إذا استقرأنا ولو بنظرة عابرة للمسيرة الحسينية من المدينة إلى كربلاء تبرز لنا ثلاثة مواقف حسينية:
أولاً: مواقف دفاعية، ونقصد بالموقف الدفاعي له (ع) هي الممانعة عن استجابة طلب خصومه كرفض البيعة ليزيد حين طلب منه ذلك والي المدينة، فقال له (ع) ما مضمونه: (إن مثلي لا يعطي بيعته سراً، وإنما أحب أن تكون البيعة علانية بحضرة جماعة، ولكن إذا كان من الغد ودعوت الناس إلى البيعة دعوتنا معهم فيكون أمرنا واحداً)(1) يقول الشهيد المطهري: (فمنطق المدافع يشه موقف الشخص الذي يتعرض لهجوم قاطع طريق، يريد سلبه جوهرة ثمينة، وهو يحاول بكل الوسائل والحيل الاحتفاظ بتلك الجوهرة، ومنع السارق من الاستيلاء على تلك الجوهرة، وقد يتطور الأمر بينهما إلى نزاع، وشجار، ومصارعة، ولكن الهدف بالنسبة للمدافع يبقى هو الاحتفاظ بتلك الجوهرة، ومنع السارق من المساس بها أو نهبها)(2)
ولم يكن الحسين (ع) هنا مجرد مدافع؛ ليفلت من قبضة الأمويين وإنما مهاجماً، وفاضحاً لهؤلاء، ومتحدياً لهم، ومعلناً موقفه بصراحة، والدليل على هذا عندما قال مروان للوليد: (والله لئن فارقك الساعة ولم يبايع لا قدرتَ منه على مثلها أبداً، حتى تكثر القتلى بينكم وبينه، احبس الرجل، ولا يخرج من عندك حتى يبايع أو تضرب عنقه) هنا تحدى الحسين مروان وقال: (يا ابن الزرقاء، أنت تقتلني أم هو؟! كذبت والله وأثمت)(3) وتكرر مثل هذا الموقف في مكة مع سعيد بن العاص أميرها عندما قدم للإمام الأمان رفضه الإمام (ع) لأنه سائر وفق مخطط مدروس يعلم أين يلقى ربه، وكيف يؤدي رسالته.
ثانياً: موقف المتعاون، وهنا موقف إيجابي، وهو استجابته لأهل الكوفة، ولم يكن (ع) خافياً عليه أمرهم وموقفهم مع أبيه وأخيه من قبل كما لا بد، وأن نشير كما ذكرنا سابقاً أن دعوة أهل الكوفة لم تكن هي التي حركته، وإنما هو الذي حرك أهل الكوفة لدعوته؛ لأنه خرج من المدينة ثائراً ورافضاً بيعة بني أمية في 27 رجب، ووصل المكة المكرمة في 3 شعبان، ولم تصل كتب أهل الكوفة إلا في 15 رمضان حيث لم يتفاعل مع دعوته وخروجه من أهالي الأمصار إلا هم... وعندما دعوه أصبح واجبه (ع) تجاه أهل الكوفة (هو التوجه نحو الكوفة ما دام أهل الكوفة متمسكين بدعوتهم، وبيعتهم، ولكن منذ اللحظة التي يتخلون فيها عن الدعوة وينقضون العهد، أو يتراجعون عنه، فإن الواجب المحدد تجاهها يسقط عن كاهل الإمام (ع) )(4)
ولو أراد الإمام ألا يستجيب لأهل الكوفة لقال الذين اعترضوا على استجابته: لماذا لم يستجب لهم مع أنهم دعوه ونصروه وعاهدوه؟ ولو لم يذهب الإمام الحسين (ع) إليها لتوجه اللوم من مؤرخي العالم كافة، ولقالوا له كيف تترك الكوفة ولا تلبي دعوتها، وهي التي بايعت ممثلك من خلال التفاف ثمانية عشر ألف من أهلها، واثني عشر ألف من الرسائل والكتب التي وصلت إليك وهل كان هناك مكان للنهضة أفضل وأرقى من العراق(5).
