قال رسول الله (ص): ( المؤمن أشد في دينه من الجبال الراسية؛ وذلك أن الجبل قد ينحت منه, والمؤمن لا يقدر أحد على أن ينحت من دينه شيئاً؛ وذلك لضنه بدينه, وشحه عليه)(1).
من خلال الصراع بين أتباع مدرسة الهدى وأتباع مدرسة الضلال تبرز مواقف بطولية تبقى محطات نور تمنح القوة والصلابة والبصيرة والعزم والاستقامة للمؤمنين, وتمنح أصحابها الخلود والبقاء عبر الزمان, وتبقى مناراً على طول الزمن تهتدي بها الأجيال .
ومن أبرز ظواهر التاريخ الرسالي بروز ظاهرة التحدي للواقع الفاسد والسلطة الجائرة, ورفض العروض المغرية, فإن أئمة الضلال يتبعون شتى الأساليب؛ ليوقفوا تبار الهدى ... فمن أساليبهم تقديم العروض المغرية لدعاة الله تعالى لشراء ضمائرهم. وتخدير عقولهم واحتوائهم ليخرجوهم عن جادة الصواب .
ومن أساليبهم : القتل, والتعذيب, والسجن, والتشريد, وتوجيه الافتراءات والتهم, ونشر الإشاعات والأكاذيب .
وفي حياة رسول الله (ص) أمثلة حية من ذلك, فقد قدموا له شتى العروض, والإغراءات نذكر منها ما رواه كعب القرظي قال :
(حُدِّثثُ أن عتبة بن ربيعة, وكان سيداً, قال يوماً وهو جالس في نادي قريش ورسول الله (ص) جالس في المسجد وحده : يا معشر قريش, ألا أقوم إلى محمد فأكلمه وأعرض عليه أمورا لعله يقبل بعضها, فنعطيه أيّها شاء، ويكف عنا؟ وذلك حين أسلم حمزة ورأوا أصحاب رسول الله (ص) يزيدون ويكثرون, فقالوا : بلى يا أبا الوليد قم إليه فكلمة فقام إليه عتبة حتى جلس إلى رسـول الله (ص), فقال : يا ابن أخي إنك منا حيث قد علمت السِّطة(2) في العشيرة, والمكان في النسب إنك قد أتيت قومك بأمر عظيم, فرقت به جماعتهم, وسفهت به أحلامهم ,وعبت به آلهتهم ودينهم, وكفرّت من مضى من آبائهم, فاسمع منى أعرض عليك أموراً تنظر فيها لعلك تقبل منها [منا] بعضها، قال : فقال لـه رسول الله (ص): قل يا أبا الوليد أسمع, قال : يا ابن أخي إن كنت إنما تريد بما جئت به من هذا الأمر مالاً جمعنا لك من أموالنا حتى تكون أكثرنا مالاً, وان كنت تريد به شرفاً سودناك علينا حتى لا نقطع أمراً دونك، وإن كنت تريد به ملكاً ملكناك علينا, وان كان هذا الذي تأتيك رئيا(3) تراه لا تستطيع رده عن نفسك طلبنا لك الطب, وبذلنا فيه أموالنا حتى نبرئك منه, فإنه ربما غلب التابع(4) على الرجل حتى يداوى منه, أو كما قال له، حتى إذا فرغ عتبة, ورسول الله (ص) يستمع منه, قال : أقد فرغت يا أبا الوليد ؟ قال نعم, قال : فاسمع مني, قال : أفعل، فقال : ((بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ * حـم * تَنْزِيلٌ مِنَ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ * كِتَابٌ فُصِّلَتْ آيَاتُهُ قُرْآناً عَرَبِيّاً لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ * بَشِيراً وَنَذِيراً فَأَعْرَضَ أَكْثَرُهُمْ فَهُمْ لا يَسْمَعُونَ * وَقَالُوا قُلُوبُنَا فِي أَكِنَّةٍ مِمَّا تَدْعُونَا إِلَيْهِ ...)) (فصلت: 1-5)، ثم مضى رسول الله (ص) فيها يقرؤها عليه, فلما سمعها منه عتبة أنصت لها, وألقى يد يه خلف ظهره معتمداً عليها يسمع منه, ثم انتهى رسول الله (ص) إلى السجدة منها فسجد, ثم قال : قد سمعت يا أبا الوليد ما سمعت فأنت وذاك .
فقام عتبة إلى أصحابه, فقال بعضهم لبعض : نحلف بالله لقد جاءكم أبو الوليد بغير الوجه الذي ذهب به. فلما جلس إليهم قالوا : ما وراءك يا أبا الوليد ؟ قال: ورائي أني قد سمعت قولاً والله ما سمعت مثله قط, والله ما هو بالشعر, ولا بالسحر, ولا بالكهانة, يا معشر قريش, أطيعوني, واجعلوها بي, وخلوا بين هذا الرجل, وبين ما هو فيه فاعتزلوه, فوالله ليكونَنَّ لقوله الذي سـمعت منه نبأٌ عظيم, فإن تصبه العرب فقد كفيتموه بغيركم ،وإن يظهر على العرب فملكة ملككم,وعزة عزكم, وكنتم اسـعد الناس به,قالوا سـحرك والله يا أبا الوليد بلسـانه, قال هذا رأيي فيه فاصنعوا ما بدا لكم)(5).
