الصبـر عنـد المصيبـة
حياة الإنسان تكون دائماً في معرض الحوادث والبلاءات المؤلمة والشاقة. فهذا من لوازم وجود الإنسان على هذه الأرض. ويوجد في هذا المجال كلام مشهور لمولى المتقين علي (عليه السلام) حيث يصف الحياة الدنيا أنها "بالبلاء محفوفة" فالآلام، والخسائر الجسمانية والمالية، وفقد الأعزاء، والحرمان و... وغيرها من أشكال المصائب كانت ملازمة لتاريخ البشر سواء كانوا متنعمين أم لا.
ومع هذا الحوادث التي تجري على الإنسان دون ميله وإرادته، تبرز صور أعمال الناس. فالبعض يفقد القدرة على المقاومة في وجه المصيبة، ويصاب بهزيمة معنوية. بينما البعض الآخر يتحمل المصاب أو يعتبره أمراً طبيعياً، ويخفف من وقعه، ليخرج منه سالماً ومرفوع الرأس. وبقول الشاعر رودكي فإن عظمة وسمو الإنسان يمكن اختبارها أثناء البلاء والمصيبة.
أما الجزع والنحيب فهما أسلوب الضعفاء وأصحاب القلوب الضعيفة والصغيرة. وهذا هو الميل الطبيعي في غريزة الإنسان التي تفرض حالة من الانفعال العاطفي الذي يسيطر عليه أو يجعله يشكو ويئن، ويحمله على العويل والصراخ وضرب الرأس والأرجل كما هو معروف عند وقوع المصائب. وهنا يكون الصبر على المصيبة بمعنى التسليم والرضا في مقابل الاضطراب العاطفي. والإنسان الصبور عند المصائب هو الذي لا يفقد القوة الروحية والشخصية الإنسانية، ولا ينجرف مع الحوادث التي تقع عليه. فمصيبته لا تبث فيه الوهن ولا تشل عزمه ولا توقفه عن السعي والجهاد في طريق الهدف الأساسي للحياة. وهذا الصبر هو أيضاً ممدوح كما جاء في الحديث "حسن جميل".
ولو تقرر أن يفقد من يفترض عليه سلوك طريق الوصول إلى الهدف، عزيمته وأجزاء من نشاطه المعنوي على أثر كل حادثة مؤلمة، لم يكن من الصحيح أن نتوقع منه المحافظة على القاعدة والذخيرة الروحية اللازمة لطي هذا الطريق.
ولهذا، فإن مقاومة الميول التي تجعل الإنسان ضعيفاً عند المصائب هي العامل الذي يحفظ العزيمة والنشاط الروحي وتمنع من فقدانه وتضييعه. والأمر الأكثر أهمية والأعلى قيمة أن نفس هذه المقاومة تعدّ رياضة وتمريناً صعباً ومفيداً يزيد من قوة الإرادة وصلابة العزم وهو الشيء الذي يستحيل بدونه سلوك هذا الطريق الصعب وخصوصاً عند مواجهة تلك الحوادث.
فالصبر عند المصيبة له فائدتان في غاية الأهمّية:
الأولـى : حفظ الذخيرة والنشاط المعنوي الذي تبنى على أساسه الأعمال والتحرّكات المفيدة من الضياع أو تزول .
الثانيـة : تقوية الإرادة والعزم الذي يدفع الإنسان للقيام بالأعمال ويمدّه بالصبر والمقاومة عند المصائب المفاجئة. وهذا النوع من الصبر حثّ عليه بشكل مدهش أولياء وأئمة الدين، نظراً إلى دوره البنَّاء والاستثنائي المدهش في صناعة الإنسان .
ويمكننا أن نشاهد في هاتين الروايتين ما يشير إلى هذه الفلسفة العميقة. :
الأولى عن أبي عبد الله أو عن أبي جعفر (صلى الله عليه وآله وسلم) قال: "من لا يُعدّ الصبر لنوائب الدهر يعجز".
والثانية عن أبي عبدالله (عليه السلام) قال: "إن العبد ليكون له عند الله الدرجة لا يبلغها بعمله، فيبتليه الله في جسده أو يصاب بماله، أو يصاب في ولده، فإن هو صبر بلَّغه الله إياها".
ويظهر بوضوح من هذه الرواية دور الصبر البنَّاء والرافع. وننقل في هذا المجال حادثة تتعلق بعثمان بن مظعون :
أحد المسلمين الأوائل من ذوي السابقة الحسنى في تاريخ صدر الإسلام ومن الذين هاجروا إلى الحبشة والمدينة حيث فقد ولده الشاب هناك وكان لهذه المصيبة وقع عليه إلى درجة قرر على أثرها الجلوس في البيت وقضاء باقي عمره في العبادة، والابتعاد عن مزاولة الأعمال والنشاطات الاجتماعية. وكان هذا الأثر الذي جعل كل مظاهر الحياة عنده تفقد معناها. وعندما عرف رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) بالأمر توجّه إليه ونهاه عن هذا العمل قائلاً له "لا رهبانية في الإسلام"، أي أنه لا يجوز في الإسلام الانزواء وترك الدنيا وصرف العمر بالعبادات الفردية "إنما رهبانية أمتي الجهاد".
فالصبر على المصائب اللاإرادية يعني:
تحمل المصيبة وعدم فقدان النشاط والفعالية في الحياة، وتناسي الصدمة الناشئة من الحادثة المؤلمة، وذلك بالاستمرار في العمل والسعي الأساسي للحياة.
تعليق