام من بعده. ودفعاً للالتباس، وإقامة للحجة ساق الرسول في تلك المواقف نفسها كلمه إمام مع كلمات (سيد المسلمين وقائدهم، ووليهم، ونور الطاعة، وراية الهدى، وخاتم الوصيين)، واعتبرها من صفات الإمام علي (ع) ومميزاته. واعتبر هذه الصفات والمميزات من وجوه الإمامة ومظاهرها ولوازمها.
واعتبر إمامه علي بن أبي طالب حالة استمرارية لإمامته(ص) وإمامة إبراهيم والأئمة من بعده الذين يهدون بأمر الله.
وقد تكررت كلمه إمام وأئمة في السنة النبوية، تكراراً كافياً لبيان أحكام الإمامة بنوعيها.
نماذج من نصوص الإمامة الشرعية:
أ- قال الرسول، يوماً، لأصحابه: (أوحى الله إليَّ في على بن أبي طالب أنه سيد المسلمين، وإمام المتقين، وقائد الغر المحجلين)(3).
ب- وقال الرسول(ص) يوماً آخر، لأصحابه: (أوحى الله إليَّ في علي أنه سيد المسلمين وولى المتقين، وقائد الغر المحجلين)(4).
ج- وبينما كان الرسول جالساً مع أصحابه قال لهم: (أول من يدخل هذا الباب إمام المتقين، وسيد المسلمين، ويعسوب الدين وخاتم الوصيين وقائد الغر المحجلين). وبعد آونة دخل علي بن أبي طالب، فنهض رسول الله وعانقه(5).
د- وفي يوم من الأيام، كان الرسول جالساً مع أصحابه، فدخل علي بن أبي طالب، فقال له الرسول أمامهم: (مرحبا بسيد المسلمين وإمام المتقين)(6).
هـ- وقال الرسول، مرة لأصحابه: (إن الله عهد إليَّ عهداً فقلت: بينه لي، فقال الله تعالى: اسمع إن علياً راية الهدى، وإمام أوليائي، ونور من أطاعني، وهو الكلمة التي ألزمتها المتقين...الحديث)(7).
ففي النماذج السابقة، وأمثالها، من النصوص الشرعية، بين الرسول أحكام الإمامة الشرعية التي أجملها القرآن الكريم، وساق نموذجاً لها إمامة إبراهيم، والأئمة الذين كانوا يهدون بأمر الله من بعده، فالإمام الشرعي رجل اختاره الله سبحانه وتعالى، وأعده إعداداً كاملاً بحيث يكون هو الأعلم والأفهم بالدين (بأمرنا) والأقرب للّه ولرسوله، والأتقى، والأصلح، والأفضل من أهل زمانه، والأجدر والأقدر على خلافة رسول الله في أمور الدنيا والدين، ليكون المثل الأعلى المتحرك والمبين المؤتمن على دين الله، فلا يصدر عنه إلا الصواب، وهذه هي مميزات الإمامة الشرعية وصفاتها، وهى التي أمر رسول الله بأن يعلن للناس بأنها متوافرة في الإمام علي وفي الأئمة الكرام من ذريته وذريه النبي.
بمعنى أن الرسول، في زمانه، كان هو الأعلم والأفضل والأنسب ويجب أن يخلفه رجل يتمتع بهذه المزايا.
الرسول يحذر من الإمامة الفاجرة ويرسم صورتها بعد أن بين رسول الله نموذج الإمامة الشرعية، وبعد أن أعلن أن علياً بن أبي طالب، هو أول الأئمة الشرعيين من بعده ثم يليه أحد عشر إماماً كلهم من ذرية النبي، وأبناء علي وأحفاده بعد ذلك، حذر رسول الله من نموذج الإمامة الفاجرة التي أجملها القرآن، وساق مثلاً لها إمامة فرعون وجنوده وأئمة الضلال الذين عاصروه، وهم زعماء بطون قريش.
لقد بين رسول الله بالتصوير الفني البطيء أحكام الإمامة الفاجرة القائمة على الغصب والتغلب والقهر، وحذر بمختلف وسائل التحذير، من الوقوع بين مخالب مثل هكذا أمامه.
وبين الرسول بأن الأمة إذا رفضت إمامها الشرعي على بن أبي طالب، أو تخلت عنه، ولم تنصره، فإن قيادة الأمة ستصبح مطمعاً لكل الطامعين بالرئاسة وفريسة لمن غلب، وسيصبح الغالب داعية يهدى عملياً إلى النار، تماماً كإمامة فرعون وجنوده وإمامة زعامة بطون قريش قبل هزيمتهم.
فالإمام الفاجر، وفق هذا التصور، رجل طموح، مستهتر بالشرعية والمشروعية الإلهية، لا هم له إلا مصالحه، والفوز بالإمارة، حسود، كاره للترتيبات الإلهية المتعلقة بمنصب الإمامة من بعد النبي، لذلك أعد العدد وهيأ أسباب القوة، وقبض على مقاليد الأمور بالقوة الغاشمة، ومؤهله الوحيد القوة والغلبة، والقدرة على خداع الناس، وتحريف الكلم عن مواضعه.
وفي الوقت الذي يعلن فيه انتماءه للجماعة المسلمة، يبرز عداوته عملياً للّه ولرسوله، بجمعه لوسائل القوة والتغلب ليخرج الأمة بالقوة من إطار الشرعية والمشروعية الإلهية فيخرب نظامها السياسي الإلهي، ويبتزها أمرها، بعد إمضاء ولي أمرها وإمامها الشرعي الذي اختاره الله ورسوله، ويعطل أحكام الإمامة الشرعية التي وضعها الله ورسوله ويستعيض عن الأحكام الإلهية، بآرائه الخاصة واجتهاداته الشخصية. فهذا النموذج من الإمامة هو أشد خطراً على الدين والأمة من إمامة فرعون وجنوده، وإمامه أئمة الكفر في مكة.
لهذا صورهم رسول الله بصورتهم الحقيقية البشعة، ووصف واقع حال تلك الإمامة الفاجرة بقوله: (يكون بعدى أئمة، لا يهتدون بهداي ولا يستنون بسنتي، قلوبهم قلوب الشياطين في جثمان انس..)(8).
وهكذا يكون رسول الله قد بيَّن الإمامتين البرة والفاجرة، وأطلع الناس على حقيقة إمامة إبراهيم وإمامة فرعون.
معنى الإمامة عند أئمة أهل بيت النبوة:
لأهل بيت النبوة مكانه دينيه خاصة، فهم الذين اذهب الله عنهم الرجس، كما هو ثابت من آية التطهير، وهم كنفس النبي كما هو ثابت من آية المباهلة، وهم أعدال الكتاب كما هو ثابت من حديث الثقلين المسلم بصحته وتواتره، ولأن الله تعالى قد فرض مودتهم كما هو ثابت من آية المودة، ولأن الصلاة عليهم جزء لا يتجزأ من الصلاة المفروضة على العبادة، ولسبب عملي آخر أنهم عاشوا مع النبي طوال حياته، وورثوا علمه، ما يعنى أنهم قد أهلوا للإمامة، فقد سمى رسول الله علياً إماماً، وقال عن الحسن أنه إمام، وقال عن الحسين أنه إمام، ولا يجادل حتى النواصب بصحة أقوال الرسول هذه، إنما جدالهم ينصب على تفريغ كلمة الإمام من معانيها الشرعية طمعاً بتصحيح الواقع الذي فرضته القوه الغاشمة المتغلبة.
وما يعنينا هو أن أئمة أهل بيت النبوة عالجوا معنى الإمامة وبينوه كما تلقوه عن رسول الله.
قال الإمام على: (اللهم لا تخلو الأرض من حجه لك على خلقك: ظاهر أو خائف مغمور، لئلا تبطل على الناس حججك أو بيناتك)(9).
وقال أيضا: (اإ الأئمة من قريش غرسوا في هذا البطن من هاشم لا تصلح على سواهم ولا تصلح الولاة من غيرهم)(10).
وقال أيضا: (لا يقاس بآل محمد من هذه الأمة أحد، ولا يسوى بهم من جرت نعمتهم عليه أبداً، هم أساس الدين، وعماد اليقين، إليهم يفيء الغالي، وبهم يلحق التالي، ولهم خصائص حق الولاية، وفيهم الوصية والوراثة...)(11).
قال الإمام زين العابدين (علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب): (نحن أئمة المسلمين، وحجج الله على العالمين، وسادة المؤمنين، وقادة الغر المحجلين...)(12).
وقال الإمام زين العابدين أيضاً: (نحن خلفاء الأرض ونحن أولى الناس بالناس...)
وقال أيضاً، في الصحيفة السجادية(13): (اللهم إنك أيدت دينك في كل أوان بإمام أقمته، علماً لعبادك، ومناراً في بلادك، بعدما وصلت حبله بحبلك، وجعلته الذريعة إلى رضوانك، وافترضت طاعته، وحذرت معصيته، وأمرت بإفشال أمره، والانتهاء عند نهيه، وألا يتقدمه متقدم، ولا يتأخر عنه متأخر...).
قال الإمام الصادق(14): (لو بقيت الأرض بغير إمام ساعة لساخت) قيل له: كيف ينتفع الناس بالحجة الغائب المستور؟ فقال الصادق: (كما ينتفعون بالشمس إذا سترها السحاب).
وهذا يعني أن أئمة أهل بيت النبوة قد فهموا الإمامة كما بينها رسول الله على أنها ركن من أركان الدين، لا غنى عنها، وبأن الإمام معين من الله، ومعلن من رسوله، وأن مهمة الإمام أن يهدي لأمر الله، فهو قائد الأمة ومرجعها وقدوتها في أمور دينها ودنياها، لأنه الوحيد في زمانه المتصف بالصفات الشرعية للإمامة، والمؤهل الوحيد في زمانه لخلافه النبي في أمور الدين والدنيا.
وأنت تلاحظ أن فهم أهل بيت النبوة يتفق بالكامل مع بيان النبي لأحكام الإمامة الشرعية، ممثلة بإمامة إبراهيم والأنبياء من بعده والتي أجملها القرآن الكريم.
