المساعد الشخصي الرقمي

مشاهدة النسخة كاملة : قراءة في عالم الشباب


الشيخ عباس محمد
10-05-2016, 03:02 PM
قراءة في عالم الشباب
1 ـ مراحل النمو البشري
(هوَ الذي خلقكُم مِنْ ترابٍ ثمَّ مِنْ نطفةٍ ثمَّ مِنْ علقةٍ ثمَّ يخرجكُم طفلاً ثمَّ لتبلغوا أشدكم ثم لتكونوا شيوخاً ومنكم من يتوفى من قبل ولتبلغوا أجلاً مسمى ولعلكم تعقلون) (غافر / 67)
(ما لكم لا ترجون لله وقارا * وقد خلقكم أطواراً). (نوح/13 ـ 14))
وهكذا أبدع خالق الوجود هذا الكائن المعقّد التكوين والفاعلية، فقد انطلقت حركة الحياة بقدرة خالقها من تراب الارض، لتمر عبر مراحل من التكوين والنمو والتطور العضوي والنفسي والعقلي. ان عظمة الله
تتجلى في بيان هذه الاية، تتجلى في كيفية نشأة هذا الانسان من تراب الارض.
نشأة الجسم بأجهزته وأعضائه المعقَّدة التكوين والاداء والنشاط، تتجلى بتكوينه النفسي، وبحالاته الانفعالية والعاطفية من الحب والكراهية والرضا والسخط والشهوة والغضب والخوف والحزن والفرح.
تتجلى بتكوينه العقلي، بالادراك الحسي والتجريدي وبالخيال والقدرة على التفكير بالغائب والمجهول، وموقفه النفسي منه، وقدرته على اكتشافه والاعداد والتخطيط له.
انها عظمة الله تتجلى فى خلق الانسان التي يتحدث عنها القرآن في هذه الاية، ليبرز أهم ثلاث مراحل في حياته، تمثل التحولات الجسدية والعقلية والنفسية الاساسية في حياته، وهي:
1 ـ مرحلة الطفولة.
2 ـ مرحلة بلوغ الشدة (القوة).
3 ـ مرحلة الشيخوخة.
ولقد اجرى علماء الطب والنفس دراسات علمية تجريبية على التكوين الانساني المتعلقة بمرحلة الطفولة وخصائصها، كما درسوا المرحلة الثانية باطوارها الثلاثة: المراهقة، الشباب، الكهولة.
وفي الخطاب الاسلامي للانسان تجد التمييز في التربية والتكليف والتوجيه والتعامل بين أفراد الانسان في المراحل والاطوار. وهذا المنهج يكشف عن رؤية علمية، وتشخيص موضوعي دقيق لتكوين الانسان النفسي والعقلي والجسدي، وبناء التعامل على هذا الاساس.
وفي بحثنا هذا نريد أن نتحدث عن مرحلة الشباب لاهميتها في حياة الانسان، لانها مرحلة القوة والحيوية والنشاط الغريزي وتفتّح الطاقات والمؤهلات، ولانها مرحلة محفوفة بالمخاطر والمآزق النفسية والعاطفية والغريزية.
فطاقة الشباب الجسدية والعقلية والنفسية كأية طاقة حرَّة في هذا الوجود، كالطاقة المائية والطاقة النووية، يمكن أن توجه لخدمة الانسان وخير البشرية، كما أنها قابلة لان تتحول الى طاقة هدم ومشاكل ومعاناة للفرد نفسه وللمجتمع.
2 ـ العوامل المؤثرة في سلوك الفرد
يشكل السلوك الانساني وحدة موضوعية مترابطة، وهو نتيجة لتفاعل وتداخل عوامل وعناصر عديدة، فموقف الانسان، كالرحمة والصدق والعدل، والنطق بالكلمة الطيبة، أو الكذب والنفاق وجريمة القتل، وتناول المخدر، وممارسة الاحتكار، هو في حقيقته مرآة يعكس لنا عدداً من العوامل والعناصر التي تفاعلت فيما بينها، فصنعت من ذلك الانسان انساناً رحيماً أو مجرماً محترفاً للاجرام، أو محتكراً جشعاً، أو انساناً متوازن الشخصية، أو معقداً يعاني من مرض نفسي أو عصبي.
ان الدراسات النفسية وبحوث علماء الطب والفسيولوجيا والاجرام وعلم النفس استطاعت أن تقدم لنا تحليلاً للسلوك الانساني، وترجعه الى عوامله ودوافعه الاولى، فكشفت تلك البحوث والدراسات عن أن الموقف السلوكي ـ الخيّر منه والشرير ـ هو مركَّب من تفاعل عدة دوافع وعوامل ونوازع ذاتية وبيئية ووراثية واجتماعية... الخ.
ومن المفيد أن نلخص تلك العوامل بشكل موجز لنقدم توضيحاً لحالات المواقف لاسيما الازمات والعقد والمشاكل النفسية، وحالات الانحراف والممارسات السلوكية غير الطبيعية التي تظهر على مساحات واسعة من جيل الشباب.
فظاهرة التمرد على الاعراف والقانون السليم، والشذوذ الجنسي، والاجرام والسرقة والعدوانية، وانحلال الشخصية والتسكع، وتناول الكحول والمخدرات، والانتحار والامراض العصبية والنفسية، التي كثيراً ما تتحول الى امراض جسدية. ان كلّ تلك الظواهر والحالات يمكن ارجاعها الى العوامل الاساسية التي كونت الشخصية.
ومهما نتحدث عن تلك العوامل، ينبغي ان ندرك ان الانسان كائن ذو ارادة وقدرة على التغيير، واختيار المواقف السوية، بدلاً من المواقف الانحرافية؛ لذا شرعت التوبة، وشُرّع الامر بالمعروف والنهي عن المنكر.
أما العوامل التي تشترك في صنع سلوك الفرد فهي:
1 ـ الاسرة وظروف التربية الاُولى.
2 ـ البنية التكوينية.
3 ـ التربية المدرسية.
4 ـ الاعلام.
5 ـ السلطة والقوى السياسية.
6 ـ الثقافة والمعتقد الذي يؤمن به الشاب.
وسنعرّف بدور كل تلك العناصر والعوامل، وأثرها في سلوك الشباب بصورة خاصة.
وان مثل هذه التوعية تضع الشاب أمام حالة من التأمل والمناقشة، والمحاكمة للنوازع والدوافع الغريزية والعاطفية والبواعث السلوكية، قبل أن يستجيب لها، ويقدم على فعل أو موقف.
وكم هو رائع ودقيق ذلك التوجيه النبوي الكريم القائل:
«اذا هممت بامر فتدبر عاقبته، فإن كان خيراً فاسرع اليه، وان كان شراً فإنته عنه»(1).
ولابد من أن نعرف أن من أهم أسباب المشاكل السلوكية في مرحلة الشباب، هو الانسياق غير الواعي وراء الدوافع والرغبات النفسية، والرضوخ لضغوط الغريزة والانفعالات التي تضغط على شخصية الشاب بوعي وبغير وعي.
ويمكننا أن نفهم هذا التوضيح من تحليل العلاقة بين الفكر والوعي والسلوك تحليلاً علمياً، كما أننا نجد ذلك مشخصاً في البحوث والتقارير الميدانية، والارقام والاحصاءات الدالة على تفشِّي الجريمة والانحراف والممارسات الشاذة في الاوساط التي يخيِّم عليها الجهل، والتخلف الفكري والثقافي، والكفر بالله، الذي هو نتيجة اخرى من نتائج الجهل البشري، وعدم فهم هذا العالم وتفسيره تفسيراً سليماً.
