المساعد الشخصي الرقمي

مشاهدة النسخة كاملة : التلاوة الحقيقية


العلوية ام موسى الاعرجي
04-01-2015, 07:25 PM
((الذين آتيناهم الكتاب يتلونه حق تلاوته أولئك يؤمنون به ومن يكفر به فأولئك هم الخاسرون))(البقرة:121)
اختلف المفسرون في تفسير (الذين آتاهم الله الكتاب)، قيل: هم قوم من اليهود والنصارى ليسوا متبعين للهوى من أهل الحق, وقيل: هم المؤمنون برسول الله (ص)، والمعنى واضح لتوجيه المؤمنين إلى تلاوة كتاب الله، والتفقه به، والعمل بأحكامه.
والتلاوة لغة كما قال الراغب: (التلاوة تختص بإتِّبَاعِ كتب الله المنزلة تارة بالقراءة، وتارة بالارتسام لما فيها من أمر، ونهي، وترغيب، وترهيب)
أما التلاوة الحقيقية: فالآية توحي بأن يقرأ الإنسانُ القرآنَ بتفاعل روحي وفكري يهز كيانه، ويخشع قلبه، ويرق، ويفيض دمعه، وليست التلاوةُ حركةَ لسان، وترديدَ ألفاظ، وإنَّما هي عملية تلقٍّ واعٍ لرسالة الله تعالى تفتح العقل، وتنور القلب، وتحرك الجوارح إلى طاعة الله، وتضيء سبيل الرشاد، وتهدي إلى ساحل النجاة، فتضع الإنسان على جادة الهدى والرشاد، وقد جاءت كل المعاني المفسرة لحقيقة التلاوة لتنتهي إلى نتيجة واحدة نذكرها في نقاط:
أولاً: يتبعونه حقَّ إتِّباعِه، ولا يحرفونه، ثم يعملون بحلاله، ويقفون عند حرامه.
ثانياً: إنَّهم يصفونه حقَّ صفته في كتبهم لمن يسألهم من الناس.
ثالثاً: إنَّهم يقفون عند ذكر الجنة والنار يسألون الأولى، ويستعيذون من الثانية.
رابعاً: يقرؤونه حق قراءته، فيعملون بمحكمه، ويؤمنون بمتشابهه، ويكلون ما أشكل عليهم إلى عالمه.
وإذا تدبرنا في هذه المعاني التي أوردها أغلب المفسرين نجد أنَّها تنتهي إلى نتيجة واحدة وهي: أنَّ التلاوة يجب أن تؤدي بالإنسان إلى التمسك بما تمليه عليه، ويؤيد هذا المعنى قوله تعالى: ((فاستمسك بالذي أوحي إليك إنك على صراط مستقيم * وإنه لذكر لك ولقومك وسوف تسألون)) (الزخرف: 43-44) وسبيل التمسك بالكتاب الكريم والاعتصام به أن يتلوه حق تلاوته (التي يريد بها القراءة عن تدبر، وتفكير، وروحية واعية تتحرك من موقع البحث عن الحق لا من موقع التعصب الأعمى، فإنَّ ذلك هو سبيل الانفتاح على آيات الله، وما تشتمل عليه من دلائل الحق وبراهينه، حيث يقود ذلك إلى الإيمان، ومن خلال ذلك نفهم أنَّ الكفر لا ينشأ من حالة فكرية مضادة، بل من حالة اللامبالاة، والغفلة الناشئة من عدم التوفر على القراءة الواعية والفكر المسؤول، ممّا يجعل من الإنسان إنساناً يتحرك في جو التعنت، والتعصب، والعناد الذي لا يملك معه الانفتاح على الحق من قريب أو بعيد)
وقد أوجز الإمام الصادق (ع) تفسير هذه الآية الكريمة بقوله: (يرتلون آياته، ويتفقهون به، ويعملون بأحكامه، ويرجون وعده، ويخافون وعيده، ويعتبرون بقصصه، ويأتمرون بأوامره، وينتهون بنواهيه، ما هو والله حفظ آياته، ودرس حروفه، وتلاوة سوره، ودرس أعشاره وأخماسه، حفظوا حروفه، وأضاعوا حدوده، وإنما هو تدبر آياته، والعمل بأحكامه، قال الله تعالى: ((كتاب أنزلناه إليك مبارك ليدبروا آياته)) )