فالإمام هو صاحب الكلمة العليا، يقود، ولا يقاد، ولا يتقدم عليه أحد، ولا يتأخر عنه أحد.
معنى الإمامة عند علماء دولة الخلافة معنى قادة التأريخ الإسلامي نعني بقادة التأريخ السياسي الإسلامي، وهم قادة دولة الخلافة، الخلفاء المتغلبين الذين قبضوا على مقاليد أمور الدولة الإسلامية من طريق القوه والتغلب والقهر وكثرة الأتباع، مباشرة، أو بعهد من بعضهم إلى بعض، وقد استمر حكم قادة التأريخ من بعيد وفاة النبي حتى سقوط آخر سلاطين بنى عثمان، وعرف نظامهم بنظام الخلافة على الرغم من تطبيقاته المختلفة، فأبو بكر خليفة رسول الله، والسلطان عبد الحميد خليفة رسول رب العالمين أيضاً.
معنى علماء دولة الخلافة ونعنى بعلماء دولة الخلافة، أو علماء قادة التأريخ السياسي الإسلامي، أولئك العلماء الذين أيدوا دولة الخلفاء، وصححوا ولاية الخلفاء، وسوغوا أعمالهم، واعتبروا ما صدر عن الخلفاء أو عن بعض أقطابهم، على الأقل، بمثابة سوابق دستورية أو سنن واجبة الإتباع كسنة رسول الله تماماً، فولاية العهد مثلاً يعدونها مشروعة، لأن أبا بكر عهد لعمر، ولأن عمر عهد لأصحاب الشورى.. الخ.
معنى الإمامة عند هؤلاء تعنى الإمامة، عند علماء دولة الخلافة، الخلافة، أو الرئاسة العامة للمسلمين في الشؤون الدينية والدنيوية، فالإمام عندهم (أي الخليفة) هو خليفة رسول الله، يتمتع بكل حقوقه وصلاحياته، (لو منعوني عقالاً لقاتلتهم عليه) كما يقول الخليفة الأول، وبيده الأموال، والسلطة والنفوذ، والفهم الديني الذي يراه مناسباً هو الذي ينفذ، فيمكنه أن يخترع أموراً لم تكن موجودة ويجعلها سنة واجبة الإتباع، كولاية العهد، ويمكنه أن يخالف سنه الرسول، فالرسول كان يعطي بالسوية، وجاء الخليفة الثاني، وألغى سنة المساواة بالعطاء، وأعطى الناس حسب منازلهم برأيه، وقيل في تسويغ ذلك أن الرسول مجتهد، والخليفة الثاني مجتهد! والخلاصة أن الخليفة عند علماء دوله الخلافة هو الإمام، ولا إمام غير الخليفة فهو صاحب الكلمة العليا، والقول الفصل وهم يسلمون بأنه ليس الأصلح ولا الأفضل ولا الأعلم ولا الأتقى، ولكنه وصل إلى سدة الخلافة بالتغلب والقوه والقهر، وقدم المفضول على الأفضل لمصلحه رآها المسلمون.
دليل علماء الدولة على أن الإمام هو الخليفة؟ قال الماوردي والفراء(15):
أ- (الإمامة) يعنون بها الخلافة، تنعقد من وجهين: أحدهما باختيار أهل الحل والعقد وثانيهما بعهد الإمام من قبل...
ب- ونقلاً عن طائفة، القول: (إن اقل ما تنعقد به الإمامة خمسة يجتمعون على عقدها والدليل الشرعي على ذلك ما فعله (أبو بكر وعمر وأبو عبيده وأسيد بن حضير، وبشير بن سعد، وسالم مولى أبي حذيفة عندما اجتمعوا واختاروا أبا بكر خليفة.
والدليل الشرعي الآخر برأيهم أن الخليفة الثاني عمر جعل الشورى في ستة يعقد لأحدهم برضا الخمسة.
وهذا قول أكثر الفقهاء والمتكلمين من أهل البصرة، وقال آخرون من علماء الكوفة تنعقد بثلاثة..
ج- وأضاف: (إن انعقاد الإمامة بعهد من قبله فهو ما انعقد الإجماع على جوازه، فأبو بكر عهد لعمر، وعمر عهد بها لأهل الشورى).
د- وأضاف: (إن بيعة عمر لم تتوقف على رضا الصحابة لأن الإمام أحق بها).
هـ- وقال أبو يعلى: (إن الإمامة تثبت بالقهر والغلبة ولا تفتقر إلى العقد).
(من غلب بالسيف حتى صار خليفة وسمي أمير المؤمنين فلا يحل لأحد يؤمن بالله واليوم الآخر أن يبيت ولا يراه إماماً، براً كان أم فاجراً، فهو أمير المؤمنين).
و- وقال في الإمام يخرج عليه من يطلب الملك، فيكون مع هذا قوم ومع هذا قوم تكون الجمعة مع من غلب، والدليل الشرعي أن عبد الله بن عمر بن الخطاب صلى بالناس يوم الحرة وقال: (نحن مع من غلب)(16).
ز- قال الجويني إمام الحرمين: (اعلموا أنه لا يشترط في عقد الإمامة الإجماع)(17).
وهو يقصد بالإمامة الخلافة.
ح- قال ابن العربي، في (شرحه على سنن الترمذي): (لا يلزم في عقد البيعة للإمام (الخليفة) أن تكون من جميع الأنام، بل يكفي لعقد ذلك اثنان أو واحد)(18).
ط- قال القرطبي، في (جامع الأحكام): (إذا انعقدت الإمامة باتفاق أهل الحل والعقد أو بواحد وجب على الناس كافه متابعته)(19) ي- قال عضد الدين الأيجي، في (المواقف في علم الكلام)(20): (إن الإمامة (يقصد الخلافة) تثبت بالنص من الرسول ومن الإمام السابق، وتثبت بيعة أهل الحل والعقد)
وقد قصد الجميع (بالإمامة) الخلافة العامة للرسول، أو الرئاسة العامة للمسلمين في الشؤون الدينية والدنيوية.
والنصوص التي أوردناها، عند علماء الدولة التأريخية، تعطي تصوراً واضحاً عن معنى الإمامة عندهم، فالخليفة عندهم هو الإمام، وهو الرئيس الأعلى للمسلمين في جميع شؤونهم الدينية والدنيوية، ولم لا فهو خليفة الرسول القائم مقامه؟ وهذا الخليفة ليس مميزاً لا في دينه ولا في علمه، ولا في أفضليته، وما يميزه عن سواه هو أنه غالب أو متغلب حمل الناس على إتباعه، أو صار خليفة بعهد من متغلب، ويبقى هذا الخليفة خليفة للنبي، متمتعاً بكافة صلاحياته وحقوقه وشرعية وجوده حتى يظهر غالب جديد، فإذا تغالب الغالب الجديد مع الغالب السابق الذي صار خليفة لأنه غلب، يتفرج الناس، فإذا غلب المتغالب الجديد، يفقد الخليفة السابق شرعية وجوده وكافة حقوقه وصلاحيتها، ويخلى مكانه ليحل محله الغالب الجديد، خليفة للنبي، وأميراً للمؤمنين، وإماماً للمسلمين..
ثم تبدأ عمليات المفاضلة بين المتغلبين، وهكذا يخرج الدين الحنيف بقرآنه وسنته ومقاصده الشريفة عن مساحة التغالب، ويبقى دوره محصوراً بالزينة، وينكر أولئك العلماء وجود أئمة شرعيين غير الخلفاء.
المصطلحات المرادفة لمصطلح الإمامة القرآن الكريم هو الذي عرف العرب بمصطلح الإمامة، وهو الذي قسم الإمامة إلى نوعين، وجاء الرسول الكريم وبين هذا المصطلح بياناً تاماً حتى عرف للعامة والخاصة معاً.
وخلال قياده النبي للدعوة والدولة معا مارس مهمة الإمامة والرسالة معاً، ثم وطد الأمر، وأعلن أمام أصحابه وأخبرهم أن الإمام من بعده هو علي بن أبي طالب لأنه المؤهل إلهياً للإمامة من بعده، وحرص النبي على إخبارهم بذلك فرادى ومجتمعين، مثلما حرص على أن ينادي الإمام علي أمامهم بهذه الصفة كقوله:
(مرحبا بسيد المسلمين وإمام المتقين)، وغني عن البيان بأن الرسول لم يعلن إمامة علي من بعده ويخبر أصحابه بهذه الإمامة من تلقاء نفسه، إنما فعل ذلك بأمر من ربه، لأن الله سبحانه وتعالى أمر الرسول ووجهه لكافة الأمور الأقل أهمية، فمن باب أولى أن يأمره بهذا الأمر الذي يعد في غاية الخطورة، لأنه قوام مستقبل الدعوة والدولة الإسلامية.
وكما عرف القرآن الكريم العرب بمصطلح الإمامة، عرفهم بكل المصطلحات الدالة على الإمامة والكاشفة لها، والتي تعد من لوازمها ومظاهرها وجاء الرسول فبينها بياناً لا يحتمل التأويل:
1- ولي الأمر، أو الولي مطلقاً، أو المولى تكررت هذه المصطلحات في القرآن مرات متعددة، وقام رسول الله(ص)، ببيانها للعامة والخاصة، وربط هذا بمستقبل الدعوة والدولة (فعندما نزلت آية الولاية: (إنما وليكم الله ورسوله والذين آمنوا الذين يقيمون الصلاة ويؤتون الزكاة وهم راكعون) (المائدة/55) وقد بين الرسول لأصحابه أن السبب المباشر لنزول هذه الآية هو تصدق علي بخاتمه وهو راكع، ولأن مهمة الرسول أن يبين للناس ما أنزل إليهم من ربهم، فقد بين هذه الآية وأمثالها، وأعلن بأمر من ربه بأن الإمام علي بن أبي طالب (هو وليه في الدنيا والآخرة)(21).
