القرآن المهجور الظواهر والأسباب-1

تقليص
X
 
  • تصفية - فلترة
  • الوقت
  • عرض
إلغاء تحديد الكل
مشاركات جديدة
  • العلوية ام موسى الاعرجي
    • Dec 2014
    • 1699

    القرآن المهجور الظواهر والأسباب-1

    (وقال الرسول: يا ربّ إنّ قومي اتخذوا هذا القرآن مهجوراً) (الفرقان/30).
    إنها الشكوى الأليمة التي يبثها رسول الله (ص)، في عرصة القيامة، وفي ذلك اليوم العصيبُ والرهيب، يقف صاحبُ القلب الكبير وبيده القرآن ، ليبث شكواه بكلّ حرقةٍ وحسرةٍ وألم: (يا ربّ إنّ قومي اتخذوا هذا القرآن مهجوراً)!!.
    لقد هجروا النور والبصائر والتبيان، هجروا الرحمةَ والشفاء والفرقان، فأصبحوا ظماءً وبينَ أيديهم الماء الزلال (قل لو كانَ البحرُ مداداً لكلمات ربّي لَنَفِدَ البَحرُ قَبلَ أن تَنفَدَ كلماتُ ربّي ولو جئنا بمثِلِ مَدداًُ) (الكهف/109)، وعاشوا الظلمات وبين ظهرانيهم البصائر والنور المبين (وأنزلنا إليكم نوراً مبيناً) (النساء/174)، وتخبّطوا كحاطب ليل وفي أحضانهم الهدى والفرقان (وبيناتٍ من الهدى والفرقان) (الفرقان/1)، وما أعظم وأفدح خسارةَ من هجر ذلك كلّه.
    وليس مقصودنا في هذا البحث أولئكَ الطاغين والمتجبرين من الذينَ اتخذوا الإسلام قناعاً زائفاً، وهم أعدا أعداء الإسلام والقرآن، فما زالت الرماح تعلوها المصاحف في صفين، وما زال مسجد ضرار يُخبّي المنافقين، وإنّما حديثنا يدور حول هجر القرآن الكريم في أوساط المؤمنين والملتزمين والمتدينين!، وفي مراكزهم الإسلامية التي أخذت على عاتقها القيام بمسؤوليّة التربيّة والتعليم، حيثُ يبدو الهجر القرآني واضحاً وجليّاً، وهذا مما يحزُ في النفس، ويقتلها حسرةً وألماً ولوعة.

    مظاهر الهجر:
    وإننا إذا نظرنا إلى تلك الأوساط الإسلامية والإيمانية لأحسسنا بكلّ وضوح بمظاهر الهجر المتنوعة، ولعل من أهمها:
    أولاً: هجر القراءة والتلاوة:
    إنّ ظاهرة هجر القراءة والتلاوة من المظاهر البارزة في المجتمع الإسلامي حتى أصبح القرآن الكريم لا يُتلى إلاّ على الأموات، وحتّى أنّ أحدنا إذا سمع قائلاً يقول (الفاتحة) يتبادر إلى ذهنه أنّ هناك ميتاً!!، وتتبادرُ إلى أنفِهِ رائحة السدرِ والكافور!!.
    ومَعَ كُلّ دعوات القرآن وصرخاتِهِ لتلاوة القرآن وترتيله، ومَعَ كُلّ دعوات الرسول والأئمة (ع)، فإننا لا نجدُ آذاناً صاغيّة إلاّ عند القليل القليل من المؤمنين!! قال تعالى: (ورتّل القرآن ترتيلا)(المزمل: 4) وقوله (فاقرءوا ما تيسّر من القرآن) ( المزمل: 20). وعن رسول الله (ص): (من قرأ القرآن قبل أن يحتلم فقد أوتي الحكمَ صبيّاً) (إذا أحبَّ أحدكم ان يحدّثَ ربّه فليقرأ القرآن). ويحذّرنا الرسول الكريم من أن نعيش في يومٍ في عداد الغافلين، حيث يقول (من قرأَ عشر آيات في ليلهِ لم يُكتب من الغافلين. ومن قرأَ خمسين آية كُتبَ من الذاكرين. ومن قرأ ثلاثمئة آية كتب من الفائزين. ومن قرأ خمسمئة آية كُتب من المجتهدين)!
