التزيين الإلهي

تقليص
X
 
  • تصفية - فلترة
  • الوقت
  • عرض
إلغاء تحديد الكل
مشاركات جديدة
  • العلوية ام موسى الاعرجي
    • Dec 2014
    • 1699

    التزيين الإلهي

    قوله تعالى: ((كذلك زينا لكل أمة عملهم ثم إلى ربهم مرجعهم فينبئهم بما كانوا يعملون)) الزينة أمر جميل محبوب يضم إلى شيء ضماً يجلب الرغبة إليه ويحببه عند طالبه فيتحرك نحو الزينة، وينتهي إلى الشيء المتزين بها كاللباس المزين بهيئته الحسنة الذي يلبسه الإنسان لزينته فيصان به بدنه عن الحر والبرد .
    وقد أراد الله سبحانه أن يعيش الإنسان هذه العيشة الدنيوية ذات الشعب والفروع ويديم حياته الأرضية الخاصة به من طريق أعمال قواه الفعالة فيدرك ما ينفعه وما يضره بحواسه الظاهرة ثم يتصرف ثم يتصرف فيها بحواسه وقواه الباطنة ثم يتغذى بأكل أشياء وشرب أشياء ويهيج إلى النكاح بأعمال خاصة ويلبس ويأوي ويجلب ويدفع وهكذا .
    وله في جميع هذه الأعمال وما يتعلق بها لذائذ يقارنها وغايات حيوية ينتهى إليها وآخر ما ينتهي إليه الحياة السعيدة الحقيقية التي خلق لها أو الحياة التي يظنها الحياة السعيدة الحقيقية .
    وهو إنما يقصد بما يعمله من عمل ما يتصل به من اللذة المادية كلذة الطعام والشراب والنكاح وغير ذلك أو اللذة الفكرية كلذة الدواء ولذة التقدم والأنس والمدح والفخر والذكر الخالد والانتقام والثروة والأمن وغير ذلك مما لا يحصى .
    وهذه اللذائذ أمور زينت بها هذه الأعمال ومتعلقاتها ، وقد سخر الله سبحانه بها الإنسان فهو يوقع الأفعال ويتوخى الأعمال لأجلها، وبتحققها يتحقق الغايات الإلهية والأغراض التكوينية كبقاء الشخص ، ودوام النسل ، ولولا ما في الأكل والشرب والنكاح من اللذة المطلوبة لم يكن الإنسان ليتعب نفسه بهذه الحركات الشاقة المتعبة لجسمه والثقيلة على روحه فاختل بذلك نظام الحياة ، وفني الشخص وانقطع النسل فانقرض النوع ، وبطلت حكمة التكوين بلا ريب في ذلك .
    وما كان من هذه الزينة طبيعية مغروزة في طبائع الأشياء كالطعوم اللذيذة التي في أنواع الأغذية ولذة النكاح فهي مستندة إلى الخلقة منسوبة إلى الله سبحانه واقعة في طريق سوق الأشياء إلى غاياتها التكوينية ، ولا سائق لها إليها إلا الله سبحانه فهو الذي أعطى كل شيء خلقه ثم هدى .
    وما كان منها لذة فكرية تصلح حياة الإنسان في دنياه ولا تضره في آخرته فهى منسوبة أيضا إلى الله سبحانه لأنها ناشئة عن الفطرة السليمة التي فطر الله الناس عليها لا تبديل لخلق الله قال تعالى : ((حبب إليكم الإيمان وزينه في قلوبكم)) (الحجرات : 7) .
    وما كان منها لذة فكرية توافق الهوى وتشقى في الأخرى والأولى بإبطال العبودية وإفساد الحياة الطيبة فهي لذة منحرفة عن طريق الفطرة السليمة فإن الفطرة هي الخلقة الإلهية التي نظمها الله بحيث تسلك إلى السعادة والأحكام الناشئة منها والأفكار المنبعثة منها لا تخالف أصلها الباعث لها فإذا خالفت الفطرة ولم تؤمن السعادة فليست بالمترشحة منها بل إنما نشأت من نزعة شيطانية وعثرة نفسانية فهي منسوبة إلى الشيطان كاللذائذ الوهمية الشيطانية التي في الفسوق بأنواعه من حيث إنه فسوق فإنها زينة منسوبة إلى الشيطان غير منسوبة إلى الله سبحانه إلا بالإذن قال تعالى حكاية عن قول إبليس: ((لأزينن لهم في الأرض ولأغوينهم أجمعين)) (الحجر:39) وقال تعالى: ((فزين لهم الشيطان أعمالهم)) (النحل : 63) .