هذا مثال واحد من أمثلة التحدي الفكري, وقد استطاع رسول الله (ص) أن يذهل عتبة ويرجعه إلى قومه؛ ليدعوهم إلى الإيمان به إلا أنه لم يوفق لا هو ولا قريش لهذا الشرف العظيم .
ومن أمثلة ذلك يوم اتصلوا بأبي طالب, وقالوا لـه : (يا أبا طالب إن ابن أخيك قد سب ألهتنا, وعاب ديننا, وسفه أحلامنا, وضلل آباءنا, فإما أن تكفه عنا, وأما أن تخلي بيننا وبينه, فإنك على مثل ما نحن عليه من خلافه فنكفيكه؛ فقال لهم أبو طالب قولاً رفيقاً, وردهم رداً جميلاً, فانصرفوا عنه...
ثم إنهم مشوا إلى أبي طالب مرة أخرى, فقالوا له : يا أبا طالب, إن لك سناً وشرفاً ومنزلة فينا, وإنا قد استنهيناك من ابن أخيك فلم تنهه عنا, وإنا والله لا نصبر على هذا من شتم آبائنا, وتسفيه أحلامنا, وعيب آلهتنا, حتى تكفه عنا, أو ننازله وإياك في ذلك حتى يهلك أحد الفريقين, ... ثم انصرفوا عنه, فعظم على أبي طالب فراق قومه وعدواتهم ...
فقال أبو طالب لرسول الله (ص): يا ابن أخي إن قومك قد جاءوني؛ فقالوا لي كذا وكذا, للذي كانوا قالوا له, فابقِ عليّ وعلى نفسك, ولا تحملني من الأمر ما لا أطيق ؛قال فظن رسول الله (ص) انه قد بدأ لعمه فيه بداء انه خاذله ومسلمه, وانه قد ضعف عن نصرته والقيام معه, قال : فقال رسول الله (ص): (يا عم والله لو وضعوا الشمس في يميني والقمر في يساري على أن اترك هذا الأمر حتى يظهره الله أو أهلك فيه, ما تركته).
قال : ثم استعبر رسول الله (ص) فبكى ثم قام, فلما ولى ناداه أبو طالب, فقال: اقبل يا ابن أخي, قال: فأقبل عليه رسـول الله (ص), فقال : اذهب يا ابن أخي فقل ما أحببت, فوالله لا أسـلمك لشيء أبداً )(6).
ولما رأت قريش صمود النبي (ص) بوجه تلك التحديات ومقاومة أبي طالب, وانتشار الإسلام ازدادت عتواً ومواصلة في التعذيب بأبشع أشكاله يقول ابن إسحاق ( ثم إن الإسلام جعل يفشو بمكة في قبائل قريش في الرجال والنساء وقريش تحبس من قدرت على حبسه, وتفتن من استطاعت فتنته من المسلمين, ثم إن أشراف قريش من كل قبيلة كما حدثني بعض أهل العلم عن سعيد بن جبير, وعن عكرمة مولى ابن عباس عن عبد الله بن عباس رضي الله عنه قال :
اجتمع عتبة بن ربيعة, وشيبة بن ربيعة, وأبو سفيان بن حرب, والنظر بن الحارث أخو بني عبد الدار, وأبو البختري بن هشام, والأسود بن المطلب بن أسد وزمعة بن الأسود, والوليد بن المغيرة, وأبو جهل بن هشام, وعبد الله بن أبي أميه, والعاص بن وائل ,ونبيه ومنبه أبنا الحجاج السهميان, وأميه بن خلف أو من اجتمع منهم قال : اجتمعوا بعد غروب الشمس عند ظهر الكعبة, ثم قال بعضهم لبعض ابعثوا إلى محمّد فكلموه, وخاصموه حتى تعذروا فيه, فبعثوا إليه إن أشراف قومك قد اجتمعوا لك ليكلمونك, فأتهم فجاءهم رسول الله (ص) سريعاً... وكان عليهم حريصاً يحب رشدهم, ويعز عليه عنتهم حتى جلس إليهم فقالوا له: يا محمّد، إنا قد بعثنا إليك لنكلمك, وإنا والله ما نعلم رجلاً من العرب أدخل على قومه مثل ما أدخلت على قومك لقد شتمت الآباء, وعبت الدين, وشتمت الآلهة وسفهت الأحلام وفرقـت الجماعة, فما بقي أمر قبيح إلا قد جئته فيما بيننا وبينك – أو كما قالوا لـه - فإن كنت إنما جئت بهذا الحديث تطلب به مالاً جمعنا لك من أموالنا حتى تكون أكثرنا مالاً, وإن كنت إنما تطلب به الشرف فينا فنحن نُسَودك علينا، وان كنت تريد ملكا ملكناك علينا, وإن كـان هذا الذي يأتيك رئياً تراه قد غلب عليك - وكانون يسمون التابع من الجن رئياً - فربما كان ذلك بذلنا لك أموالنا في طلب الطب لك حتى نبرئك منه, أو نعذر فيك, فقال لهم رسول الله (ص):
ما بي ما تقولون, ما جئت بما جئتكم به أطلب أموالكم, ولا الشرف فيكم ,ولا الملك عليكم, ولكن الله بعثني إليكم رسولاً, وأنزل عليَّ كتابا, وأَمرني أن أكون لكم بشيراً ونذيراً فبلغتكم رسالات ربي, ونصحت لكم, فإن تقبلوا مني ما جئتكم به فهو حظّكم فـي الدنيا والآخرة, وإن تردوا علـيَّ أصبر لأمر الله حتى يحكم الله بيني وبينكم)(7).