1ـ الاُسرة وظروف التربية الاُولى
ان النظرة العلمية التي ينظرها الاسلام لنشأة ونمو وتكوين الانسان عبر مراحل وجوده تتجلى في مقومات الربط بين تلك المراحل، ومنذ انعقاد النطفة، وحتى بلوغه مراحل الشيخوخة.
فقد ربط الاسلام بين أنواع الاغذية التي يتناولها الوالدان، وبين النطفة التي يتكون منها الجنين، كما ربط بين تعامل الوالدين مع الطفل في نشأته الاولى، ومايحيط به من أجواء وظروف ومحيط، وبين تكون شخصيته.
لذا نجد الرسول الكريم (ص) يوضح أن اعتناق الانسان لفكرة معينة وسلوك معين بمرحلة البلوغ والمسؤولية، انّما يساهم في تكوينه الابوان في مرحلة النشأة والتعليم.
فالانسان عندما يكون مسلماً مستقيم السلوك والشخصية، أو عنصراً منحرفاً، انّما يشارك في ذلك تأثير الابوين والنشأة الاولى. فالانسان يولد على الفطرة النقية الصافية المتجهة نحو الاستقامة في أصل نشأتها.
الاّ أن هذه الفطرة قابلة للتكيّف، وتقبل مختلف صور الفكر والسلوك، فتتشكل الذات، وتتكون الشخصية في مرحلة النشأة الاولى .. يتضح ذلك من قول الرسول الكريم محمد (ص) : «كل
مولود يولد على الفطرة حتى يكون أبواه هما اللذان يهوّدانه وينصّرانه ويمجسانه»(2).
ويتحدث القرآن عن هذه الحقيقة، حقيقة العلاقة بين التربية الاولى التي يتولاّها الآباء، وبين سلوك الانسان بعد مرحلة البلوغ والتكامل العقلي والجسدي.
قال تعالى: (والله أخرجكم من بطون أُمهاتكم لاتعلمون شيئاً وجعل لكم السمع والابصار والافئدة لعلكم تشكرون). (النحل / 78)
(ياأيها الذين آمنوا قوا أنفسكم وأهليكم ناراً وقودها الناس والحجارة).(التحريم / 6)
فبذا يربط القرآن بين ما يتعلمه ويكتسبه الانسان في نشأته الاولى، مما يسمع ويرى ويعقل، وبين ما تؤول اليه الشخصية فيما بعد؛ لذا دعا الآباء الى تربية أبنائهم تربية صالحة، وحذّرهم من نتيجة الاهمال.
ويربط الامام علي (ع) بين ما يكتسبه الانسان في مرحلة الطفولة، وبين ما تستقر عليه شخصيته من أوضاع فكرية ونفسية وسلوكية في مرحلة البلوغ في وصيته لولده الامام الحسن السبط(ع) قال:
«انّما قلب الحدث كالارض الخالية؛ ما أُلقي فيها من شيء قبلته، فبادرتك بالادب قبل أن يقسو قلبك، ويشتغل لبك، لتستقبل بجدِّ رأيك من الامر ما قد كفاك أهل التجارب بغيته وتجربته، فتكون قد كُفيت مؤونة الطلب، وعُوفيت من علاج التجربة»(3).
ان الامام المربي يثبت لنا بذلك مبدأ تربوياً هاماً، وهو المبادرة الى تربية الطفل تربية صالحة (قبل أن يقسو قلبه، ويشتغل لبه).
ان هذا المبدأ التربوي القائم على أُسس علمية يدعونا الى المبادرة لتربية الطفل، وتعليمه قبل أن تتشكل شخصيته، وتأخذ صيغتها، وتمتلئ بالتجارب والمعلومات غير السويّة، وتتطبّع على انماط من السلوك يحتاج التخلص منها الى اعادة التربية، وتشكيل الشخصية مرة اُخرى. وفي اعادة التصحيح والاصلاح جهد ومعاناة، وتحمّل للتبعات والمشاكل التي يرتكبها الناشئ والشاب.
وربما تعذر حلّ بعضها، وذهب الانسان ضحيتها؛ ذهب ضحية المشاكل التي واجهها في تربيته واُسرته الاولى.
فإن منشأ الكثير من العقد والامراض النفسية والمشاكل السلوكية، هو مرحلة الطفولة غير السوية، التي تنشأ تحت وطأة المشاكل والاجواء المضطربة والمتأزمة، والتعامل غير السليم.
ان دراسة أُجريت على 7598 جانحاً في الولايات المتحدة الاميركية من نزلاء المؤسسات الاصلاحية سنة 1910 أظهرت أن 7ر50% أتوا من اُسر متصدِّعة. وأن 5ر50% من نزلاء المدارس الاصلاحية في انجلترا، واسكتلندا أتوا من بيوت متصدعة. وان أحصاءً قام به أحد باحثي المانيا الغربية على 144 من المجرمين الاحداث بيَّنَ أنهم جميعاً ينتمون الى اُسر متصدعة.
كما أجرى أحد الباحثين في المانيا الغربية احصاءً على 2000 حدث مجرمين تبيَّن من خلاله أن 26% منهم ينتمون الى اُسر انفصل فيها الابوان عن حياتهما الزوجية لسبب وآخر.
وأجرى باحث فرنسي عام 1942 في مدينة باريس دراسة على الاحداث المنحرفين فتبيّن أن 88% منهم كانت اُسرهم متفككة)(4).
كما ان سبب العادات الحسنة بشكل أساس هو التربية البيتية، كذلك فإن كثيراً من الحالات الانحرافية والعقد والامراض النفسية التي يعاني منها الفرد في مرحلة الشباب، مثل الحقد والشعور بالنقص، والكسل، والاتكالية، والانانية، والعدوانية، والبذاءة، وحالات الشذوذ الجنسي، والخمور، والمخدرات، والتسكع، والكذب، والسرقة، والنفاق، وسوء معاشرة الاخرين، والكسل، والانطوائية، والجبن، تعود نشأتها الى التربية البيتية في مرحلة الطفولة، فتنشأ مع الانسان عاداته وأخلاقه وصفاته، وتشب وتبقى تلازمه. وان كان التخلص منها والانتصار عليها أمر ممكن.
فالانسان كائن ذو ارادة واختيار، وقدرة على التغيير، الاّ ان ذلك يكلّفه مشقّة ومعاناة، كما انّ البعض يذهب ضحية تلك التربية.
لذا فإن من أسباب فهم الانسان لشخصيته، وللحالات التي يعاني منها، أو الاخرى الايجابية في شخصيته أن يستذكر طبيعة نشأته الاولى، ويدرس ظروف الطفولة التي نشأ فيها، ليعرف منشأ المشكلة، أو الايجابية في شخصيته.
2ـ البنية التكوينية
تفيد الدراسات والابحاث الميدانية التي اُجريت على سلوك الافراد، لاسيما السلوك الشاذ غير الطبيعي، كالمصابين بالشذوذ الجنسي، والعقد والامراض النفسية والعصبية والمجرمين القتلة... الخ.
تفيد تلك الدراسات أن هناك عوامل بيولوجية وفسيولوجية، بعضها وراثي، تؤثر في سلوك الفرد، كما تؤثر عوامل التربية والمحيط، والاكتساب الاجتماعي.
فقد ثبت علمياً أن لافرازات الغدد الصماء ـ الهرمونات ـ تأثيراً بالغاً على الشخصية، وتزداد فاعلية وتأثير تلك الهرمونات في مرحلة المراهقة والشباب ـ ذكوراً واناثاً ـ وبكيفيات تناسب طبيعة الجنس.