    أما أنها لا تنسب إلى الله سبحانه بلا واسطة فإنه تعالى هو الذي نظم نظام التكوين فساق الأشياء فيه إلى غاياتها وهداها إلى سعادتها ثم فرع على فطرة الإنسان الكونية السليمة عقائد وآراء فكرية يبنى عليها أعماله فتسعده وتحفظه عن الشقاء وخيبه المسعى ، وجلت ساحته عز اسمه أن يعود فيأمر بالفحشاء وينهى عن المعروف ويبعث إلى كل قبيح شنيع فيأمر الناس جميعا بالحسن والقبيح معا وينهى الناس جميعا عن القبيح والحسن معاً فيختل بذلك نظام التكليف والتشريع ثم الثواب والعقاب ثم يصف الدين الذي هذه صفته بأنه دين قيم فطرة الله التي فطر الناس عليها ، والفطرة بريئة من هذا التناقض وأمثاله متأبية مستنكفة من أن ينسب إليها ما تعده من السفه والعتاهية .
    فإن قلت: ما المانع من أن تنسب الدعوة إلى الطاعة والمعصية إليه تعالى بمعنى أن النفوس التي تزينت بالتقوى وتجهزت بسريرة صالحة يبعثها الله إلى الطاعة والعمل الصالح ، والنفوس التي تلوثت بقذارة الفسوق واكتست بخباثة الباطن يدعوها الله سبحانه إلى الفجور والفسق بحسب اختلاف استعداداتها فالداعي إلى الخير والشر والباعث إلى الطاعة والمعصية جميعا هو الله سبحانه .
    قلت : هذا نظر آخر غير النظر الذي كنا نبحث عنه وهذا هو النظر في الطاعة والمعصية من حيث توسيط أسباب متخللة بينهما وبينه تعالى فلا شك أن الحالات الحسنة أو السيئة النفسانية لها دخل في تحقق ما يناسبها من الطاعات أو المعاصي ، وعلى تقديرها تنسب الطاعة والمعصية إليها بلا واسطة وإلى الله سبحانه بالإذن فالله سبحانه هو الذي أذن لكل سبب أن يتسبب إلى مسببه . وأما الذي نحن فيه من النظر فهو النظر في حال الطاعة والمعصية من حيث تشريع الأحكام ، ومن حيث انبعاث النفوس إليهما مع قطع النظر عن سائر الأسباب الباعثة الداعية إليهما فهل من الممكن أن يقال : أن الله سبحانه يدعو إلى الإيمان والكفر جميعا أو يبعث إلى الطاعة والمعصية معا ؟ وهو الذي يصف دينه بأنه الدين القيم على المجتمع الإنساني المبنى على الفطرة الإلهية وهذه الشرائع الإلهية ثم الدواعي النفسانية الموافقة لها كلها فطرية والدواعي النفسانية الموافقة لهوى النفس المخالفة لأحكام الشريعة مخالفة للفطرة لا تنسب الدعوة إليها إلى ذي فطرة سليمة فمن المحال أن تنسب إليه تعالى قال تعالى: ((وإذا فعلوا فاحشة قالوا وجدنا عليها آباءنا والله أمرنا بها قل إن الله لا يأمر بالفحشاء أتقولون على الله ما لا تعلمون ، قل أمر ربى بالقسط)) (الأعراف : 29).
    وأما أنها منسوبة إليه تعالى بالإذن فإن الملك عام والسلطنة الإلهية مطلقة وحاشا أن يتأتى لأحد أن يتصرف في شئ من ملكه إلا بإذنه فما يزينه الشيطان في قلوب أوليائه من الشرك والفسق وجميع ما ينتهي بوجه من الوجوه إلى سخط الله سبحانه فإنما ذلك عن إذن إلهي تتم به سنة الامتحان والاختبار الذي لا يتم دونه نظام التشريع ومسلك الدعوة والهداية ، قال تعالى: ((ما من شفيع إلا من بعد إذنه)) (يونس : 3) وقال: ((وليمحص الله الذين آمنوا ويمحق الكافرين)) (آل عمران : 141) . فتبين أن لزينة الأعمال نسبة إليه تعالى أعم مما بواسطة الإذن أو بلا واسطة ، وعليه يجرى قوله تعالى: ((كذلك زينا لكل أمة عملهم)) (الآية : 108) وأوضح منه في الانطباق على ما تقدم قوله تعالى: ((إنا جعلنا ما على الأرض زينة لها لنبلوهم أيهم أحسن عملاً)) (الكهف : 7)
يعمل...
X