قال تعالى: ((اعلموا أنما الحياة الدنيا لعب ولهو وزينة وتفاخر بينكم وتكاثر في الأموال والأولاد كمثل غيث أعجب الكفار نباته ثم يهيج فتراه مصفراً ثم يكون حطاماً وفي الآخرة عذاب شديد ومغفرة من الله ورضوان وما الحياة الدنيا إلا متاع الغرور))(1)
هل وقف الإسلام من الحياة الدنيا موقفاً سلبياً؟ أي هل أمر برفضها والتجافي عنها وترك ما فيها, والانصراف إلى التعبد, والانقطاع عن اللذائذ المادية التي وهبها الله للإنسان كما هو معروف لدى بعض المذاهب الصوفية؟ أم وقف منها موقف الموازنة؟
والجواب: إنَّ الإسلام لم يقف من الدنيا موقف الرفض كغرض بذاته, وإنما حاول أن يحرر الإنسان من الأطماع الدنيوية, والخصال الدنيّة كالطمع, والجشع, والحرص, والبخل...الخ لئلا يستغرق في زخارف الدنيا، فينسى قيمه ومبادئه, ويتنازل عنها خضوعاً لأهوائه ونزواته. إنَّ الله لم يخلق الإنسان عبثاً, ولم يتركه سدى, بل جعل لوجوده هدفاً وغاية؛ ولأجل تحقيق هذا الهدف استخلف الإنسان في الأرض، (والخلافة تستبطن المسؤولية)، فالحياة الدنيا لم توجد لِذَاتِها ولِلَذَّاتها الدنيوية المادية وحسب, وإنما وجدت لهدف أسمى, هذا الهدف هو الذي تتكامل فيه شخصية الإنسان, وتتحقق فيه إنسانيته الحقة, ولا يتحقق ذلك إلا بمعرفة الله كما في قوله تعالى: ((وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالأِنْسَ إِلا لِيَعْبُدُونِ))(الذريات:56) وقد صور هذه الحقيقة سيد الشهداء الإمام الحسين (ع) أبدع تصوير بقوله: (يا أيها الناس إن الله ما خلق العباد إلا؛ ليعرفوه فإذا عرفوه عبدوه, فإذا عبدوه استغنوا بعبادته عن عبادة من سواه)(2)
إن الإسلام لم يُجوز للمؤمن أن يترك الدنيا, أو يستغرق فيها, وإنما يجب أن يعيش فيها بتوازن بين لذاته البدنية المشروعة, ولذاته العقلية, والفكرية, يقول رسول الله (ص): (ليس بخيركم من ترك دنياه لأخرته, ولا آخرته لدنياه حتى يصيب منهما جميعاً فإن إحداهما بُلغة الأخرى, ولا تكونوا كلاً على الناس)(3) وفي حديث آخر: (واعمل لدنياك كأنك تعيش أبدا, واعمل لآخرتك كأنك تموت غدا)(4)
ومعنى الحديثين صريح أن المسلم ينبغي له أن يوازن بين المطالب المادية, والمطالب الروحية الأخروية, وفي تصورنا أنه ليس هناك فصل بين عمل الدنيا وعمل الآخرة؛ لأن العمل في الدنيا لأجل التكامل الإنساني في مرحلة من مراحل الحياة، ثم بعد أن يتكامل باستثمار طاقاته البدنية والفكرية ينقله الله إلى مرحلة أخرى أرقى وأطهر وأبقى... فإذن عمل الدنيا هو متاع لسفر الآخرة، يقول أمير المؤمنين (ع): (أما بعد فإن الله سبحانه قد جعل الدنيا لما بعدها, وابتلى فيها أهلها؛ ليعلم أيهم أحسن عملا، ولسنا للدنيا خلقنا, ولا بالسعي فيها أمرنا, وإنما وضعنا فيها لنبتلى بها)(5)
ومن هذا النص الشريف نفهم أن الدنيا وسيلة وطريق للتكامل البشري, وهو يحصل للمرء بمقدار سعيه وجهده في تسخير الطاقات الدنيوية لهذا الغرض؛ ليكون صالحاً لدخول دار رحمة الله تعالى.