غير أن الانسان بقدرته الارادية، يستطيع ان يُغيِّر مواقفه، ويتصرف في المثيرات والمحفزات والرغبات والشهوات الشخصية.
وتؤكد الدراسات العلمية أن نوع التكوين الانساني، والتركيب الجسمي له تأثير في نوعية السلوك والتصرف البشري.
فالفتاة والشاب، يؤثر في سلوكهما طبيعة تركيبهما الجسدي، من الجمال والقوة، أو الضعف وبساطة الشكل، أو فقدان عناصر الجمال.
كما يؤثر الانتماء الطبقي، ومستوى الموقع الاجتماعي للفرد في سلوكه وممارساته وشدة الرجولة والانوثة، أو ضمورها في الشخص حسب انتمائه الجنسي؛ بل وللون البشرة وحجم بعض الاعضاء، كالنهدين والشعر في الفتاة، والعضلات وطول القامة في الشاب، واللباقة الكلامية، تأثير في السلوك والتعامل، والنظرة للذات ولقيمتها عند الاخرين.
وانطلاقاً من أن تكوين الانسان الجسدي، يؤثر في سلوكه وتعامله وثقته بنفسه، بل وفي نشوء الحالات السلوكية غير الصحيحة، كالغرور والتكبر، أو الشعور بالنقص، والغيرة والحسد، وربما نشوء روح الانتقام من الاخرين عندما يشعر بتخلف الحالة الجسدية، أو الجمالية عنده، عالج الاسلام تلك المسألة معالجة خاصة فحذر من الغرور والكبرياء، كما حذر من الغيرة والحسد والشعور بالنقص، وأوضح ان قيمة الانسان بأفكاره وسلوكه وخلقه.
فالانسانية قيمة ومعنى، وذات متقوّمة بالفكر والمشاعر والوجدان والاخلاق والارادة، وليس بالظواهر الجسدية، ولا بالشكل المادي المغري للانسان. جاء ذلك في قوله تعالى: (انّ اُكرمكم عند الله اتقاكم). (الحجرات / 13)
كما جاء التحذير من الانخداع بالشكل الظاهر الجسدي، الذي لا يحمل المحتوى الانساني السوي، في وصفه للمنافقين في قوله تعالى: (واذا رأيتهم تعجبك أجسامهم وان يقولوا تسمع لقولهم كأنهم خشب مسندة يحسبون كل صيحة عليهم هم العدو فاحذرهم قاتلهم الله أنى يؤفكون). (المنافقون / 4)
وقال محذراً من الغرور في وصية لقمان لابنه:
(ولاتمش في الارض مرحاً انك لن تخرق الارض ولن تبلغ الجبال طولاً).(الاسراء /37)
وفي حديث الرسول الكريم محمد (ص) بيان وتوعية وتثقيف، وتعريف بقيمة الاعمال والصور الجسدية، قال (ص):
«ان الله تعالى لاينظر الى صوركم واموالكم، ولكن انما ينظر الى قلوبكم وأعمالكم»(5).
وكما جاء التحذير، والدعوة الى عدم الغرور والتعالي، أو الاغترار بالشكل والجسم والمظاهر الجسدية، كاللباقة الكلامية، والقوة والصحة... الخ، قام بتوعية اخرى لمن يفقدون بعض الملكات الجسدية، ويشعرون بالنقص، وروح الغيرة والحسد، وربما يدفعهم ذلك الى الشعور بالنقص والخجل، أو يولد في البعض روح الانتقام.
قال تعالى: (قل أعوذ برب الفلق * من شر ما خلق* ومن شر غاسق اذا وقب * ومن شر النفاثات في العقد* ومن شر حاسد اذا حسد(6)). (الفلق / 1 ـ 5)
وقال تعالى: (ولا تتمنّوا ما فضّل الله به بعضكم على بعض للرجال نصيب مما اكتسبوا وللنساء نصيب مما اكتسبن وَسْألوا الله من فضله انّ الله كان بكلِّ شيء عليماً). (النساء / 32)
وتتجسد الدعوة الى التكامل النفسي، والنظر الى الذات نظراً متوازناً، بعيداً عن الشعور بالنقص، أو نتيجة لما يتمتع به الانسان من مواصفات، في دعاء الامام زين العابدين، علي بن الحسين (ع): «اللهم واجعل غناي في نفسي»(7).
فالدعاء يلخّص أرقى تعامل تكاملي مع الذات، ويجنّبها الاحساس بالنقص، أو الشعور بالحقد والحسد والغيرة.
ففي كل انسان مواصفات وقابليات وملكات يتمتع بها، كافية لان تجعل منه انساناً مقتنعاً بشخصيته لو أحسن الاستفادة منها، وذلك عدل الله سبحانه، وتلك حكمته في الخلق، والشعور بتفوق الاخرين
دافع نحو العمل والابداع والاحساس من الجميع بالحاجة الى الاخرين. وضّح القرآن ذلك بقوله: (ورفعنا بعضهم فوق بعض درجات ليتّخذ بعضهم بعضاً سخرياً).(الزخرف / 32)
ونجد تلك التوعية على معالجة تلك المشكلة النفسية التي تنشأ بسب الوضع الجسدي للانسان واردة في عموم ما بيَّنه الرسول (ص)من صفات الانسان المؤمن، جاء ذلك في قوله (ص): «ولايجتمعان في قلب عبد، الايمان والحسد»(8).
3ـ التربية المدرسية
لم تعد مسألة التربية وأثرها في السلوك المستقبلي للانسان، مسألة علمية، أو عملية غامضة، فهي من أوضح القضايا في منطق العلم. فالعناصر التربوية في الحياة المدرسية لها أكبر الاثر في تكوين الشخصية، وتشكيل هويتها.
فالطفل في عالمنا المعاصر يقضي الشطر الهام من حياته في أجواء المدرسة، فهو يبدأ حياته في أحضانها، ومنذ دور الحضانة ورياض الاطفال يتدرج في مراحل حياته بين المدارس الابتدائية والمتوسطة والثانوية والجامعة، فهو يقضي حياة الطفولة والمراهقة والشباب في نظام حياتي مخطط ومصمم وفق اُسس وأهداف ومنهج محدد.
لذا فهو ينشأ وينمو وتتكون شخصيته وفق فلسفة التربية والنظرية الحياتية التي تتبناها المدرسة، سواء المدارس التي تديرها الدولة، أو الافراد والمؤسسات، فهي تعمل على صياغة نمط الشخصية، ولون السلوك.
فالمدرسة التي تتبنى الفكر المادي من خلال منهجها، والاجواء التربوية فيها وطريقة الممارسات السلوكية المختلفة وتربي الفردية والاباحية ولاتعتني بقيم الاخلاق والايمان بالله، فإنها تنتج شخصية اباحية، تبحث على مستوى السلوك الفردي عن اللذة والمتعة، وتنساق وراء الشهوات والدوافع الغريزية الشاذة من غير ضوابط، وهي على الصعيد الاجتماعي والسياسي تنتج عقلية مادية رأسمالية.
لذا فإن الاصلاح والتغيير العام، يبدأ بشكل اساس من المدرسة في فلسفتها التربوية، ومناهجها وطرق الحياة فيها، وشخصية المعلم الممارس للتعليم.
فإن العناصر المدرسية ـ المنهج واسلوب الحياة والتعامل داخل المدرسة والمعلم ـ تساهم بمجموعها بتكوين وبناء الشخصية.
