أسباب الهجر:
ضمن عودة ميمونة للذات، تسود الصحوة الإسلامية أرجاء العالم الإسلامي بعدما أخذَ القرآن الكريم يعيدُ جزءً من دوره في قيادة الأمّة وريادتها بفضل الثورة الإسلامية المباركة التي أعادت للإسلام مكانته، وللقرآن قيمومته، وأخذت الشعوب الإسلامية تتطلعُ إلى الإسلام المنقذ، بعد أن بدأت كلُّ الطروحات الشرقيّة والغربيّة تتهاوى وتتساقط لما وصلت إليه من الطريق المسدود في قيام المجتمع الصالح.
ولكن تبقى العلاقةُ مَعَ القرآن الكريم بحاجةٍ إلى الكثير الكثير من الجهود الكبيرة والمتواصلة.. فإنّ الأمّة الإسلامية قد اعتادت بسبب التخلف والجهل من جهة، والاستعمار من جهةٍ أُخرى، أن تتعامل مَعَ هذا الدستور الخالد تعاملاً باهتاً وخاطئاً. ولم ينسَ الإمام الخميني ـ قدس سرّه ـ في وصيته العبادية السياسيّة، هذهِ المشكلة الكبيرة، بل كان أوّل من أوصى بإعادة دور القرآن للهيمنة وإقامة الحياة، فبثَّ شكواه العميقة، وأسفهُ الشديد لما وصلت إليه الأمّة الإسلامية في علاقتها مّع القرآن الكريم حيث يقول: "ووا أسفاه إنّ القرآن وَهُوَ كتابُ الهداية، لم يعد لهُ دور سوى في المقابر والمآتم بسبب المتآمرين من الأعداء، والجهلة من الأصدقاء"! وقد دعا الإمام في وصيته إلى ما اسماه "إنقاذ القرآن من المقابر"!!
ويمكن تحديد أهم الأسباب الرئيسيّة التي أدّت إلى هجر القرآن الكريم، وتعطيل دوره في الحياة.
السبب الأول: منهج التعاطي الخاطئ:
إنّ التعامل مَعَ القرآن الكريم بعيداً عن أجواء الرسالة التي نزل بها، وبعيداً عن خطوات الصراع التي كانَ يقودها، تجعلنا نعيشَ مَعَ القرآن حالةَ ترفَ واسترخاءٍ ولا مسؤوليّة، لأنّ عزل الآيات عن أجوائها الرسالية، وحركتها التغييريّة يفقدها حرارتها وفاعليتها وحيوتها.
لقد جاءَ القرآن الكريم ليُنشئ أمة قائدة رائدة شاهدة من خلال مواكبِة سيرها وتكاملها في ساحة الصراع المرير مَعَ أعدائها، وهُوَ معها يقودها ويوجهها ويتحكم بحركاتها.. معها في سرّائها وضرائها، في انتصاراتها وانكساراتها، وجاءَ القرآن منهج عملٍ وحركةٍ وجهاد يحكم الحياة من خلال النهوض والقيام ولينهي مرحلة التدثر والتزمّل: (يا أيّها المدّثر قم..) (يا أيّها المزمل قم..) فقد ولى عهدُ النوم والراحة والفراش وجاءَ عهدُ القيام والنصب والآلام. ولقد أدركَ الرسول القائد عمق مسؤوليّة الرسالة والقيام، فخاطبَ زوجته المجاهدة التي تطلبُ منهُ الراحة في بعض الأحيان، قائلاً: (مضى عهدُ النوم يا خديجة)!!
ولقد أدركَ الجيل القرآني الأوّل الترابط بينَ دراسة التأريخ وصناعة التأريخ، وكانَ القرآن هو الذي يقودهم في مسيرتهم، يتلقونهُ كما يتلقى الجندي في ميدان المعركة الأمر اليومي ليعمل بهِ فور تلقيه، ولهذا فلم يكن أحدهم ليستكثر منهُ الجلسة الواحدة، لأنّهُ كانَ يحسُ انّهُ إنّما يستكثر من واجباتٍ وتكاليف يجعلها على عاتقه. فكانَ يكتفي بعشرِ آيات حتى يحفظها ويعملَ بها. وهذا الشعور.. شعور التلقي للتنفيذ.. كانَ يفتح لهم من القرآن آفاقاً من الوعي، وآفاقاً من المعرفة، لم تكن لتفتح عليهم لو أنهم قصدوا إليه بشعور البحث والدراسة والإطلاع، "إنَّ منهج التلقي للتنفيذ والعمل هو الذي صنَعَ الجيل الأوّل، ومنهج التلقي للدراسة والمتاع هُوَ الذي خرّجَ الأجيال التي تليه"[1].