يقول المفكر الإسلامي الشهيد الشيخ حسين معن: (فإن للإسلام ثلاثة مواقف من الدنيا: موقف نظري, وموقف تشريعي, وموقف أخلاقي, ويتمثل الموقف النظري في اعتبار الحياة الدنيا مرحلة من مراحل الحياة, وليست كل الحياة ((وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا فِي الآخرة إلا مَتَاعٌ)) (الرعد:26) وفي كونها دار للفتنة والمسؤولية يؤكد فيها الإنسان ذاته, واختباره بين الخير والشر ((الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً وَهُوَ الْعَزِيزُ الْغَفُورُ)) (الملك:2) وفي معانيها من مال وبنين ونساء... نِعمٌ إلهية تستحق الشكر والحمد والانفتاح النفسي, وفي كون العامل الدنيوي عاملاً رئيساً محركاً في التأريخ... الخ. وأما الموقف التشريعي فيتمثل في السماح ويحث على استغلال الخيرات والنعم الإلهية انطلاقا من مفهوم الخلافة عن الله, وفي تنظيم عملية استغلال النعمة بالشكل الذي ينسجم مع مصالح الإنسان العامة, ودور الإنسان كعابد لله تعالى, ويتمثل الموقف الأخلاقي في محاولة الإسلام تحرير الإنسان المسلم من الأهواء والشهوات وحب الدنيا)(6)
وتأسيساً على ذلك فإن الموقف النظري يعتبر الحياة الدنيا مرحلة من مراحل حياة الإنسان وفيها يفجر طاقته البدنية, والروحية, والفكرية,ليستغل ما وهبه الله من طاقات في تعبيد الناس لله تعالى, وليس من حقه أن يبقى كمية مهملة, وإنما ينبغي أن يعرف موقعه في الحياة الدنيا,ويأخذ دوره كخليفة لله تعالى في أرضه فالإنسان في هذه الحياة مسؤول عن نفسه وعن مجتمعه, وليس له أن يتنصل عن هذه المسؤولية بحال , يقول تعالى: ((فَاسْتَمْسِكْ بِالَّذِي أُوحِيَ إِلَيْكَ إِنَّكَ عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ * وَإِنَّهُ لَذِكْرٌ لَكَ وَلِقَوْمِكَ وَسَوْفَ تُسْأَلونَ)) (الزخرف:43-44)
وفي أدق بيان لأمير المؤمنين يتبين لنا سعة مسؤولية الإنسان في الدنيا يقول (ع): (اتقوا الله في عباده, وبلاده فإنكم مسؤولون حتى عن البقاع والبهائم, أطيعوا الله, ولا تعصوه, وإذا رأيتم الخير فخذوا به, وإذا رأيتم الشر فأعرضوا عنه)(7)
إذن لما كان الإنسان المسلم مسؤول في هذه الدنيا أمام الله تعالى لكونه خليفة عنه تعالى فكيف يتسنى له أن يهملها, ويعتزل أهلها, والمسؤولية تقتضي أن يمارس دوره فيها وهو تدعيم الحق والعدل, وإقامة كيان الإسلام الحق.
هذا من جانب ومن جانب آخر فإن الدنيا لما كانت مرحلة من مراحل حياة الإنسان يكسب فيها لما بعدها. إذن ينبغي للإنسان أن يعتبرها دورة تربوية يستعد فيها لمواصلة السير إلى الله ونيل رضوانه... سمع أمير المؤمنين (ع) رجلاً يذم الدنيا وهو مغرور بها فأجابه (ع) بكلام طويل منه: (الدنيا دار صدق لمن صدقها, و دار عافية لمن فهم عنها, ودار غنى لمن تزود منها مسجد أنبياء الله, ومهبط وحيه, و مصلى ملائكته, ومتجر أوليائه اكتسبوا فيها الرحمة, وربحوا فيها الجنة)(8) فإذن الدنيا في منطق الإسلام دار الصدق, والعافية, والغنى والموعظة, والعبادة، وهي متجر يربح فيها قوم, ويخسر آخرون والربح والخسارة متوقف على إرادة الإنسان وعزمه وهدفيته في الحياة.
