لقد جسدت ثورة الطف الكبرى كل أبعاد الرسالة الإلهية العقائدية, والعبادية , والاجتماعية, والأخلاقية, والسياسية, ومثلت الإسلام بالقول والفعل في أحرج الساعات, وتجلت فيها أخلاقية حَمَلة الرسالة في أنصع صورة وأروعها. كما أبرزت خطين فكريين متخالفين في الهدف والأسلوب:
خط التوحيد الخالص, وخط الشرك المتستر بالإسلام, وأفرزت الناس إلى محورين متضادين, وكشفت دخائل النفوس, وأبرزت كل التناقضات القائمة في حياة الناس, وبذلك تميز جند الله عن جند الشيطان.
وخلاصة الكلام: (إن ثورة الحسين (ع) كانت تهدف إلى تجسـيم الإسلام وبلورته عملاً وواقعاً أي تطبيقه على أرض الواقع, وليس ظاهرياً, ومن أجل العرض المسرحي).
(وما حادثة كربلاء إلا تجسيد للإسلام بكل أبعاده وجوانبه كافة لكنها تجسيد مفعم بالحيوية, والروحية المتعالية).
(إن واقعة الإمام الحسين (ع) يبدو أنها جاءت؛ لتعبر عن عرض مسرحي حماسي ونهضوي, ومأساوي, ووعظي, وتبلورٌ للعشق الإلهي, والمساواة الإسلامية , والعواطف الإنسانية, وكل ذلك في أعلى أوج ممكن, وبواسطة مختلف صور الأبطال: الشيخ والشاب, المرأة والرجل, الحر والعبد, الراشد والطفل الرضيع مع تصوير لكل أبعاد الإسلام).
(فهي واقعة أرادت التعبير عن التوحيد, كما عن العرفان والعشق الإلهي والتسليم والرضا, والتضحية في سبيل الله, أملاً بنيل الحق, في نفس الوقت الذي حملت فيه جانب الاعتراض, والتمرد العنيف, ومساندة المحرومين بالإضافة إلى التعبير عن حماسة أخلاقية وإنسانية, وشجاعة, وحكمة ,ووعظ, ومساواة إسلامية, وتجل رفيع وسام للعواطف الأخلاقية والإسلامية).
ولنتأمل قليلاً في خطوات التحرك الحسيني لنرى حقيقة ذلك:
ففي الجانب العقائدي: لقد تجسدت عقيدة التوحيد في كل حركة من المسيرة الحسينية, وأبرزت قوة الإنشداد إلى خط التوحيد, وتجلت عظمة الاعتصام بالله بأجلى صورة قولاً وعملاً, ومن هذه الصور التي تجلت في أحاديث الحسين (ع) كتابه لأخيه محمد بن الحنفية قال:
(هذا ما أوصى به الحسين بن علي بن أبي طالب إلى أخيه محمد بن علي المعروف بابن الحنفية, إن الحسين يشهد أن لا إلا الله وحده لا شريك له, وأن محمداً عبده ورسوله, جاء بالحق من عند الحق, وإن الجنة والنار حق, وإن الساعة آتية لا ريب فيها, وإن الله يبعث ما في القبور... ).
وواضح في هذه الوصية بيان العقيدة الحقة بالله ورسوله واليوم الآخر, وفي هذا إشارة إلى أنه خرج لله, ولأجل إعلاء كلمة الله تعالى بإظهار كلمة التوحيد والدفاع عن دين الله في الأمر بالمعروف, والنهي عن المنكر لإرجاع خط الرسالة إلى مساره الأصيل, والدليل على ذلك ما ختم الوصية بها قال: (وإني لم أخرج أشراً, ولا بطراً ولا مفسداً, ولا ظالماً, وإنما خرجت لطلب الإصلاح في أمة جدي (ص) أريد أن أمر بالمعروف, وأنهى عن المنكر, وأسير بسيرة جدي, وأبي علي بن أبي طالب (ع), فمن قبلني بقبول الحق فالله أولى بالحق, ومن رد عليَّ أصبر حتى يقضي الله بيني وبين القوم وهو خير الحاكمين).
وفي كتابه إلى أهل البصرة يقول (ع): (... وقد بعثت رسولي إليكم بهذا الكتاب, وأنا أدعوكم إلى كتاب الله, وسنة نبيه, فإن السنة أميتت, والبدعة قد أحييت, فإن تسمعوا قولي أهدكم إلى سبيل الرشاد ...).
وفي كتابه لأهل الكوفة: (... فلعمري ما الإمام إلا العامل بالكتاب, والآخذ بالقسط, والدائن بالحق, والحابس نفسه على ذات الله والسلام).