إنَّ الذينَ يعيشونَ الأجواء الرسالية بكلَّ مصاعبها ومتاعبها، آلامها وآمالها، دماءَها ودموعها، ويعيشون أجواء التغيير والعمل والحركة والجهاد، هم الذينَ يستطيعونَ أن يفهموا القرآن الكريم ويستوعبوا توجيهاتِهِ، ويتذوقوا آياته، ويدركوا ثقل تكاليفه ومسؤولياته.
من هذا المنطلق "فإننا نستطيع أن نقرر الفكرة التالية: وهي أنَّ القرآن لا يفهمهُ إلاّ الرساليون الذين يعيشونَ حركة الرسالة في الحياة" ولا يفهمه بوعي إسلامي إلاّ الحركيون الذين يعيشون تجربةَ المعاناة الروحيّة والجسديّة في دروب الرسالة في طريق الله، لأنّهم يفهمونّهُ في نطاق الأجواء التي نزل فيها، والأوضاع التي حرّكها، والأهداف التي أطلقها في كل ساحات الصراع، ويستوحونهُ في إغناء المضمون الحركي للحركة الإسلاميّة، بالقوّة والوعي والإيمان والثقة بالله والتوكل عليه والانفتاح على كُلّ الآفاق التي تطلُّ على مواقع طاعته ورضوانه.
أما غير الرساليين فإنهم يفقدونَ في داخلهم روحيّةَ القرآن وحيويةَ فكره.. لأنهم يفقدونَ جو الرسالة في حياتهم، ولا نعرفُ كيفَ يفهم مواقف الجهاد أولئكَ الذينَ لا يتحركونَ في مواقع الجهاد، وكيفَ يمكن أن يفهم أُولئكَ معنى التحديات والصعوبات والعقبات التي كانت تواجه الإٍسلام في بداية دعوته، وطبيعة الفعل وردّ الفعل فيما أثارهُ الإسلام في حركة الحياة.. ما داموا لم يعيشوا ذلك كلّه في حياتهم الرخيّة الهادئة التي تعيش في حالة استرخاءٍ كسول هادئ ناعم"[2]. بل إنّهم "يحاولونَ أن يأخذوا من القرآن الأفكار التي تبرر عزلتهم وضعفهم وخوفهم وابتعادهم عن المسؤوليّة عن الإسلام والإنسان والحياة ليعيشوا شرعيّةَ البعد عن ساحة الصراع، ليكون الجهاد ـ عندهم ـ حالةً تأريخيّة في الماضي لا ترتبط بالحاضر والمستقبل، ولتكونَ الدعوةُ إلى الإسلام وإلى الحركة السياسيّة ـ لديهم ـ مجرّدَ حالةٍ ثقافيّة، يعالجها المثقفون بطريقتهم الخاصّة في المحاضرات والكتب"[3].
إنَّ " معجزة القرآن البارزة تكمنُ في انّهُ نزل لمواجهةِ واقع معيّن في حياة اُمّةٍ معينة، في فترةٍ من فترات محددة، وخاضَ بهذه الأمّة معركةً كبرى حوّلت تأريخها وتأريخ البشرية كلّها معها، ولكنّهُ ـ مَعَ هذا ـ يعايش ويواجه ويملك أن يوجه الحياة الحاضرة، وكأنّما هو يتنزل اللحظة لمواجهة الجماعة المسلمة في شؤونها الجارية، وفي صراعها الراهن مَعَ الجاهلية من حولها، وفي معركتها كذلك في داخلِ النفس، وفي عالم الضمير، بنفس الحيويّة، ونفس الواقعيّة التي كانت لهُ هناك يومذاك.