وقال الرسول لعلي أمام أصحابه: (أنت ولي كل مؤمن بعدي)(22) ، ثم التفت إلى أصحابه وقال لهم: (إنه وليكم بعدي)(23).
ولم يكتفِ النبي بذلك بل أمرهم بموالاة الإمام علي، وحبب إليهم هذه الموالاة، فقال: (أوصي من آمن بي وصدقني بولاية علي بن أبي طالب من تولاه فقد تولاني ومن تولاني فقد تولى الله ومن أحبه فقد أحبني، ومن أحبني فقد أحب الله).
وقال لهم مرة: (من آمن بي وصدقني فليتولَّ علي بن أبي طالب؛ فإن ولايته ولايتي، وولايتي ولاية الله)(24).
فأنت تلاحظ أن رسول الله ربط ولاية علي بالإيمان بالنبي وبتصديقه، ولم يكتفِ الرسول بذلك، إنما حث المسلمين على هذه الموالاة ووعدهم بالجنة فقال: (من أحب أن يحيا حياتي ويموت موتتي ويسكن جنه الخلد التي وعدني ربى، فإن ربي غرز قضبانها بيده، فليتولَّ علياً فإنه لن يخرجكم من هدى ولن يدخلكم في ضلاله)(25).
فمن يمعن النظر، في هذه النصوص، ويتبين اهتمام الرسول المركز على المعنى لا يبقى لديه أدنى شك بأن الإمام علي بن أبي طالب هو الولي من بعد النبي، أي الإمام أو صاحب الكلمة العليا في المجتمع، فولي الأمر أو الولي مطلقا يعنى الحاكم والأولى، انظر إلى قوله تعالى: (أئمة يهدون بأمرنا) (الأنبياء/73، السجدة/24)، (أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولي الأمر منكم) (النساء/59).
وقول الرسول لبني عامر بن صعصعة عندما طلبوا الخلافة من بعده مقابل إيمانهم به: (إن الأمر لله يضعه حيث يشاء) وليس أدل على ذلك من أنه عندما أخذوا الخلافة بالقوة والتغلب صار الخليفة المتغلب يعرف بالولي إطلاقاً أو بولي الأمر، انظر إلى قول أبي بكر: (إني قد وليت عليكم) وقوله عندما استخلف عمر: (إني ما وليت ذا قرابة) وقول عمر: (أنا ولي رسول الله وولي أبي بكر وأمرهما إليَّ والى من ولي الأمر)(26).
وعمر على فراش الموت لطالما ردد: (لو كان... حياً وليته).
وفي زمن الخلفاء الثلاثة كان ينظر للخليفة المتغلب واقعياً على أساس أنه ولي أمر المسلمين أو الولي مطلقاً، ولم يختلف الأمر عندما آلت الأمور إلى الأمويين والعباسيين والعثمانيين، فالخاصة والعامة كانوا يرون أن الولي مطلقاً أو ولي الأمر كناية عن صاحب الكلمة العليا في المجتمع الإسلامي، وهذا كله يؤكد عمق الارتباط بين كلمة أو مصطلح الإمام وبين مصطلح الولاية أو الولي.
وجاء تتويج الرسول للإمام علي في غدير خم ليضع النقاط على الحروف(27).
2- الخليفة وردت كلمه خليفة، في القرآن بمعنى النيابة عن الغير والقيام مقام هذا الغير كقوله تعالى: (يا داود إنا جعلناك خليفة) (ص/26)، وقول موسى لأخيه هارون: (وقال موسى لأخيه هارون اخلفني في قومي وأصلح..) (الأعراف/142).
فعندما خوطب داود كان هو الحاكم أو صاحب الكلمة العليا، وهارون صار صاحب الكلمة العليا في بنى إسرائيل بعد رحيل موسى، وإسلامياً عرف الخليفة بأنه القائم مقام الرسول بعد موته، ولأن مهمة الرسول أن يبين للناس ما أنزل إليهم من ربهم وإحكاماً للأمر من بعده، أعلن الرسول وأخبر الناس: المؤمن منهم والكافر بأن علي بن أبي طالب هو الخليفة من بعده، أي القائم مقام الرسول عند موته، فقال (ص)، عن علي بن أبي طالب:
(إن هذا أخي ووصيي وخليفتي فيكم فاسمعوا له وأطيعوا)(28).
وبهذا الحديث الذي ربط بين الأخوة والوصاية والخلافة بين الرسول مغزى آيات الخلافة، فالخليفة هو الشخص المؤهل إلهيا لخلافة الرسول والحكم بشريعة إلهية، وإذا استذكرنا قوله تعالى: (وقال موسى لأخيه هارون اخلفني في قومي وأصلح) واستذكرنا قول الرسول لعلي (أنت مني بمنزلة هارون من موسى إلا أنه لا نبي بعدي) عندئذٍ نقطع بأن الرسول أعطى علياً كافة الصلاحيات المخولة له في قيادة المجتمع باستثناء النبوة، فعلي هو الإمام، وهو الولي، وهو الخليفة، أي صاحب الكلمة العليا في المجتمع، أو بتعبير أدق في هذا المكان (أي الخليفة القائم بالحق والحقيقة مقام النبي بعد موته، وحديث المنزلة من أصح الآثار)(29).
وبعد أن تم غصب الخلافة والإمامة بعد وفاه النبي والاستيلاء عليها بالقوة والتغلب، صار القائم مقام النبي يعرف بالخليفة، أي صاحب الكلمة العليا في المجتمع، ظاهرياً لأنه خليفة الرسول الذي كان صاحب الكلمة العليا، وواقعيا لأنه الخليفة المتغلب تحت تصرفه الأموال يستميل بها القلوب وأسباب القوه الأخرى.
وتستخدم في أداء المعنى نفسه مصطلحات أخرى هي: 3- أمير المؤمنين.
4- القائد.
5- سيد المسلمين.
6- سيد العرب.
7- الوصي.
وحملاً على المقصود الإلهي من الإمامة أو خلافة الرسول الشرعية وإقامة للحجة، وقطعاً لدابر التأويل أعلن الرسول وأخبر أصحابه: فرادى ومجتمعين بأن الإمام علي هو أمير المؤمنين، وهو سيد المسلمين، وهو سيد العرب، وهو القائد، وهو راية الهدى، ونور من أطاع الله.
وهذه الصفات من لوازم ومظاهر الإمامة الشرعية، النموذج الوارد في القرآن الكريم، وهى إمامة إبراهيم والأئمة من بعده الذين يهدون بأمر الله حتى وصلت الإمامة إلى محمد، حيث جمع الله له الإمامة والرسالة والنبوة وقد وردت هذه الصفات بأحاديث موثوقة أجمع أئمة أهل بيت النبوة على صحتها، ورواها الكثير من علماء دوله الخلافة التأريخية(30).
المصطلحات المرادفة للإمامة وجوه لشخص واحد من يمعن النظر في منصب الإمامة ومعانيها اللغوية والشرعية وبالمترادفات التي أطلقت على شخص الإمام يتيقن أن هذه المترادفات وجوه لشخص واحد، ومظاهر ولوازم لمنصب واحد، وهو منصب الإمامة، فالإمامة الشرعية، هي رمز الارتباط بين الخلق وأمر الله الخالق، والإمام يمثل قمة الوجود علماً وإحاطةً وتقوى، وفضلاً، وصلاحاً، وهو النموذج المتحرك الحي للإنسان المعتصم بالله، وهو المرجع الوحيد الذي لا يعلو فوقه مرجع، وهو المؤهل إلهياً لقيادة الأمة المسلمة بل لقياده العالم على هدى من أمر الله، فلا يوجد في زمانه من هو أفضل منه ولا أعلم ولا أصلح، ولا اقدر، فما من سؤال إلا ويملك الجواب الصحيح عليه، لأن من مهام الإمام أن يبين الدين، أو أمر الله للعالم كله فضلاً عن الأمة الإسلامية.
ومن هنا فان الإمام بالضرورة محصن (أو مطعم) ضد الخطأ والزلل، وبما أن هذا الإمام سيحل محل الرسول ويقوم مقامه عند موت الرسول، فهو بالبداهة والضرورة خليفة الرسول القائم مقامه في أمور الدين والدنيا معاً، وحيث أن الإمام الشرعي له ولاية على نسق ولاية الله ورسوله فهو الأولى بالمؤمنين من أنفسهم أو هو وليهم، أو ولي أمرهم جميعاً وولي كل واحد وواحدة منهم، أي أنه الأولى بهم من غيره، فهو يلي أمورهم، ويتصرف بشؤونهم.
والإمام الشرعي بالضرورة هو سيد المسلمين، وقائدهم الأعلى، وراية هداهم، وموالاته هي موالاه لله ولرسوله، ورمز لإتباع المسلمين لأمر الله، ولأنه وصي الرسول فهو كنفس الرسول استناداً لآية المباهلة ولقول الرسول لبني هيلعه: (لأرسلن عليكم رجلاً كنفسي)، وقول الرسول لأبي بكر عندما أخذ منه سوره براءة وكلف الإمام علي بتبليغها مبرراً ذلك بأنه لا يؤدي عن الرسول إلا الرسول نفسه أو الإمام علي، وهكذا يبني الإسلام جسور الثقة بين الإمام وبين المؤمنين، ويحكم كافه الأحكام المتعلقة بمنصب الإمامة، ويسد أمام طلاب الزعامة أبواب الفتنة والتأويل ويوطد للإمام في الأرض.
أما الخليفة الذي استولى على صلاحيات الإمام ومنصب الخلافة بالقوة والتغلب والقهر فلا حظ له من الشرعية وهو مجرد واقع مفروض، غير معتبر ومعدوم شرعياً.
وإمامة هذا المتغلب وخلافته تدخل في زمرة إمامة فرعون وجنوده وإمامة زعامة بطون قريش.
وهى إمامه قائمة أصلاً على الغصب والتغلب والقهر والخروج على أمر الله، واستبعاد الكفاءات الشرعية.