    ومما يثير العجب والدهشة أنّ كثيراً من المؤمنين لا يجيدونَ قراءة القرآن وتلاوته، ولا يميّزون بينّ الإخفاء والإدغام. وقد يتخوف بعض المؤمنين من التلاوة لأنّهُ لا يعرف أحكامها، فهذا رسول الله (ص) يقول: (إذا قّرأ القاريُ فأخطأ أو لحن أو كانَ أعجميّاً كتبّهُ الملك كما انزل)!
    وترتيل القرآن من الأمور الأساسية في تكوين الشخصية الإيمانية حيث تمنحها القراءة رقّةً وقوّة معاً، رقة في المشاعر والأحاسيس، وقوّة في المواقف الصعبة التي يَكتنفها المصاعب والمتاعب والآلام. ولهذا جاءَ الأمر القرآني لرسولِ الله (ص).
    (يا أيّها المزمّل قُم الليل إلاّ قليلاً نصفهُ أو انقص مِنهُ قليلا أو زد عليه ورتّلِ القرآن ترتيلا) كُلُّ ذلكَ استعداداً للحمل الثقيل والمسؤولية الكبيرة (إنا سنُلقي عليكَ قولاً ثقيلا). وجاءَ التخفيف للمؤمنين (فاقرؤوا ما تيسر من القرآن علمَ أن سيكونُ منكم مرضى وآخرون يضربونَ في الأرض وآخرون يُقاتلون في سبيل الله) ولكن لابُدّ من مواصلة القراءة اليومية بقدر الإمكان ولهذا (فاقرؤوا ما تيسّر مِنه).
    ومن سمات المتقين الأساسيّة وطبيعتهم اليوميّة الليليّة هي تحزين النفس بالقرآن من خلالِ تلاوتهِ وترتيله. فهذا علي (ع)، يصفُ هذهِ العلاقة اليوميّة بأروع وصف: (أمّا الليل فصافوّنَ أقدامهم تالين لأجزاء القرآن يرتلونَهُ ترتيلا، يُحزّنونَ به أنفسهم، ويَستَثيرونَ بهِ دواء دائهم) ويضيف (ع) قائلاً: (فإذا مرّوا بآيةٍ فيها تشويق ركنوا إليها طمعاً، وتطلّعت نفوسُهم إليها شوقاً، وظنوا أنّها نُصب أعينهم. وإذا مرّوا بآيةٍ فيها تخويف أصغوا إليها مسامعَ قلوبهم، وظنوا أنّ زفير جهنّم وشهيقها في أصول آذانهم).
    فأينَ نحنُ من هؤلاء؟!
    إنَّ هناك فرقاً بينَ أن تقرأ القرآن بترتيل وبينَ أن تقرأهُ بدون ترتيل، فإنّ (الترتيل يُعطي لقراءَتِكَ جوّا من الروحانيّة.. هذا الجو يجعل قلبَكَ يهتزُ بالكلمة فيتقبّل الكلمة بطريقةٍ تتناسب مَعَ الانفتاح الروحي، والموسيقى ليست كلها لهواً، وشيئاً باطلاً، فإنّ الموسيقى الباطلة هي الموسيقى التي تُثير مكامِنَ اللهو في نَفسِك، وتُثيرُ مكامنَ الخلاعة في نَفسك، والتي تجعل مشاعرك تتميّع، أما الموسيقى التي تجعلك تعيش في جوٍ روحي يملأ الكلمةَ بمعنى يُعطي للكلمةِ جدّها.. فهذا شيء مستحب. ولهذا وردَ في الأحاديث حرمة التغني بالقرآن)[1].
    جاء في الدر المنثور عن علي (ع) إنّ رسولَ الله (ص) سُئِلَ عن قوله الله: (ورتّلِ القرآنَ ترتيلا) قال: "بيّنهُ تبييناً ولا تنثرهُ نثر الرمّل، ولا تهذه هذا الشعر، قفوا عندّ عجائبه، وحرّكوا بهِ القلوب، ولا يكن هُمّ أحدكم آخر السورة".