فالمدرسة تربي الطالب على ان يعيش مع عشرات، أو مئات من الطلبة، ويتعامل مع مختلف الشرائع والاذواق والطبائع، ويكتسب منهم.
كما تقوم المدرسة التي تبني الحياة التربوية فيها على اُسس فلسفة محددة بغربلة الاوضاع الاجتماعية، وانتخاب ما يوافق فلسفتها، ورفض ما لا ينسجم وأهدافها، لذا فهي نموذج مصغر لمجتمع ودولة.
وليس هذا فحسب، فالمدرسة تشكل بالنسبة الى الطالب، ومنذ يبدأ بالاحساس بفهم شخصيته، ونمو التفكير بالمستقبل الذي يأخذ بالسيطرة على تفكيره وطموحاته، تكون بالنسبة اليه هي الوسيلة الاساسية التي يحقق من خلالها أهدافه الحياتية، وطموحاته المستقبلية.
لذا فإن استطلاع الرأي العام وسط الطلبة، يوفر لنا قراءة للامال والاتجاهات والميول التي يحملها الطلبة، وتحديد نمط المستقبل الذي يراودهم، كما وأن الفشل في الدراسة ينتج مشكلة كبرى للكثير منهم، تنعكس على سلوكهم، ومستقبل حياتهم، بل وعلى اُسرهم ومجتمعهم؛ لذا تنبغي دراسة مشاكل الطفل والمراهق المدرسية، قبل أن تستفحل ويصعب حلها فيترك الدراسة في المرحلة الابتدائية أو المتوسطة أو الثانوية، دون ان يكتسب الثقافة، أو المهارة والخبرة العلمية التي تحقق آماله المعقولة.
وكثيراً ما يكون للمعلم، واُسلوب التربية في المدرسة، أو طريقة التعامل الاثر الكبير في حصول المشاكل للطفل والناشئ والمراهق، مما اقتضى ان يكون في المدرسة باحث اجتماعي ونفسي لدراسة مشكلة الطالب، حسب سنّه وظروفه، ومشاكله من الطفولة والصبا والمراهقة، وحلها بالطرق والوسائل العلمية، قبل أن تتحول الى مشكلة وعقدة تشرد الطالب، وتجني على مستقبله الدراسي، وقد اخذت المدارس الحديثة بهذا الاسلوب.
كما وتساهم الظروف الاقتصادية السيئة مساهمة كبيرة في ترك الطالب في هذه السن للدراسة، وتوجهه لطلب العيش، أو يتركها بسبب العجز عن تغطية نفقات الدراسة.
كما ويساهم أصدقاء السوء مساهمة كبيرة في حصول الفشل الدراسي. فالطفل والمراهق يسهل جذبه في هذه المرحلة الى ممارسات اللهو والانشغال، وتحويل الاهتمام من الجدية والتفكير في المستقبل المحترم الى التردي والتسكع والتشرد والعبث.
ولثقافة الابوين، وتقديرهم لمستقبل أبنائهم، وحرصهم عليهم، ولاسلوبهم في التعامل معهم من التشجيع والتوجيه، أو سوء التعامل والاهمال، الاثر الكبير في الفشل الدراسي، أو تحقيق النجاح والتفوق.
كل ذلك يدعو الى التعامل مع الشاب والمراهق، أو من هو على أبواب المراهقة بتوجيه سليم، وتعامل يساعده على النجاح في حياته المدرسية.
ومن الجدير ذكره أن الا سلام اعتبر طلب العلم فريضة على كل مسلم، وعلى المستويين: المستوى العيني، والمستوى الكفائي. اعتبر التعلم بمختلف فروعه، طريقاً الى اكمال انسانية الانسان ، والايمان بالرسالة الالهية، ومعرفة الله تعالى، والاستقامة السلوكية، وبناء المجتمع، وتنظيم الحياة، جاء ذلك واضحاً في قوله تعالى:
(انمّا يخشى اللهَ من عباده العلماء). (فاطر / 28)
وبقوله: (يرفع الله الذين آمنوا منكم والذين اُوتوا العلم درجات). (المجادلة / 11)
وبقوله: (اقرأ وربّك الاكرم * الذي علّم بالقلم * علّم الانسان ما لم يعلم). (العلق / 3 ـ 5)
وربط بين الجهل والانحطاط السلوكي. فقال تعالى: (انكم لتأتون الرجال شهوة دون النساء بل أنتم قوم تجهلون). (النمل / 55)
وقال تعالى: (والاّ تصرف عني كيدهن أصب اليهن واكن من الجاهلين). (يوسف / 33)
(وحملها الانسان انّه كان ظلوماً جهولاً). (الاحزاب / 72)
(اني أعظك أن تكون من الجاهلين). (هود / 46)
(ولكني أراكم قوماً تجهلون). (الاحقاف / 23)
وكما أسس القرآن الدعوة الاسلامية على أساس العلم والمعرفة، ونادى باقامة الايمان على أساس العلم والدليل والبرهان، واصل الرسول (ص) الدعوة الى طلب العلم، والحث عليه، ومارس هو(ص) نشر العلم والمعرفة.
وطلب الرسول (ص) من أسرى قريش في بدر، أن يعلّم كل واحد منهم عشرة صبيان من أبناء المسلمين، كفداء لهم من الاسر، ليوحي بأنّ الفك من أسر الحروب يعادله الفك من أسر الجهل.
وكم نقرأ في الاحاديث والاوامر والارشادات النبوية الكريمة، الحث والالتزام بطلب العلم. منها قوله (ص): «طلب العلم فريضة على كل مسلم»(9).
ومنها: «انّ الملائكة لتضع أجنحتها لطالب العلم»(10).
ومنها: «من سلك سبيلاً يطلب به علماً، سلك الله به سبيلاً الى الجنة».
من تلك وأمثالها من البيانات والممارسة، نكتشف أهمية العلم، وطلبه في الاسلام. ويتضح لنا الاهتمام بعلوم الحياة، كالطب والهندسة والفيزياء والزراعة والكيمياء، ومختلف المهن والصناعات، اذا عرفنا أنّ الشريعة الاسلامية اعتبرت تلك العلوم والصناعات والمهن، من الواجبات الكفائية، أي يجب توفيرها بقدر الكفاية، نعرف أهمية العلم، وهدف الاسلام العملي من تحصيل العلوم.
وتتولى الدولة، كما يتولى الافراد تنفيذ هذا الواجب. وذلك يعني اعداد الافراد وتأهيلهم علمياً، وتدريبهم على الخبرات والحرف والمهن المختلفة، لتوفير الكفاية الاجتماعية من تلك العلوم والصناعات والمهن والحرف.
ويزداد حث الاسلام الآباء على تعليم أبنائهم، والرفق بهم، وحل مشاكلهم، ومن الواضح أن للاُسرة دوراً كبيراً في توفير الاجواء المناسبة لتعليم الأبناء، وتشجيعهم على طلب العلم حتى مرحلة التأهيل الكافي، وتجنيبهم أصدقاء السوء، الذين يساهمون في ارباك الاستمرار الدراسي، كما تستطيع الاُسرة، بالتعاون مع المدرسة، حل مشاكل الأبناء الدراسية.
ومما ينبغي الاهتمام به، هو توعية الطلبة عن طريق المقررات الدراسية وأجهزة الاعلام على أهمية الدراسة، وتشجيعهم على الاستمرار حتى اكمال المراحل الدراسية، وتعريفهم بالاسباب التي تعيق مواصلة الدراسة، واعطاؤهم النصائح والارشادات الكافية، لانقاذهم من الهروب من الدراسة، أو معاهد التأهيل المهني.