ولكي نحصل نحنُ من القرآن على قوّتهِ الفاعلة، وندرك حقيقة ما فيه من الحيوية الكامنة، ونتلقى منهُ التوجيه المدّخر للجماعة المسلمة في كلّ جيل.. ينبغي أن نستحضر في تصورنا كينونة الجماعة المسلمة الأولى التي خوطبت بهذا القرآن أوّل مرّة.. كينونتها وهي تتحرك في واقع الحياة، وتواجه الأحداث في المدينة وفي الجزيرة العربية كلّها؛ وتتعامل مَعَ أعدائها وأصدقائها، وتتصارع مَعَ شهواتها وأهوائها؛ ويتنزّل القرآن حينئذٍ ليواجه هذا كلّه، ويوجه خطاها في أرض المعركة الكبيرة: مَعَ نفسها التي بينَ جنبيها، ومَعَ أعدائها المتربصين بها في المدينة وفي مكة وفيما حولهما.. وفيما وراءاهما كذلك..
أجل.. يجب أن نعيش مَعَ تلك الجماعة الأولى، ونتمثّلها في بشريتها الحقيقيّة، وفي حياتها الواقعيّة، وفي مشكلاتها الإنسانية؛ ونتأمل قيادة القرآن لها قيادةً مباشرةً في شؤونها اليوميّة وفي أهدافها الكليّة على السواء؛ ونرى كيفَ يأخذ القرآن بيدها خطوةً خطوة. وهي تعثر وتنهض. وتحيد وتستقيم. وتضعف وتقاوم. وتتألم وتحتمل. وترقى الدرج الصاعد في بطءٍ ومشقة، وفي صبرٍ ومجاهدة، تتجلى فيها كل خصائص الإنسان، وكل ضعف الإنسان، وكل طاقات الإنسان.
ومن ثمَّ نشعر أننا نحنُ أيضاً مخاطبونَ بالقرآن في مثل ما خوطبت بهِ الجماعة الأولى. وانّ بشريتنا التي نراها ونعرفها ونحسها بكُلّ خصائصها، تملك الاستجابة للقرآن، والانتفاع بقيادته في ذات الطريق.
إننا بهذهِ النظرة سنرى القرآن حيّاً يعمل في حياة الجماعة المسلمة الأولى؛ ويملك أن يعمل في حياتنا نحنُ أيضاً؛ وسنحس انّهُ معنا اليوم وغداً. وأنّهُ ليس مجرّدّ تراتيل تعبديّة مهوّمة بعيدة عن واقعنا المحدد، كما أنّهُ ليس تأريخاً مضى وانقضى وبطلت فاعليته
ضمن عودة ميمونة للذات، تسود الصحوة الإسلامية أرجاء العالم الإسلامي بعدما أخذَ القرآن الكريم يعيدُ جزءً من دوره في قيادة الأمّة وريادتها بفضل الثورة الإسلامية المباركة التي أعادت للإسلام مكانته، وللقرآن قيمومته، وأخذت الشعوب الإسلامية تتطلعُ إلى الإسلام المنقذ، بعد أن بدأت كلُّ الطروحات الشرقيّة والغربيّة تتهاوى وتتساقط لما وصلت إليه من الطريق المسدود في قيام المجتمع الصالح.
ولكن تبقى العلاقةُ مَعَ القرآن الكريم بحاجةٍ إلى الكثير الكثير من الجهود الكبيرة والمتواصلة.. فإنّ الأمّة الإسلامية قد اعتادت بسبب التخلف والجهل من جهة، والاستعمار من جهةٍ أُخرى، أن تتعامل مَعَ هذا الدستور الخالد تعاملاً باهتاً وخاطئاً. ولم ينسَ الإمام الخميني ـ قدس سرّه ـ في وصيته العبادية السياسيّة، هذهِ المشكلة الكبيرة، بل كان أوّل من أوصى بإعادة دور القرآن للهيمنة وإقامة الحياة، فبثَّ شكواه العميقة، وأسفهُ الشديد لما وصلت إليه الأمّة الإسلامية في علاقتها مّع القرآن الكريم حيث يقول: "ووا أسفاه إنّ القرآن وَهُوَ كتابُ الهداية، لم يعد لهُ دور سوى في المقابر والمآتم بسبب المتآمرين من الأعداء، والجهلة من الأصدقاء"! وقد دعا الإمام في وصيته إلى ما اسماه "إنقاذ القرآن من المقابر"!!
ويمكن تحديد أهم الأسباب الرئيسيّة التي أدّت إلى هجر القرآن الكريم، وتعطيل دوره في الحياة.