إن قوله (ع): (والحابس نفسه على ذات الله) يصور لنا أسمى درجات التوحيد ؛ لأنه لا يرى في الوجود مؤثراً إلا الله تعالى، وهذا هو التوحيد الخالص .
وفي جوابه لعبد الله بن جعفر عندما قدم له كتاب الأمان من عمرو بن سعيد أمير مكة قال (ع):
(أما بعد فإنه لم يشاقق من دعا إلى الله, وعمل صالحاً, وقال إنني من المسلمين وقد دعوتني إلى البر والإحسان, فخير الأمان أمان الله, ولن يُؤَمِنَ الله يوم القيامة من لم يخافه في الدنيا).
وفي جوابه للطرماح بن عدي عندما أخبره عن أهل الكوفة :
(أما والله إني لأرجو أن يكون خبراً ما أراد الله بنا قُتلنا أو ظفرنا).
وفي خطابه لأهل مكة (رضا الله رضانا أهل البيت نصبر على بلائه ويوفينا أجور الصابرين).
وفي أحرج اللحظات حيث أعيته الجراح, وأضعفه النزف, يرفع طرفه إلى السماء مناجياً ربه (صبراً على قضائك يا رب, لا إله سواك يا غياث المستغيثين مالي رب سواك, ولا معبود غيرك, صبراً على حكمك يا غياث من لا غيث له يا دائما لا نفاذ له, يا محيي الموتى,يا قائماً على كل نفس بما كسبت. احكم بيني وبينهم, يا خير الحاكمين).
ومن صور التوحيد والعرفان إقامة الصلاة في ساحة المعركة والنبال تنهال عليهم كالمطر حتى استشهد أحد أصحابه. وفي ليلة عاشوراء كان لهم دوي كدوي النحل بين قائم وقاعد, وراكع وساجد, وقاري للقرآن :
سمة العبيد من الخشوع عليهم * لله أن ضمتهم الأسحار
فإذا ترجلت الضحى شهدت * لهم بيض القواضب أنهم أحرار
ولن نستطيع أن نستقصي كل مواقفهم التوحيدية, وما ذكرناه هو غيض من فيض ... ومن أسمى صور التوحيد ما أبرزه الإمام السجاد (ع) في معسكر يزيد حين قطع عليه خطابه بالأذان فعندما قال لمؤذن. الله اكبر قال (ع): (كَبَّرْتُ كبيراً لا يقاس ولا يدرك بالحواس ... ولما قال المؤذن أشهد أن لا إله إلا الله قال (ع) شهد بها شعري وبشري، ولحمي، ودمي، ومخي، وعظمي).
هذا في البعد التوحيدي الذي يمثل العمود الفقري في الإسلام. وأروع الصور التي تجلى فيها التوحيد الخالص دعاؤه (ع) عندما نظر إلى جموع العسكر كأنها السيل زاحفة نحوه رفع يديه بالدعاء وقال: (اللهم أنت ثقتي في كل كرب, ورجائي في كل شدة , وأنت لي في كل أمر نزل بي ثقة وعدة, كم من هم يضعف فيه الفؤاد, وتقل فيه الحيلة , ويخذل فيه الصديق, ويشمت فيه العدو أنزلته بك, وشكوته إليك, رغبة مني إليك عمن سواك فكشفته, وفرجته فأنت ولي كل نعمة, ومنتهى كل رغبة).
وأما في بُعد الرفض والثورة على النظام القائم فقد تجلي في مواقفه جميعاً نذكر منها:
1 - في قطع الطريق على الناصحين لـه والمشفقين عندما أعلن رفضه لبيعة يزيد , ولم يكن هؤلاء الناصحين من عامة الناس, بل كانوا من عِليَّة القوم, ووجوه الأمة البارزين كابن عباس الذي قال لـه: (فإن أبيت إلا أن تخرج فسر إلى اليمين فإن بها حصوناًَ وشعاباً, وهي أرض عريضة طويلة, ولأبيك فيها شيعة, وأنت عن الناس في عزلة, فتكتب إلى الناس, وترسل وتبث دعاتك, فإني أرجو أن يأتيك عند ذلك الذي تحب في عافية .
فقال الحسين (ع): يا ابن العم إني والله أعلم أنك ناصح مشفق, وقد أزمعت السفر).
ومن هؤلاء عبد الله بن عمر بن خطاب الذي راح ينصح الحسين (ع) بالبيعة والركون للظلم فقال له الحسين (ع): (يا عبد الله أما علمت إن من هوان الدنيا على الله, أن رأس يحيى بن زكريا (ع) يُهدى إلى بغيِّ من بغايا بني إسرائيل ! وإن رأسي يُهدى إلى بغيٍّ من بغايا بني أمية! أما تعلم إن بني إسرائيل كانوا يقتلون ما بين طلوع الفجر إلى طلوع الشمس سبعين نبياً؟ ثم يجلسون يبيعون ويشترون كأنهم لم يصنعوا شيئاً فلم يعجل الله عليهم, بل أخذهم بعد ذلك أخذ عزيز مقتدر ذي انتقام ... , ثم قال لـه: ( اتق الله يا أبا عبد الرحمن ولا تدعن نصرتي).