كما يجب على الدولة أن تساهم مساهمة فعالة في التعليم، وفي حل مشاكل الطلبة الاقتصادية التي تضطرهم لترك الدراسة.
انّ الشاب مدعو الى التفكير بوعي في الحرص على مستقبله، وانّ مواصلة الدراسة والعلم واكتساب المهارات والخبرات، والتأهيل المهني مسألة أساسية في حياته، يجب عليه أن يهتم بها، وليكن أكثر الناس حرصاً على مستقبله، وعليه أن يجعل الاخرين الذين خسروا مستقبلهم ودراستهم عبرة له، ولا يكون هو ضحية الاخطاء.
4ـ الاعلام وسلوك الشباب
في عالمنا المعاصر تطورت وسائل الاتصال، ونقل الافكار والمعلومات، بشكل لم يسبق له مثيل، فهي تنتقل بسرعة الضوء والصوت، وتغزو العالم في ثوان معدودة.
وهناك أعداد ضخمة من المؤسسات والاجهزة والادوات الخاصة بالتثقيف الجماهيري وتكوين الرأي العام، وتصميم الشخصية.
وغدت وسائل الاعلام والمعلومات، كالتلفزيون وشبكات الانترنيت والكومبيوتر والصحافة والراديو والكتاب والمجلة... هي القوة المهيمنة على التفكير والفعالة في تكوين نمط السلوك.
فالاعلام يساهم في تكوين الفكر السياسي والدعاية للشخصيات والافكار، كما يساهم مساهمة فعالة، لاسيما الاعلام المصور، كالتلفزيون والسينما والفيدو والمجلة بالاغراء الجنسي، والتعريف بالازياء والسلوك والافكار والاثارة، وتوجيه الرأي العام.
والشباب ـ لاسيما في مرحلة المراهقة ـ مهيأون أكثر من غيرهم، لتقمص الشخصيات، والتأثر بالشخصيات التي تظهر على شاشة التلفزيون، أو السينما، من الممثلين وعارضي الازياء، ورجال العصابات، وشخصيات العنف... الخ.
كما يتأثر الشباب بالشخصيات التي تمثل دور البطولة السياسية والاجتماعية والثورية وعظماء التاريخ، ذلك لان المراهق ـ من الاناث والذكور ـ في هذه المرحلة هو في طور تكوين الشخصية، وانتقاء المثال الذي يتأثر به.
وحيث انّ الغرائز والمشاعر، لاسيما غريزة الجنس، هي في قمة القوة والعنفوان، والضغط على المراهق، وتبحث عن طريق للتعبير والتفريغ، فإن وسائل الاعلام ساهمت مساهمة فعالة في اثارة الغريزة الجنسية عن طريق الافلام والصور الخلاعية والماجنة والمغرية وعن طريق القصص الغرامية والادب والثقافة، كما ساهمت أفلام العصابات والاجرام في حرف الكثير من المراهقين وتدريبهم على اقتراف الجريمة، لذا فإن الرقابة في بعض دول العالم تمنع العديد من عرض الافلام الجنسية، وأفلام العصابات، كما تمنع أحياناً حضور المراهقين الى قاعات عرض تلك الافلام.
وتفرض بعض دول العالم الرقابة على أفلام الفيديو الخليعة والمثيرة، أو التي تدرّب على تناول المخدرات والجريمة.
سجل الدكتور اسكندر الديلة نتيجة احصائية قام بها في لبنان، تخص مشاهدة الفيديو، جاء فيها: (أن مشاهدة الافلام الاجتماعية والعاطفية حازت على الدرجة الاولى، وحلت الافلام البوليسية في المرتبة الثانية....)(11).
وجاء في تقرير آخر: لقد تبين من دراسة اجريت في الولايات المتحدة على 110 من نزلاء مؤسسة عقابية أن 49% من هذه المجموعة أعطتهم السينما الرغبة في حمل السلاح و 12 ـ 21% منهم أعطتهم السينما الرغبة في السرقة ومقاتلة الشرطة.
ومن خلال دراسة اُجريت على 252 فتاة منحرفة بين سن 14 ـ 18 سنة تبيَّن أنَّ 25% منهن مارسن العلاقات الجنسية نتيجة مشاهدتهن مشاهد جنسية مثيرة في السينما. و41% منهن قادتهن المشاهد الى الحفلات الصاخبة، والمسارح الليلية. و54% منهن هربن من المدرسة لمشاهدة الافلام. و17% تركن المنزل لخلاف مع الاهل حول ذهابهن الى السينما.
وجاء في تقرير الهيئة الصحية العالمية عن انحراف الاحداث، وعلى لسان أحد القضاة الفرنسيين العاملين في ميدان الاحداث ما يأتي: «لا يخالجني أيّ تردد أن لبعض الافلام، وخاصة الافلام البوليسية المثيرة معظم الاثر الضار على غالبية حالات الانحراف لدى الاحداث».
وفي انجلترا تمكنت بعض الدراسات من خلال استجواب 1344 شخصية اختصاصية حول العلاقة بين السينما وانحراف الاولاد دون السادسة عشرة فأجاب ستمائة منهم بوجود علاقة بين انحراف الاحداث والسينما.
كما اظهرت بعض الدراسات في الغرب على أنَّ بعض السرقات الكبيرة كان الدافع اليها تردد الاحداث بشكل متكرر الى قاعات السينما)(12).
وهكذا يتضح أن مشاهدة الافلام العاطفية، ومنها الجنسية هي في المرتبة الاولى، وأن مشاهدة الافلام البوليسة يأتي في المرتبة الثانية، وكما أكدت الدراسات العلمية، فإن المراهق في هذه المرحلة يسعى من خلال المحيط لتكوين شخصيته، وهو سريع التأثر والتقبل؛ لوجود العواطف والغرائز والشحنات النفسية والجسدية المتوثبة، والباحثة عن التعبير والتفريغ.
ومن هذه الاحصائية ندرك أهمية العمل الاعلامي في تكوين السلوك العاطفي والغريزي، والاقدام على تقمص شخصيات أبطال الافلام والمغامرات.
5ـ السلطة والقوى السياسية
مع تطور الحياة الاجتماعية والمدنية وتعقيدها تعاظم دور السلطة والدولة وأهميتها في حياة الفرد والجماعة، وأصبح تدخل الدولة مسألة بارزة، وضرورية أحياناً في القضايا الاجتماعية والفكرية والتربوية والاقتصادية والتثقيفية والاعلامية، فهي التي تشرف على فلسفة التربية ونظمها، وهي التي تدير اكبر المؤسسات الاعلامية، وتوجه المؤسسات الاخرى وفق خطها الفكري وسياستها العامة، وهي التي تصمم طبيعة النظام والقانون الذي يبيح للافراد هذا السلوك أو ذاك، أو منعهم منه، وبالتالي فإن الدولة تساهم مساهمة فعالة في تكوين شخصية الفرد وثقافته ونمط سلوكه، سلباً وايجاباً.
والرسالة الاسلامية عندما اعتبرت وجود الدولة الاسلامية أمرا واجباً، وعُرِّفت الدولة الاسلامية بأنها: «الدولة التي تقوم على اساس الاسلام وتستمد منه تشريعاتها» انما كانت تسعى لان تكون الدولة هي الاداة التنفيذية للمبادئ، وبناء الفرد والجماعة وقيادة الاُمّة على اساس الاسلام. لذا ثبت علماء العقيدة الاسلامية المبدأ القائل ان وجود الامام لطف، أي يقرب العباد من الطاعة ويبعدهم عن المعصية، ذلك لانه يمارس عملية بناء الحياة، وقيادتها على اساس القيم والمبادئ الاسلامية من خلال الدولة التي يقودها.