(فالمؤثر في حسن الأشياء, وقبحها وذمها ومدحها هو الإنسان فإنه يقدر أن يستفيد من كل شيء أحسن استفادة إذا نظر إليه بالتعقل,والتدبر اللائق. فالدنيا وما فيها كتاب تُلقى فيه دروسٌ نافعة للمتعلم اللائق والطالب الشائق, ولكن كل راغب عن الاستفادة يمقتها, ويعرض عنها, ويذمها كالطالب المدرسي اللاهي اللاعب المعرض عن تحصيل الدروس المقررة في المدارس والمكاتب, فإنه ينظر إلى الكتب المدرسية والتعليمات المدرسية نظر النفور والعداوة, ويحسبها عدوة لملاهيه, ومانعه عما يشتهيه, ويتهمها بالجرم, ويحكم عليها بالعقوبة)(9)
وقد يعترض معترض فيقول: إذن لماذا وردت الكثير من الروايات والآيات في ذم الدنيا وبأنها لعب ولهو, وأنها دار الغرور خَداعة غَرارة. وإن مثلها كمثل الحية مسها ناعم والسم ناقع في جوفها, وإنها دار بالبلاء محفوفة, وبالفناء معروفة, وبالغدر موصوفة... وغير ذلك من الأوصاف التي وردت في الروايات الكثيرة. فبماذا تفسرون ذلك؟
نقول: إن الناس في الدنيا صنفان: صنف يملك الدنيا ولا تملكه, وصنف تملكه ولا يملكها، والمذموم منها هو الصنف الثاني هذا الصنف الذي استولى حب الدنيا على قلبه , وأصبحت الدنيا قطب رحى حياته كلها, نظر إليها فانبهر به , واستغرق فيها فأغرقته إلى آذانه, ولم يعد يرى ما وراءها فلا يطلب سواها حتى استوعبت كل حياته فأنسته مبادئ الحق والعدل بل ينسى حتى إنسانيته, فيتحول إلى بهيمة همها علفها لا تنظر إلى حاضرها ولا إلى مستقبلها هذه هي الدنيا المذمومة في الإسلام, لأن الإنسان عندما يصبح بتلك الصورة فإنه سيصبح كالأعمى لا يبصر غير زخارف الدنيا أما القيم الإنسانية, والأخلاقية والمبدئية فإنها تسحق تحت أقدامه بينما الإسلام أراد من الإنسان أن يتخذ الدنيا وسيلة لسيادة العدل, والحق, والخير، والجمال بين أبناء آدم.
إن الإنسان إذا استوعب حب الدنيا كل جوانب حياته ووجوده فإنه يتجمد فيها، ويعمى عن سواها, وما أروع وأدق تعبير أمير المؤمنين (ع) في بيان تلك الحالة حيث يقول: (إنما الدنيا منتهى بصر الأعمى, لا يبصر مما وراءها شيئا, والبصير ينفذها بصره، ويعلم أن الدار وراءها فالبصير منها شاخص, والأعمى إليها شاخص, والبصير منها متزود, والأعمى لها متزود)(10)
وفي نص آخر يبين أمير المؤمنين كيف يجب أن يتعامل الإنسان مع الدنيا لكي لا تستحوذ عليه، وتعمى بصيرته يقول: (ومن أبصر بها بصرته, ومن أبصر إليها أعمته)(11) وفرق واضح بين من أبصر بها, ومن أبصر إليها, فالأول اتخذها وسيلة وطريقاً؛ لتقربه من الله, والتزود لسفره البعيد, والثاني اتخذها غاية وهدفاً.
يقول العارف الطهراني: (ورد في ذم الدنيا الكثير من الروايات وعد الإنباء عن الدنيا والإعراض عنها سبباً للسعادة كما عد الإقبال عليها سبباً للشقاء. ومعنى الدنيا العيش على أساس التخيلات والشهوات واللذائذ الفانية والغفلة عن البرنامج الحقيقي للإنسان والجهل بالله... الخ)(12)
الهوامش:
(1) سورة الحديد: 20 .
(2) أبو الفتوح الكراجكي, كنز الفوائد:151 .
(3) ابن عساكر, تاريخ مدينة دمشق: 65/197.
(4) المحدث المجلسي, بحار الأنوار: 44/139.
(5) نهج البلاغة, خطب الإمام علي (ع): 3/112.
(6) الشهيد الشيخ حسين معن, نظرات في الإعداد الروحي: 134 (ط: دار الهادي- بيروت).
(7) نهج البلاغة: خطبة:167.
(8) الشيخ الحويزي, تفسير نور الثقلين: 4/217.
(9) حبيب الله الخوئي, منهاج البراعة: 21/201.