2 - وعندما قال لـه الحر: أمرت أن لا أفارقك إذا لقيتك حتى أقدمك الكوفة على بن زياد !كان جوابه حاسماً وقاطعاً قائلاً: ( الموت أدنى لك من ذلك) وعندما قال لـه: إني أذكرك الله في نفسك فإني أشهد لئن قاتلت لتقتلن) فقال الحسين (ع):
(أفبالموت تخوفني, وهل يعدو بكم أن تقتلوني ,وسأقول كما قال أخو الأوس لابن عمه وهو يريد نصرة رسول الله (ص):
سأمضي وما بالموت عار على الفتى * إذا ما نوى حقاً وجاهد مسلما
وواسى الرجال الصالحين بنفسه * وفارق مثبوراً وخالف مجرما
فإن عشت لم أندم وإن مت لم ألم * كفى بك ذلاً أن تعيش وترغما
ومن أجلى صور الرفض والثورة على الظلم والظالمين خطابه في جيش ابن سعد عندما أحاطوا به من كل جانب ومكان قائلاً :
( ألا وإن الدعي بن الدعي قد ركَزَ بين اثنتين بين السِّلة والذِّلة، وهيهات منا الذلة [وهيهات منا أخذ الدنية] يأبى الله لنا ذلك ورسوله والمؤمنون, وحجور طابت وطهرت، وأنوف حمية, ونفوس أبيه من أن نؤثر طاعة اللئام على مصارع الكرام, ألا وإني زاحف بهذه الأسرة على قلة العدد وخذلان الناصر).
وأما البعد الحماسي فقد ألهب المشاعر, وأشعل الثورة في النفوس بمواقفه الأبية حتى سُمي سيد أباة أهل الضيم ,ومن مواقفه الحماسية قوله: ( والله لا أعطيكم بيدي إعطاء الذليل, ولا أفر فرار العبيد).
ويقول بعض الرواة إن الحسين (ع) كان في مسيره ينشد هذه الأبيات :
إذا المرء لم يحمِ بنيه وعرسه * ونسوته كان اللئيم المسببا
وفي دون ما يبغي يزيد بنا غداً * نخوض حياض الموت شرقاً ومغربا
ونضرب كالحريق مقدما * إذا ما رآه ضيغم راح هارباً
وأما البعد الأخلاقي في ثورة الطف فلقد جسد الحسين (ع) كل مكارم الأخلاق في حركته المباركة المعطاء, وأبْرَزَ أخلاق الأنبياء مع أعدائه, فلم يعرف قلبه الحقد عليهم وهم يحملون السلاح ؛ لتقطيع أوصاله .
ومن أمثلة ذلك سقيه لجيش الحر الذي حاصره, ومنعه من الرجوع, أو الحركة فعندما ما التقى جيش الحر الذي أظناه العطش, وقد جاء ؛ ليحاصره ويأسره؛ فحين اقتربوا منه رآهم (وقدر اشرفوا على الهلاك من شدة الظمأ فرق عليهم, وغض نظره من إنهم جاءوا لقتاله وسفك دمه, فأمر أصحابه أن يسقوهم, ويرشفوا خيولهم, وقام أصحاب الإمام (ع) فسقوا الجيش, ثم انعطفوا إلى الخيل, فجعلوا يملئون القصاع والطاس فإذا عب فيها ثلاثة, أو أربعة, أو خمسا عزلت, وسقى الآخر حتى سقوا الخيل عن آخرها ).
بل أكثر من هذا كان الحسين (ع) نفسه يقوم بذلك في بعض الأحيان. قال علي بن الطعان المحاربي: (فكنت مع الحر يومئذٍ فجئت في آخر من جاء من أصحابه فلما رأى الحسين (ع) ما بي وبفرسي من العطش قال لي: أنخ الراوية فلم أفهم؛ لأن الرواية عندي السقاء. فقال أنخ الجمل فأنخته, فقال: اشرب فجعلت كلما شربت الماء سال الماء من السقاء, فقال الحسين (ع): أخنث السقاء, فلم أفهم إنه أراد اعطفه, ولم أدر كيف أفعل فقام فعطفه فشربت وسقيت فرسي).