إلا أن أهل الكوفة لم يفهموا المنطق الحسيني الذي خرج؛ ليوسع الصراع بين الأمة والحكومة، ولا يحصره في دائرة المدينة ومكة؛ ولهذا رأيناه يخطب في مكة، ويعلن استنكاره، واستنفاره، وثورته، وسلبه للشرعية من الحكومة الأموية حين اعتزل صلاتهم فلم تكن استجابة الإمام (ع) لأهل الكوفة لمجرد أنهم دعوه، ولم يكن عامل دعوة أهل الكوفة أساسياً أبداً بل العكس، كان العامل الأقل أهمية في تأثيره على التحرك الحسيني.
ولم يكن تعاون الحسين (ع) مع أهل الكوفة فقط، بل كان يدعو كل من يلتقيه للنصرة سواء كان ناصحاً مشفقاً أو كان خائفاً من البطش الأموي؛ ولهذا رأيناه يقول لعبد الله بن عمر الذي كان ينصحه بالصبر والبيعة ليزيد: (يا أبا عبد الرحمن، أنا أبايع يزيد وأدخل في صلحه، وقد قال النبي (ص) في أبيه ما قال؟) ثم قال له: (ولا تدعنَّ نصرتي)(6) وهو يعلم بنفسه موقفه منه ومن أبيه (ع) إلا أنه يريد أن يثبت عليه الحجة أمام الله، وهكذا عمل مع عبيد الله بن الحر الجعفي وغيره، ومع الطرماح الذي طلب منه أن يرجع إليه بسرعة إذا أمكن.
ويرسل حبيب بن مظاهر إلى عشيرته في ليلة عاشوراء إلى بني أسد؛ ليأتي بعدد من قبيلة بني أسد، بمثابة إسناد وإمداد للحركة الحسينية ، وماذا تجديه المائة والمائتين، وهو يواجه ثلاثين ألفاً، وكيف نستطيع أن نوفق بين تصريحه أنه مستشهد هو وأصحابه في الوقت الذي استنصر في طريقه من مكة إلى كربلاء اثني عشر مرة، إن (الإمام الحسين (ع) الذي كان يتحرك بمنطق الهجوم، ومنطق الشهيد، ومنطق الثورة، كان يريد للرقعة أن تتسع، وللثورة أن تأخذ مساحة أوسع، وهو نفس المنطق الذي جعله يجلب عياله معه ذلك أن جزءً من مهمة نشر الرسالي وتبليغها كان مطلوباً من أهل بيته أن يؤدوه)(7)
ثالثاً: موقف المهاجم، وهذا موقف صريح واضح في طيلة المسيرة... فقد بدا منطق الهجوم من دار الوليد حين دعاه للبيعة قائلاً:
(أيها الأمير إنا أهل البيت النبوة، ومعدن الرسالة، ومختلف الملائكة، وبنا فتح الله، وبنا ختم، ويزيد رجل فاسق، شارب الخمر، قاتل النفس المحرمة، معلن بالفسق، ومثلي لا يبايع مثله، ولكن نصبح وتصبحون، وننظر وتنظرون، أينا أحق بالخلافة والبيعة)
وحين قال له مروان: (إني آمرك ببيعة يزيد بن معاوية، فإنه خير لك في دينك ودنياك) فاسترجع (ع) وقال: (إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ وعلى الإسلام السلام إذ قد بليت الأمة براعٍ مثل يزيد)(8) ، وموقف الهجوم هو عامل الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر الذي كان هو الأساس في حركته، وتمثل المواقف الهجومية التي شنها (ع) ضد بني أُمية في المدينة ومكة وفي الطريق إلى ساعة استشهاده (ع) ...
يقول الشهيد المطهري: (إن هناك عامل الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر الذي ينبغي لنا أن لا ننساه، والإمام الحسين (ع) هنا ليس مدافعاً، ولا متعاوناً، بل هو مهاجم ثائر، وداعية للثورة، وهذا حساب آخر لا بد من أخذه بعين الاعتبار)(9)
الهوامش:
(1) ينظر: تاريخ الطبري: 5/340 .
(2) الشهيد المطهري، الملحمة الحسينية: 2/244 .
(3) تاريخ الطبري: 5/340 .
(4) الشهيد المطهري، الملحمة الحسينية: 2/241.
(5) الشهيد المطهري، الملحمة لحسينية: 1/128.
(6) ابن أعثم، الفتوح: 5/24-25 .
(7) الشهيد المطهري، الملحمة الحسينية: 2/248.
(8) اللهوف في قتلى الطفوف: 10 .