(10) ابن أبي الحديد, نهج البلاغة، خطبة: 133.
(11) المصدر نفسه، خطبة: 82 .
(12) معرفة المباني: 98.
هل وقف الإسلام من الحياة الدنيا موقفاً سلبياً؟ أي هل أمر برفضها والتجافي عنها وترك ما فيها, والانصراف إلى التعبد, والانقطاع عن اللذائذ المادية التي وهبها الله للإنسان كما هو معروف لدى بعض المذاهب الصوفية؟ أم وقف منها موقف الموازنة؟
والجواب: إنَّ الإسلام لم يقف من الدنيا موقف الرفض كغرض بذاته, وإنما حاول أن يحرر الإنسان من الأطماع الدنيوية, والخصال الدنيّة كالطمع, والجشع, والحرص, والبخل...الخ لئلا يستغرق في زخارف الدنيا، فينسى قيمه ومبادئه, ويتنازل عنها خضوعاً لأهوائه ونزواته. إنَّ الله لم يخلق الإنسان عبثاً, ولم يتركه سدى, بل جعل لوجوده هدفاً وغاية؛ ولأجل تحقيق هذا الهدف استخلف الإنسان في الأرض، (والخلافة تستبطن المسؤولية)، فالحياة الدنيا لم توجد لِذَاتِها ولِلَذَّاتها الدنيوية المادية وحسب, وإنما وجدت لهدف أسمى, هذا الهدف هو الذي تتكامل فيه شخصية الإنسان, وتتحقق فيه إنسانيته الحقة, ولا يتحقق ذلك إلا بمعرفة الله كما في قوله تعالى: ((وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالأِنْسَ إِلا لِيَعْبُدُونِ))(الذريات:56) وقد صور هذه الحقيقة سيد الشهداء الإمام الحسين (ع) أبدع تصوير بقوله: (يا أيها الناس إن الله ما خلق العباد إلا؛ ليعرفوه فإذا عرفوه عبدوه, فإذا عبدوه استغنوا بعبادته عن عبادة من سواه)(2)
إن الإسلام لم يُجوز للمؤمن أن يترك الدنيا, أو يستغرق فيها, وإنما يجب أن يعيش فيها بتوازن بين لذاته البدنية المشروعة, ولذاته العقلية, والفكرية, يقول رسول الله (ص): (ليس بخيركم من ترك دنياه لأخرته, ولا آخرته لدنياه حتى يصيب منهما جميعاً فإن إحداهما بُلغة الأخرى, ولا تكونوا كلاً على الناس)(3) وفي حديث آخر: (واعمل لدنياك كأنك تعيش أبدا, واعمل لآخرتك كأنك تموت غدا)(4)
ومعنى الحديثين صريح أن المسلم ينبغي له أن يوازن بين المطالب المادية, والمطالب الروحية الأخروية, وفي تصورنا أنه ليس هناك فصل بين عمل الدنيا وعمل الآخرة؛ لأن العمل في الدنيا لأجل التكامل الإنساني في مرحلة من مراحل الحياة، ثم بعد أن يتكامل باستثمار طاقاته البدنية والفكرية ينقله الله إلى مرحلة أخرى أرقى وأطهر وأبقى... فإذن عمل الدنيا هو متاع لسفر الآخرة، يقول أمير المؤمنين (ع): (أما بعد فإن الله سبحانه قد جعل الدنيا لما بعدها, وابتلى فيها أهلها؛ ليعلم أيهم أحسن عملا، ولسنا للدنيا خلقنا, ولا بالسعي فيها أمرنا, وإنما وضعنا فيها لنبتلى بها)(5)
ومن هذا النص الشريف نفهم أن الدنيا وسيلة وطريق للتكامل البشري, وهو يحصل للمرء بمقدار سعيه وجهده في تسخير الطاقات الدنيوية لهذا الغرض؛ ليكون صالحاً لدخول دار رحمة الله تعالى.
