المساعد الشخصي الرقمي

مشاهدة النسخة كاملة : الإسلام وتكريم الطفل


العلوية ام موسى الاعرجي
29-12-2014, 02:53 PM
قال الله تعالى في كتابه الحكيم : ( قل كل يعمل على شاكلته ). لقد توصلنا في المحاضرة السابقة إلى النتيجة التالية ، وهي أن الأطفال لو قوبلوا بالتكريم والاحترام من الوالدين في محيط الأسرة فلا ينشأون حقراء أذلاء ، ولا يحسون في أنفسهم بالخسة والضعة . وفي هذه المحاضرة نبدأ من حيث انتهينا أمس لبحث تتمة الموضوع ، وقبل ذلك لا بأس بذكر أمرين :

الأطفال المعقدون :
الأول : أن بحثنا التربوي هذا يدور حول الأطفال العاديين لا المعقدين أو الأطفال المصابين بالجنون والبلادة الموروثة . وبعبارة أوضح فإن بعض الأطفال يتولدون مجانين أو حمقى ويكون لهذه النقيصة الوراثية جذور عميقة في كيانهم ، وهؤلاء يستحيل أن يصبحوا عقلاء أو أذكياء في يوم ما ، وليس في مقدور المربي القدير أن يحولهم إلى أفراد أكفاء . كما أن هناك أطفالا ليسوا بالمجانين ولكن سلوكهم ليس عاديا ، انهم مشاغبون وفوضويون ، هؤلاء عليهم اسم الأطفال المعقدين في البحوث التربوية .
« ان عنوان الأطفال المعقدين يشتمل على معان كثيرة في الحقيقة . فهو يطلق بالدرجة الأولى على الأطفال المشاغبين أي الصبيان الذين تنظر إليهم التربية المعاصرة نظرة التحقير والاستغراب . هؤلاء الأطفال يتسببون في كثير من المفاسد والتخريبات بواسطة القوى التي يستخدمونها للوصول إلى مقاصدهم ». هناك عوامل عديدة تفسر بموجبها هذه الحركات الشاذة للأطفال ، فيجب أن تعرف معرفة دقيقة حتى يتسنى العمل على إزالتها . في بعض الأحيان يكون الدافع إلى الأعمال الشاذة والحركات الضارة للطفل المعقد وجود العاهات أو النقائص العضوية أو التشويهات في بدنه ، في هذه الحالة يكون الطفل مريضا فهو بحاجة إلى علاج . « كما ان الطفل المريض لا يرسل إلى المدرسة ، كذلك يجب أن لا نخضع الطفل الذي ليس سليما من الناحية الفسيولوجية إلى تربية جديدة . كل طفل معقد يجب أن يخضع قبل تربيته ، أو إعادة تربيته ، إلى فحص دقيق . وفائدة هذا العمل أن جهود المربى لا تصرف عندئذ في سبيل تربية طفل يحتاج إلى رعاية صحية أو روحية فقط » . « فمثلا تعتبر التربية بوحدها عقيمة في فحص حالات الحقد التي ترتبط بداء الصرع . والسرقات الحاصلة في دور المراهقة والتي تحصل على أثر الإختلالات لحادثة في الغدة النخاعية ، وأعمال الشغب الناشئة من تخلف النمو العصبي ، وحالات العصاب المتصلة بآثار الالتهابات الدماغية ، والكسل الذي يولد من قلة إفرازات الغدد الثايرويدية ، والإخلالات الحاصلة من ثلة الأمراض الروحية الموروثة ». هؤلاء الأطفال يجب أن يخضعوا لأساليب تربوية خاصة من قبل المتخصصين في التربية النفسية والعلاج الروحي والعصبي ، وان المناهج التربوية الاعتيادية لا تعود عليهم بالنفع أو الأثر أصلا . إن بحثنا يختص بتربية الأطفال الإعتياديين والطبيعيين ، الأطفال المتولدين من آباء وأمهات أصحاء في ظروف طبيعية . ذلك أن استعمال الأساليب التربوية في حق هؤلاء يتضمن فوائد عظيمة وآثارا مهمة .