    ثانياً: هجر الاستماع:
    ومن المصائب التي نراها في أوساط المسلمين بل والمؤمنين هي أنّهم في كلامهم ومحادثاتهم لا يختلفونَ قبل قراءة القرآن وبعده، بل انهم يزدادونَ صراخاً ودوّياً حينما يُقرأ القرآن على مسامعهم، وكأنّ الله سبحانه أمر في قرآنه باللغو حينَ الاستماع بقوله تعالى: (وإذا قرئ القرآنُ فاستمعوا لهُ وأنصتوا لعلكم تُرحمون)!
    إنّ القرآن لم يقبل منّا بالسماع فحسب، بل أراد منّا الاستماع، وهو السماع الواعي المتدبر، وانّكَ إذا رأيتَ هذه الظاهرة السيئة جدّاً، ظاهرة اللغو والقرآن يُتلى، لترحمت على السامعين فضلاً عن المستمعين!
    ومن الغريب انّكَ لا ترى استنكاراً لهذه الظاهرة الغريبة المنكرة!! وأكبر الظن أنّ هؤلاء (اللاغين) لا يعرفون قيمة الاستماع إلى القرآن الكريم، ويحسبون ذلك من الأمور العاديّة، بينما الآية المباركة والروايات صريحة بضرورة الاستماع والإنصات، وفيهما انفتاح لباب الرحمة الإلهية التي تتطلعُ إليها قلوبُ المؤمنين (وإذا قُرئ القرآن فاستمعوا له وأنصتوا لعلكم تُرحمون) إنّها الرحمة الإلهيّة التي تهبط على هؤلاءِ المنصتين المستمعين.
    عن رسول الله (ص): (يُدفَعُ عن قارئ القرآن بلاءُ الدنيا، ويُدفَعُ عن مستمع القرآن بلاءُ الآخرة) وما قيمةُ بلاء الدنيا جنب بلاء الآخرة؟! وعنهُ (ص): (من استمع آيةً من القرآن خير لهُ من تبير ذهباً)!! وتبير اسمُ جبلٍ عظيم باليمن.
    وعن زرارة، قال: (سألت أبا عبد الله (ع) عن الرجل يقرأ القرآن يجب على من يسمعه الإنصات لهُ والاستماع له؟ قال: نعم، إذا قُرئ القرآن عندكَ فقد وجبَ عليكَ الاستماعُ والإنصات).
    ويستعرضُ لنا القرآن الكريم استماع المؤمنين الصالحين بقوله: (إنّ الذينَ أُتوا العلم من قبلهِ إذا يُتلى عليهم يخرّونَ للأذقانِ سُجّداً ويقولون سبحانَ رّبنا إن كانَ وعدُ ربنا لمفعولا، ويخرّونَ للأذقان يبكون ويزيدهم خشوعاً) (الإسراء: 109).
    ويصفُ القرآن حالة الأجيال الإيمانية على طولِ التأريخ حينما يستمعونَ إلى آيات الله بقوله: (أولئك الذينَ انعَمَ الله عليهم من النبيين من ذريةِ آدَمَ وممن حملنا مَعَ نوح ومن ذرّيةِ إبراهيم وإسرائيل وممن هدينا واجتبينا إذا تُتلى عليهم آياتُ الرحمن خرّوا سجّداً وبكيّا) (مريم: 58).
    ويرسمُ القرآن ما ينبغي أن يكون عليه المؤمنين وهم يستمعون القرآن: (الله نَزّلَ أحسنَ الحديث كتاباً متشابهاً مثاني تقشعِرُّ منهُ جلودُ الذينَ يخشونَ ربّهم ثُمّ تلين جلودُهم وقلوبهم إلى ذكر الله)! (الزمر: 23).
    إنّهُ الاستماعُ الخاشع، والعيش الكريم في أجواء القرآن، والخرورُ للأذقان سجّداً وبكيّاً، وقشعريرة الجلود ثم لين الجلود والقلوب معاً! فأينَ نحنُ من هؤلاء!