يقول المفكر الإسلامي الشهيد الشيخ حسين معن: (فإن للإسلام ثلاثة مواقف من الدنيا: موقف نظري, وموقف تشريعي, وموقف أخلاقي, ويتمثل الموقف النظري في اعتبار الحياة الدنيا مرحلة من مراحل الحياة, وليست كل الحياة ((وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا فِي الآخرة إلا مَتَاعٌ)) (الرعد:26) وفي كونها دار للفتنة والمسؤولية يؤكد فيها الإنسان ذاته, واختباره بين الخير والشر ((الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً وَهُوَ الْعَزِيزُ الْغَفُورُ)) (الملك:2) وفي معانيها من مال وبنين ونساء... نِعمٌ إلهية تستحق الشكر والحمد والانفتاح النفسي, وفي كون العامل الدنيوي عاملاً رئيساً محركاً في التأريخ... الخ. وأما الموقف التشريعي فيتمثل في السماح ويحث على استغلال الخيرات والنعم الإلهية انطلاقا من مفهوم الخلافة عن الله, وفي تنظيم عملية استغلال النعمة بالشكل الذي ينسجم مع مصالح الإنسان العامة, ودور الإنسان كعابد لله تعالى, ويتمثل الموقف الأخلاقي في محاولة الإسلام تحرير الإنسان المسلم من الأهواء والشهوات وحب الدنيا)(6)
وتأسيساً على ذلك فإن الموقف النظري يعتبر الحياة الدنيا مرحلة من مراحل حياة الإنسان وفيها يفجر طاقته البدنية, والروحية, والفكرية,ليستغل ما وهبه الله من طاقات في تعبيد الناس لله تعالى, وليس من حقه أن يبقى كمية مهملة, وإنما ينبغي أن يعرف موقعه في الحياة الدنيا,ويأخذ دوره كخليفة لله تعالى في أرضه فالإنسان في هذه الحياة مسؤول عن نفسه وعن مجتمعه, وليس له أن يتنصل عن هذه المسؤولية بحال , يقول تعالى: ((فَاسْتَمْسِكْ بِالَّذِي أُوحِيَ إِلَيْكَ إِنَّكَ عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ * وَإِنَّهُ لَذِكْرٌ لَكَ وَلِقَوْمِكَ وَسَوْفَ تُسْأَلونَ)) (الزخرف:43-44)
وفي أدق بيان لأمير المؤمنين يتبين لنا سعة مسؤولية الإنسان في الدنيا يقول (ع): (اتقوا الله في عباده, وبلاده فإنكم مسؤولون حتى عن البقاع والبهائم, أطيعوا الله, ولا تعصوه, وإذا رأيتم الخير فخذوا به, وإذا رأيتم الشر فأعرضوا عنه)(7)
إذن لما كان الإنسان المسلم مسؤول في هذه الدنيا أمام الله تعالى لكونه خليفة عنه تعالى فكيف يتسنى له أن يهملها, ويعتزل أهلها, والمسؤولية تقتضي أن يمارس دوره فيها وهو تدعيم الحق والعدل, وإقامة كيان الإسلام الحق.
هذا من جانب ومن جانب آخر فإن الدنيا لما كانت مرحلة من مراحل حياة الإنسان يكسب فيها لما بعدها. إذن ينبغي للإنسان أن يعتبرها دورة تربوية يستعد فيها لمواصلة السير إلى الله ونيل رضوانه... سمع أمير المؤمنين (ع) رجلاً يذم الدنيا وهو مغرور بها فأجابه (ع) بكلام طويل منه: (الدنيا دار صدق لمن صدقها, و دار عافية لمن فهم عنها, ودار غنى لمن تزود منها مسجد أنبياء الله, ومهبط وحيه, و مصلى ملائكته, ومتجر أوليائه اكتسبوا فيها الرحمة, وربحوا فيها الجنة)(8) فإذن الدنيا في منطق الإسلام دار الصدق, والعافية, والغنى والموعظة, والعبادة، وهي متجر يربح فيها قوم, ويخسر آخرون والربح والخسارة متوقف على إرادة الإنسان وعزمه وهدفيته في الحياة.