ومن خلال هذا الحديث تتضح لنا وسائل التلقي نظرياً وعملياً بعبارات موجزة جامعة ومانعة، وهذه الوسائل هي:
1- ترتيل آياته: والترتيل هو نطق الكلمة بسهولة واستقامة، قال تعالى: ((ورتل القرآن ترتيلاً)) أي بسهولة في تبيين، وتوضيح، وتثبت، واسترسال؛ ليقرع به القلوب القاسية... فمعنى ورتلناه ترتيلاً أي بيناه تبياناً، وأرسلناه ترسيلاً، بعضه في أثر البعض، وروي أنَّ النبي (ص) قال: (يا ابن عباس، إذا قرأت القرآن فرتله ترتيلاً)، قال: (وما الترتيل؟) قال: (بينه تبييناً، ولا تنثره نثر الدقل، ولا تهذه هذَّ الشعر، قفوا عند عجائبه، وحَرِّكوا به القلوب، ولا يكونَنَّ همُّ أحدكم آخر السورة)
وعن عبد الله بن سليمان قال: (سألت أبا عبد الله (ع) عن قول الله عز وجلّ: ((ورتل القرآن ترتيلاً)) قال: قال أمير المؤمنين صلوات الله عليه: بيِّنه تبياناً، ولا تهذه هذَّ الشعر، ولا تنثره نثر الرمل، ولكن افزعوا (اقرعوا) قلوبكم القاسية، ولا يكن همُّ أحدكم آخر السورة)
والهدف من ذلك أن تكون قراءة القرآن ذات تأثير في وجدان الإنسان، ولا تكن مجرد لقلقة لسان، وإنما يتوقف عند آياته متفكراً في عجائبه، فعن علي بن أبي حمزة، قال: (دخلت على أبي عبد الله (ع)، فقال له أبو بصير: جعلت فداك، أقرأ القرآن في شهر رمضان في ليلة؟ فقال: لا، قال: ففي ليلتين؟ قال: لا، قال: ففي ثلاث؟ قال: ها وأشار بيده، ثم قال: يا أبا محمد، إنَّ لرمضان حقاً، وحرمةً، لا يشبهه شيء من الشهور، وكان أصحاب محمد (ص) يقرأ أحدهم القرآن في شهر أو أقل، إنَّ القرآن لا يقرأ هذرمة، ولكن يرتل ترتيلاً، فإذا مررت بآية فيها ذكر الجنة، فقف عندها، وسل الله عز وجلّ الجنة، وإذا مررت بآية فيها ذكر النار فقف عندها، وتعوذ بالله من النار)
إذن ليس العبرة في مقدار ما يقرأ الإنسان من القرآن، وإنَّما العبرة والأهمية في مقدار ما يتفاعل معه، فيهتز به كيانه، ويخشع به قلبه، ويلين به جلده، قال تعالى: ((وإذا سمعوا ما أنزل إلى الرسول ترى أعينهم تفيض من الدمع مما عرفوا من الحق يقولون ربنا آمنا فاكتبنا مع الشاهدين))
((إنما المؤمنون الذين إذا ذكر الله وجلت قلوبهم وإذا تليت عليهم آياته زادتهم إيماناً وعلى ربهم يتوكلون))
2- التفقه بأحكامه:
الفقه: هو (العلم بالشيء، والفهم له... والفقه الفطنة) ، وقال الراغب في مفرداته: (الفقه هو التوصل إلى علم غائب بعلم شاهد، فهو أخص من العلم، قال: ((فما لهؤلاء القوم لا يكادون يفقهون حديثاً)) ((ولكن المنافقين لا يفقهون)) )
(ويسمى العلم بالأحكام فقهاً، والفقيه: الذي علم ذلك، واهتدى به إلى استنباط ما خفي عليه)