وكما تساهم الدولة في تكوين سلوك الافراد تساهم القوى والاحزاب السياسية في تكوين شخصيات الافراد، لاسيما الشباب، ذلك لانهم أكثر أفراد المجتمع اقبالاً على الانتماء السياسي للقوى والحركات والاحزاب السياسية، وحمل افكارها، سواء أكانت تحمل فكراً نيِّراً ومستوحىً من مبادئ الاسلام وقيمه الاصيلة، أو كانت أحزاباً وتجمعات منحرفة أو متحللة. لذا كان واجب الآباء توجيه الأبناء نحو الصواب، وحمايتهم من الانزلاق في صفوف الحركات والاحزاب والتجمعات المنحرفة عن المنهج الاسلامي القويم، وتجنيبهم المخاطر، وحالات الانحراف.
6ـ أثر الثقافة والمعتقد الذي يؤمن به الشاب
(والله أخرجكم من بطون اُمهاتكم لا تعلمون شيئاً وجعل لكم السمع والأبصار والأفئدة لعلّكم تشكرون). (النحل / 78)
(اقرأ وربّك الأكرم * الذي علّم بالقلم * علّم الانسان ما لم يعلم* كلاّ إنّ الانسان لَيَطغى * أن رآهُ استغنى). (العلق / 4 ـ 7)
(إنما يخشى اللهَ من عباده العلماءُ). (فاطر / 28)
تشير هذه الآيات الكريمة من بين آيات عديدة الى أهمية العلم والتعليم، وتربط بين العلم والمعرفة والسلوك، وتوضح العلاقة الترابطية بين تلك الحقائق، فالشكر والخشية، أي الطاعة والالتزام بالقانون وقيم الأخلاق، قبل أن يتحول الى موقف يمرُّ بمراحل داخل الذات يبدأ بالتصور، وهو البذرة الاولى للفعل، ثم يحدث الميل النفسي (الاستجابة) نحو ذلك التصور، ثم القناعة به (تصديقه) ثم اختياره، واتخاذ القرار الذاتي بالفعل، ثم اصدار الامر بالفعل، فتحدث الاستجابة الحركية الفعلية للأفكار.
وهكذا يتحول التصور الى فعل عبر عمليات عقلية ونفسية وعصبية وعضلية معقدة.
ومن الواضح أن العقيدة والثقافة التي يحملها الانسان تساهم في خلق الأفكار والتصوّرات التي تصنع الموقف، وفي الميل اليه، واتخاذ قرار الفعل.
وتدل الدراسات الميدانية ان مستوى ونوع الثقافة والفكر والعقيدة التي يحملها الانسان، تؤثر تأثيراً بالغاً في سلوكه، فإن الاحصائيات تفيد أن نسبة الاجرام والانحراف عالية في الأشخاص غير المتعلمين، أو واطئي الثقافة والمعرفة، وغير المؤمنين بالله، وبمسؤولية الحساب الاخروي، أو الذين لا يحترمون يوم الجزاء، لجهلهم وتردي وعيهم.
فالمعرفة والتأهيل الثقافي المتقدم الذي يحمله الانسان يساهم في حماية الشخصية من السقوط، وممارسة الاجرام بصورة عامة، كما يساهم الايمان بالله، وبعالم الآخرة مساهمة كبرى في استقامة السلوك، وتوازن الشخصية.
فالانسان الذي يحمل وعياً اجتماعياً وعلمياً لتصورات الفعل التي تراوده، ويدرك عواقبه السيّئة ونتائجه الوخيمة في الدنيا والآخرة، يشكل ذلك الفهم والوعي، بصورة أساسية، رادعاً عن السقوط والولوغ في تلك الممارسات المشينة.
والمتعلم الواعي لعلمه وثقافته، يحترم شخصيته، ويعرف قيمة وجوده الانساني في المجتمع، ويقدر مسؤوليته أمام خالق الوجود الذي آمن به عن علم ووعي، فيترّفع عن الاجرام، وممارسات السقوط، وارتكاب المعاصي، ويحصّن نفسه ضدها.
وكلما تعالت مفاهيم التقوى والورع والتزكية والقيم والاعتبارات، واحترام الشخصية عند الفرد، بسبب ثقافته ووعيه الاجتماعي، ومعرفته بالله؛ ازداد بعده عن الخروج على القيم الاجتماعية السليمة، وازداد احترامه للقانون الذي يحمي مصلحته، ومصلحة المجتمع، ويحقق أمنه وسلامته. كما يدعوه ذلك الوعي العلمي والثقافي الى تجنب ممارسة الأفعال التي تجلب عليه اهانة الشخصية، والوقوع تحت طائلة العقاب القانوني والالهي، واحتقار المجتمع، ورفض الرأي العام له.
في حين يكون الشخص الجاهل المتردّي الفهم والثقافة والوعي لقيمة وجوده وشخصيته، طعمة للجريمة والانحلال والسقوط.
وقد جاء في أحد التوجيهات الواردة عن أئمة أهل البيت ـ عليهم السلام ـ تحليل علميّ دقيق يوضح أهمية احترام الانسان لشخصيته، ووعيه لقيمة وجوده ومعرفته بعواقب الاُمور، وأثر كل ذلك في ممارسة السلوك العداوني، والسقوط الاجتماعي، فقد جاء في الحديث الشريف: «من هانت عليه نفسه فلا تأمن شره»(13). وورد أيضاً: «صديق الجاهل تعب»(14).
كما جاء توجيه سلوكي، وتحليل نفسي آخر، في حديث يوضح صعوبة تدريب الجاهل على الاستقامة، بعد أن انحرف عنها، وتغيير سلوكه المعتاد، الذي اتخذ صيغة نفسية وسلوكية متكررة، مما يكشف خطورة الجهل، وتأثيره البالغ في احداث الجريمة والانحراف وترسيخهما. جاء ذلك في قول الامام الصادق (ع): «رياضة الجاهل، وردّ المعتاد عن عادته، كالمعجز»(15).
والدراسات والاحصاءات الميدانية والتحليل العلمي، تكشف لنا
أن الاستقامة النفسية والسلوكية تحتاج الى ثلاثة عناصر اساسية هي:
1 ـ العلم والمعرفة بالسلوك والفعل الذي يقدم عليه الانسان، فالانسان الذي يعرف ضرر الخمر والمخّ‍درات والتدخين والقمار والطيش، وخطر الزنا، والشذوذ الجنسي، لا يقدم عليه، ولا يرتكبه. أما الذي تقوده الشهوة والجهل، فإنه يقع فريسة تلك الممارسات الهّدامة، ويضيّع فيها ماله وصحته وسمعته؛ لذا يجب توعية جيل الشباب والمراهقين، وتثقيفهم بالارقام والحوادث والاحصاءات، والتجارب التي وقع فيها الآخرون، من ذكور واناث، فذهبوا ضحيتها، ليتكون لديهم الوعي، والرادع الذي يردعهم عن كارثة السقوط في تلك الهاوية، ويجنّبهم الوقوع فيها.
ولكي تستقيم سلوكية الانسان، يجب الحرص على نشر العلم والوعي والثقافة ومكافحة الجهل والامية، وأن يكون المنهج المدرسي والثقافة التي يتلقاها الناشئون والشباب وغيرهم هي ثقافة علمية موجهة لحماية الانسان من السقوط والانحراف والجريمة.