سبحان الله, الله أعلم حيث يجعل رسالته. أي سمو هذا ؟ وأي عظمة هذه ؟ التي تجسدت فيها الأخلاق الإلهية من الرحمة, والرأفة, والعطف, والشفقة على أعدائه .. ولم يكن هذا من الحسين (ع) تكلفاً, أو افتعالاً, أو ليكسب عطف أعدائه, وإنما خُلق الهي تلقاه من جده وأبيه تربى عليه, وأشتد به عوده ,بل يهدف إلى بيان الروح الإنسانية في الإسلام التي لا يعرف الحقد إلى قلوبها سبيلاً.
ومن أمثلة ذلك قبوله لتوبة الحر, وهو الذي جعجع به, وكان السبب المباشر في محاصرته ... فعندما رآه نادماً منكسراً طالباً للتوبة قائلاً ( جعلني الله فداك يا بن رسول الله أنا صاحبك الذي حبستك عن الرجوع, وجعجعت بك في هذا المكان, والله - الذي لا إله إلا هو - ما ظننت أن القوم يردون عليك ما عرضت عليهم أبداً, ولا يبلغون منك هذه المنزلة أبداً, فقلت في نفسي: لا أبالي أن أطيع القوم في بعض أمرهم , ولا يرون أني خرجت من طاعتهم, وأما هم فيقبلون بعض ما تدعوهم إليه والله لو ظننت أنهم لا يقبلونها منك ما ركبتها منك, وأني قد جئتك تائباً مما كان مني إلى ربي مواسياً لك بنفسي حتى أموت بين يديك افترى لي توبة؟).
فأجابه الحسين: ( نعم يتوب الله عليك, ويغفر لك ما اسمك ؟ قال أنا الحر. قال: أنت الحر كما سمتك أمك. أنت الحر في الدنيا والآخرة انزل...).
ومن سموه الخلقي إنه لم يبدأهم بالقتال رغم تحرشاتهم الكثيرة من أمثال شمر وغيره .
ومن أمثلة البعد الأخلاقي في الطف إيثار أبي الفضل العباس (ع) في عدم شربه للماء وقلبه كصالية الجمر فلما اغترف غرفة من الماء؛ ليشرب ذكر عطش أخيه ومن معه من النساء والأطفال فرمى الماء من يده, وامتنع أن يروي غليله وقال:
يا نفس من بعد الحسين * وبعده لا كنت أن تكوني
هذا الحسين وارث المنون * وتشربين بارد المعين
تالله ما هذا فعال ديني
ولو فتشنا طوايا التاريخ القديم والحديث في الشرق والغرب على أن نجد مثل هذا الإيثار لما وجدنا .
وبرزت سمة الوفاء في أصحاب الحسين (ع) بشكل لا نظير لـه حتى أن أحدهم كان مضرجاً بدمائه, ويكاد أن يلفظ أخر أنفاسه, وعندما وقف عليه الحسين (ع) التفت إلى الحسين (ع) فقال: يا ابن رسول الله أوفيتُ؟ فقال لـه الحسين (ع):
نعم أنت إمامي في الجنة فاقرأ رسول الله عني السلام, واعلمه إني في الأثر .
وجسد الحسين (ع) مبدأ المساواة, وهو في أشد الحالات حراجة فتراه يقف على أصحابه عند استشهادهم وأحداً واحداً من دون فارق فهو يقف على زعيم كبير كحبيب بن مظاهر, والحر بن يزيد الرياحي كما يقف على العبد الأسود جون وعلى واضح التركي. فتراه يضع خده على خد جون في ساحة المعركة, وهو في لحظاته الأخيرة, ويدعو لـه , ويقول: ( اللهم بيض وجهه, وطيب ريحه, وأحشره مع الأبرار, وعرف بينه, وبين محمّد وآله ) وعندما يقف على الغلام التركي (واضح ) ويضع خده على خده يحس الغلام بذلك يبتسم مسرورا , ثم تفيض روحه إلى بارئها, وأما في جانب المواعظ العظيمة التي تقدم بها إلى جيش بن زياد فلا تحصر بكلمات بل تمثل دروساً من المعرفة, وسمواً في الروح, وطهارةً في القلب ... ويكشف فيها واقع المجتمع البشري فيقول :
(الناس عبيد الدنيا, والدين لعق على ألسنتهم, يحوطونه ما دَرَت معايشهم فإذا محصوا بالبلاء قل الديانون).
وهكذا نرى أن الحسين (ع) قد جسد الإسلام في كل مواقع حركته, وفي كل موقف من مواقفه السياسية، والفكرية، والأخلاقية، والعسكرية, والاجتماعية... إلا أن القوم طبع الله على قلوبهم فواجهوا هذا السمو بأحط دركات الخسة التي فاقت وحوش الغابات, وكشفت دناءة النفوس, فلم يكتفوا بقتله, بل قطعوا رأسه الشريف ورفعوه على الرمح, وداسو صدره بحوافر الخيول, وتركوه في ميدان المعركة بلا غسل ولا كفن, ولا دفن تصهره الشمس.