ولما فشلت كل تلك المحاولات ورفض رسول الله (ص) كل المساومات الفكرية طلبوا منه التنازل ولو مؤقتا عن دين الله تعالى, واستعلموا شتي الأساليب حتى أشار القرآن الكريم إلى ذلك بقوله تعالى: ((وَإِنْ كَادُوا لَيَفْتِنُونَكَ عَنِ الَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ لِتَفْتَرِيَ عَلَيْنَا غَيْرَهُ وَإِذاً لاتَّخَذُوكَ خَلِيلاً * وَلَوْلا أَنْ ثَبَّتْنَاكَ لَقَدْ كِدْتَ تَرْكَنُ إِلَيْهِمْ شَيْئاً قَلِيلاً)) (الإسراء: 73-74).
فالآية تصور حالات المداهنة والمساومة لرسول الله (ص) ليتنازل عن بعض معتقداته وكيف عصم الله رسوله من الوقوع في شباكهم وسدده في مواجهة تحدياتهم .
وان من أروع صور التحدي التي برزت في التاريخ الإسلامي ما اقدم عليه سبط رسول الله (ص) الحسين (ع) وأصحابه في مواجهة الانحراف الأموي عن الإسلام. رغم قوة الدولة الأموية, وجبروت ملوكها.
فوقف سيد الأباة ليسطر أروع البطولات على طول التاريخ البشري؛ ليواجه أعتى أمواج الجاهلية التي عادت من جديد على لسان معاوية ويزيد بشكل صريح يقول ابن أبي الحديد:
(سيد أهل الإباء، الذي علم الناس الحميّة, والموت تحت ظلال السيوف, اختياراً له على الدنيّة, أبو عبد الله الحسين بن علي بن أبي طالب (ع)؛ عُرض عليه الأمان وأصحابه, فأنف من الذل, وخاف من ابن زياد أن يناله بنوع من الهوان؛ إن لم يقتله, فاختار الموت على ذلك.
وسمعت النقيب أبا زيد يحيى بن زيد العلوي البصري, يقول: كأن أبيات أبي تمام في محمّد بن حميد الطائي ما قيلت إلا في الحسين (ع):
وقد كان فوت الموت سهلاً فرده * إليه الحفاظ المر والخلق الوعر
ونفس تعاف الضيم حتى كأنه * هو الكفر يوم الروع أو دونه الكفر
فأثبت في مستنقع الموت رجله * وقال لها من تحت أخمصك الحشر
تردى ثياب الموت حمراً فما أتى * لها الليل إلا وهي من سندس خضر)(8)
ومن صور التحدي في ثورة الحسين (ص) حين قال مروان لوالي المدينة : (أيها الأمير إن فارقك الساعة، ولم يبايع فإنك لم تقدر منه على مثلها أبداً حتى تكثر القتلى بينك وبينه، فاحبسه عندك، ولا تدعه يخرج أو يبايع, وإلا فأضرب عنقه، فالتفت إليه الحسين (ع) وقال: ويلي عليك يا ابن الزرقاء، أتأمر بضرب عنقي؟ كذبت والله، ولؤمت؛ والله لو رام ذلك أحد لسقيت الأرض من دمه قبل ذلك فإن شئت ذلك فرم أنت ضرب عنقي إن كنت صادقاً؛ ثم أقبل الحسين (ع) على الوليد؛ فقال : أيها الأمير إنا أهل البيت النبوة, ومعدن الرسالة, ومختلف الملائكة, ومهبط الرحمة، بنا فتح الله, وبنا يختم, ويزيد رجل فاسق، شارب خمر, قاتل نفس، معلن بالفسق, ومثلي لا يبايع لمثله, ولكن نصبح وتصبحون, وننظر وتنظرون, أينا أحق بالخلافة والبيعة)(9).
ومنها قوله (ع) عندما حدثه أخوه عمر الأطرف, وأخبره بقتله قال: (والله لا أعطي الدنية من نفسي أبداً) .
وقال لمحمّد بن الحنفية لما اقترح عليه أن يُخفي نفسه في بعض الأصقاع: (يا أخي، لو لم يكن في الدنيا ملجأ ولا مأوى لما بايعت يزيد بن معاوية)(10).
ومن صور التحدي عند الحسين كلامه يوم الطف: (ألا وإن الدَّعي بن الدَّعي قد ركَز بين اثنتين, بين السلّة, والذِّلة, وهيهات منا الذلة ! يأبى الله لنا ذلك ورسوله والمؤمنون وحجور طابت وطهرت, وأنوف حمية, ونفوس أبيَّةٌ)(11).