    ثالثاً: هجرُ الحفظ:
    قد يحفظُ أحدنا أشعاراً كثيرة لشعراء، وقد يحفظُ نصوصاً كبيرة لأدباء وبُلغاء، أما أن نحفظ القرآن فهذا ما يندر وجوده هذهِ الأيام حتّى في أوساط المؤمنين الدارسين. ولهذا فإنكَ إذا سَمعتُ أحدهم يستشهد بآيةٍ مباركة يرتبك يتلعثم، بينما ينطلقُ لسانُهُ مغرّداً في القصائد الشعريّة. وهذه ظاهرة مرضيّة.
    لقد كانَ رسولُ الله (ص) حريصاً على حفظ القرآن حتى انّهُ كانَ يسبق جبرائيل (ع) ـ هكذا قيل ـ قبل أن يُكمل المقطع القرآني النازل عليه، فجاءَ القرآن ليطمئنهُ على حفظه، وهذا نفهمهُ من ظاهر قوله (لا تُحرّك بهِ لسانَك لتعجل به. إنّ علينا جَمعَهُ وقرآنه فإذا قرأناهُ فاتّبع قُرآنه ثُمّ إنّ علينا بيانه)! (القيامة: 16/19).
    إن لحافظ القرآن الكريم منزلةً عظيمةً، ومكانة مرموقة لا يرقى إليها أحد، فهذا الرسول الكريم يطمئن حفظة القرآن بقوله: (من أعطاهُ الله حفظَ كتابه فظنَ أنّ أحداً أُعطيَ أفضل مما أُعطي فقد غمط أفضل النعمة)!! وعنهُ (ص): (إنّ الذي ليس في جوفه شيء من القرآن، كالبيت الخراب) وعن الصادق (ع): (الحافظ للقرآن، العامل به، مَعَ السفرِة الكرام البررة)!!. وقد يحفظُ أحدنا سوراً وآيات، ويبدأ بمشروع الحفظ، ولكنّهُ ينسى ما حفظه، ويقطع مشروعه، وفي يوم القيامة تظهر الحسرات والآهات. يقول الصادق (ع): (من نَسَيَ سورةً من القرآن مُثّلت لهُ في صورةٍ حَسَنةٍ ودرجةٍ رفيعةٍ في الجنة، فإذا رآها قال: ما أنت؟! فما أحسَنَكِ؟! ليتك لي؟! فتقول: أما تعرفني؟! أن سورة كذا وكذا، ولو لم تنسني لرفعتكَ إلى هذا المكان)!!

    رابعاً: هجر التدبر:
    إنّ كُلّ إنسانٍ مهما كانَ مستواه العلمي والثقافي لهُ الحق في أن يعيش التدبر في آيات الله، متفكراً ومُستلهماً، حيث أن من معجزة القرآن الكريم انّهُ قابل للفهم من قبل جميع المستويات، حتى الأمي الذي لا يقرأ ولا يكتب يفهم القرآن، ولكن مستويات الفهم والاستيعاب متباينه. وهذهِ خاصية فريدة للقرآن الكريم لا يمتاز بها أيّ كتاب آخر على الإطلاق، وانّكَ إذا أخذتَ أيّ كتابٍ آخر فانّكَ لا تستطيع أن تجعله في متناول الجميع إما لسهولته عندّ بعض أو لصعوبته عندَ بعض آخر.
    إنّ كثيراً من المؤمنين يتصورونَ خطاً انّهُ لا يجوز تدبّر القرآن إلاّ لمن كانَ يتوفر لديه شروط المفسّر من معرفةٍ دقيقة بأساليب اللغة، والبلاغة، والأصول والمنطق والفلسفة وغيرها.. وقد توهم هؤلاءِ فحرموا أنفسهم التدبر في آيات الله التي يحقُ لكل إنسانٍ أن يعيشها. والقرآن يصرخُ فينا (ولقد يسرنا القرآن للذكر فهل من مُدّكر) وليس مفسّر!، والقرآن ينادينا (لقد أنزلنا إليكم كتاباً فيه ذكركم أفلا تعقلون) (الأنبياء: 10)، بل ويستنكر على هؤلاءِ الذينَ لا يعيشونَ مَعَ القرآن حالة التفكر والتدبر بقوله (أفلا يتدبرونَ القرآن أم على قلوبٍ أقفالها)؟! (محمد:24) بل إنّ القرآن نزل للتدبر، بقوله (كتاب أنزلناهُ إليكَ مبارك ليدبروا آياته وليتذكرَ أولوا الألباب) (ص:29).