والحقيقة أنَّ التفقه في أحكام القرآن هو التبصر بها، والوعي لها، والعمل بها، فقد قال شيخ العارفين بهاء الملة والدين: (ليس المراد بالفقه الفهم، ولا العلم بالأحكام الشرعية العملية عن أدلتها التفصيلية، فإنَّه معنى مستحدث، بل المراد به البصيرة في أمر الدين، والفقه أكثر ما يأتي في الحديث بهذا المعنى، والفقيه هو صاحب هذه البصيرة، وإليها أشار النبي (ص) بقوله: (لا يفقه العبد كل الفقه حتى يمقت الناس في ذات الله، ويرى للقرآن وجوهاً كثيرة) ثم يقبل على نفسه فيكون لها أشد مقتاً، ثم هذه البصيرة إما موهبية، وهي التي دعا بها النبي (ص) لأمير المؤمنين (ع) حين أرسله إلى اليمن بقوله: (اللهم فقهه في الدين)، أو كسبية، وهي التي أشار إليها أمير المؤمنين (ع) لولده الحسن (ع) قائلاً: (وتفقه يا بني في الدين)، وفي كلام بعض الأعلام أنَّ اسم الفقه في العصر الأول إنَّما كان يطلق على علم الآخرة، ومعرفة دقائق آفات النفوس، ومفسدات الأعمال، وقوة الإحاطة بحقارة الدنيا، وشدة التطلع إلى نعيم الآخرة، واستيلاء الخوف على القلب، ويدل عليه قوله تعالى: ((فلولا نفر من كل فرقة منهم طائفة ليتفقهوا في الدين ولينذروا قومهم إذا رجعوا إليهم لعلهم يحذرون)) فقد جعل العلة الغائية من الفقه الإنذار والتخويف، ومعلوم أنَّ ذلك لا يترتب إلا على هذه المعارف لا على معرفة فروع الطلاق، والمساقاة، والسلم، وأمثال ذلك)
وقال المحدث المجلسي: (والفقهُ العلمُ بالأحكام من الحلال والحرام، وبالأخلاق، وآفات النفوس، وموانع القرب من الحق، وقيل: بصيرة قلبية في أمر الدين تابعة للعلم والعمل، مستلزمة للخوف والخشية)
والبصيرة: هي قوة القلب المدركة لحقائق الأمور، والواعية لأسرارها، والعارفة بتطبيقها، وكيفية بيانها للآخرين بإخلاص ورَويَّة ((قل هذه سبيلي أدعو إلى الله على بصيرة أنا ومن اتبعني وسبحان الله وما أنا من المشركين)) ، فالفقيه لا بدَّ أن يكون على بصيرة، أي بينة واضحة جلية من أمره بلا لبس ولا اختلاف؛ ليؤدي رسالته إلى الناس، ويحببها إليهم، فلا يقنطهم من رحمة الله تعالى، ولا يؤمنهم من عذابه، ولا يرخصهم في معاصيه، وإنَّما يخاطبهم بما يشفي به أمراض قلوبهم؛ ليعالج كل إنسان بما يناسبه من دواء، يقول الإمام علي (ع): (ألا أخبركم بالفقيه حق الفقيه؟ من لم يقنط الناس من رحمة الله، ولم يؤمنهم من عذاب الله، ولم يرخص لهم في معاصي الله، ولم يترك القرآن رغبة عنه إلى غيره، ألا لا خير في علم ليس فيه تفهم، ألا لا خير في قراءة ليس فيها تدبر، ألا لا خير في عبادة ليس فيها تفكر)
فالفقيه إذن هو العالم بأحكام الله تعالى، المتبصر بها عن وعي رسالي لا حفظ مصطلحات، وقواعد جامدة لا مساس لها بواقع الحياة؛ لأنَّ تلك الاصطلاحات والقواعد إنَّما وضعت؛ لتحصيل القدرة على استنباط الأحكام الشرعية من الكتاب والسنة، والعمل على تفعيل تلك الأحكام في حياة الناس، ولعلَّ هذا هو البصير الذي وصفه أمير المؤمنين (ع): (من سمع فتفكر، ونظر فأبصر، وانتفع بالعبر، ثم سلك جَدَداً واضحاً يتجنب فيه الصرعة في المهاوي، والضلال في المغاوي، ولا يعين على نفسه الغواة بتعسف في حق، أو تحريف في نطق، أو تخوف من صدق)
إذن , التفقه في أحكام الله يعني: فهمها، وحفظها, ووعيها, والعمل بها، ومحاولة تطبيقها على الواقع الذي يعيشه، وليس العلم حفظ الحروف، وتضييع الحدود كما في نهاية الحديث.