السبب الأول: منهج التعاطي الخاطئ:
إنّ التعامل مَعَ القرآن الكريم بعيداً عن أجواء الرسالة التي نزل بها، وبعيداً عن خطوات الصراع التي كانَ يقودها، تجعلنا نعيشَ مَعَ القرآن حالةَ ترفَ واسترخاءٍ ولا مسؤوليّة، لأنّ عزل الآيات عن أجوائها الرسالية، وحركتها التغييريّة يفقدها حرارتها وفاعليتها وحيوتها.
لقد جاءَ القرآن الكريم ليُنشئ أمة قائدة رائدة شاهدة من خلال مواكبِة سيرها وتكاملها في ساحة الصراع المرير مَعَ أعدائها، وهُوَ معها يقودها ويوجهها ويتحكم بحركاتها.. معها في سرّائها وضرائها، في انتصاراتها وانكساراتها، وجاءَ القرآن منهج عملٍ وحركةٍ وجهاد يحكم الحياة من خلال النهوض والقيام ولينهي مرحلة التدثر والتزمّل: (يا أيّها المدّثر قم..) (يا أيّها المزمل قم..) فقد ولى عهدُ النوم والراحة والفراش وجاءَ عهدُ القيام والنصب والآلام. ولقد أدركَ الرسول القائد عمق مسؤوليّة الرسالة والقيام، فخاطبَ زوجته المجاهدة التي تطلبُ منهُ الراحة في بعض الأحيان، قائلاً: (مضى عهدُ النوم يا خديجة)!!
ولقد أدركَ الجيل القرآني الأوّل الترابط بينَ دراسة التأريخ وصناعة التأريخ، وكانَ القرآن هو الذي يقودهم في مسيرتهم، يتلقونهُ كما يتلقى الجندي في ميدان المعركة الأمر اليومي ليعمل بهِ فور تلقيه، ولهذا فلم يكن أحدهم ليستكثر منهُ الجلسة الواحدة، لأنّهُ كانَ يحسُ انّهُ إنّما يستكثر من واجباتٍ وتكاليف يجعلها على عاتقه. فكانَ يكتفي بعشرِ آيات حتى يحفظها ويعملَ بها. وهذا الشعور.. شعور التلقي للتنفيذ.. كانَ يفتح لهم من القرآن آفاقاً من الوعي، وآفاقاً من المعرفة، لم تكن لتفتح عليهم لو أنهم قصدوا إليه بشعور البحث والدراسة والإطلاع، "إنَّ منهج التلقي للتنفيذ والعمل هو الذي صنَعَ الجيل الأوّل، ومنهج التلقي للدراسة والمتاع هُوَ الذي خرّجَ الأجيال التي تليه"[1].
إنَّ الذينَ يعيشونَ الأجواء الرسالية بكلَّ مصاعبها ومتاعبها، آلامها وآمالها، دماءَها ودموعها، ويعيشون أجواء التغيير والعمل والحركة والجهاد، هم الذينَ يستطيعونَ أن يفهموا القرآن الكريم ويستوعبوا توجيهاتِهِ، ويتذوقوا آياته، ويدركوا ثقل تكاليفه ومسؤولياته.
من هذا المنطلق "فإننا نستطيع أن نقرر الفكرة التالية: وهي أنَّ القرآن لا يفهمهُ إلاّ الرساليون الذين يعيشونَ حركة الرسالة في الحياة" ولا يفهمه بوعي إسلامي إلاّ الحركيون الذين يعيشون تجربةَ المعاناة الروحيّة والجسديّة في دروب الرسالة في طريق الله، لأنّهم يفهمونّهُ في نطاق الأجواء التي نزل فيها، والأوضاع التي حرّكها، والأهداف التي أطلقها في كل ساحات الصراع، ويستوحونهُ في إغناء المضمون الحركي للحركة الإسلاميّة، بالقوّة والوعي والإيمان والثقة بالله والتوكل عليه والانفتاح على كُلّ الآفاق التي تطلُّ على مواقع طاعته ورضوانه.