    إنّ من حقّ كُلّ قارئ للقرآن وسامع أن يتدبّرَ كُلّ حرفٍ من حروفه، وكُلّ مفردةٍ من مفرداته، وكُلّ آيةٍ من آياته.. من حقّكَ أن تتدبر الحرفَ القرآني وأنت تقرأ قوله تعالى على لسان إبراهيم (ع):(الذي خلقني فهو يهدين. والذي هُوَ يُطعمني ويسقين. وإذا مرضتُ فَهُوَ يشفين. والذي يُميتني ثُمَّ يُحيين)! (الشعراء:78/81) فلماذا هذا الاختلاف في حروف العطف: الواو، الفاء، ثمَّ؟ ولماذا يؤتى بالضمير (هو)؟ ولماذا تغيّر السياق في (مرضتُ): (خلقني، يطعمني، يميتني) ولم يقل (يمرضني)؟!. والحروف في قوله تعالى: (.. قال ما خطبكما؟ قالتا: لا نَسقي حتى يُصدِرَ الرّعاعُ وأبونا شيخ كبير فَسَقى لهما، ثُمّ تولى إلى الظل فقال ربّ إنّي لما أنزلت إلي من خير فقير فجاءتهُ إحداهما تمشي على استحياء..) (القصص:23/25) فقد جاءَ حرف (الفاء) في قوله (فسقى لهما)، وحرف (ثمّ) في قوله (ثمّ تولى إلى الظل)، ثمّ جاء حرف الفاء في قوله (فقال ربَّ)، وفي قوله (فجاءَتهُ إحداهما). وكيف جاءت (تمشي على استحياء) وليس باستحياء فحسب؟!.
    ومن حقّ كلّ قارئ أو مسامع لقوله تعالى: (فإنّ مَعَ العسر يسرا. إنّ مَعَ العسر يسرا. فإذا فرغتَ فانصب) (الشرح: 4/7) أن يتدبر الاسم (مَعَ)، فلم يقل: إنّ بعد العسر يسرا ولماذا هذا التأكيد (فإنّ مَعّ العسر يسرا. إنّ مَعَ العسر يسرا)؟ ولماذا جاءَ (العسر) معرفة، و(اليسر) نكرة؟ وكيفَ يَنصب الإنسان بعد أن يَفرغ؟!
    ومن حق كُل قارئ أن يتدبر في سياق قوله تعالى (يوم يفرُّ المرءُ من أخيه وأمّه وأبيه وصاحبتهِ وبنيه) (عبس: 36) بينما نجد في آية أخرى (يودُ المجرم لو يفتدي من عذاب يومئذٍ ببنيه. وصاحبته وأخيه) (المعارج: 12). فلماذا هذا الترتيب من الأخ إلى الابن؟ وفي قوله تعالى (فما وهنوا لما أصابهم في سبيل والله ما ضعفوا وما استكانوا) (آل عمران:146) فما هو السر في نفي الوهن أولاً والضعف ثانياً والاستكانةُ ثالثاً؟! وفي قوله (ولنبلونّكم بشيء من الخوف والجوع ونقصٍ من الأموال والأنفس والثمرات وبشر الصابرين) (البقرة: 155) فما هُوَ السّرُ في تقديم الخوف على الجوع، والجوع على نقص الأموال..؟
    وما هو السر في تقديم الأموال على الأنفس في آيات الجهاد، بينما تقدّم الأنفس على الأموال في آيات الشراء (وجاهدوا في سبيل الله بأموالكم وأنفسكم) (إنّ الله اشترى من المؤمنين أنفسهم وأموالهم)؟!
    وما هي الحكمةُ في الترتيب في قوله تعالى (يا أيها الذينَ آمنوا اصبروا وصابروا ورابطوا لعلكم تفلحون) (آل عمران:200)؟! ولماذا ذكر يوسف (ع) (اليوم) في قوله (قال لا تثريبَ عليكم اليوم يغفر الله لكم..) (يوسف:92)؟ يقول الإمام السجاد (ع): (آيات القرآن خزائن العلم، فكلّما فتحتَ خُزانه ينبغي لك أن تنظر ما فيها).