ورد في الحديث عن ابن أبي يعفور، عن أبي عبد الله (ع): (أنَّ رسول الله (ص) خطب الناس في مسجد الخيف فقال: نَضَّر الله عبداً سمع مقالتي فوعاها وحفظها وبلغها من لم يسمعها، فرُبَّ حاملِ فقهٍ غير فقيه، ورب حامل فقه إلى من هو أفقه منه)
3- العمل بأحكامه:
إنَّ التلاوة والتفقه في القرآن ما لم تؤدِ إلى الالتزام بمبادئ القرآن، والعمل بأحكامه فلا قيمة لها، ولعلَّ القارئ الذي يقرأ القرآن، والقرآن يلعنه هو غير العامل به كما في قوله (ص): (كم من قارئ للقرآن، والقرآن يلعنه) ؛ وذلك لأنَّ العلم للعمل، (والعلم يهتف بالعمل، فإن أجابه وإلا ارتحل)
وقد أشار الإمام علي (ع) إلى ذلك بقوله: (يا حملة القرآن، اعملوا به، فإنَّما العالمُ مَنْ عَلِمَ، ثم عَمِلَ بما عَلِمَ، ووافق عَمَلُهُ عِلْمَهُ، وسيكون أقوامٌ يحملون العلم لا يجاوز تراقيهم، تخالف سريرتُهم علانِيَتَهم، ويخالف عملُهم علمَهم، يجلسون حِلَقاً فيباهي بعضهم بعضاً، حتى أنَّ الرجل يغضب على جليسه أن يجلس إلى غيره ويَدَعَهُ، أولئك لا تصعد أعمالهم في مجالسهم تلك إلى الله)
وإنَّما لا تصعد أعمالهم؛ لأنَّهم لم يعملوا بما في كتاب الله الكريم من أوامر، و لم ينتهوا عن نواهيه، ولم يتعظوا بمواعظه، ولم يعتبروا بقصصه، فعلمهم سقط من الاعتبار؛ لأنَّه خالفَ عملهم، فالقارئ للقرآن، والتالي له حق تلاوته من عمل بما أمره الله، وانتهى عما نهاه، وهذا هو ما أكده رسول الله (ص): (أنت تقرأ القرآن ما نهاك، فإذا لم ينهَك فلست تقرؤه)
وعنه (ص): (اقرأ القرآن ما نهاك فإن لم ينهَك فلست تقرأه)؛ لأنَّ القراءة للعمل، والالتزام، والتمسك، والاعتصام، وهذا هو دليل الإيمان الحقيقي بالقرآن الكريم، قال (ص): (ما آمن بالقرآن من استحل محارمه)
4- الوقوف بتأمل عند وعده ووعيده:
في القرآن الكريم وعدٌ ووعيدٌ، وترغيبٌ وترهيبٌ، والقارئ عندما يتلو آياته ينبغي أن يقف عند ذلك بدقةٍ، وتأملٍ، وتفاعلٍ، وقد صور الإمام الحسين (ع) ذلك بقوله: (إنَّ المؤمن اتخذ الله عصمته، وقوله مرآته، فمرة ينظر في نعت المؤمنين، وتارة ينظر في وصف المتجبرين، فهو منه في لطائف، ومن نفسه في تعارف، ومن فطنته في يقين، ومن قدسه على تمكين) ؛ ولعلَّ هذا المعنى هو الذي قصده الإمام علي (ع) في وصف المتقين بقوله: (فإذا مروا بآية فيها تشويق ركنوا إليها طمعاً، وتطلعت نفوسهم إليها شوقاً، وظنوا أنَّها نصب أعينهم، وإذا مروا بآية فيها تخويف، أصغوا إليها مسامع قلوبهم، وظنوا أنَّ زفير جهنم وشهيقها في أصول آذانهم)
ومن خلال التأمل بهذين النصين الشريفين نجد أنَّ المتقين التالينَ للقرآن يعيشون بين الرجاء والخوف، فهم مع القرآن في ترغيبه وترهيبه ينقلهم من حالة إلى أخرى، فتارة يصبحون في شوق، وتلهف، وتطلع إلى رضوان الله شوقاً إلى لقائه وابتغاء لرضوانه، (ولولا الأجل الذي كتب الله عليهم لم تستقر أرواحهم في أجسادهم طرفة عين، شوقاً إلى الثواب، وخوفاً من العقاب. عَظُمَ الخالق في أنفسهم، فصغر ما دونه في أعينهم، فهم والجنة كمن قد رآها، فهم فيها منعمون، وهم والنار كمن قد رآها فهم فيها معذبون)
فهم يفتحون مسامع قلوبهم لا صيوان آذانهم، لذلك يفزعون من عذاب ربهم حتى يصلوا إلى درجة كأنَّهم يسمعون زفير جهنم في أصول آذانهم، وهذا هو المنهج السليم لتهذيب النفس وإعدادها للقاء الله.