فإن العلم يوفّر للانسان: وعي الكون والحياة، وفهمهما فهماً علمياً صحيحاً، فيتعامل معهما تعاملاً سليماً متوازناً، بعيداً عن الخرافة والجهل، ويوفر له وعي الذات، وفهم قيمة وجوده وقدره وشخصيته، فيتعامل مع ذاته وشخصيته تعاملاً موضوعياً، ويحفظ لها كرامتها وسلامتها وحرمتها، كما يوفر له فهم الدوافع والنوازع والانفعالات التي تتحرك في أعماق نفسه، وتدفعه نحو الافعال، فيوجهها الوجهة الصحيحة، ويتعامل معها تعاملاً واعياً، فيرفض منها ما يدفعه نحو الشر، أو يقوده الى الضرر والتضييع، ويستجيب لنوازع الخير والاتجاه الطبيعي السليم.
ويوفر العلم للانسان أيضاً فهم الفعل ونفعه وضرره الذي يعود عليه وعلى مجتمعه، فيفعل ما هو خير ونافع، ويرفض ما هو ضار وشرير، ويضع بين يديه فهم حاضره ومصيره ومستقبله، فيجنبه الوقوع في الأخطاء والمشاكل وتضييع الفرص النافعة والمؤاتية، ويوفر له فهم الواقع والمحيط الذي يعيش فيه، فيعرف كيف يتعامل معه، ويجنب نفسه المشاكل، ويوظف الممكن الصالح والمفيد .. وهكذا يكون العلم دليل الانسان، وقائده في الحياة.
2 ـ العقيدة: وتشكل العقيدة والقيم الفكرية والثقافية التي يحملها الانسان الدافع الأساس نحو ممارسة هذا السلوك أو ذاك أو تركه.
فالنظريات والأفكار الإباحية، كالفكر الماركسي والوجودي والفكر المادي المنحل، المتستّر بالحرية، ونظريات علماء النفس الاباحيين، وغيرها من النظريات القائمة على أساس الفهم المادي المجرد عن القيم الأخلاقية، والايمان بالله، والداعي الى الاباحية، قد جرَّ على البشرية ألوان الانحراف والشذوذ والكوارث والممارسات المادية.
ويبقى المنقذ الفكري والعقيدي الوحيد للبشرية هو الاسلام الذي نظّم السلوك البشري على أساس عقيدي، اذ حرَّم كل ما من شأنه الضرر بصحة الانسان أو بالمصلحة الفردية والجماعية، فحرّم الزنا واللواط والخمور والقمار والمخدّرات والقتل والاغتصاب الذي بلغ لدى الانسان المادي الى مستوى بيع الملايين من الأطفال للاستخدام الجنسي، والمتاجرة بالجنس ذكوراً واناثاً.
لذا فإن الشاب المؤمن بالله، وبيوم الحساب والجزاء، يحصّن نفسه من الوقوع في تلك الممارسات التي تقود الى اتلاف الصحة والمال والسمعة، وكثيراً ما تنتهي بالسجون والانتحار والقتل، واساءة السمعة وسقوط الشخصية.
وتؤكد الاحصاءات والدراسات التي تقوم بها المعاهد المختصة، ان نسبة الجريمة والانحراف والمشاكل والأمراض النفسية، تتصاعد في أوربا وامريكا وروسيا واليابان وغيرها من بلدان العالم، رغم التقدم العلمي والتقني والرفاه الاقتصادي؛ ذلك لأن العلم والمعرفة والرفاه الاقتصادي لا تحصّن الانسان من الانحراف والجريمة والشذوذ.
فالانسان قد يعرف قبح وخطر الكذب والتزوير والزنا والمخدّرات والتدخين والاسراف والاحتكار والظلم والبذاءة والقتل والسرقة والاغتصاب والانتحار واليأس والسخط والقلق والغرور... الخ ولكنه يمارسه بشكل متصاعد، اذ لم يمنعه العلم المنفصل عن الايمان بالله وبالجزاء عن تلك الجرائم... ويجمع القرآن بين العلم والايمان، ويربط بينهما بقوله: (يرفع الله الذين آمنوا منكم والذين اُوتوا العلم درجات). (المجادلة / 11)
فالتقدم والرقي الانساني لا يكون الا بالتفاعل بين العلم والايمان.
3 ـ الارادة: الارادة هي القدرة على الفعل والترك، وهي خلاصة الموقف الانساني المعبّر عن وجوده، والارادة هي أساس المسؤولية الشرعية عن الفعل.
فالانسان القوي الارداة يستطيع التحكم بالمواقف والدوافع والرغبات والنزعات النفسية، كما يستطيع مواجهة الحوادث والصدمات والأزمات... وبذا يكون سلوكه سلوكاً انتقائياً أمام المثيرات والمغريات والأزمات.
وإنّ سر قوة الشخصية، بصورة أساسية، هو قوة الارادة. كما انّ قوة الارادة، هي أحد الاسباب المؤثرة في نجاح الانسان، وتنفيذ أهدافه وطموحه المستقبلي المشروع .. فبالارادة يقاوم الانسان اغراء الجنس المحرّم، والمال الحرام، ومحاولات اقناع المنحرفين لما يريدون أن يسخروه له، والمغرّرين به، ومثيرات الفعل الشاذ والمنحرف. وبالارادة يقاوم الرغبة في تناول الكحول والتدخين والمخدرات... الخ؛ لذا فإن تربية الارادة كانت من أهم أهداف الاسلام التربوية والأخلاقية.
ويحتاج الشاب احترام اراداته الذاتية؛ ليدخل ميدان الحياة قوي الشخصية انتقائي السلوك والمواقف. يفكّر ويحسب ويوازن قبل أن يتخذ القرار، لاسيما وانه يعيش في مرحلة صاخبة من الانفعالات والاثارات الغريزية العارمة.
ومن أهم عناصر تقوية الارادة هي: الايمان بالله سبحانه، والمواظبة على الصبر، وأداء العبادات، كالصوم والصلاة والجهاد، وتدريب النفس على ترك المحرّمات والمكروهات، وأداء الواجبات وتهذيبها، والقناعة بما عنده، والاصرار على تنفيذ ما يريد تحقيقه من أهداف الخير، وطرد التردّد والأفكار القلقة.
3 ـ مشاكل الشباب
لكل مرحلة من مراحل الحياة خصوصياتها الخاصة بها من التكوين العقلي والجسدي، والأمراض الجسمية، والمشاكل النفسية، والممارسات السلوكية.
فلكل من مرحلة الطفولة، ومرحلة ما قبل المراهقة، ومرحلة المراهقة، وكذا الكهولة والشيخوخة خصوصياتها، وان الفرد يحمل معه في كل مرحلة بعضاً من آثار المرحلة السابقة التي كثيراً ما تسلك أساساً للمرحلة اللاحقة.
ولعل المشاكل التي تنشأ في مرحلة الشباب والمراهقة، هي من أخطر المشاكل، وأكثرها أهمية. ومن المفيد أن نذكر أبرز تلك المشاكل التي تحدث للشباب، فيعانون منها معاناة شخصية، والاُخرى التي يحدثونها لاُسرهم ومجتمعاتهم، وتسليط الضوء عليها، وهي:
1 ـ الشباب وترك الدراسة.
2 ـ التمرد.
3 ـ تسلط الخيال وأحلام اليقظة.
4 ـ الغرور وعدم تقدير العواقب.
5 ـ القلق.
6 ـ الشباب والجنس.
7 ـ تناول المخدّرات والتدخين.
8 ـ البطالة.
