يمّمتُ وجهي شَطْرَ كربلاء.. وقصدتُبقلبي قبراً لسبط سيّد الأنبياء، لصاحب الضريح الأقدس البهيّ، الحسين بن عليّ. فإذابي أرى قبراً مُلحَقاً به! سألت عنه فقيل لي: إنّه قبر ولده الزكيّ، عليّ بن الحسينبن عليّ، دُفن عند رِجلَي أبيه سيّد الشهادة، خفضاً للجَناح إلى يومالقيامة.
فوقف خاشعاً أمام قبر الشابّ الشهيدالذي قُتل بين يدَي أبيه.. وقفت أستذكر التاريخ عن أوصافه، وعن مَحْتِدهِوأُرومَته..
فامتلأ قلبي إعجاباً وحبّاً لهذا الفتىالهاشميّ العلَويّ، لكنّ روحي ما تزال ظامئةً إلى الاقتراب منه والتعرّف علىالمزيد..
ـ أيُّها التاريخ، افتح لي صدر صفحاتكالزاهية، واسطع بأسطرك الذهبيّة البهيّة، وقلْ لي: مَن هذا عليّ الأكبر؟
فأجابالتاريخ وقد خَنَقتْه العَبرة:
ـ عليّ الأكبر.. ذلك المتفرّع عن الشجرة النبويّةوالدَّوحة الهاشميّة، الوارث للمآثر الطيّبة.
أبوه سيّد شباب أهلالجنّة.وجدُّه لأبيه سيّد الأوصياء وإمام الأتقياء، صاحب المناقب الفريدة عليّبن أبي طالب عليه السّلام.
وأمُّه ليلى بنت أبي مُرّة الثقفيّ، المرأة الطاهرةالصالحة الوفيّة.
وجدّته لأبيه فاطمة الزهراء سيّدة نساء العالمين عليهاالسّلام.
أمّا جدّه الأعلى فهو سيّد الأنبياء والمرسلين، وأشرف الخلائق أجمعين،محمّد المصطفى الأمين صلوات الله عليه وعلى آله الطيّبين.كان الإمام الحسينعليه السّلام على صِغر سنّه الشريف قد فُجع بوفاة جدّه وحبيبه رسول الله صلّى اللهعليه وآله وسلّم، فخلّف ذلك حزناً وشوقاً إلى تلك الطلعة النبويّة الغرّاء، عاش ذلككلُّه في قلب الحسين عليه السّلام منذ صباه.. حتّى رُزق بولده ((عليّ الأكبر)) الذيتكشّفت ملامحه الغرّاء عن نورٍ خاصّ، فأصبح مرآة الجمال النبويّ، ومثالَ خلُقهِالسماويّ، وتعارف عند أهل البيت أنّه أشبَهُ الناس خَلْقاً وخُلُقاً بمحمّد صلّىالله عليه وآله وسلّم.فكان الإمام الحسين عليه السّلام يرى في ولده عليٍّ صورةَجدّه رسول الله صلّى الله عليهوآله وسلّم، فإذا برز للقتال ظهيرة عاشوراء.. لم يكنمن أبيه الحسين إلاّ أن يرفع شيبتَه المقدّسة نحو السماء، ثمّ يقول مخاطباً ربَّهجلّ وعلا:
((اللهمّ اشهدْ على هؤلاء القوم، فقد بَرَز إليهم غلامٌ أشبَهُ الناسخَلْقاً وخُلُقاً ومنطِقاً برسولك محمّد صلّى الله عليه وآله وسلّم، وكنّا إذااشتَقنا إلى وجهِ رسولك نَظَرنا إلى وجهه)).ذلك أنّ مُحيّا عليّ الأكبر كانيحكي مُحيّا جدّه المصطفى صلّى الله عليه وآله وسلّم.. حتّى أنِسَ بذلك والدُهالحزين. إيه! ما أحلى الولد وهو ينشأ على الإيمان والهدى والطهر، وطاعة والدَيهوحبّهما. وقد روى الإمام الصادق عليه السّلام أنّ رجلاً قال:
ـ إنّي كنتُ زاهداًفي الولد حتّى وقفت بعرفة، فإذا إلى جنبي غلام شابّ يدعو ويبكي ويقول: يا ربّ،والدَيَّ والديّ.. فرغّبني في الولد حين سمعتُ ذلك.
وهنا ينبّهني التاريخقائلاً: أروي لك في هذا المقام أنّه لمّا كان السَّحَر من الليلة التي بات بهاالحسين عليه السّلام عند قصر بني مُقاتِل في طريقه إلى كربلاء.. خَفَق برأسه خفقةًثمّ انتبه وهو يقول: إنّا لله وإنّا إليه راجعون، والحمد لله ربّ العالمين ـكرّرها. فما أسرعَ أن أقبل إليه ولده الحبيب عليّ الأكبر فقال: يا أبتِ! جُعلتُفداك، ممّ استرجعتَ وحِمدتَ الله؟! فقال: يا بُنيّ، إنّي خفقتُ برأسي خفقةً فعَنّلي فارسٌ على فَرَسٍ فقال: القومُ يسيرون.. والمنايا تسري إليهم! فعلمتُ أنّهاأنفسنا نُعِيتْ إلينا.