الهوامش:
(1) أحمد حسين يعقوب، النظام السياسي في الإسلام، ص 14، ابن منظور، لسان العرب، ماده امه، والقاموس المحيط ماده امه.
(2) مرتضى العسكري، معالم المدرستين، 1/160.
(3) الطبراني، المعجم الصغير، 2/88، الخوارزمي، المناقب، 235، ابن عساكر، ترجمه الإمام على من تاريخ دمشق، 2/257، 258، ح780، 782.
(4) ابن عساكر، ترجمه الإمام علي من تاريخ دمشق، 2/256، 257 ح779، الطبري، الرياض النضرة، 2/234، مسند الإمام احمد، هامشه منتخب الكنز، 5/234.
(5) ابن أبي الحديد، شرح نهج البلاغة، 9/169، ط1 دار الجيل، بيروت 1407هـ، 1987م، أبو نعيم، حليه الأولياء، 1/13، ابن عساكر، ترجمه الإمام على من تاريخ دمشق 2/259 ح783، 486، 487 ح1014، الخوارزمي، المناقب ص 44، الذهبي، الميزان، ص 64.
(6) أبو نعيم، حليه الأولياء، 1/66، ابن عساكر، ترجمه الإمام على من تاريخ دمشق، 2/440 ح956، ابن أبي الحديد، شرح نهج البلاغة، 9/175.
(7) 7- أبو نعيم، حليه الأولياء، 1/67، وابن أبي الحديد، شرح نهج البلاغة 9/167، وابن عساكر، ترجمه الإمام على من تاريخ دمشق 2/229، 230 ح742، وكتابنا المواجهة مع رسول الله وآله باب القيادة.
(8) راجع صحيح مسلم، كتاب الإمارة الحديث 40 وما بعده.
(9) المجلسي، البحار، 23/20، ح17.
(10) ابن أبي الحديد، شرح نهج البلاغة 9/84، ط1، دار الجيل، بيروت، 1407هـ، 1987م.
(11) المصدر نفسه 1/138.
(12) باقر شريف القرشي، الإمام زين العابدين، ص 108 و109، الصحيفة السجادية، دعاء رقم46.
(13) دعاء رقم 46.
(14) المجلسى، البحار 23/5، ح10، وص 21 ح20.
(15) الماوردي، الأحكام السلطانية ص 6 وما بعدها، والفراء، الأحكام السلطانية ص 7 وما بعدها.
(16) الأحكام السلطانية، ص 7 و8.
(17) الجويني (إمام الحرمين)، الإرشاد والكلام، ص 424.
(18) ابن العربي، الشرح على سنن الترمذي، 13/229.
(19) القرطبي، جامع الأحكام، 1/269 و273. (20) 8/351 وما بعدها.
(21) راجع صحيح مسلم 2/24، والمستدرك للحاكم ص 109 (وصرح الذهبي بصحته في ذيل المستدرك).
(22) راجع مسند احمد 5/25، وخصائص أمير المؤمنين للنسائي ص 64.
(23) راجع صحيح الترمذي 5/296 ح3796، والخصائص للنسائي ص 97.
(24) ترجمة الإمام علي من تاريخ دمشق لابن عساكر 2/91، 97 ح594، 600.
(25) ترجمة الإمام علي من تاريخ دمشق لابن عساكر 2/99 ح605، وحليه الأولياء 4/349، 350.
(26) راجع كنز العمال 7/239، 242 ح18768 و18769.
(27) راجع كتابنا النظام السياسي في الإسلام ص 11 و12.
(28) هذا الحديث صحيح، صححه أبو جعفر الاسكافي، وابن جرير الطبري، كما ذكره السيوطي في جمع الجوامع، 6/396، وراجع كتابنا نظرية عدالة الصحابة ص 224 تجد التوثيق.
(29) راجع صحيح مسلم، 2/360، وصحيح البخاري، 5/129، وكتابنا نظرية عدالة الصحابة ص 225.
(30) راجع ترجمه الإمام علي من تاريخ دمشق، لابن عساكر 2/256، 268 ح779، 795، وكنز العمال 15/157، وشرح النهج لابن أبي الحديد 9/170، والمناقب للخوارزمي ص 44، ومناقب علي لابن المغازلي الشافعي ص 73، وكتابينا نظريه عدالة الصحابة باب القيادة السياسية، والمواجهة مع رسول الله وآله، الباب الرابع، الفصل الثالث تجد التوثيق التام لهذه الأحاديث عند علماء دوله الخلافة.
المصدر: كتاب الوجيز في الإمامة والولاية.
أمَّ القوم أي تقدمهم، والإمام كل من ائتم به قوم سواء أكانوا على الخطأ أم على الصواب.
وإمام كل شيء قيمه والمصلح له، والإمام يعنى المثال، ويعنى المقصود.
والإمام هو الخيط الذي يمد على البناء ويسوى عليه (لإدراك استقامة البناء). والحادي إمام الإبل، لأنه الهادي لها(1).
(والإمام، في اللغة، هو الإنسان الذي يؤتم به، ويقتدى بقوله أو فعله محقاً كان أو مبطلاً)(2).
معنى الإمامة في القرآن الكريم وردت كلمة (إمام) و(إماما) و(إمامهم) و(أئمة)، في القرآن الكريم، إثنتي عشرة مرة، وقد انطبق المقصود منها انطباقاً تاماً على المعنى اللغوي لكلمة الإمامة، وتفصيل ذلك قوله تعالى:
1- (فانتقمنا منهم وإنهما لبإمام مبين)، (الحجر/79).
2- (وكل شيء أحصيناه في إمام مبين)، (يس/12).
3- (ومن قبله كتاب موسى إماماً ورحمةً..)، (هود/17).
4- (ومن قبله كتاب موسى إماماً ورحمة..)، (الأحقاف/12).
5- (يوم ندعو كل أناس بإمامهم)، (الإسراء/71).
فكلمة إمام، الواردة في هذه الآيات الخمس، تكشف عن معنى: الكتاب، والمرجع، والقيم، والمصلح، والهادي، والرمز، والمحيط.
6- (واجعلنا للمتقين إماماً)، (الفرقان/74).
7- (قال إني جاعلك للناس إماماً، قال ومن ذريتي، قال لا ينال عهدي الظالمين)، (البقرة/124).
8- (وجعلناهم أئمة يهدون بأمرنا..)، (الأنبياء/73).
9- (ونجعلهم أئمة ونجعلهم الوارثين)، (القصص/5).
10- (وجعلنا منهم أئمة يهدون بأمرنا لما صبروا..)، (السجدة/24).
فكلمة إمام، الواردة في الآيات الخمس الثانية التي سقناها، تكشف جلياً عن معنى المثل الأعلى، والقدوة الحسنه، والقيادة الراشدة والمرجعية الموثوقة، والهداية التي تقود حتماً إلى الصواب. أو بتعبير أدق أنها تعني الزعامة أو الوجاهة المؤمنة المرتبطة بالله سبحانه وتعالى.
11- (فقاتلوا أئمة الكفر إنهم لا إيمان لهم)، (التوبة/12).
وأئمة الكفر المعنيين بهذه الآية، وبالدرجة الأولى، هم زعماء بطون قريش.
12- (وجعلناهم أئمة يدعون إلى النار ويوم القيامة لا ينصرون)، (القصص/41).
والأئمة الذين يهدون إلى النار هم فرعون وجنوده فالآيتان (11و12) سلطتا الأضواء الكاشفة على طبيعة القيادة الفاسدة، والمرجعية الضالة، وقدوة السوء التي تجر أتباعها إلى دار البوار.
نوعا الإمامة في القرآن الكريم من يتتبع الآيات القرآنية المتعلقة بالإمامة والتي أوردناها في الفقرة السابقة يتبين له، بيسر، أن القرآن الكريم قد حدد الإمامة بنوعين، ورسم لها صورتين، فكل إمامة، على وجه الأرض، تندرج بالضرورة في أحد هذه النوعيين وتظهر بإحدى هاتين الصورتين، فالإمامة إما أن تكون شرعية، وإما أن تكون غير شرعية.
1- الإمامة الشرعية فقد ساق الله تعالى مثالاً لهذا النوع من الإمامة إمامة إبراهيم والأئمة الذين جاءوا من بعده، والقرآن الكريم يوضح بما لا يدع مجالاً للتأويل أن هذا النوع من الإمامة هو:
أ- عهد من الله، فالإمامة عهد الله، وهذا العهد لا تناله إلا الصفوة من عباد الله، وهو حرام على الظالمين.
ب- إن الله، سبحانه وتعالى، هو الذي يختار الأئمة، ويجعلهم أئمة، لأنه هو وحده القادر على معرفه الصفوة معرفة قائمة على الجزم واليقين. انظر إلى قوله تعالى مخاطباً إبراهيم (إني جاعلك للناس إماما) فالله تعالى هو الذي أسند منصب الإمامة لإبراهيم، وكلفه القيام بأعباء هذا المنصب، وكذلك قوله تعالى عن الأئمة الذين جاءوا من بعد إبراهيم، حيث قال (وجعلناهم أئمة)، (ونجعلهم أئمة)، فاستعمل كلمه (جاعلك، ونجعلهم، وجعلناهم).
ج- إن الأئمة طراز صالح من ذريه إبراهيم، فإسحاق هو ابن إبراهيم ويعقوب حفيده، ووصلت الإمامة إلى محمد، وهو حفيد إسماعيل وإسماعيل هو ابن إبراهيم، ذريه بعضها من بعض.
د- والعلامة الرابعة للإمامة الشرعية أن الإمام الشرعي يهدي بأمر الله أن يسوس ويوجه ويقود وفق التعاليم الإلهية العالم بها علماً قائماً على الجزم واليقين. ودليل ذلك قوله تعالى: (وجعلناهم أئمة يهدون بأمرنا) وقوله تعالى: (وجعلنا منهم أئمة يهدون بأمرنا لما صبروا).