ولا عجب أن هذا من الحسين (ع) فهو ربيب النبوة, وسيد شباب أهل الجنة. ولكن تعال معي؛ لننظر إلى موقف بعض أصحابه , وأهل بيته الذين ضربوا المثل الأعلى في الصمود والتحدي مثال ذلك قيس بن مسهر الصيداوي الذي حمل كتاب الحسين (ع) إلى أهل الكوفة ثم قبض عليه الحصين بن تميم مدير شرطة بن زياد فبعثه إلى ابن زياد فقال له عبيد الله: (اصعد إلى القصر فسب الكذّاب ابن الكذّاب!! فصعد, ثم قال : أيها الناس إن هذا الحسين بن علي خير خلق الله؛ ابن فاطمة بنت رسول الله, وأنا رسوله إليكم, وقد فارقته بالحاجر, فأجيبوه, ثم لعن عبيد الله بن زياد وأباه, واستغفر لعلي بن أبي طالب (ع)، قال: فأمر به عبيد الله بن زياد أن يُرمى من فوق القصر فرمي به, فتقطع فمات)(12).
ومن قبل هذا فُعل بعبد الله بن يقطر, وكان قد سرحه إلى مسلم بن عقيل من الطريق, وهو لا يدري انه قد أصيب وقبضت عليه شرطه الحصين فسرح به إلى عبيد الله بن زياد, فقال أصعد فوق القصر, والعن الكذاب بن الكذاب, ثم أنزل حتى أرى رأي فيك, قال : فصعد فلما شرف على الناس قال : (أيها الناس إني رسول الحسين إليكم لتنصروه وتوازروه على بن مرجانه, وابن سمية, الدعي بن الدعي, فأمر به فالقي من فوق القصر فتكسرت عظامه وبقي به رمق فأتاه عبد الملك بن عمير اللخمي قاضي الكوفة وفقيهها فذبحه ,فلما عيب عليه, قال أردت أن أريحه)(13).
إن هذه الصور من الصمود والتحدي لتعطى الإنسان دروساً قيمة في التضحية والفداء، والصبر، والإباء، والاستقامة على أداء الرسالة، التي لا تحد بحدود الزمان والمكان .
ومن هذه الصور ما قام به سويد بن عمرو بن أبي المطاع سقط لوجهه وظن أنه قتل فلما قتل الحسين (ع) وسمعهم يقولون قتل الحسين أخرج سكينة كانت معه وقاتل بها فتعطفوا وقتلوه.
هذه بعض الصور من التحدي التي برزت في يوم عاشوراء، وما قبله وأما الصور التي برزت بعد الثورة من شيعة أهل البيت فكثيرة جداً، كموقف الإمام السجاد (ع) وخطابه في معسكر يزيد، وموقف الحوراء وخطابها في الكوفة، وفي معسكر يزيد، وفي مجلس بن زياد كما سيأتي إنشاء الله؛ وموقف عبد الله بن عفيف وغيره ...
ولنرجع إلى الحسين (ع) وننظر كيف تحدى الدنيا جميعاً، وتحدى حتى العواطف الأبوية؛ ليضرب المثل الأعلى في التضحية والفداء، في سبيل بقاء الإسلام ونصرته ... يقول المؤرخون: إن الحسين (ع) لما لم يبقَ أحد من أصحابه (دعا بولده الرضيع يودعه فأتته زينب بابنه عبد الله وأمه الرباب فاجلسه في حجره يقبله، ويقول بعداً لهؤلاء القوم إذا كان جدك المصطفى خصمهم، ثم أتى به نحو القوم، يطلب له الماء فرماه حرملة بن كاهل الأسدي بسهم فذبحه فتلقى الحسين الدم بكفه ورماه نحو السماء).
قال أبو جعفر الباقر (ع): (فلم تسقط منه قطره، وفيه يقول حجة آل محمّد عجل الله تعالى فرجه الشريف : السلام على عبد الله المرمي الرضيع المتشحط دماً، والمصعد بدمه إلى السماء، المذبوح بالسهم في حجر أبيه، لعن الله رآميه حرملة بن كاهل الأسدي وذويه).
ومنعطف أهوى لتقبيل طفله * فقبل منه قبله السهم منحرا
فقد ولدا في ساعة هو والردى * ومن قبله في نحره السهم كبرا
الهوامش:
(1) المحدث المجلسي، بحار الأنوار: 67/299.
(2) السِّطة: الشرف.
(3) الرئي بفتح الراء وكسرها ما يتراءى للإنسان من الجن.
(4) من يتبع من الجن.
(5) ابن هشام، السيرة النبوية: 1/313-314.
(6) ابن هشام، السيرة النبوية: 1/ 284.
(7) ابن هشام، السيرة النبوية: 1 /315 –316.
(8) ابن أبي الحديد، شرح نهج البلاغة: 3/249.
(9) الخوارزمي، مقتل الحسين (ع): 1/184.
(10) المقرم، مقتل الحسين (ع): 135 .
(11) نفس المصدر: 235.
(12) الطبري، تاريخ الأمم والملوك: 5/395.