فقال عليّ: يا أبتِ! لا أراك اللهُ سوءً، ألسنا على الحقّ؟ أجابه أبوه بيقينه المعهود: بلى والذي إليه مرجعُ العباد. فقال عليّ وهو نبعتهالصافية وعلى سرّ أبيه وهُداه: إذَن لا نبالي نموت مُحِقّين. وتنزل العبارة طيّبةهانئةً على قلب أبيه الحسين صلوات الله عليه فيفرح بها حتّى كأنّها المواساة، فيدعوله: جزاك الله من ولدٍ خيرَ ما جزى ولداً عن والده.
لكنّ عليّاً الأكبر سلامالله عليه لن يكتفِ بتلك الكلمات التي اثلجت قلب أبيه على ظمئه، بل أردَفَهابمواقفَ معبّرةٍ عن الإخلاص والوفاء، والثبات الصادق المضحّي، فنزل ساحة الشهادةيوم الطفّ.. وهناك شدّ الحسين على قلبه وهو ينظر إلى بضعته الزاكية الطاهرة تتوجّهنحو القُساة، فيعيش بين شفقة الأب ورحمته.. وفخره وبشارته وهو يراه يدخل الميدانويجول بين الصفوف كرّاً وعَدْواً وأجسادُ الأعداء تتساقط مقطعةً عن يمينه وشمالهعشرات!
ويعود إلى ولده فيراه بين قرّة عينه وبهجته، وحرصه عليه وحيرته.. فلاسبيل إلاّ إلى الجهاد والشهادة، ولكن ليس هنالك قطرة ماء تبلّ صدر الكبر ليواصلقتاله الحقّ وقد أخذ الإرهاق والظمأ منه مأخذه.. فيرجع إلى الميدان.
وتُلاحِقعينا الإمام الحسين عليه السّلام ولدَه عليّاً وكأن قلبه يطير إليه ويحلّق فوقويريد أن يهبط عليه يضمّه ويحيمه.. ولكنّ هذا الغلام الشَّهْم يغوص في الصفوفوكأنّه مصرٌّ على ملاقاة الحُتوف ببأسٍ شديد وحِفاظٍ مرٍّ ونفس أبيّة.
وكان أبوهالحسين عليه السّلام قد ودّعه ولم يَرتَوِ منه بعد، وكان الوداع اشتباكاً بالأذرع،وضمّاً إلى الصدر بل إلى القلب، وكان تجاوباً بالدموع والعبرات المقدّسة.. أمّاالنساء فقد أحطْنَ به وتعلّقن به: هذه عمّته قد أقبلت عليه، زينب التي جَلّلهاالحزن، وتلك أمّه وقد اعتصرها الهلع على فلذة كبدها، وهؤلاء أخواته يُناشِدنَه أنيرحم غربتَهنّ. ولكن لا سبيل إلى غير الرجوع نحو ساحة المعركة.
وما أسرع أنامتدّت اليد الغادرة التي كانت مستعدّة لقتل أهل بيت النبوّة بما فيهم رسول اللهصلّى الله عليه وآله وسلّم.. امتدّت إلى عليّ الأكبر طاعنةً قلب الحسين الصابر،الذي كان يصبّر ولده الأكبر قبل قليل وقد سمعه يشكو إليه العطش الممض: واغوثاه، ماأسرعَ الملتقى بجَدّك فيسقيك بكأسه شربةً لا تظمأ بعدها. ثمّ ما أسرع أن نادى الولدالبارّ على أبيه المفجوع وكأنّه يعزّيه ويواسيه: عليك مني السّلام أبا عبدالله، هذاجدّي قد سقاني بكأسه شربةً لا أظمأ بعدها، وهو يقول إنّ لك كأساً مذخورة.
أمّاالإمام الحسين عليه السّلام فكم وكم أرخى عينيه للبكاء، وقال: على الدنيا بعدكالعَفاء، ما أجرأهم على الرحمن وعلى انتهاك حرمة الرسول! وأتاه فألقى بنفسه عليه ولم يترجّلْ منفرسه، فوضع خدَّه على خدّه، وتمدّد إلى جنبه في حالاتٍ من النزع كأنّها احتضارٌبطيء، ثمّ أخذ ينظر إلى ولده الحبيب وهو على تلك الحالة.
ولم ينتهِ التاريخُ من حديثه هذا حتّىوجدني قد ضممتُ وجهي بين حِجْري وعَشري وأنا أجهش بالبكاء، فغمزني وقد شاطرني حزنيوقال لي: لا أنهاك عن العَبرة، لكن هل مِن عِبرة؟ قلت: نعم.. التأسي والمواساة،والصدق والوفاء، وطِيب الأبوّة والنبوّة.. وما أحلى عليَّ الأكبر فتى كربلاء،وحبيبَ سيّد الشهداء.