(فالمؤثر في حسن الأشياء, وقبحها وذمها ومدحها هو الإنسان فإنه يقدر أن يستفيد من كل شيء أحسن استفادة إذا نظر إليه بالتعقل,والتدبر اللائق. فالدنيا وما فيها كتاب تُلقى فيه دروسٌ نافعة للمتعلم اللائق والطالب الشائق, ولكن كل راغب عن الاستفادة يمقتها, ويعرض عنها, ويذمها كالطالب المدرسي اللاهي اللاعب المعرض عن تحصيل الدروس المقررة في المدارس والمكاتب, فإنه ينظر إلى الكتب المدرسية والتعليمات المدرسية نظر النفور والعداوة, ويحسبها عدوة لملاهيه, ومانعه عما يشتهيه, ويتهمها بالجرم, ويحكم عليها بالعقوبة)(9)
وقد يعترض معترض فيقول: إذن لماذا وردت الكثير من الروايات والآيات في ذم الدنيا وبأنها لعب ولهو, وأنها دار الغرور خَداعة غَرارة. وإن مثلها كمثل الحية مسها ناعم والسم ناقع في جوفها, وإنها دار بالبلاء محفوفة, وبالفناء معروفة, وبالغدر موصوفة... وغير ذلك من الأوصاف التي وردت في الروايات الكثيرة. فبماذا تفسرون ذلك؟
نقول: إن الناس في الدنيا صنفان: صنف يملك الدنيا ولا تملكه, وصنف تملكه ولا يملكها، والمذموم منها هو الصنف الثاني هذا الصنف الذي استولى حب الدنيا على قلبه , وأصبحت الدنيا قطب رحى حياته كلها, نظر إليها فانبهر به , واستغرق فيها فأغرقته إلى آذانه, ولم يعد يرى ما وراءها فلا يطلب سواها حتى استوعبت كل حياته فأنسته مبادئ الحق والعدل بل ينسى حتى إنسانيته, فيتحول إلى بهيمة همها علفها لا تنظر إلى حاضرها ولا إلى مستقبلها هذه هي الدنيا المذمومة في الإسلام, لأن الإنسان عندما يصبح بتلك الصورة فإنه سيصبح كالأعمى لا يبصر غير زخارف الدنيا أما القيم الإنسانية, والأخلاقية والمبدئية فإنها تسحق تحت أقدامه بينما الإسلام أراد من الإنسان أن يتخذ الدنيا وسيلة لسيادة العدل, والحق, والخير، والجمال بين أبناء آدم.
إن الإنسان إذا استوعب حب الدنيا كل جوانب حياته ووجوده فإنه يتجمد فيها، ويعمى عن سواها, وما أروع وأدق تعبير أمير المؤمنين (ع) في بيان تلك الحالة حيث يقول: (إنما الدنيا منتهى بصر الأعمى, لا يبصر مما وراءها شيئا, والبصير ينفذها بصره، ويعلم أن الدار وراءها فالبصير منها شاخص, والأعمى إليها شاخص, والبصير منها متزود, والأعمى لها متزود)(10)
وفي نص آخر يبين أمير المؤمنين كيف يجب أن يتعامل الإنسان مع الدنيا لكي لا تستحوذ عليه، وتعمى بصيرته يقول: (ومن أبصر بها بصرته, ومن أبصر إليها أعمته)(11) وفرق واضح بين من أبصر بها, ومن أبصر إليها, فالأول اتخذها وسيلة وطريقاً؛ لتقربه من الله, والتزود لسفره البعيد, والثاني اتخذها غاية وهدفاً.
يقول العارف الطهراني: (ورد في ذم الدنيا الكثير من الروايات وعد الإنباء عن الدنيا والإعراض عنها سبباً للسعادة كما عد الإقبال عليها سبباً للشقاء. ومعنى الدنيا العيش على أساس التخيلات والشهوات واللذائذ الفانية والغفلة عن البرنامج الحقيقي للإنسان والجهل بالله... الخ)(12)
الهوامش:
(1) سورة الحديد: 20 .
(2) أبو الفتوح الكراجكي, كنز الفوائد:151 .
(3) ابن عساكر, تاريخ مدينة دمشق: 65/197.
(4) المحدث المجلسي, بحار الأنوار: 44/139.
(5) نهج البلاغة, خطب الإمام علي (ع): 3/112.
(6) الشهيد الشيخ حسين معن, نظرات في الإعداد الروحي: 134 (ط: دار الهادي- بيروت).
(7) نهج البلاغة: خطبة:167.
(8) الشيخ الحويزي, تفسير نور الثقلين: 4/217.
(9) حبيب الله الخوئي, منهاج البراعة: 21/201.
(10) ابن أبي الحديد, نهج البلاغة، خطبة: 133.
(11) المصدر نفسه، خطبة: 82 .
(12) معرفة المباني: 98.
تعليق