فإذا تنبه الآباء والأمهات في هذه الحالة إلى المسؤولية العظيمة الملقاة على عواتقهم واهتموا بإيجاد جو مناسب للتربية الصالحة في الأسرة والتموا الصدق في الحديث والاستقامة في السلوك مع أطفالهم ، وطبقوا المناهج التربوية في كل خطوة ومرحلة ، فإنهم يستطيعون تربية أطفال مهذبين وأكفاء من كل جهة ، ويكونون بذلك قد نفذوا الأوامر الإلهية وأدوا ما عليهم تجاه أطفالهم تجاه المجتمع الذي يعيشون بين ظهرانيه .

أهمية تربية الطفل :
الثاني : ان مسألة تربية الطفل تشغل مكانة مرموقة من المسائل الاجتماعية في العصر الحديث ، فهي من أهم أركان السعادة البشرية . لقد بحث العلماء كثيرا حول مختلف الجوانب النفسية والتربوية للطفل وألفوا الكتب العديدة في هذا المجال . ولذلك فإن الدول العظمى تنشئ المؤسسات والمنظمات العظيمة لغرض تنشئة الطفل تنشئة سليمة من حيث الروح والجسد فيخضعون الأطفال في سبيل ذلك إلى رقابة عملية وتطبيقية مشددة . وبصورة موجزة فإن ( الطفل ) يشغل مجالا مهما من مجالات التفكير الحديث . أما الرسول الأعظم صلى الله عليه وآله فقد ظهر قبل أربعة عشر قرنا ، وفي عصر يعمه الجهل والضلال ، في المجتمع الحجازي المتأخر . . . وأخذ يبدي اهتماما بالغا إلى قيمة تربية الطفل ، وبدأ يرشد أتباعه إلى التعاليم اللازمة في هذا الصدد . لقد عالج الإسلام جميع القضايا التي ترتبط بالعلاقة الزوجية ، وشروط الرجل والمرأة من حيث طهارة النسل المنحدر عنهما ، وكذلك شروط الرضاع ، وتنشئة الطفل خطوة خطوة . هناك حقائق نفسية وتربوية كثيرة حول منهج تربية الطفل يذكرها العلماء المعاصرون في كتبهم وأبحاثهم في حين سبقهم إلى التصريح بها أئمة الإسلام وقادة المسلمين عليهم السلام في القرون الماضية . وما أكثر المسائل العلمية التي ذكرها أئمتنا عليهم السلام حول تربية الطفل وسائر الموضوعات ولكنها لم تصل إليها لصعوبة التدوين والكتابة !
إن الهدف من تربية الطفل في هذه المحاضرات أمران :
الأمر الأول أن يدرك المستمعون الكرام - والطبقة المثقفة منهم بالخصوص - إلى عظمة التعاليم الإسلامية ومدى شمولها لمختلف جوانب الحياة ، ويطلعوا على القيمة العلمية لهذه الحقائق فيتبعوها بإيمان أعمق واعتقاد أقوى .
والأمر الثاني هو أن يتنبه أولياء أمور الأطفال إلى المسؤولية الدينية والوطنية الخطيرة الملقاة على عواتقهم بالنسبة إلى تربية الصبيان المودعين بأيديهم ، ويقوموا بواجبهم هذا خير قيام . مما لا ريب فيه أن شطرا كبيرا من المأسي والمشاكل الاجتماعية وجانبا مهما من الانحرافات الخلقية لشبابنا يعود إلى سقم الأساليب التربوية المتبعة بحقهم في أيام الطفولة ، ولسوء التربية في الأسرة جذور مختلفة بحسب المستوى الذي يبلغه الآباء والأمهات من حيث التكامل الروحي أو الانحطاط المعنوي .