خط التوحيد الخالص, وخط الشرك المتستر بالإسلام, وأفرزت الناس إلى محورين متضادين, وكشفت دخائل النفوس, وأبرزت كل التناقضات القائمة في حياة الناس, وبذلك تميز جند الله عن جند الشيطان.
وخلاصة الكلام: (إن ثورة الحسين (ع) كانت تهدف إلى تجسـيم الإسلام وبلورته عملاً وواقعاً أي تطبيقه على أرض الواقع, وليس ظاهرياً, ومن أجل العرض المسرحي).
(وما حادثة كربلاء إلا تجسيد للإسلام بكل أبعاده وجوانبه كافة لكنها تجسيد مفعم بالحيوية, والروحية المتعالية).
(إن واقعة الإمام الحسين (ع) يبدو أنها جاءت؛ لتعبر عن عرض مسرحي حماسي ونهضوي, ومأساوي, ووعظي, وتبلورٌ للعشق الإلهي, والمساواة الإسلامية , والعواطف الإنسانية, وكل ذلك في أعلى أوج ممكن, وبواسطة مختلف صور الأبطال: الشيخ والشاب, المرأة والرجل, الحر والعبد, الراشد والطفل الرضيع مع تصوير لكل أبعاد الإسلام).
(فهي واقعة أرادت التعبير عن التوحيد, كما عن العرفان والعشق الإلهي والتسليم والرضا, والتضحية في سبيل الله, أملاً بنيل الحق, في نفس الوقت الذي حملت فيه جانب الاعتراض, والتمرد العنيف, ومساندة المحرومين بالإضافة إلى التعبير عن حماسة أخلاقية وإنسانية, وشجاعة, وحكمة ,ووعظ, ومساواة إسلامية, وتجل رفيع وسام للعواطف الأخلاقية والإسلامية).
ولنتأمل قليلاً في خطوات التحرك الحسيني لنرى حقيقة ذلك:
ففي الجانب العقائدي: لقد تجسدت عقيدة التوحيد في كل حركة من المسيرة الحسينية, وأبرزت قوة الإنشداد إلى خط التوحيد, وتجلت عظمة الاعتصام بالله بأجلى صورة قولاً وعملاً, ومن هذه الصور التي تجلت في أحاديث الحسين (ع) كتابه لأخيه محمد بن الحنفية قال:
(هذا ما أوصى به الحسين بن علي بن أبي طالب إلى أخيه محمد بن علي المعروف بابن الحنفية, إن الحسين يشهد أن لا إلا الله وحده لا شريك له, وأن محمداً عبده ورسوله, جاء بالحق من عند الحق, وإن الجنة والنار حق, وإن الساعة آتية لا ريب فيها, وإن الله يبعث ما في القبور... ).
وواضح في هذه الوصية بيان العقيدة الحقة بالله ورسوله واليوم الآخر, وفي هذا إشارة إلى أنه خرج لله, ولأجل إعلاء كلمة الله تعالى بإظهار كلمة التوحيد والدفاع عن دين الله في الأمر بالمعروف, والنهي عن المنكر لإرجاع خط الرسالة إلى مساره الأصيل, والدليل على ذلك ما ختم الوصية بها قال: (وإني لم أخرج أشراً, ولا بطراً ولا مفسداً, ولا ظالماً, وإنما خرجت لطلب الإصلاح في أمة جدي (ص) أريد أن أمر بالمعروف, وأنهى عن المنكر, وأسير بسيرة جدي, وأبي علي بن أبي طالب (ع), فمن قبلني بقبول الحق فالله أولى بالحق, ومن رد عليَّ أصبر حتى يقضي الله بيني وبين القوم وهو خير الحاكمين).
وفي كتابه إلى أهل البصرة يقول (ع): (... وقد بعثت رسولي إليكم بهذا الكتاب, وأنا أدعوكم إلى كتاب الله, وسنة نبيه, فإن السنة أميتت, والبدعة قد أحييت, فإن تسمعوا قولي أهدكم إلى سبيل الرشاد ...).
وفي كتابه لأهل الكوفة: (... فلعمري ما الإمام إلا العامل بالكتاب, والآخذ بالقسط, والدائن بالحق, والحابس نفسه على ذات الله والسلام).
إن قوله (ع): (والحابس نفسه على ذات الله) يصور لنا أسمى درجات التوحيد ؛ لأنه لا يرى في الوجود مؤثراً إلا الله تعالى، وهذا هو التوحيد الخالص .