(13) محمد السماوي، أبصار العين في أنصار الحسين (ع): 93، وروضة الواعظين : 152.
من خلال الصراع بين أتباع مدرسة الهدى وأتباع مدرسة الضلال تبرز مواقف بطولية تبقى محطات نور تمنح القوة والصلابة والبصيرة والعزم والاستقامة للمؤمنين, وتمنح أصحابها الخلود والبقاء عبر الزمان, وتبقى مناراً على طول الزمن تهتدي بها الأجيال .
ومن أبرز ظواهر التاريخ الرسالي بروز ظاهرة التحدي للواقع الفاسد والسلطة الجائرة, ورفض العروض المغرية, فإن أئمة الضلال يتبعون شتى الأساليب؛ ليوقفوا تبار الهدى ... فمن أساليبهم تقديم العروض المغرية لدعاة الله تعالى لشراء ضمائرهم. وتخدير عقولهم واحتوائهم ليخرجوهم عن جادة الصواب .
ومن أساليبهم : القتل, والتعذيب, والسجن, والتشريد, وتوجيه الافتراءات والتهم, ونشر الإشاعات والأكاذيب .
وفي حياة رسول الله (ص) أمثلة حية من ذلك, فقد قدموا له شتى العروض, والإغراءات نذكر منها ما رواه كعب القرظي قال :
(حُدِّثثُ أن عتبة بن ربيعة, وكان سيداً, قال يوماً وهو جالس في نادي قريش ورسول الله (ص) جالس في المسجد وحده : يا معشر قريش, ألا أقوم إلى محمد فأكلمه وأعرض عليه أمورا لعله يقبل بعضها, فنعطيه أيّها شاء، ويكف عنا؟ وذلك حين أسلم حمزة ورأوا أصحاب رسول الله (ص) يزيدون ويكثرون, فقالوا : بلى يا أبا الوليد قم إليه فكلمة فقام إليه عتبة حتى جلس إلى رسـول الله (ص), فقال : يا ابن أخي إنك منا حيث قد علمت السِّطة(2) في العشيرة, والمكان في النسب إنك قد أتيت قومك بأمر عظيم, فرقت به جماعتهم, وسفهت به أحلامهم ,وعبت به آلهتهم ودينهم, وكفرّت من مضى من آبائهم, فاسمع منى أعرض عليك أموراً تنظر فيها لعلك تقبل منها [منا] بعضها، قال : فقال لـه رسول الله (ص): قل يا أبا الوليد أسمع, قال : يا ابن أخي إن كنت إنما تريد بما جئت به من هذا الأمر مالاً جمعنا لك من أموالنا حتى تكون أكثرنا مالاً, وان كنت تريد به شرفاً سودناك علينا حتى لا نقطع أمراً دونك، وإن كنت تريد به ملكاً ملكناك علينا, وان كان هذا الذي تأتيك رئيا(3) تراه لا تستطيع رده عن نفسك طلبنا لك الطب, وبذلنا فيه أموالنا حتى نبرئك منه, فإنه ربما غلب التابع(4) على الرجل حتى يداوى منه, أو كما قال له، حتى إذا فرغ عتبة, ورسول الله (ص) يستمع منه, قال : أقد فرغت يا أبا الوليد ؟ قال نعم, قال : فاسمع مني, قال : أفعل، فقال : ((بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ * حـم * تَنْزِيلٌ مِنَ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ * كِتَابٌ فُصِّلَتْ آيَاتُهُ قُرْآناً عَرَبِيّاً لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ * بَشِيراً وَنَذِيراً فَأَعْرَضَ أَكْثَرُهُمْ فَهُمْ لا يَسْمَعُونَ * وَقَالُوا قُلُوبُنَا فِي أَكِنَّةٍ مِمَّا تَدْعُونَا إِلَيْهِ ...)) (فصلت: 1-5)، ثم مضى رسول الله (ص) فيها يقرؤها عليه, فلما سمعها منه عتبة أنصت لها, وألقى يد يه خلف ظهره معتمداً عليها يسمع منه, ثم انتهى رسول الله (ص) إلى السجدة منها فسجد, ثم قال : قد سمعت يا أبا الوليد ما سمعت فأنت وذاك .
فقام عتبة إلى أصحابه, فقال بعضهم لبعض : نحلف بالله لقد جاءكم أبو الوليد بغير الوجه الذي ذهب به. فلما جلس إليهم قالوا : ما وراءك يا أبا الوليد ؟ قال: ورائي أني قد سمعت قولاً والله ما سمعت مثله قط, والله ما هو بالشعر, ولا بالسحر, ولا بالكهانة, يا معشر قريش, أطيعوني, واجعلوها بي, وخلوا بين هذا الرجل, وبين ما هو فيه فاعتزلوه, فوالله ليكونَنَّ لقوله الذي سـمعت منه نبأٌ عظيم, فإن تصبه العرب فقد كفيتموه بغيركم ،وإن يظهر على العرب فملكة ملككم,وعزة عزكم, وكنتم اسـعد الناس به,قالوا سـحرك والله يا أبا الوليد بلسـانه, قال هذا رأيي فيه فاصنعوا ما بدا لكم)(5).