مضار التربية الفاسدة : يتميز بعض الآباء والأمهات بكونهم فاسدين وذوي أخلاق سيئة ، فهؤلاء لا يربون أولادهم إلا على الفساد والانحراف ، لأن الأطفال يتعلمون دروس الانحراف وسوء الخلق من آبائهم وأمهاتهم فينشأون على ذلك السلوك المتطرف ، ومن البديهي أن هذا السلوك لا يعكس في المجتمع إلا آثارا فاسدة . كما يتميز بعض الآباء والأمهات بأنهم يصرفون جل اهتمامهم إلى ضمان الغذاء واللباس والمأوى لأطفالهم ، ولعدم توفر النضج العقلي الكافي فيهم فإنهم يهملون الجوانب التربوية والخلقية للطفل ، وحتى لو حاولوا أن يقوموا بهذا الواجب العظيم فإنهم لا يعلمون ماذا يفعلون ؟ وماذا يقولون ؟ وكيف يرشدون الطفل ؟ لأنهم لم يفكروا يوما ما في أمر استيعاب المناهج التربوية الصالحة ولم يحاولوا أن يفهموا واجبهم في هذا المجال .
تهاون بعض الآباء : أما طائفة أخرى من الآباء والأمهات فهم يعرفون معنى التربية الخلقية والتنشئة الروحية للطفل إلى درجة ما ، ويعرفون السبل إلى تحقيق ذلك ولكنهم يتهربون عن واجبهم بصورة عملية ، ولا يجدون مسؤولية ما على عواتقهم في هذا المجال . وكأن هؤلاء يتصورون أن النمو النفسي للطفل يخضع للحوادث الفجائية وللصدقة فيتركونه بيد الأقدار توجهه كيفما تشاء مهملين واجبهم المقدس . . . في حين أنه لا يمضي وقت طويل حتى يجني الآباء الثمار السيئة لذلك الإهمال والتهاون . هؤلاء الأطفال يخضعون لتأثير العوامل الهدامة والمضللة بسرعة لأنهم يفقدون الشخصية الخلقية المستقلة ولا يملكون القوة النفسية التامة ، فينحرفون عن الصراط المستقيم ، ويقدمون على مختلف أنواع الجرائم والمعاصي ، والوزر في ذلك كله يعود على الوالدين . إن دور الطفولة يحتل الأهمية العظمى في تقرير أساس الحياة . وإن السلوك المفضل أو الفاسد للأفراد يعود إلى الأساليب التربوية الصالحة أو الفاسدة المتخذة في حقهم ، إن الفرد يسير طيلة أيام عمره على طبق الخلقيات الخاصة به ، وان أساس الخلقيات ينشأ في أدوار بالطفولة . وبهذا الصدد يذكر القرآن الكريم : ( قل كل يعمل على شاكلته ) وشاكلته : أي خلقه وطبيعته .
إذن فالآية الكريمة تصرح بأن أفعال كل فرد وأقواله إنما تسير حسب خلقه وطبيعته التي نشأ عليها . « إن الحقيقة التي تتضح يوما بعد يوم هي أن للإدراكات الحاصلة في دور الطفولة والحوادث والتجارب الواقعة في تلك الفترة تأثيرا قاطعا على حياة الإنسان ، إذ نستطيع القول بصراحة بأن هذه الإدراكات والتجارب تعتبر الأساس لسلامة الأفراد وسقمهم ، وسعادتهم وشقائهم طيلة أيام العمر » . « إن الطفل يصنع في الأعوام الأولى من حياته سدى حياته ولحمتها ، وبمجرد أنه يترك المهد ويأخذ في المشي يكون قد تقرر ما ينبغي أن يقع وما لا ينبغي » . « تصب ركائز مشاعر الطفل وأحاسيسه من أولى أيام الرضاع ، أي أن العالم الخارجي إما أن يبدو أمرا منسجما وباعثا على الأمل في نظره ، أو أنه يفهم منذ ذلك اليوم أنه عبارة عن مجموعة من اليأس والعذاب . إما أن يفهم منذ البداية أنه يجب التغلب على المحيط الخارجي بالبكاء والعويل ، أو يذعن بأن هناك من يفهم وضعه بصورة جيدة ويهئ له العوامل المساعدة . هذه الحقائق وحقائق أخرى تترك أثرا كبيرا على تفكير الطفل الرضيع ، بحيث تلازم شخصيته طيلة أيام الطفولة والمراهقة والشيخوخة ».
إننا نأمل أن يهتم الآباء والأمهات المسلمون بأداء واجباتهم في سبيل تربية أطفالهم ، ويستمدوا العون من الله العلي القدير في الوصول إلى هذا الهدف المقدس .