2- الإمامة غير الشرعية بعد أن بين الله، سبحانه وتعالى، معالم الإمامة الشرعية، وساق لها مثلاً إمامة إبراهيم والأئمة من بعده، وضح معالم الإمامة غير الشرعية، وساق مثلاً لها إمامة فرعون وجنوده، وأئمة الكفر من قبلهم، ومن بعدهم كزعامة بطون قريش التي أخرجت النبي وحاربته وصدت عن سبيل الله حتى أحيط بها، وقد حدد، سبحانه وتعالى، مميزات تلك الإمامة غير الشرعية ومعالمها تحديداً يحتمل التأويل.
أ- الإمام غير الشرعي رجل ظالم، وعرفه بالظلم لأن الظلم جماع كل قبح وعدوان، وهو غير جدير بالإمامة التي هي عهد الله، فضلاً عن عدم اتصافه بصفاتها، وعدم أهليته لها، لكل هذا فهي محرمة عليه.
ب- وعلى الرغم من أن الإمام غير الشرعي يعلم بعدم أهليته للإمامة الشرعية ويعلم بحرمتها عليه، وعدم أهليته لها، ومع علمه بوجود الإمام الشرعي إلا أن هذا الرجل تجاهل الشرعية تجاهلاً كاملاً وجمع أسباب القوه والتغلب والقهر، واستولى على منصب الإمامة الشرعية بالغصب والقهر، بعد أن أقصى الإمام الشرعي عن منصبه وحمل الناس بالقوة على القبول بهذا الوضع الشاذ الذي فرضه.
ج- ومن مميزات إمامة فرعون وجنوده وأئمة الكفر من بعدهم، ومن قبلهم، أن الإمام المتغلب يعطل الشرع الإلهي، أي التعاليم الإلهية: (أمر الله) ويستبدله، بآرائه الخاصة، واجتهاداته الشخصية، ويفرض بالقوة والقهر تلك الآراء والاجتهادات حتى تكون، مع الأيام، بمثابة شرع بديل للشرع الإلهي خاصة القواعد المتعلقة بمنصب الإمام.
د- ومن مميزات إمامة فرعون القدرة على تحريف الكلم عن مواضعه وقلب الحقائق، فهو يسمى الصلاح الإلهي فساداً، ويدعو فساده صلاحاً، انظر إلى قوله تعالى، على لسان فرعون، مخاطباً قومه: (إني أخاف أن يبدل دينكم أو أن يظهر في الأرض الفساد) (غافر/26). ونرى فرعون يطعن بالإمام الشرعي، ويصفه بأنه مهين، ولا يكاد يبين. ولا مجال للمقارنة بين الفرعون وموسى. انظر إلى قوله تعالى، وهو ينقل هذه الظاهرة على لسان فرعون، مخاطباً الملأ من أهل مصر (أم أنا خير من هذا الذي هو مهين) (الزخرف/52). وقد يتلطف الغاصب لمنصب الإمامة بالقوة فيقول: إن الإمام الشرعي هو الأفضل، ولكن قدم المفضول على الأفضل لمصلحة رآها الناس، أو أن العرب لا تجتمع على إمام من بني هاشم، لأنها تأنف أن تكون النبوة والإمامة معاً في البطن الهاشمي!! إلى آخره من خزعبلات الإمام الغاصب التي يسخر كل وسائل الإعلام لتضليل الناس وإبعادهم عن الشرع الإلهي.
معنى الإمامة في سنه الرسول:
تنصب مهمة الرسول الأولى على تبليغ القرآن الكريم، وبيان أحكامه للناس، وقد قام الرسول بمهمته خير قيام، فبلغ القرآن فعلا، وبين أحكامه كما أمر (لتبين للناس ما نزل إليهم) (النحل/44) (إن اتبع إلا ما يوحى إلي) (الأنعام/50، يونس/15، الاحقاف/9) فوضح كافه المعاني الواردة في القرآن الكريم لكلمه إمام، وأئمة، وبين مترادفات هذه الألفاظ، فبين أن الإمام هو الرجل الأول، وصاحب الكلمة العليا، وأكد ما جاء في القرآن الكريم من وجود نوعين من الإمامة، إحداهما إمامة برة كإمامة موسى والأئمة من بعده وإمامته (ص)، والأخرى إمامه فاجرة، كإمامه فرعون وجنوده، وإمامة زعامة بطون قريش، وإمامة الذين غصبوا منصب الإمامة بالتغلب والقهر، فالإمامة البرة تهدي بأمر الله وتتقيد بأحكام الشرع، والثانية تهدي إلى النار، لأنها قائمة على الغصب والظلم، واستبدال النصوص الشرعية بالآراء والاجتهادات الشخصية.
الإمامة هي القيادة الشرعية بعد النبي لقد بين الرسول أن الإمام هو القائد الشرعي، والمرجع الموثوق من بعد النبي، وهو المؤهل إلهياً ليخلف النبي ويقوم بمهامه من بعده، وهو المتصف بصفات الإمامة الشرعية والذي شهد الله ورسوله له بأنه الأعلم، والأفهم بالدين والأقرب للّه ولرسوله، والأتقى، والأفضل في زمانه، فبعد أن أعلن الرسول أن علياً بن أبي طالب (ع) هو الخليفة، والوصي والولي من بعده، وبعد أن توجه رسول الله بأمر من الله تعالى أميراً على المؤمنين، وولياً لهم مجتمعين، ومولى لكل واحد منهم وبعد أن ربط ربطاً محكماً بين الولاية للّه ولرسوله (ص) وبين الولاية لعلى بن أبي طالب (ع)، عندئذ أعلن الرسول أمام أصحابه مجتمعين ومنفردين، في مرات، وأماكن متعددة، أن علياً بن أبي طالب هو الإمام من بعده. ودفعاً للالتباس، وإقامة للحجة ساق الرسول في تلك المواقف نفسها كلمه إمام مع كلمات (سيد المسلمين وقائدهم، ووليهم، ونور الطاعة، وراية الهدى، وخاتم الوصيين)، واعتبرها من صفات الإمام علي (ع) ومميزاته. واعتبر هذه الصفات والمميزات من وجوه الإمامة ومظاهرها ولوازمها.
واعتبر إمامه علي بن أبي طالب حالة استمرارية لإمامته(ص) وإمامة إبراهيم والأئمة من بعده الذين يهدون بأمر الله.
وقد تكررت كلمه إمام وأئمة في السنة النبوية، تكراراً كافياً لبيان أحكام الإمامة بنوعيها.
نماذج من نصوص الإمامة الشرعية:
أ- قال الرسول، يوماً، لأصحابه: (أوحى الله إليَّ في على بن أبي طالب أنه سيد المسلمين، وإمام المتقين، وقائد الغر المحجلين)(3).
ب- وقال الرسول(ص) يوماً آخر، لأصحابه: (أوحى الله إليَّ في علي أنه سيد المسلمين وولى المتقين، وقائد الغر المحجلين)(4).
ج- وبينما كان الرسول جالساً مع أصحابه قال لهم: (أول من يدخل هذا الباب إمام المتقين، وسيد المسلمين، ويعسوب الدين وخاتم الوصيين وقائد الغر المحجلين). وبعد آونة دخل علي بن أبي طالب، فنهض رسول الله وعانقه(5).
د- وفي يوم من الأيام، كان الرسول جالساً مع أصحابه، فدخل علي بن أبي طالب، فقال له الرسول أمامهم: (مرحبا بسيد المسلمين وإمام المتقين)(6).
هـ- وقال الرسول، مرة لأصحابه: (إن الله عهد إليَّ عهداً فقلت: بينه لي، فقال الله تعالى: اسمع إن علياً راية الهدى، وإمام أوليائي، ونور من أطاعني، وهو الكلمة التي ألزمتها المتقين...الحديث)(7).
ففي النماذج السابقة، وأمثالها، من النصوص الشرعية، بين الرسول أحكام الإمامة الشرعية التي أجملها القرآن الكريم، وساق نموذجاً لها إمامة إبراهيم، والأئمة الذين كانوا يهدون بأمر الله من بعده، فالإمام الشرعي رجل اختاره الله سبحانه وتعالى، وأعده إعداداً كاملاً بحيث يكون هو الأعلم والأفهم بالدين (بأمرنا) والأقرب للّه ولرسوله، والأتقى، والأصلح، والأفضل من أهل زمانه، والأجدر والأقدر على خلافة رسول الله في أمور الدنيا والدين، ليكون المثل الأعلى المتحرك والمبين المؤتمن على دين الله، فلا يصدر عنه إلا الصواب، وهذه هي مميزات الإمامة الشرعية وصفاتها، وهى التي أمر رسول الله بأن يعلن للناس بأنها متوافرة في الإمام علي وفي الأئمة الكرام من ذريته وذريه النبي.
بمعنى أن الرسول، في زمانه، كان هو الأعلم والأفضل والأنسب ويجب أن يخلفه رجل يتمتع بهذه المزايا.
الرسول يحذر من الإمامة الفاجرة ويرسم صورتها بعد أن بين رسول الله نموذج الإمامة الشرعية، وبعد أن أعلن أن علياً بن أبي طالب، هو أول الأئمة الشرعيين من بعده ثم يليه أحد عشر إماماً كلهم من ذرية النبي، وأبناء علي وأحفاده بعد ذلك، حذر رسول الله من نموذج الإمامة الفاجرة التي أجملها القرآن، وساق مثلاً لها إمامة فرعون وجنوده وأئمة الضلال الذين عاصروه، وهم زعماء بطون قريش.
لقد بين رسول الله بالتصوير الفني البطيء أحكام الإمامة الفاجرة القائمة على الغصب والتغلب والقهر، وحذر بمختلف وسائل التحذير، من الوقوع بين مخالب مثل هكذا أمامه.
وبين الرسول بأن الأمة إذا رفضت إمامها الشرعي على بن أبي طالب، أو تخلت عنه، ولم تنصره، فإن قيادة الأمة ستصبح مطمعاً لكل الطامعين بالرئاسة وفريسة لمن غلب، وسيصبح الغالب داعية يهدى عملياً إلى النار، تماماً كإمامة فرعون وجنوده وإمامة زعامة بطون قريش قبل هزيمتهم.