وفي جوابه لعبد الله بن جعفر عندما قدم له كتاب الأمان من عمرو بن سعيد أمير مكة قال (ع):
(أما بعد فإنه لم يشاقق من دعا إلى الله, وعمل صالحاً, وقال إنني من المسلمين وقد دعوتني إلى البر والإحسان, فخير الأمان أمان الله, ولن يُؤَمِنَ الله يوم القيامة من لم يخافه في الدنيا).
وفي جوابه للطرماح بن عدي عندما أخبره عن أهل الكوفة :
(أما والله إني لأرجو أن يكون خبراً ما أراد الله بنا قُتلنا أو ظفرنا).
وفي خطابه لأهل مكة (رضا الله رضانا أهل البيت نصبر على بلائه ويوفينا أجور الصابرين).
وفي أحرج اللحظات حيث أعيته الجراح, وأضعفه النزف, يرفع طرفه إلى السماء مناجياً ربه (صبراً على قضائك يا رب, لا إله سواك يا غياث المستغيثين مالي رب سواك, ولا معبود غيرك, صبراً على حكمك يا غياث من لا غيث له يا دائما لا نفاذ له, يا محيي الموتى,يا قائماً على كل نفس بما كسبت. احكم بيني وبينهم, يا خير الحاكمين).
ومن صور التوحيد والعرفان إقامة الصلاة في ساحة المعركة والنبال تنهال عليهم كالمطر حتى استشهد أحد أصحابه. وفي ليلة عاشوراء كان لهم دوي كدوي النحل بين قائم وقاعد, وراكع وساجد, وقاري للقرآن :
سمة العبيد من الخشوع عليهم * لله أن ضمتهم الأسحار
فإذا ترجلت الضحى شهدت * لهم بيض القواضب أنهم أحرار
ولن نستطيع أن نستقصي كل مواقفهم التوحيدية, وما ذكرناه هو غيض من فيض ... ومن أسمى صور التوحيد ما أبرزه الإمام السجاد (ع) في معسكر يزيد حين قطع عليه خطابه بالأذان فعندما قال لمؤذن. الله اكبر قال (ع): (كَبَّرْتُ كبيراً لا يقاس ولا يدرك بالحواس ... ولما قال المؤذن أشهد أن لا إله إلا الله قال (ع) شهد بها شعري وبشري، ولحمي، ودمي، ومخي، وعظمي).
هذا في البعد التوحيدي الذي يمثل العمود الفقري في الإسلام. وأروع الصور التي تجلى فيها التوحيد الخالص دعاؤه (ع) عندما نظر إلى جموع العسكر كأنها السيل زاحفة نحوه رفع يديه بالدعاء وقال: (اللهم أنت ثقتي في كل كرب, ورجائي في كل شدة , وأنت لي في كل أمر نزل بي ثقة وعدة, كم من هم يضعف فيه الفؤاد, وتقل فيه الحيلة , ويخذل فيه الصديق, ويشمت فيه العدو أنزلته بك, وشكوته إليك, رغبة مني إليك عمن سواك فكشفته, وفرجته فأنت ولي كل نعمة, ومنتهى كل رغبة).
وأما في بُعد الرفض والثورة على النظام القائم فقد تجلي في مواقفه جميعاً نذكر منها:
1 - في قطع الطريق على الناصحين لـه والمشفقين عندما أعلن رفضه لبيعة يزيد , ولم يكن هؤلاء الناصحين من عامة الناس, بل كانوا من عِليَّة القوم, ووجوه الأمة البارزين كابن عباس الذي قال لـه: (فإن أبيت إلا أن تخرج فسر إلى اليمين فإن بها حصوناًَ وشعاباً, وهي أرض عريضة طويلة, ولأبيك فيها شيعة, وأنت عن الناس في عزلة, فتكتب إلى الناس, وترسل وتبث دعاتك, فإني أرجو أن يأتيك عند ذلك الذي تحب في عافية .
فقال الحسين (ع): يا ابن العم إني والله أعلم أنك ناصح مشفق, وقد أزمعت السفر).
ومن هؤلاء عبد الله بن عمر بن خطاب الذي راح ينصح الحسين (ع) بالبيعة والركون للظلم فقال له الحسين (ع): (يا عبد الله أما علمت إن من هوان الدنيا على الله, أن رأس يحيى بن زكريا (ع) يُهدى إلى بغيِّ من بغايا بني إسرائيل ! وإن رأسي يُهدى إلى بغيٍّ من بغايا بني أمية! أما تعلم إن بني إسرائيل كانوا يقتلون ما بين طلوع الفجر إلى طلوع الشمس سبعين نبياً؟ ثم يجلسون يبيعون ويشترون كأنهم لم يصنعوا شيئاً فلم يعجل الله عليهم, بل أخذهم بعد ذلك أخذ عزيز مقتدر ذي انتقام ... , ثم قال لـه: ( اتق الله يا أبا عبد الرحمن ولا تدعن نصرتي).