هذا مثال واحد من أمثلة التحدي الفكري, وقد استطاع رسول الله (ص) أن يذهل عتبة ويرجعه إلى قومه؛ ليدعوهم إلى الإيمان به إلا أنه لم يوفق لا هو ولا قريش لهذا الشرف العظيم .
ومن أمثلة ذلك يوم اتصلوا بأبي طالب, وقالوا لـه : (يا أبا طالب إن ابن أخيك قد سب ألهتنا, وعاب ديننا, وسفه أحلامنا, وضلل آباءنا, فإما أن تكفه عنا, وأما أن تخلي بيننا وبينه, فإنك على مثل ما نحن عليه من خلافه فنكفيكه؛ فقال لهم أبو طالب قولاً رفيقاً, وردهم رداً جميلاً, فانصرفوا عنه...
ثم إنهم مشوا إلى أبي طالب مرة أخرى, فقالوا له : يا أبا طالب, إن لك سناً وشرفاً ومنزلة فينا, وإنا قد استنهيناك من ابن أخيك فلم تنهه عنا, وإنا والله لا نصبر على هذا من شتم آبائنا, وتسفيه أحلامنا, وعيب آلهتنا, حتى تكفه عنا, أو ننازله وإياك في ذلك حتى يهلك أحد الفريقين, ... ثم انصرفوا عنه, فعظم على أبي طالب فراق قومه وعدواتهم ...
فقال أبو طالب لرسول الله (ص): يا ابن أخي إن قومك قد جاءوني؛ فقالوا لي كذا وكذا, للذي كانوا قالوا له, فابقِ عليّ وعلى نفسك, ولا تحملني من الأمر ما لا أطيق ؛قال فظن رسول الله (ص) انه قد بدأ لعمه فيه بداء انه خاذله ومسلمه, وانه قد ضعف عن نصرته والقيام معه, قال : فقال رسول الله (ص): (يا عم والله لو وضعوا الشمس في يميني والقمر في يساري على أن اترك هذا الأمر حتى يظهره الله أو أهلك فيه, ما تركته).
قال : ثم استعبر رسول الله (ص) فبكى ثم قام, فلما ولى ناداه أبو طالب, فقال: اقبل يا ابن أخي, قال: فأقبل عليه رسـول الله (ص), فقال : اذهب يا ابن أخي فقل ما أحببت, فوالله لا أسـلمك لشيء أبداً )(6).
ولما رأت قريش صمود النبي (ص) بوجه تلك التحديات ومقاومة أبي طالب, وانتشار الإسلام ازدادت عتواً ومواصلة في التعذيب بأبشع أشكاله يقول ابن إسحاق ( ثم إن الإسلام جعل يفشو بمكة في قبائل قريش في الرجال والنساء وقريش تحبس من قدرت على حبسه, وتفتن من استطاعت فتنته من المسلمين, ثم إن أشراف قريش من كل قبيلة كما حدثني بعض أهل العلم عن سعيد بن جبير, وعن عكرمة مولى ابن عباس عن عبد الله بن عباس رضي الله عنه قال :
اجتمع عتبة بن ربيعة, وشيبة بن ربيعة, وأبو سفيان بن حرب, والنظر بن الحارث أخو بني عبد الدار, وأبو البختري بن هشام, والأسود بن المطلب بن أسد وزمعة بن الأسود, والوليد بن المغيرة, وأبو جهل بن هشام, وعبد الله بن أبي أميه, والعاص بن وائل ,ونبيه ومنبه أبنا الحجاج السهميان, وأميه بن خلف أو من اجتمع منهم قال : اجتمعوا بعد غروب الشمس عند ظهر الكعبة, ثم قال بعضهم لبعض ابعثوا إلى محمّد فكلموه, وخاصموه حتى تعذروا فيه, فبعثوا إليه إن أشراف قومك قد اجتمعوا لك ليكلمونك, فأتهم فجاءهم رسول الله (ص) سريعاً... وكان عليهم حريصاً يحب رشدهم, ويعز عليه عنتهم حتى جلس إليهم فقالوا له: يا محمّد، إنا قد بعثنا إليك لنكلمك, وإنا والله ما نعلم رجلاً من العرب أدخل على قومه مثل ما أدخلت على قومك لقد شتمت الآباء, وعبت الدين, وشتمت الآلهة وسفهت الأحلام وفرقـت الجماعة, فما بقي أمر قبيح إلا قد جئته فيما بيننا وبينك – أو كما قالوا لـه - فإن كنت إنما جئت بهذا الحديث تطلب به مالاً جمعنا لك من أموالنا حتى تكون أكثرنا مالاً, وإن كنت إنما تطلب به الشرف فينا فنحن نُسَودك علينا، وان كنت تريد ملكا ملكناك علينا, وإن كـان هذا الذي يأتيك رئياً تراه قد غلب عليك - وكانون يسمون التابع من الجن رئياً - فربما كان ذلك بذلنا لك أموالنا في طلب الطب لك حتى نبرئك منه, أو نعذر فيك, فقال لهم رسول الله (ص):
ما بي ما تقولون, ما جئت بما جئتكم به أطلب أموالكم, ولا الشرف فيكم ,ولا الملك عليكم, ولكن الله بعثني إليكم رسولاً, وأنزل عليَّ كتابا, وأَمرني أن أكون لكم بشيراً ونذيراً فبلغتكم رسالات ربي, ونصحت لكم, فإن تقبلوا مني ما جئتكم به فهو حظّكم فـي الدنيا والآخرة, وإن تردوا علـيَّ أصبر لأمر الله حتى يحكم الله بيني وبينكم)(7).