فالإمام الفاجر، وفق هذا التصور، رجل طموح، مستهتر بالشرعية والمشروعية الإلهية، لا هم له إلا مصالحه، والفوز بالإمارة، حسود، كاره للترتيبات الإلهية المتعلقة بمنصب الإمامة من بعد النبي، لذلك أعد العدد وهيأ أسباب القوة، وقبض على مقاليد الأمور بالقوة الغاشمة، ومؤهله الوحيد القوة والغلبة، والقدرة على خداع الناس، وتحريف الكلم عن مواضعه.
وفي الوقت الذي يعلن فيه انتماءه للجماعة المسلمة، يبرز عداوته عملياً للّه ولرسوله، بجمعه لوسائل القوة والتغلب ليخرج الأمة بالقوة من إطار الشرعية والمشروعية الإلهية فيخرب نظامها السياسي الإلهي، ويبتزها أمرها، بعد إمضاء ولي أمرها وإمامها الشرعي الذي اختاره الله ورسوله، ويعطل أحكام الإمامة الشرعية التي وضعها الله ورسوله ويستعيض عن الأحكام الإلهية، بآرائه الخاصة واجتهاداته الشخصية. فهذا النموذج من الإمامة هو أشد خطراً على الدين والأمة من إمامة فرعون وجنوده، وإمامه أئمة الكفر في مكة.
لهذا صورهم رسول الله بصورتهم الحقيقية البشعة، ووصف واقع حال تلك الإمامة الفاجرة بقوله: (يكون بعدى أئمة، لا يهتدون بهداي ولا يستنون بسنتي، قلوبهم قلوب الشياطين في جثمان انس..)(8).
وهكذا يكون رسول الله قد بيَّن الإمامتين البرة والفاجرة، وأطلع الناس على حقيقة إمامة إبراهيم وإمامة فرعون.
معنى الإمامة عند أئمة أهل بيت النبوة:
لأهل بيت النبوة مكانه دينيه خاصة، فهم الذين اذهب الله عنهم الرجس، كما هو ثابت من آية التطهير، وهم كنفس النبي كما هو ثابت من آية المباهلة، وهم أعدال الكتاب كما هو ثابت من حديث الثقلين المسلم بصحته وتواتره، ولأن الله تعالى قد فرض مودتهم كما هو ثابت من آية المودة، ولأن الصلاة عليهم جزء لا يتجزأ من الصلاة المفروضة على العبادة، ولسبب عملي آخر أنهم عاشوا مع النبي طوال حياته، وورثوا علمه، ما يعنى أنهم قد أهلوا للإمامة، فقد سمى رسول الله علياً إماماً، وقال عن الحسن أنه إمام، وقال عن الحسين أنه إمام، ولا يجادل حتى النواصب بصحة أقوال الرسول هذه، إنما جدالهم ينصب على تفريغ كلمة الإمام من معانيها الشرعية طمعاً بتصحيح الواقع الذي فرضته القوه الغاشمة المتغلبة.
وما يعنينا هو أن أئمة أهل بيت النبوة عالجوا معنى الإمامة وبينوه كما تلقوه عن رسول الله.
قال الإمام على: (اللهم لا تخلو الأرض من حجه لك على خلقك: ظاهر أو خائف مغمور، لئلا تبطل على الناس حججك أو بيناتك)(9).
وقال أيضا: (اإ الأئمة من قريش غرسوا في هذا البطن من هاشم لا تصلح على سواهم ولا تصلح الولاة من غيرهم)(10).
وقال أيضا: (لا يقاس بآل محمد من هذه الأمة أحد، ولا يسوى بهم من جرت نعمتهم عليه أبداً، هم أساس الدين، وعماد اليقين، إليهم يفيء الغالي، وبهم يلحق التالي، ولهم خصائص حق الولاية، وفيهم الوصية والوراثة...)(11).
قال الإمام زين العابدين (علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب): (نحن أئمة المسلمين، وحجج الله على العالمين، وسادة المؤمنين، وقادة الغر المحجلين...)(12).
وقال الإمام زين العابدين أيضاً: (نحن خلفاء الأرض ونحن أولى الناس بالناس...)
وقال أيضاً، في الصحيفة السجادية(13): (اللهم إنك أيدت دينك في كل أوان بإمام أقمته، علماً لعبادك، ومناراً في بلادك، بعدما وصلت حبله بحبلك، وجعلته الذريعة إلى رضوانك، وافترضت طاعته، وحذرت معصيته، وأمرت بإفشال أمره، والانتهاء عند نهيه، وألا يتقدمه متقدم، ولا يتأخر عنه متأخر...).
قال الإمام الصادق(14): (لو بقيت الأرض بغير إمام ساعة لساخت) قيل له: كيف ينتفع الناس بالحجة الغائب المستور؟ فقال الصادق: (كما ينتفعون بالشمس إذا سترها السحاب).
وهذا يعني أن أئمة أهل بيت النبوة قد فهموا الإمامة كما بينها رسول الله على أنها ركن من أركان الدين، لا غنى عنها، وبأن الإمام معين من الله، ومعلن من رسوله، وأن مهمة الإمام أن يهدي لأمر الله، فهو قائد الأمة ومرجعها وقدوتها في أمور دينها ودنياها، لأنه الوحيد في زمانه المتصف بالصفات الشرعية للإمامة، والمؤهل الوحيد في زمانه لخلافه النبي في أمور الدين والدنيا.
وأنت تلاحظ أن فهم أهل بيت النبوة يتفق بالكامل مع بيان النبي لأحكام الإمامة الشرعية، ممثلة بإمامة إبراهيم والأنبياء من بعده والتي أجملها القرآن الكريم.
فالإمام هو صاحب الكلمة العليا، يقود، ولا يقاد، ولا يتقدم عليه أحد، ولا يتأخر عنه أحد.
معنى الإمامة عند علماء دولة الخلافة معنى قادة التأريخ الإسلامي نعني بقادة التأريخ السياسي الإسلامي، وهم قادة دولة الخلافة، الخلفاء المتغلبين الذين قبضوا على مقاليد أمور الدولة الإسلامية من طريق القوه والتغلب والقهر وكثرة الأتباع، مباشرة، أو بعهد من بعضهم إلى بعض، وقد استمر حكم قادة التأريخ من بعيد وفاة النبي حتى سقوط آخر سلاطين بنى عثمان، وعرف نظامهم بنظام الخلافة على الرغم من تطبيقاته المختلفة، فأبو بكر خليفة رسول الله، والسلطان عبد الحميد خليفة رسول رب العالمين أيضاً.
معنى علماء دولة الخلافة ونعنى بعلماء دولة الخلافة، أو علماء قادة التأريخ السياسي الإسلامي، أولئك العلماء الذين أيدوا دولة الخلفاء، وصححوا ولاية الخلفاء، وسوغوا أعمالهم، واعتبروا ما صدر عن الخلفاء أو عن بعض أقطابهم، على الأقل، بمثابة سوابق دستورية أو سنن واجبة الإتباع كسنة رسول الله تماماً، فولاية العهد مثلاً يعدونها مشروعة، لأن أبا بكر عهد لعمر، ولأن عمر عهد لأصحاب الشورى.. الخ.
معنى الإمامة عند هؤلاء تعنى الإمامة، عند علماء دولة الخلافة، الخلافة، أو الرئاسة العامة للمسلمين في الشؤون الدينية والدنيوية، فالإمام عندهم (أي الخليفة) هو خليفة رسول الله، يتمتع بكل حقوقه وصلاحياته، (لو منعوني عقالاً لقاتلتهم عليه) كما يقول الخليفة الأول، وبيده الأموال، والسلطة والنفوذ، والفهم الديني الذي يراه مناسباً هو الذي ينفذ، فيمكنه أن يخترع أموراً لم تكن موجودة ويجعلها سنة واجبة الإتباع، كولاية العهد، ويمكنه أن يخالف سنه الرسول، فالرسول كان يعطي بالسوية، وجاء الخليفة الثاني، وألغى سنة المساواة بالعطاء، وأعطى الناس حسب منازلهم برأيه، وقيل في تسويغ ذلك أن الرسول مجتهد، والخليفة الثاني مجتهد! والخلاصة أن الخليفة عند علماء دوله الخلافة هو الإمام، ولا إمام غير الخليفة فهو صاحب الكلمة العليا، والقول الفصل وهم يسلمون بأنه ليس الأصلح ولا الأفضل ولا الأعلم ولا الأتقى، ولكنه وصل إلى سدة الخلافة بالتغلب والقوه والقهر، وقدم المفضول على الأفضل لمصلحه رآها المسلمون.
دليل علماء الدولة على أن الإمام هو الخليفة؟ قال الماوردي والفراء(15):
أ- (الإمامة) يعنون بها الخلافة، تنعقد من وجهين: أحدهما باختيار أهل الحل والعقد وثانيهما بعهد الإمام من قبل...
ب- ونقلاً عن طائفة، القول: (إن اقل ما تنعقد به الإمامة خمسة يجتمعون على عقدها والدليل الشرعي على ذلك ما فعله (أبو بكر وعمر وأبو عبيده وأسيد بن حضير، وبشير بن سعد، وسالم مولى أبي حذيفة عندما اجتمعوا واختاروا أبا بكر خليفة.
والدليل الشرعي الآخر برأيهم أن الخليفة الثاني عمر جعل الشورى في ستة يعقد لأحدهم برضا الخمسة.
وهذا قول أكثر الفقهاء والمتكلمين من أهل البصرة، وقال آخرون من علماء الكوفة تنعقد بثلاثة..
ج- وأضاف: (إن انعقاد الإمامة بعهد من قبله فهو ما انعقد الإجماع على جوازه، فأبو بكر عهد لعمر، وعمر عهد بها لأهل الشورى).
د- وأضاف: (إن بيعة عمر لم تتوقف على رضا الصحابة لأن الإمام أحق بها).