2 - وعندما قال لـه الحر: أمرت أن لا أفارقك إذا لقيتك حتى أقدمك الكوفة على بن زياد !كان جوابه حاسماً وقاطعاً قائلاً: ( الموت أدنى لك من ذلك) وعندما قال لـه: إني أذكرك الله في نفسك فإني أشهد لئن قاتلت لتقتلن) فقال الحسين (ع):
(أفبالموت تخوفني, وهل يعدو بكم أن تقتلوني ,وسأقول كما قال أخو الأوس لابن عمه وهو يريد نصرة رسول الله (ص):
سأمضي وما بالموت عار على الفتى * إذا ما نوى حقاً وجاهد مسلما
وواسى الرجال الصالحين بنفسه * وفارق مثبوراً وخالف مجرما
فإن عشت لم أندم وإن مت لم ألم * كفى بك ذلاً أن تعيش وترغما
ومن أجلى صور الرفض والثورة على الظلم والظالمين خطابه في جيش ابن سعد عندما أحاطوا به من كل جانب ومكان قائلاً :
( ألا وإن الدعي بن الدعي قد ركَزَ بين اثنتين بين السِّلة والذِّلة، وهيهات منا الذلة [وهيهات منا أخذ الدنية] يأبى الله لنا ذلك ورسوله والمؤمنون, وحجور طابت وطهرت، وأنوف حمية, ونفوس أبيه من أن نؤثر طاعة اللئام على مصارع الكرام, ألا وإني زاحف بهذه الأسرة على قلة العدد وخذلان الناصر).
وأما البعد الحماسي فقد ألهب المشاعر, وأشعل الثورة في النفوس بمواقفه الأبية حتى سُمي سيد أباة أهل الضيم ,ومن مواقفه الحماسية قوله: ( والله لا أعطيكم بيدي إعطاء الذليل, ولا أفر فرار العبيد).
ويقول بعض الرواة إن الحسين (ع) كان في مسيره ينشد هذه الأبيات :
إذا المرء لم يحمِ بنيه وعرسه * ونسوته كان اللئيم المسببا
وفي دون ما يبغي يزيد بنا غداً * نخوض حياض الموت شرقاً ومغربا
ونضرب كالحريق مقدما * إذا ما رآه ضيغم راح هارباً
وأما البعد الأخلاقي في ثورة الطف فلقد جسد الحسين (ع) كل مكارم الأخلاق في حركته المباركة المعطاء, وأبْرَزَ أخلاق الأنبياء مع أعدائه, فلم يعرف قلبه الحقد عليهم وهم يحملون السلاح ؛ لتقطيع أوصاله .
ومن أمثلة ذلك سقيه لجيش الحر الذي حاصره, ومنعه من الرجوع, أو الحركة فعندما ما التقى جيش الحر الذي أظناه العطش, وقد جاء ؛ ليحاصره ويأسره؛ فحين اقتربوا منه رآهم (وقدر اشرفوا على الهلاك من شدة الظمأ فرق عليهم, وغض نظره من إنهم جاءوا لقتاله وسفك دمه, فأمر أصحابه أن يسقوهم, ويرشفوا خيولهم, وقام أصحاب الإمام (ع) فسقوا الجيش, ثم انعطفوا إلى الخيل, فجعلوا يملئون القصاع والطاس فإذا عب فيها ثلاثة, أو أربعة, أو خمسا عزلت, وسقى الآخر حتى سقوا الخيل عن آخرها ).
بل أكثر من هذا كان الحسين (ع) نفسه يقوم بذلك في بعض الأحيان. قال علي بن الطعان المحاربي: (فكنت مع الحر يومئذٍ فجئت في آخر من جاء من أصحابه فلما رأى الحسين (ع) ما بي وبفرسي من العطش قال لي: أنخ الراوية فلم أفهم؛ لأن الرواية عندي السقاء. فقال أنخ الجمل فأنخته, فقال: اشرب فجعلت كلما شربت الماء سال الماء من السقاء, فقال الحسين (ع): أخنث السقاء, فلم أفهم إنه أراد اعطفه, ولم أدر كيف أفعل فقام فعطفه فشربت وسقيت فرسي).
سبحان الله, الله أعلم حيث يجعل رسالته. أي سمو هذا ؟ وأي عظمة هذه ؟ التي تجسدت فيها الأخلاق الإلهية من الرحمة, والرأفة, والعطف, والشفقة على أعدائه .. ولم يكن هذا من الحسين (ع) تكلفاً, أو افتعالاً, أو ليكسب عطف أعدائه, وإنما خُلق الهي تلقاه من جده وأبيه تربى عليه, وأشتد به عوده ,بل يهدف إلى بيان الروح الإنسانية في الإسلام التي لا يعرف الحقد إلى قلوبها سبيلاً.