ولما فشلت كل تلك المحاولات ورفض رسول الله (ص) كل المساومات الفكرية طلبوا منه التنازل ولو مؤقتا عن دين الله تعالى, واستعلموا شتي الأساليب حتى أشار القرآن الكريم إلى ذلك بقوله تعالى: ((وَإِنْ كَادُوا لَيَفْتِنُونَكَ عَنِ الَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ لِتَفْتَرِيَ عَلَيْنَا غَيْرَهُ وَإِذاً لاتَّخَذُوكَ خَلِيلاً * وَلَوْلا أَنْ ثَبَّتْنَاكَ لَقَدْ كِدْتَ تَرْكَنُ إِلَيْهِمْ شَيْئاً قَلِيلاً)) (الإسراء: 73-74).
فالآية تصور حالات المداهنة والمساومة لرسول الله (ص) ليتنازل عن بعض معتقداته وكيف عصم الله رسوله من الوقوع في شباكهم وسدده في مواجهة تحدياتهم .
وان من أروع صور التحدي التي برزت في التاريخ الإسلامي ما اقدم عليه سبط رسول الله (ص) الحسين (ع) وأصحابه في مواجهة الانحراف الأموي عن الإسلام. رغم قوة الدولة الأموية, وجبروت ملوكها.
فوقف سيد الأباة ليسطر أروع البطولات على طول التاريخ البشري؛ ليواجه أعتى أمواج الجاهلية التي عادت من جديد على لسان معاوية ويزيد بشكل صريح يقول ابن أبي الحديد:
(سيد أهل الإباء، الذي علم الناس الحميّة, والموت تحت ظلال السيوف, اختياراً له على الدنيّة, أبو عبد الله الحسين بن علي بن أبي طالب (ع)؛ عُرض عليه الأمان وأصحابه, فأنف من الذل, وخاف من ابن زياد أن يناله بنوع من الهوان؛ إن لم يقتله, فاختار الموت على ذلك.
وسمعت النقيب أبا زيد يحيى بن زيد العلوي البصري, يقول: كأن أبيات أبي تمام في محمّد بن حميد الطائي ما قيلت إلا في الحسين (ع):
وقد كان فوت الموت سهلاً فرده * إليه الحفاظ المر والخلق الوعر
ونفس تعاف الضيم حتى كأنه * هو الكفر يوم الروع أو دونه الكفر
فأثبت في مستنقع الموت رجله * وقال لها من تحت أخمصك الحشر
تردى ثياب الموت حمراً فما أتى * لها الليل إلا وهي من سندس خضر)(8)
ومن صور التحدي في ثورة الحسين (ص) حين قال مروان لوالي المدينة : (أيها الأمير إن فارقك الساعة، ولم يبايع فإنك لم تقدر منه على مثلها أبداً حتى تكثر القتلى بينك وبينه، فاحبسه عندك، ولا تدعه يخرج أو يبايع, وإلا فأضرب عنقه، فالتفت إليه الحسين (ع) وقال: ويلي عليك يا ابن الزرقاء، أتأمر بضرب عنقي؟ كذبت والله، ولؤمت؛ والله لو رام ذلك أحد لسقيت الأرض من دمه قبل ذلك فإن شئت ذلك فرم أنت ضرب عنقي إن كنت صادقاً؛ ثم أقبل الحسين (ع) على الوليد؛ فقال : أيها الأمير إنا أهل البيت النبوة, ومعدن الرسالة, ومختلف الملائكة, ومهبط الرحمة، بنا فتح الله, وبنا يختم, ويزيد رجل فاسق، شارب خمر, قاتل نفس، معلن بالفسق, ومثلي لا يبايع لمثله, ولكن نصبح وتصبحون, وننظر وتنظرون, أينا أحق بالخلافة والبيعة)(9).
ومنها قوله (ع) عندما حدثه أخوه عمر الأطرف, وأخبره بقتله قال: (والله لا أعطي الدنية من نفسي أبداً) .
وقال لمحمّد بن الحنفية لما اقترح عليه أن يُخفي نفسه في بعض الأصقاع: (يا أخي، لو لم يكن في الدنيا ملجأ ولا مأوى لما بايعت يزيد بن معاوية)(10).
ومن صور التحدي عند الحسين كلامه يوم الطف: (ألا وإن الدَّعي بن الدَّعي قد ركَز بين اثنتين, بين السلّة, والذِّلة, وهيهات منا الذلة ! يأبى الله لنا ذلك ورسوله والمؤمنون وحجور طابت وطهرت, وأنوف حمية, ونفوس أبيَّةٌ)(11).