5- الاعتبار بقصصه:
إنَّ حركة الأنبياء على طول خط الرسالة اشتملت على دروس وعبر لا تحصر في عدد، (ووجه الاعتبار بتلك القصص إنَّ الذي قدر على إعزاز يوسف بعد إلقائه في الجب، وإعلائه بعد حبسه في السجن، وتمليكه مصر بعد أن كان كبعض أهلها في حكم العبيد، وجمعه بينه وبين والديه وإخوته على ما أحبوا بعد مدة طويلة، وشقة بعيدة لقادرٌ أن يعز محمداً (ص)، ويُعلي كلمته، وينصره على من عاداه)
لم تأتِ القصة في القرآن الكريم لمجرد العرض الفني - وإن كان القصص القرآني في أعلى صور الفن القصصي - ولا تسلية، ولا لأجل العرض التاريخي، وإنَّما القصة في القرآن الكريم جاءت لأجل الاعتبار، والاتعاظ، وتلقي الدروس الروحية، والفكرية، والجهادية؛ لمواصلة الكدح إلى الله، والاعتبار بما مضى، أي الاتعاظ والتذكر (بمعنى الاعتداد بالشيء في ترتب الحكم)، ولقد حث القرآن الكريم على هذا المعنى بقوله تعالى: ((لقد كان في قصصهم عبرة لأولي الألباب ما كان حديثاً يفترى ولكن تصديق الذي بين يديه وتفصيل كل شيء وهدى ورحمة لقوم يؤمنون))
فلا يستوحي هذه العبر، ولا يتلقى هذه الدروس القيمة إلا أولو الألباب السليمة، والعقول الراجحة، والنفوس الطاهرة، ومن هنا ينبغي لكل عاقل أن يقف ويتأمل في كل قصة من القصص القرآني، وهي وقائع حقيقية حدثت من خلال الصراع بين الحق والباطل، بين رسل الله وطغاة عصورهم، وهي ترسم طريق السلوك إلى الله تعالى، وتوضح أهمية رسالته في حياة البشرية، وتبين رعاية الله لعباده، وتفضح أساليب الظالمين لمقاومة الدعاة إلى الله تعالى.
إنَّ المتأمل في قصص القرآن يجد في كل قصة من قصصهم ما يرسم له طريق الرشاد، ويضعه على الصراط السوي، وتبرز من خلال هذه القصص حكمة الله، وقدرته، ونصرته لعباده بعد ابتلائهم، واختبارهم، وامتحانهم، وإبادته لأعدائه كما تتجسد في هذه القصص سنن الله في التأريخ، ومن خلالها يتضح لنا دور رسالة الله تعالى في الحياة البشرية، ومقدار معاناة رسله في سبيل إبلاغها، ومقدار ما تحملوا من أجلها من العذاب في مقاومة تيارات الكفر، والشرك، والنفاق... وكل أشكال الطاغوت، وتبرز في قصص القرآن أخلاق أولياء الله تعالى، وعناصر القوة فيهم، وتتجلى رعاية الله لعباده الصالحين كما تبرز في الجبهة المقابلة أخلاق، وأساليب، وظلم أعداء الله تعالى.
إذن من خلال (التلاوة الحقيقية) يستلهم الإنسان الدروس والعبر من قصص الأنبياء ما يرسم له سبيل الثبات، والاستقامة على خطهم، ورسالتهم.
يقول تعالى: ((وكلاً نقص عليك من أنباء الرسل ما نثبت به فؤادك وجاءك في هذه الحق وموعظة وذكرى للمؤمنين))
ففي كل قصة أنباء وأخبار رسالية وقعت في حياتهم في سبيل إعلاء كلمة الله، ومن هذه الأخبار نستوحي المواعظ، والعبر، والذكر؛ لتثبت به أفئدتنا عندما تشتد المحن، وتظلم دنيا الناس؛ ولذا نجد أنَّ الله تعالى يأمر رسوله أن يقص القصص للناس؛ ليثير فيهم الفكر، ويحرك العواطف الناضجة، يقول تعالى: ((فاقصص القصص لعلهم يتفكرون))
((إن هذا لهو القصص الحق وما من إله إلا الله وإن الله لهو العزيز الحكيم))
((نحن نفص عليك أحسن القصص بما أوحينا إليك هذا القرآن وإن كنت من قبله لمن الغافلين))