(9) الملحمة الحسينية: 2/242 .
أولاً: مواقف دفاعية، ونقصد بالموقف الدفاعي له (ع) هي الممانعة عن استجابة طلب خصومه كرفض البيعة ليزيد حين طلب منه ذلك والي المدينة، فقال له (ع) ما مضمونه: (إن مثلي لا يعطي بيعته سراً، وإنما أحب أن تكون البيعة علانية بحضرة جماعة، ولكن إذا كان من الغد ودعوت الناس إلى البيعة دعوتنا معهم فيكون أمرنا واحداً)(1) يقول الشهيد المطهري: (فمنطق المدافع يشه موقف الشخص الذي يتعرض لهجوم قاطع طريق، يريد سلبه جوهرة ثمينة، وهو يحاول بكل الوسائل والحيل الاحتفاظ بتلك الجوهرة، ومنع السارق من الاستيلاء على تلك الجوهرة، وقد يتطور الأمر بينهما إلى نزاع، وشجار، ومصارعة، ولكن الهدف بالنسبة للمدافع يبقى هو الاحتفاظ بتلك الجوهرة، ومنع السارق من المساس بها أو نهبها)(2)
ولم يكن الحسين (ع) هنا مجرد مدافع؛ ليفلت من قبضة الأمويين وإنما مهاجماً، وفاضحاً لهؤلاء، ومتحدياً لهم، ومعلناً موقفه بصراحة، والدليل على هذا عندما قال مروان للوليد: (والله لئن فارقك الساعة ولم يبايع لا قدرتَ منه على مثلها أبداً، حتى تكثر القتلى بينكم وبينه، احبس الرجل، ولا يخرج من عندك حتى يبايع أو تضرب عنقه) هنا تحدى الحسين مروان وقال: (يا ابن الزرقاء، أنت تقتلني أم هو؟! كذبت والله وأثمت)(3) وتكرر مثل هذا الموقف في مكة مع سعيد بن العاص أميرها عندما قدم للإمام الأمان رفضه الإمام (ع) لأنه سائر وفق مخطط مدروس يعلم أين يلقى ربه، وكيف يؤدي رسالته.
ثانياً: موقف المتعاون، وهنا موقف إيجابي، وهو استجابته لأهل الكوفة، ولم يكن (ع) خافياً عليه أمرهم وموقفهم مع أبيه وأخيه من قبل كما لا بد، وأن نشير كما ذكرنا سابقاً أن دعوة أهل الكوفة لم تكن هي التي حركته، وإنما هو الذي حرك أهل الكوفة لدعوته؛ لأنه خرج من المدينة ثائراً ورافضاً بيعة بني أمية في 27 رجب، ووصل المكة المكرمة في 3 شعبان، ولم تصل كتب أهل الكوفة إلا في 15 رمضان حيث لم يتفاعل مع دعوته وخروجه من أهالي الأمصار إلا هم... وعندما دعوه أصبح واجبه (ع) تجاه أهل الكوفة (هو التوجه نحو الكوفة ما دام أهل الكوفة متمسكين بدعوتهم، وبيعتهم، ولكن منذ اللحظة التي يتخلون فيها عن الدعوة وينقضون العهد، أو يتراجعون عنه، فإن الواجب المحدد تجاهها يسقط عن كاهل الإمام (ع) )(4)
ولو أراد الإمام ألا يستجيب لأهل الكوفة لقال الذين اعترضوا على استجابته: لماذا لم يستجب لهم مع أنهم دعوه ونصروه وعاهدوه؟ ولو لم يذهب الإمام الحسين (ع) إليها لتوجه اللوم من مؤرخي العالم كافة، ولقالوا له كيف تترك الكوفة ولا تلبي دعوتها، وهي التي بايعت ممثلك من خلال التفاف ثمانية عشر ألف من أهلها، واثني عشر ألف من الرسائل والكتب التي وصلت إليك وهل كان هناك مكان للنهضة أفضل وأرقى من العراق(5).