    إنّ في وصايا الرسول (ص) للذينَ يريدون أن يتدبروا القرآن، وصيتين أساسيتين:
    الأولى: (لا يكن همّ أحدكم آخر السورة).
    الثانية: (اقرؤوا القرآن وابكوا فإن لم تبكوا فتباكوا)!

    خامساً: هجر الهمّ والعمل:
    لم يستوعب أعداءُ الإسلام في عصر الرسالة، السر وراء ظاهرة (المكث) و (التنزيل) في نزول القرآن (وقرآناً فرقناهُ لنقراهُ على الناس على مُكث ونزّلناهُ تنزيلا) (الكهف:106)، حتى أنهم كانوا يتمسكون بهذه الورقة لإثبات بطلان القرآن بقولهم: (لولا نُزّل عليه القرآنُ جُملةً واحدةً)؟!ولا يدري هؤلاء بأنّهُ من دون هذا التدريج في نزول القرآن خلال أكثر من عشرين عاماً، لا يمكن أن تتحقق رسالة القرآن في التربية والتغيير وصناعة الأمّة وبنائها بناءً قرآنياً سليماً، من خلال مواكبتها في عُسرها ويسرها، وانكسارها وانتصارها هذا أولاً، وفي تغيير النفوس والقلوب ثانياً، وفي تثبيت الرسول القائد في ساحة المواجهة والصراع ثالثاً: (وقال الذينَ كفروا لولا نزّل عليه القرآنُ جملةً واحدة كذلك لنثبّت بهِ فؤادَكَ ونزلناهُ تنزيلا) (الفرقان:32).
    فالقرآنُ لم ينزل للتثقيف وتخزين المعلومات وإنما نزل للعلم والعمل معاً، نزل ليقود امّةً في صراعها المرير، ويوجّه حركتها، ويراقب مسيرتها الداميّة.
    جاءَ في كتاب الإتقان للسيوطي عن عبد الرحمن السلمي قال: حدثنا الذينَ كانوا يقرؤون القرآن أنهم كانوا إذا تعلموا من النبي (ص) عشر آيات لم يتجاوزوها حتى يعلموا ما فيها من العلم والعمل.. قالوا فتعلمنا القرآن والعلم والعمل جميعاً. ولهذا كانوا يبقونَ مدّة في حفظ السورة.
    ويفسّر الرسول الكريم (ص) قوله تعالى (والذينَ آتيناهم الكتاب يتلونَهُ حقّ تلاوته أولئكَ يؤمنون بهِ، ومن يكفر بهِ فأولئكَ هم الخاسرون). يقول (ص): (حق تلاوته) يتبعونه حقّ إتباعه.
    إنّ من السهل أن ترتل قوله تعالى (ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئكَ هم الكافرون) ولكن السعي لتطبيق هذه الآية على الأرض يحتاجُ مزيداً من الدموع والدماء، والقتلى والشهداء!
    وإنّ من اليسير أن تقرأ قوله تعالى: (أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولي الأمر منكم) ولكن من الصعب جدّاً أن تشخّصَ "أولي الأمر" وتسير تحتَ رايتهم!
    وما أيسر وأسهل قراءة الآية المباركة (ادفع بالتي هي أحسنُ فإذا الذي بينكَ وبينَهُ عداوة كأنّهُ وليٌ حميم) (فصّلت:34) ولكن ما أصعب وأعسر تجسيدها، إنّها تحتاجٌ إلى أمرين: الصبر الكبير والحظ العظيم (وما يلقّاها إلاّ الذينَ صبروا وما يلقّاها إلاّ ذو حظٍ عظيم)، والتعبير بـ(يلقاها) يشعر بعسر التلقي البالغ، وتكرار (يلقّاها) يرسُم لكَ ضخامة هذا الأمر وصعوبته.
    ولهذا ينبغي أن نعرف حقيقتين قرآنيتين أساسيتين:
    الأولى: إنَّ القرآن سهلٌ وميسر (ولقد يسّرنا القرآن للذكر فهل من مدّكر)؟
    الثانية: إنَّ القرآن ثقيلٌ وعسير (إنّا سنُلقي عليكَ قولاً ثقيلا)!