هـ- وقال أبو يعلى: (إن الإمامة تثبت بالقهر والغلبة ولا تفتقر إلى العقد).
(من غلب بالسيف حتى صار خليفة وسمي أمير المؤمنين فلا يحل لأحد يؤمن بالله واليوم الآخر أن يبيت ولا يراه إماماً، براً كان أم فاجراً، فهو أمير المؤمنين).
و- وقال في الإمام يخرج عليه من يطلب الملك، فيكون مع هذا قوم ومع هذا قوم تكون الجمعة مع من غلب، والدليل الشرعي أن عبد الله بن عمر بن الخطاب صلى بالناس يوم الحرة وقال: (نحن مع من غلب)(16).
ز- قال الجويني إمام الحرمين: (اعلموا أنه لا يشترط في عقد الإمامة الإجماع)(17).
وهو يقصد بالإمامة الخلافة.
ح- قال ابن العربي، في (شرحه على سنن الترمذي): (لا يلزم في عقد البيعة للإمام (الخليفة) أن تكون من جميع الأنام، بل يكفي لعقد ذلك اثنان أو واحد)(18).
ط- قال القرطبي، في (جامع الأحكام): (إذا انعقدت الإمامة باتفاق أهل الحل والعقد أو بواحد وجب على الناس كافه متابعته)(19) ي- قال عضد الدين الأيجي، في (المواقف في علم الكلام)(20): (إن الإمامة (يقصد الخلافة) تثبت بالنص من الرسول ومن الإمام السابق، وتثبت بيعة أهل الحل والعقد)
وقد قصد الجميع (بالإمامة) الخلافة العامة للرسول، أو الرئاسة العامة للمسلمين في الشؤون الدينية والدنيوية.
والنصوص التي أوردناها، عند علماء الدولة التأريخية، تعطي تصوراً واضحاً عن معنى الإمامة عندهم، فالخليفة عندهم هو الإمام، وهو الرئيس الأعلى للمسلمين في جميع شؤونهم الدينية والدنيوية، ولم لا فهو خليفة الرسول القائم مقامه؟ وهذا الخليفة ليس مميزاً لا في دينه ولا في علمه، ولا في أفضليته، وما يميزه عن سواه هو أنه غالب أو متغلب حمل الناس على إتباعه، أو صار خليفة بعهد من متغلب، ويبقى هذا الخليفة خليفة للنبي، متمتعاً بكافة صلاحياته وحقوقه وشرعية وجوده حتى يظهر غالب جديد، فإذا تغالب الغالب الجديد مع الغالب السابق الذي صار خليفة لأنه غلب، يتفرج الناس، فإذا غلب المتغالب الجديد، يفقد الخليفة السابق شرعية وجوده وكافة حقوقه وصلاحيتها، ويخلى مكانه ليحل محله الغالب الجديد، خليفة للنبي، وأميراً للمؤمنين، وإماماً للمسلمين..
ثم تبدأ عمليات المفاضلة بين المتغلبين، وهكذا يخرج الدين الحنيف بقرآنه وسنته ومقاصده الشريفة عن مساحة التغالب، ويبقى دوره محصوراً بالزينة، وينكر أولئك العلماء وجود أئمة شرعيين غير الخلفاء.
المصطلحات المرادفة لمصطلح الإمامة القرآن الكريم هو الذي عرف العرب بمصطلح الإمامة، وهو الذي قسم الإمامة إلى نوعين، وجاء الرسول الكريم وبين هذا المصطلح بياناً تاماً حتى عرف للعامة والخاصة معاً.
وخلال قياده النبي للدعوة والدولة معا مارس مهمة الإمامة والرسالة معاً، ثم وطد الأمر، وأعلن أمام أصحابه وأخبرهم أن الإمام من بعده هو علي بن أبي طالب لأنه المؤهل إلهياً للإمامة من بعده، وحرص النبي على إخبارهم بذلك فرادى ومجتمعين، مثلما حرص على أن ينادي الإمام علي أمامهم بهذه الصفة كقوله:
(مرحبا بسيد المسلمين وإمام المتقين)، وغني عن البيان بأن الرسول لم يعلن إمامة علي من بعده ويخبر أصحابه بهذه الإمامة من تلقاء نفسه، إنما فعل ذلك بأمر من ربه، لأن الله سبحانه وتعالى أمر الرسول ووجهه لكافة الأمور الأقل أهمية، فمن باب أولى أن يأمره بهذا الأمر الذي يعد في غاية الخطورة، لأنه قوام مستقبل الدعوة والدولة الإسلامية.
وكما عرف القرآن الكريم العرب بمصطلح الإمامة، عرفهم بكل المصطلحات الدالة على الإمامة والكاشفة لها، والتي تعد من لوازمها ومظاهرها وجاء الرسول فبينها بياناً لا يحتمل التأويل:
1- ولي الأمر، أو الولي مطلقاً، أو المولى تكررت هذه المصطلحات في القرآن مرات متعددة، وقام رسول الله(ص)، ببيانها للعامة والخاصة، وربط هذا بمستقبل الدعوة والدولة (فعندما نزلت آية الولاية: (إنما وليكم الله ورسوله والذين آمنوا الذين يقيمون الصلاة ويؤتون الزكاة وهم راكعون) (المائدة/55) وقد بين الرسول لأصحابه أن السبب المباشر لنزول هذه الآية هو تصدق علي بخاتمه وهو راكع، ولأن مهمة الرسول أن يبين للناس ما أنزل إليهم من ربهم، فقد بين هذه الآية وأمثالها، وأعلن بأمر من ربه بأن الإمام علي بن أبي طالب (هو وليه في الدنيا والآخرة)(21).
وقال الرسول لعلي أمام أصحابه: (أنت ولي كل مؤمن بعدي)(22) ، ثم التفت إلى أصحابه وقال لهم: (إنه وليكم بعدي)(23).
ولم يكتفِ النبي بذلك بل أمرهم بموالاة الإمام علي، وحبب إليهم هذه الموالاة، فقال: (أوصي من آمن بي وصدقني بولاية علي بن أبي طالب من تولاه فقد تولاني ومن تولاني فقد تولى الله ومن أحبه فقد أحبني، ومن أحبني فقد أحب الله).
وقال لهم مرة: (من آمن بي وصدقني فليتولَّ علي بن أبي طالب؛ فإن ولايته ولايتي، وولايتي ولاية الله)(24).
فأنت تلاحظ أن رسول الله ربط ولاية علي بالإيمان بالنبي وبتصديقه، ولم يكتفِ الرسول بذلك، إنما حث المسلمين على هذه الموالاة ووعدهم بالجنة فقال: (من أحب أن يحيا حياتي ويموت موتتي ويسكن جنه الخلد التي وعدني ربى، فإن ربي غرز قضبانها بيده، فليتولَّ علياً فإنه لن يخرجكم من هدى ولن يدخلكم في ضلاله)(25).
فمن يمعن النظر، في هذه النصوص، ويتبين اهتمام الرسول المركز على المعنى لا يبقى لديه أدنى شك بأن الإمام علي بن أبي طالب هو الولي من بعد النبي، أي الإمام أو صاحب الكلمة العليا في المجتمع، فولي الأمر أو الولي مطلقا يعنى الحاكم والأولى، انظر إلى قوله تعالى: (أئمة يهدون بأمرنا) (الأنبياء/73، السجدة/24)، (أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولي الأمر منكم) (النساء/59).
وقول الرسول لبني عامر بن صعصعة عندما طلبوا الخلافة من بعده مقابل إيمانهم به: (إن الأمر لله يضعه حيث يشاء) وليس أدل على ذلك من أنه عندما أخذوا الخلافة بالقوة والتغلب صار الخليفة المتغلب يعرف بالولي إطلاقاً أو بولي الأمر، انظر إلى قول أبي بكر: (إني قد وليت عليكم) وقوله عندما استخلف عمر: (إني ما وليت ذا قرابة) وقول عمر: (أنا ولي رسول الله وولي أبي بكر وأمرهما إليَّ والى من ولي الأمر)(26).
وعمر على فراش الموت لطالما ردد: (لو كان... حياً وليته).
وفي زمن الخلفاء الثلاثة كان ينظر للخليفة المتغلب واقعياً على أساس أنه ولي أمر المسلمين أو الولي مطلقاً، ولم يختلف الأمر عندما آلت الأمور إلى الأمويين والعباسيين والعثمانيين، فالخاصة والعامة كانوا يرون أن الولي مطلقاً أو ولي الأمر كناية عن صاحب الكلمة العليا في المجتمع الإسلامي، وهذا كله يؤكد عمق الارتباط بين كلمة أو مصطلح الإمام وبين مصطلح الولاية أو الولي.
وجاء تتويج الرسول للإمام علي في غدير خم ليضع النقاط على الحروف(27).
2- الخليفة وردت كلمه خليفة، في القرآن بمعنى النيابة عن الغير والقيام مقام هذا الغير كقوله تعالى: (يا داود إنا جعلناك خليفة) (ص/26)، وقول موسى لأخيه هارون: (وقال موسى لأخيه هارون اخلفني في قومي وأصلح..) (الأعراف/142).
فعندما خوطب داود كان هو الحاكم أو صاحب الكلمة العليا، وهارون صار صاحب الكلمة العليا في بنى إسرائيل بعد رحيل موسى، وإسلامياً عرف الخليفة بأنه القائم مقام الرسول بعد موته، ولأن مهمة الرسول أن يبين للناس ما أنزل إليهم من ربهم وإحكاماً للأمر من بعده، أعلن الرسول وأخبر الناس: المؤمن منهم والكافر بأن علي بن أبي طالب هو الخليفة من بعده، أي القائم مقام الرسول عند موته، فقال (ص)، عن علي بن أبي طالب:
(إن هذا أخي ووصيي وخليفتي فيكم فاسمعوا له وأطيعوا)(28).