ومن أمثلة ذلك قبوله لتوبة الحر, وهو الذي جعجع به, وكان السبب المباشر في محاصرته ... فعندما رآه نادماً منكسراً طالباً للتوبة قائلاً ( جعلني الله فداك يا بن رسول الله أنا صاحبك الذي حبستك عن الرجوع, وجعجعت بك في هذا المكان, والله - الذي لا إله إلا هو - ما ظننت أن القوم يردون عليك ما عرضت عليهم أبداً, ولا يبلغون منك هذه المنزلة أبداً, فقلت في نفسي: لا أبالي أن أطيع القوم في بعض أمرهم , ولا يرون أني خرجت من طاعتهم, وأما هم فيقبلون بعض ما تدعوهم إليه والله لو ظننت أنهم لا يقبلونها منك ما ركبتها منك, وأني قد جئتك تائباً مما كان مني إلى ربي مواسياً لك بنفسي حتى أموت بين يديك افترى لي توبة؟).
فأجابه الحسين: ( نعم يتوب الله عليك, ويغفر لك ما اسمك ؟ قال أنا الحر. قال: أنت الحر كما سمتك أمك. أنت الحر في الدنيا والآخرة انزل...).
ومن سموه الخلقي إنه لم يبدأهم بالقتال رغم تحرشاتهم الكثيرة من أمثال شمر وغيره .
ومن أمثلة البعد الأخلاقي في الطف إيثار أبي الفضل العباس (ع) في عدم شربه للماء وقلبه كصالية الجمر فلما اغترف غرفة من الماء؛ ليشرب ذكر عطش أخيه ومن معه من النساء والأطفال فرمى الماء من يده, وامتنع أن يروي غليله وقال:
يا نفس من بعد الحسين * وبعده لا كنت أن تكوني
هذا الحسين وارث المنون * وتشربين بارد المعين
تالله ما هذا فعال ديني
ولو فتشنا طوايا التاريخ القديم والحديث في الشرق والغرب على أن نجد مثل هذا الإيثار لما وجدنا .
وبرزت سمة الوفاء في أصحاب الحسين (ع) بشكل لا نظير لـه حتى أن أحدهم كان مضرجاً بدمائه, ويكاد أن يلفظ أخر أنفاسه, وعندما وقف عليه الحسين (ع) التفت إلى الحسين (ع) فقال: يا ابن رسول الله أوفيتُ؟ فقال لـه الحسين (ع):
نعم أنت إمامي في الجنة فاقرأ رسول الله عني السلام, واعلمه إني في الأثر .
وجسد الحسين (ع) مبدأ المساواة, وهو في أشد الحالات حراجة فتراه يقف على أصحابه عند استشهادهم وأحداً واحداً من دون فارق فهو يقف على زعيم كبير كحبيب بن مظاهر, والحر بن يزيد الرياحي كما يقف على العبد الأسود جون وعلى واضح التركي. فتراه يضع خده على خد جون في ساحة المعركة, وهو في لحظاته الأخيرة, ويدعو لـه , ويقول: ( اللهم بيض وجهه, وطيب ريحه, وأحشره مع الأبرار, وعرف بينه, وبين محمّد وآله ) وعندما يقف على الغلام التركي (واضح ) ويضع خده على خده يحس الغلام بذلك يبتسم مسرورا , ثم تفيض روحه إلى بارئها, وأما في جانب المواعظ العظيمة التي تقدم بها إلى جيش بن زياد فلا تحصر بكلمات بل تمثل دروساً من المعرفة, وسمواً في الروح, وطهارةً في القلب ... ويكشف فيها واقع المجتمع البشري فيقول :
(الناس عبيد الدنيا, والدين لعق على ألسنتهم, يحوطونه ما دَرَت معايشهم فإذا محصوا بالبلاء قل الديانون).
وهكذا نرى أن الحسين (ع) قد جسد الإسلام في كل مواقع حركته, وفي كل موقف من مواقفه السياسية، والفكرية، والأخلاقية، والعسكرية, والاجتماعية... إلا أن القوم طبع الله على قلوبهم فواجهوا هذا السمو بأحط دركات الخسة التي فاقت وحوش الغابات, وكشفت دناءة النفوس, فلم يكتفوا بقتله, بل قطعوا رأسه الشريف ورفعوه على الرمح, وداسو صدره بحوافر الخيول, وتركوه في ميدان المعركة بلا غسل ولا كفن, ولا دفن تصهره الشمس.
تعليق