    وما أجمل ما قَالهُ الشهيد سيد قطب في ظلاله: (القرآنُ في مبناه ليس ثقيلاً فهو ميسرٌ للذكر، ولكنّهُ ثقيلٌ في ميزان الحق، ثقيلٌ في أثره في القلب: (لو أنزلنا هذا القرآن على جبلٍ لرأيته خاشعاً متصدّعاً من خشية الله) فأنزلهُ الله على قلبٍ أثبت من الجبل يتلقاه..
    وإنّ تلقي هذا الفيض من النور والمعرفة والاستيعاب، لثقيل، يحتاجُ إلى استعداد طويل.
    وإنّ التعامل مَع الحقائق الكونية الكبرى المجردة، لقيل، يحتاجُ إلى استعداد طويل.
    وإنّ لاتصال بالملأ الأعلى وبروح الوجود وأرواح الخلائق الحية والجامدة.. لقيل، يحتاجُ إلى استعداد طويل.
    وإنّ الاستقامة على هذا الأمر بلا تردد ولا ارتياب ولا تلفتٍ هنا أو هناك وراءَ الهواتف والجواذب والمعوقات، لثقيل، يحتاجُ إلى استعدادٍ طويل"[2].
    وما أروع ما سجّلهُ العلامة فضل الله في وحيه: (إنا سنلقي عليكَ قولاً ثقيلاً) وهُوَ القرآن الذي يحملُ في داخله كُلّ مفاهيم الرسالة وخطوطها الفكريّة والعملية في الحياة، فيما يدفع به الإنسان إلى الالتزام في دائرة المسؤولية التي تثقل عليه من خلال تحويل الحياة في وجدانه الحركي ، من ساحةٍ للاسترخاء واللامبالاة والسكون والحريّة الغارقة في بحار الشهوات، والمتخبطة في وصول الجريمة، إلى ساحةٍ للدعوة إلى تصحيح الفكر واستقامة القصد ووضوح الهدف وطهارة الوسائل وتنظيم الحياة وتوجيه الإنسان نحو القضايا الكبيرة... على ضوء ذلك فإنّ القول الثقيل لا يتمثّل في الثقل المادي فيما قد توحي بهِ الروايات التي تعبّر عن الضغط الذي كان يتعرض لهُ النبي في جسده في تأثيراته الشديدة القاسية عندَ نزول الوحي عليه، بل يتمثلُ في ثقل الأعباء الملقاة على عاتق الإنسان، المسلم الذي يواجه التحديات من موقع الإيمان الرسالي الذي يثبت في كُلّ حالات الاهتزاز الروحي الذي يعملُ على إسقاط الواقع من حوله"[3].
    إذن ثقلُ القرآن الكريم من ثقل المسؤوليّة الكبيرة، والأهداف الكبيرة، والهموم الكبيرة، والأهداف الكبيرة، والهموم الكبيرة.. (يا أيّها المدّثر قم فأنذر. وربَّكَ فكبّر. وثيابكَ فطهّر. والرجزَ فاهجر. ولا تمنن تستكثر. ولربّكَ فاصبر)!!
    إنّها المسؤوليات الجسام، والمهام العظام، من القيام المستمر، والانتزاع من التدثر والفراش والدفء إلى سوح الجهاد والكفاح والثورة، وإنّها الرسالةُ التي تحتاجُ إلى المزيد من البذل والعطاء، والدموع والدماء، كما وتحتاجُ بعد كُلّ ذلك إلى الشعور بالتقصير، ورؤية ما أعطاهُ وبذله صغيراً وحقيراً (ولا تمنن تستكثر)!!
    وهكذا يمكن أن نستوعب معنى الحديث النبوي (إنّ هذا القرآن نزل بحزن فاقرؤوه بحزن)!، وقوله (ص) (إنّي لأعجبُ كيفَ لا أشيبُ إذا قرأتُ القرآن)؟!!

    الهوامش:
    [1] فضل الله ـ في حديث لهُ حول (مقدمة في التفسير).
    [2] الشهيد سيد قطب ـ في ظلال القرآن ـ ج8 تفسير سورة المزمل.
    [3] فضل الله ـ من وحي القرآن ـ ج23 تفسير سورة المزّمل.

    يتبع...
يعمل...
X