أما غير الرساليين فإنهم يفقدونَ في داخلهم روحيّةَ القرآن وحيويةَ فكره.. لأنهم يفقدونَ جو الرسالة في حياتهم، ولا نعرفُ كيفَ يفهم مواقف الجهاد أولئكَ الذينَ لا يتحركونَ في مواقع الجهاد، وكيفَ يمكن أن يفهم أُولئكَ معنى التحديات والصعوبات والعقبات التي كانت تواجه الإٍسلام في بداية دعوته، وطبيعة الفعل وردّ الفعل فيما أثارهُ الإسلام في حركة الحياة.. ما داموا لم يعيشوا ذلك كلّه في حياتهم الرخيّة الهادئة التي تعيش في حالة استرخاءٍ كسول هادئ ناعم"[2]. بل إنّهم "يحاولونَ أن يأخذوا من القرآن الأفكار التي تبرر عزلتهم وضعفهم وخوفهم وابتعادهم عن المسؤوليّة عن الإسلام والإنسان والحياة ليعيشوا شرعيّةَ البعد عن ساحة الصراع، ليكون الجهاد ـ عندهم ـ حالةً تأريخيّة في الماضي لا ترتبط بالحاضر والمستقبل، ولتكونَ الدعوةُ إلى الإسلام وإلى الحركة السياسيّة ـ لديهم ـ مجرّدَ حالةٍ ثقافيّة، يعالجها المثقفون بطريقتهم الخاصّة في المحاضرات والكتب"[3].
إنَّ " معجزة القرآن البارزة تكمنُ في انّهُ نزل لمواجهةِ واقع معيّن في حياة اُمّةٍ معينة، في فترةٍ من فترات محددة، وخاضَ بهذه الأمّة معركةً كبرى حوّلت تأريخها وتأريخ البشرية كلّها معها، ولكنّهُ ـ مَعَ هذا ـ يعايش ويواجه ويملك أن يوجه الحياة الحاضرة، وكأنّما هو يتنزل اللحظة لمواجهة الجماعة المسلمة في شؤونها الجارية، وفي صراعها الراهن مَعَ الجاهلية من حولها، وفي معركتها كذلك في داخلِ النفس، وفي عالم الضمير، بنفس الحيويّة، ونفس الواقعيّة التي كانت لهُ هناك يومذاك.
ولكي نحصل نحنُ من القرآن على قوّتهِ الفاعلة، وندرك حقيقة ما فيه من الحيوية الكامنة، ونتلقى منهُ التوجيه المدّخر للجماعة المسلمة في كلّ جيل.. ينبغي أن نستحضر في تصورنا كينونة الجماعة المسلمة الأولى التي خوطبت بهذا القرآن أوّل مرّة.. كينونتها وهي تتحرك في واقع الحياة، وتواجه الأحداث في المدينة وفي الجزيرة العربية كلّها؛ وتتعامل مَعَ أعدائها وأصدقائها، وتتصارع مَعَ شهواتها وأهوائها؛ ويتنزّل القرآن حينئذٍ ليواجه هذا كلّه، ويوجه خطاها في أرض المعركة الكبيرة: مَعَ نفسها التي بينَ جنبيها، ومَعَ أعدائها المتربصين بها في المدينة وفي مكة وفيما حولهما.. وفيما وراءاهما كذلك..
أجل.. يجب أن نعيش مَعَ تلك الجماعة الأولى، ونتمثّلها في بشريتها الحقيقيّة، وفي حياتها الواقعيّة، وفي مشكلاتها الإنسانية؛ ونتأمل قيادة القرآن لها قيادةً مباشرةً في شؤونها اليوميّة وفي أهدافها الكليّة على السواء؛ ونرى كيفَ يأخذ القرآن بيدها خطوةً خطوة. وهي تعثر وتنهض. وتحيد وتستقيم. وتضعف وتقاوم. وتتألم وتحتمل. وترقى الدرج الصاعد في بطءٍ ومشقة، وفي صبرٍ ومجاهدة، تتجلى فيها كل خصائص الإنسان، وكل ضعف الإنسان، وكل طاقات الإنسان.
ومن ثمَّ نشعر أننا نحنُ أيضاً مخاطبونَ بالقرآن في مثل ما خوطبت بهِ الجماعة الأولى. وانّ بشريتنا التي نراها ونعرفها ونحسها بكُلّ خصائصها، تملك الاستجابة للقرآن، والانتفاع بقيادته في ذات الطريق.
إننا بهذهِ النظرة سنرى القرآن حيّاً يعمل في حياة الجماعة المسلمة الأولى؛ ويملك أن يعمل في حياتنا نحنُ أيضاً؛ وسنحس انّهُ معنا اليوم وغداً. وأنّهُ ليس مجرّدّ تراتيل تعبديّة مهوّمة بعيدة عن واقعنا المحدد، كما أنّهُ ليس تأريخاً مضى وانقضى وبطلت فاعليته