ولا عجب أن هذا من الحسين (ع) فهو ربيب النبوة, وسيد شباب أهل الجنة. ولكن تعال معي؛ لننظر إلى موقف بعض أصحابه , وأهل بيته الذين ضربوا المثل الأعلى في الصمود والتحدي مثال ذلك قيس بن مسهر الصيداوي الذي حمل كتاب الحسين (ع) إلى أهل الكوفة ثم قبض عليه الحصين بن تميم مدير شرطة بن زياد فبعثه إلى ابن زياد فقال له عبيد الله: (اصعد إلى القصر فسب الكذّاب ابن الكذّاب!! فصعد, ثم قال : أيها الناس إن هذا الحسين بن علي خير خلق الله؛ ابن فاطمة بنت رسول الله, وأنا رسوله إليكم, وقد فارقته بالحاجر, فأجيبوه, ثم لعن عبيد الله بن زياد وأباه, واستغفر لعلي بن أبي طالب (ع)، قال: فأمر به عبيد الله بن زياد أن يُرمى من فوق القصر فرمي به, فتقطع فمات)(12).
ومن قبل هذا فُعل بعبد الله بن يقطر, وكان قد سرحه إلى مسلم بن عقيل من الطريق, وهو لا يدري انه قد أصيب وقبضت عليه شرطه الحصين فسرح به إلى عبيد الله بن زياد, فقال أصعد فوق القصر, والعن الكذاب بن الكذاب, ثم أنزل حتى أرى رأي فيك, قال : فصعد فلما شرف على الناس قال : (أيها الناس إني رسول الحسين إليكم لتنصروه وتوازروه على بن مرجانه, وابن سمية, الدعي بن الدعي, فأمر به فالقي من فوق القصر فتكسرت عظامه وبقي به رمق فأتاه عبد الملك بن عمير اللخمي قاضي الكوفة وفقيهها فذبحه ,فلما عيب عليه, قال أردت أن أريحه)(13).
إن هذه الصور من الصمود والتحدي لتعطى الإنسان دروساً قيمة في التضحية والفداء، والصبر، والإباء، والاستقامة على أداء الرسالة، التي لا تحد بحدود الزمان والمكان .
ومن هذه الصور ما قام به سويد بن عمرو بن أبي المطاع سقط لوجهه وظن أنه قتل فلما قتل الحسين (ع) وسمعهم يقولون قتل الحسين أخرج سكينة كانت معه وقاتل بها فتعطفوا وقتلوه.
هذه بعض الصور من التحدي التي برزت في يوم عاشوراء، وما قبله وأما الصور التي برزت بعد الثورة من شيعة أهل البيت فكثيرة جداً، كموقف الإمام السجاد (ع) وخطابه في معسكر يزيد، وموقف الحوراء وخطابها في الكوفة، وفي معسكر يزيد، وفي مجلس بن زياد كما سيأتي إنشاء الله؛ وموقف عبد الله بن عفيف وغيره ...
ولنرجع إلى الحسين (ع) وننظر كيف تحدى الدنيا جميعاً، وتحدى حتى العواطف الأبوية؛ ليضرب المثل الأعلى في التضحية والفداء، في سبيل بقاء الإسلام ونصرته ... يقول المؤرخون: إن الحسين (ع) لما لم يبقَ أحد من أصحابه (دعا بولده الرضيع يودعه فأتته زينب بابنه عبد الله وأمه الرباب فاجلسه في حجره يقبله، ويقول بعداً لهؤلاء القوم إذا كان جدك المصطفى خصمهم، ثم أتى به نحو القوم، يطلب له الماء فرماه حرملة بن كاهل الأسدي بسهم فذبحه فتلقى الحسين الدم بكفه ورماه نحو السماء).
قال أبو جعفر الباقر (ع): (فلم تسقط منه قطره، وفيه يقول حجة آل محمّد عجل الله تعالى فرجه الشريف : السلام على عبد الله المرمي الرضيع المتشحط دماً، والمصعد بدمه إلى السماء، المذبوح بالسهم في حجر أبيه، لعن الله رآميه حرملة بن كاهل الأسدي وذويه).
ومنعطف أهوى لتقبيل طفله * فقبل منه قبله السهم منحرا
فقد ولدا في ساعة هو والردى * ومن قبله في نحره السهم كبرا
الهوامش:
(1) المحدث المجلسي، بحار الأنوار: 67/299.
(2) السِّطة: الشرف.
(3) الرئي بفتح الراء وكسرها ما يتراءى للإنسان من الجن.
(4) من يتبع من الجن.
(5) ابن هشام، السيرة النبوية: 1/313-314.
(6) ابن هشام، السيرة النبوية: 1/ 284.
(7) ابن هشام، السيرة النبوية: 1 /315 –316.
(8) ابن أبي الحديد، شرح نهج البلاغة: 3/249.
(9) الخوارزمي، مقتل الحسين (ع): 1/184.
(10) المقرم، مقتل الحسين (ع): 135 .
(11) نفس المصدر: 235.
(12) الطبري، تاريخ الأمم والملوك: 5/395.
(13) محمد السماوي، أبصار العين في أنصار الحسين (ع): 93، وروضة الواعظين : 152.
تعليق