وبهذا الحديث الذي ربط بين الأخوة والوصاية والخلافة بين الرسول مغزى آيات الخلافة، فالخليفة هو الشخص المؤهل إلهيا لخلافة الرسول والحكم بشريعة إلهية، وإذا استذكرنا قوله تعالى: (وقال موسى لأخيه هارون اخلفني في قومي وأصلح) واستذكرنا قول الرسول لعلي (أنت مني بمنزلة هارون من موسى إلا أنه لا نبي بعدي) عندئذٍ نقطع بأن الرسول أعطى علياً كافة الصلاحيات المخولة له في قيادة المجتمع باستثناء النبوة، فعلي هو الإمام، وهو الولي، وهو الخليفة، أي صاحب الكلمة العليا في المجتمع، أو بتعبير أدق في هذا المكان (أي الخليفة القائم بالحق والحقيقة مقام النبي بعد موته، وحديث المنزلة من أصح الآثار)(29).
وبعد أن تم غصب الخلافة والإمامة بعد وفاه النبي والاستيلاء عليها بالقوة والتغلب، صار القائم مقام النبي يعرف بالخليفة، أي صاحب الكلمة العليا في المجتمع، ظاهرياً لأنه خليفة الرسول الذي كان صاحب الكلمة العليا، وواقعيا لأنه الخليفة المتغلب تحت تصرفه الأموال يستميل بها القلوب وأسباب القوه الأخرى.
وتستخدم في أداء المعنى نفسه مصطلحات أخرى هي: 3- أمير المؤمنين.
4- القائد.
5- سيد المسلمين.
6- سيد العرب.
7- الوصي.
وحملاً على المقصود الإلهي من الإمامة أو خلافة الرسول الشرعية وإقامة للحجة، وقطعاً لدابر التأويل أعلن الرسول وأخبر أصحابه: فرادى ومجتمعين بأن الإمام علي هو أمير المؤمنين، وهو سيد المسلمين، وهو سيد العرب، وهو القائد، وهو راية الهدى، ونور من أطاع الله.
وهذه الصفات من لوازم ومظاهر الإمامة الشرعية، النموذج الوارد في القرآن الكريم، وهى إمامة إبراهيم والأئمة من بعده الذين يهدون بأمر الله حتى وصلت الإمامة إلى محمد، حيث جمع الله له الإمامة والرسالة والنبوة وقد وردت هذه الصفات بأحاديث موثوقة أجمع أئمة أهل بيت النبوة على صحتها، ورواها الكثير من علماء دوله الخلافة التأريخية(30).
المصطلحات المرادفة للإمامة وجوه لشخص واحد من يمعن النظر في منصب الإمامة ومعانيها اللغوية والشرعية وبالمترادفات التي أطلقت على شخص الإمام يتيقن أن هذه المترادفات وجوه لشخص واحد، ومظاهر ولوازم لمنصب واحد، وهو منصب الإمامة، فالإمامة الشرعية، هي رمز الارتباط بين الخلق وأمر الله الخالق، والإمام يمثل قمة الوجود علماً وإحاطةً وتقوى، وفضلاً، وصلاحاً، وهو النموذج المتحرك الحي للإنسان المعتصم بالله، وهو المرجع الوحيد الذي لا يعلو فوقه مرجع، وهو المؤهل إلهياً لقيادة الأمة المسلمة بل لقياده العالم على هدى من أمر الله، فلا يوجد في زمانه من هو أفضل منه ولا أعلم ولا أصلح، ولا اقدر، فما من سؤال إلا ويملك الجواب الصحيح عليه، لأن من مهام الإمام أن يبين الدين، أو أمر الله للعالم كله فضلاً عن الأمة الإسلامية.
ومن هنا فان الإمام بالضرورة محصن (أو مطعم) ضد الخطأ والزلل، وبما أن هذا الإمام سيحل محل الرسول ويقوم مقامه عند موت الرسول، فهو بالبداهة والضرورة خليفة الرسول القائم مقامه في أمور الدين والدنيا معاً، وحيث أن الإمام الشرعي له ولاية على نسق ولاية الله ورسوله فهو الأولى بالمؤمنين من أنفسهم أو هو وليهم، أو ولي أمرهم جميعاً وولي كل واحد وواحدة منهم، أي أنه الأولى بهم من غيره، فهو يلي أمورهم، ويتصرف بشؤونهم.
والإمام الشرعي بالضرورة هو سيد المسلمين، وقائدهم الأعلى، وراية هداهم، وموالاته هي موالاه لله ولرسوله، ورمز لإتباع المسلمين لأمر الله، ولأنه وصي الرسول فهو كنفس الرسول استناداً لآية المباهلة ولقول الرسول لبني هيلعه: (لأرسلن عليكم رجلاً كنفسي)، وقول الرسول لأبي بكر عندما أخذ منه سوره براءة وكلف الإمام علي بتبليغها مبرراً ذلك بأنه لا يؤدي عن الرسول إلا الرسول نفسه أو الإمام علي، وهكذا يبني الإسلام جسور الثقة بين الإمام وبين المؤمنين، ويحكم كافه الأحكام المتعلقة بمنصب الإمامة، ويسد أمام طلاب الزعامة أبواب الفتنة والتأويل ويوطد للإمام في الأرض.
أما الخليفة الذي استولى على صلاحيات الإمام ومنصب الخلافة بالقوة والتغلب والقهر فلا حظ له من الشرعية وهو مجرد واقع مفروض، غير معتبر ومعدوم شرعياً.
وإمامة هذا المتغلب وخلافته تدخل في زمرة إمامة فرعون وجنوده وإمامة زعامة بطون قريش.
وهى إمامه قائمة أصلاً على الغصب والتغلب والقهر والخروج على أمر الله، واستبعاد الكفاءات الشرعية.
الهوامش:
(1) أحمد حسين يعقوب، النظام السياسي في الإسلام، ص 14، ابن منظور، لسان العرب، ماده امه، والقاموس المحيط ماده امه.
(2) مرتضى العسكري، معالم المدرستين، 1/160.
(3) الطبراني، المعجم الصغير، 2/88، الخوارزمي، المناقب، 235، ابن عساكر، ترجمه الإمام على من تاريخ دمشق، 2/257، 258، ح780، 782.
(4) ابن عساكر، ترجمه الإمام علي من تاريخ دمشق، 2/256، 257 ح779، الطبري، الرياض النضرة، 2/234، مسند الإمام احمد، هامشه منتخب الكنز، 5/234.
(5) ابن أبي الحديد، شرح نهج البلاغة، 9/169، ط1 دار الجيل، بيروت 1407هـ، 1987م، أبو نعيم، حليه الأولياء، 1/13، ابن عساكر، ترجمه الإمام على من تاريخ دمشق 2/259 ح783، 486، 487 ح1014، الخوارزمي، المناقب ص 44، الذهبي، الميزان، ص 64.
(6) أبو نعيم، حليه الأولياء، 1/66، ابن عساكر، ترجمه الإمام على من تاريخ دمشق، 2/440 ح956، ابن أبي الحديد، شرح نهج البلاغة، 9/175.
(7) 7- أبو نعيم، حليه الأولياء، 1/67، وابن أبي الحديد، شرح نهج البلاغة 9/167، وابن عساكر، ترجمه الإمام على من تاريخ دمشق 2/229، 230 ح742، وكتابنا المواجهة مع رسول الله وآله باب القيادة.
(8) راجع صحيح مسلم، كتاب الإمارة الحديث 40 وما بعده.
(9) المجلسي، البحار، 23/20، ح17.
(10) ابن أبي الحديد، شرح نهج البلاغة 9/84، ط1، دار الجيل، بيروت، 1407هـ، 1987م.
(11) المصدر نفسه 1/138.
(12) باقر شريف القرشي، الإمام زين العابدين، ص 108 و109، الصحيفة السجادية، دعاء رقم46.
(13) دعاء رقم 46.
(14) المجلسى، البحار 23/5، ح10، وص 21 ح20.
(15) الماوردي، الأحكام السلطانية ص 6 وما بعدها، والفراء، الأحكام السلطانية ص 7 وما بعدها.
(16) الأحكام السلطانية، ص 7 و8.
(17) الجويني (إمام الحرمين)، الإرشاد والكلام، ص 424.
(18) ابن العربي، الشرح على سنن الترمذي، 13/229.
(19) القرطبي، جامع الأحكام، 1/269 و273. (20) 8/351 وما بعدها.
(21) راجع صحيح مسلم 2/24، والمستدرك للحاكم ص 109 (وصرح الذهبي بصحته في ذيل المستدرك).
(22) راجع مسند احمد 5/25، وخصائص أمير المؤمنين للنسائي ص 64.
(23) راجع صحيح الترمذي 5/296 ح3796، والخصائص للنسائي ص 97.
(24) ترجمة الإمام علي من تاريخ دمشق لابن عساكر 2/91، 97 ح594، 600.
(25) ترجمة الإمام علي من تاريخ دمشق لابن عساكر 2/99 ح605، وحليه الأولياء 4/349، 350.
(26) راجع كنز العمال 7/239، 242 ح18768 و18769.
(27) راجع كتابنا النظام السياسي في الإسلام ص 11 و12.
(28) هذا الحديث صحيح، صححه أبو جعفر الاسكافي، وابن جرير الطبري، كما ذكره السيوطي في جمع الجوامع، 6/396، وراجع كتابنا نظرية عدالة الصحابة ص 224 تجد التوثيق.
(29) راجع صحيح مسلم، 2/360، وصحيح البخاري، 5/129، وكتابنا نظرية عدالة الصحابة ص 225.
(30) راجع ترجمه الإمام علي من تاريخ دمشق، لابن عساكر 2/256، 268 ح779، 795، وكنز العمال 15/157، وشرح النهج لابن أبي الحديد 9/170، والمناقب للخوارزمي ص 44، ومناقب علي لابن المغازلي الشافعي ص 73، وكتابينا نظريه عدالة الصحابة باب القيادة السياسية، والمواجهة مع رسول الله وآله، الباب الرابع، الفصل الثالث تجد التوثيق التام لهذه الأحاديث عند علماء دوله الخلافة.
المصدر: كتاب الوجيز في الإمامة والولاية.
تعليق