إلا أن أهل الكوفة لم يفهموا المنطق الحسيني الذي خرج؛ ليوسع الصراع بين الأمة والحكومة، ولا يحصره في دائرة المدينة ومكة؛ ولهذا رأيناه يخطب في مكة، ويعلن استنكاره، واستنفاره، وثورته، وسلبه للشرعية من الحكومة الأموية حين اعتزل صلاتهم فلم تكن استجابة الإمام (ع) لأهل الكوفة لمجرد أنهم دعوه، ولم يكن عامل دعوة أهل الكوفة أساسياً أبداً بل العكس، كان العامل الأقل أهمية في تأثيره على التحرك الحسيني.
ولم يكن تعاون الحسين (ع) مع أهل الكوفة فقط، بل كان يدعو كل من يلتقيه للنصرة سواء كان ناصحاً مشفقاً أو كان خائفاً من البطش الأموي؛ ولهذا رأيناه يقول لعبد الله بن عمر الذي كان ينصحه بالصبر والبيعة ليزيد: (يا أبا عبد الرحمن، أنا أبايع يزيد وأدخل في صلحه، وقد قال النبي (ص) في أبيه ما قال؟) ثم قال له: (ولا تدعنَّ نصرتي)(6) وهو يعلم بنفسه موقفه منه ومن أبيه (ع) إلا أنه يريد أن يثبت عليه الحجة أمام الله، وهكذا عمل مع عبيد الله بن الحر الجعفي وغيره، ومع الطرماح الذي طلب منه أن يرجع إليه بسرعة إذا أمكن.
ويرسل حبيب بن مظاهر إلى عشيرته في ليلة عاشوراء إلى بني أسد؛ ليأتي بعدد من قبيلة بني أسد، بمثابة إسناد وإمداد للحركة الحسينية ، وماذا تجديه المائة والمائتين، وهو يواجه ثلاثين ألفاً، وكيف نستطيع أن نوفق بين تصريحه أنه مستشهد هو وأصحابه في الوقت الذي استنصر في طريقه من مكة إلى كربلاء اثني عشر مرة، إن (الإمام الحسين (ع) الذي كان يتحرك بمنطق الهجوم، ومنطق الشهيد، ومنطق الثورة، كان يريد للرقعة أن تتسع، وللثورة أن تأخذ مساحة أوسع، وهو نفس المنطق الذي جعله يجلب عياله معه ذلك أن جزءً من مهمة نشر الرسالي وتبليغها كان مطلوباً من أهل بيته أن يؤدوه)(7)
ثالثاً: موقف المهاجم، وهذا موقف صريح واضح في طيلة المسيرة... فقد بدا منطق الهجوم من دار الوليد حين دعاه للبيعة قائلاً:
(أيها الأمير إنا أهل البيت النبوة، ومعدن الرسالة، ومختلف الملائكة، وبنا فتح الله، وبنا ختم، ويزيد رجل فاسق، شارب الخمر، قاتل النفس المحرمة، معلن بالفسق، ومثلي لا يبايع مثله، ولكن نصبح وتصبحون، وننظر وتنظرون، أينا أحق بالخلافة والبيعة)
وحين قال له مروان: (إني آمرك ببيعة يزيد بن معاوية، فإنه خير لك في دينك ودنياك) فاسترجع (ع) وقال: (إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ وعلى الإسلام السلام إذ قد بليت الأمة براعٍ مثل يزيد)(8) ، وموقف الهجوم هو عامل الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر الذي كان هو الأساس في حركته، وتمثل المواقف الهجومية التي شنها (ع) ضد بني أُمية في المدينة ومكة وفي الطريق إلى ساعة استشهاده (ع) ...
يقول الشهيد المطهري: (إن هناك عامل الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر الذي ينبغي لنا أن لا ننساه، والإمام الحسين (ع) هنا ليس مدافعاً، ولا متعاوناً، بل هو مهاجم ثائر، وداعية للثورة، وهذا حساب آخر لا بد من أخذه بعين الاعتبار)(9)
الهوامش:
(1) ينظر: تاريخ الطبري: 5/340 .
(2) الشهيد المطهري، الملحمة الحسينية: 2/244 .
(3) تاريخ الطبري: 5/340 .
(4) الشهيد المطهري، الملحمة الحسينية: 2/241.
(5) الشهيد المطهري، الملحمة لحسينية: 1/128.
(6) ابن أعثم، الفتوح: 5/24-25 .
(7) الشهيد المطهري، الملحمة الحسينية: 2/248.
(8) اللهوف في قتلى الطفوف: 10 .
(9) الملحمة الحسينية: 2/242 .
تعليق