1ـ الشباب وترك الدراسة
التربية والتعليم، والتأهيل العملي للحياة، قضايا أساسية في حياة الانسان، ففاقد التربية السويّة، التي تعدّه لأن يكون فرداً صالحاً في بناء المجتمع، وانساناً مستقيماً في سلوكه، ووضعه النفسي والأخلاقي، يتحول الى مشكلة، وخطر على نفسه ومجتمعه.
والفرد الذي لا يملك القسط الكافي من التعليم والمعرفة التي يحتاجها في الحياة، هو جاهل يضر نفسه ومجتمعه، ولا يمكنه أن يساهم في بناء حياته أو مجتمعه بالشكل المرجو من الانسان في هذا العصر.
فالأبوان الجاهلان لا يعرفإن كيف يربيان أبناءهما، والزوجة الجاهلة لا تعرف كيف تتعامل مع زوجها والفلاّح الجاهل لا يعرف كيف يستخدم طرق الزراعة، وصاحب الثروة الجاهل لا يعرف كيف يوظف ثروته.
وهكذا ينسحب أثر الجهل في كل حقل من حقول الحياة. وليس هذا فحسب، بل وأن الجهل هو مصدر الشرور والتخّلف، بل وسبب رئيس من أسباب الجريمة في المجتمع.
فالمجتمع الجاهل، أو المثقل بالجهل، لا يمكنه أن يمارس عمليات التنمية والتطور، والخلاص من التخّلف، والتغّلب على مشاكله: السياسية، والأمنية، والاقتصادية، والاجتماعية.
والشباب الاُمي، أو الذي لم يستوفِ القدر الكافي من المعرفة والثقافة، وكذا الذي لا يملك التأهيل العملي، كالحرفة والمهنة، لا يمكنه أن يؤدي دوره في المجتمع، أو يخدم نفسه واُسرته بالشكل المطلوب، وتفيد الدراسات والاحصاءات، أنّ الاُمية والجهل، وقلة الوعي والثقافة، هي أسباب رئيسة في مشاكل المراهقين والشباب.
وبذا تكون مشكلة الاُمية، وضعف التأهيل العملي، هما من أهم المشاكل التي يجب التغلب عليها من قبل الاُسر والدول.
وغير هذه المشكلة فإن هناك مشكلة ترك الدراسة، في المرحلة الابتدائية، أو المتوسطة، أو الثانوية، أو الجامعية. وهي احدى المشاكل الكبرى التي عرّضت، وما زالت تعرض مستقبل الشباب للخطر، فهي تدفعهم للبطالة وللتسكّع، واقتراف الجرائم والممارسات السلوكية المنحرفة، ما لم يكن هناك اصلاح، أو توجيه أُسري، أو رعاية اجتماعية.
ولترك الدراسة أسبابها النفسية والعقلية والاجتماعية والاقتصادية، وربما الصحية أحياناً. كما انّ للتشرد الناتج عن الاضطهاد السياسي، وعدم الاستقرار الأمني، دوره الكبير في ترك الدراسة وانتشار الاُمية. و ثمة سبب مدرسي يساهم في الارغام على ترك الدراسة، من قبل البعض من الطلبة، وهو سوء تعامل الادارة، أو المدرسين مع الطالب أو الطالبة.
إن الطالب الذي يعيش مشكلة نفسية، ربما كان سببها الاُسرة، وسوء تعامل الأبوين، أو المشاكل المستمرة بينهما، أو مشاكل الطلاق التي تؤدي الى ضياع الأبناء، وتشرّدهم، أو تقصير الآباء وعدم رعايتهم لأبنائهم، واهمال حثّهم وتشجيعهم، وعدم توفير الظروف اللازمة لمواصلة الدراسة؛ إنّ كل تلك المشاكل تساهم في ترك عدد من الطلبة للدراسة، وفقدان الدافع نحو مواصلتها.
كما انّ انصراف ذهن الطالب عن الدراسة، وارتباطه بأصدقاء السوء، أو أصدقاء فاشلين يدفعونه نحو اللهو أو اللعب والعبث، أو الممارسات السيئة؛ ان كل تلك الأسباب تؤدي بالطالب الى ترك الدراسة، وتدمير مستقبله، وربما الجناية عليه.
ولعل من الأسباب المهمة لترك الدراسة، بصورة اضطرارية، أو التوقف عن اكمالها هو الفقر، فالعائلة الفقيرة لا تستطيع أن تُوفّر النفقات اللازمة لدراسة الأبناء، مما يضطر الطالب الى ترك الدراسة في فترات مبكرة، وهو لمّا يستوفي القسط الكافي منها، ليتوجه الى العمل، وكسب لقمة العيش.
ان كل تلك المشاكل وأمثالها بحاجة الى دراسة علمية، ووضع الحلول لها من قبل الدولة والاُسرة والمجتمع والمدرسة.
2ـ التمرّد
تثير كلمة التمرّد تصوّراً سلبياً لدى السامع عند اطلاقها، فهي تعني عند المتلقي العصيان والرفض السلبي دائماً، والتمرد بمعناه الاسلامي المرفوض: هو عبارة عن الخروج على السلطة والقيم والقوانين والعقائد والأعراف السليمة، أو هو الخروج على ما ينبغي الالتزام به. فليس التمرد هو مجرد الرفض، وعدم الانصياع لما ألفه الناس، فهناك من المألوفات أو القوانين والعقائد والقوى غير الصحيحة ما يجب رفضه، والتمرد عليه.
لذا فإن ظاهرة التمرد التي تظهر في حياة الشباب، المنطلقة من الشعور بالقوة والتحدي، وضرورة التغيير، تتجه اتجاهين متناقضين: اتجاهاً سلبياً ضاراً وهدّاماً، واتجاهاً ايجابياً مغيراً يساهم في تطوير المجتمع، والدفاع عن مصالحه.
وظاهرة التمرد السلبي التي تنشأ في أوساط المراهقين والشباب، هي من أعقد مشاكل الاُسر والمجتمعات.
وللتمرّد السلبي، أو التمرّد على ما ينبغي الالتزام به من عقيدة سليمة، وقوانين وقيم، أسبابه الذاتية والموضوعية التي تنبغي دراستها، للتعامل معها بوعي وتخطيط.
فإن ظاهرة التمرّد في أوساط المراهقين مسألة خطيرة على الفرد والاُسرة والمجتمع. وتبدأ ظاهرة التمرد السلبي في أحضان الاُسرة، وذلك برفض أوامر الوالدين، أو تقاليد الاُسرة السليمة، وعدم التقيّد بها عن تحّد وإصرار.
ثم التمرد على الحياة المدرسية، بما فيها من قوانين الحضور، واعداد الواجبات المدرسية، واطاعة القوانين المرعيّة في قاعة الدرس، وحرم المدرسة، والعلاقة مع الطلبة والأساتذة. ويأتي معها في هذه المرحلة التمرّد على القانون والمجتمع والسلطة بشقّيه السلبي والايجابي.
جاء في احصائية اُجريت عام 1970: (ان نسبة 20% من شباب المجتمع الفرنسي تحت عمر الثلاثين، ونسبة 30% من الرجال تحت عمر الأربعين أيضاً اشتركوا في مظاهرات مايو 1968 في فرنسا. وقد تبين من تحليل هذه الظاهرة أن الجيل الأصغر من أفراد المجتمع سرعان ما يتحد من خلال أي شكل من أشكال التمرد الموجه ضد النظام القائم، الاّ انه وجد من خلال دراسات اخرى أنه لا يمكن تعميم هذه النتيجة)(16).
وللتمّرد أسبابه التي تبعث عليه وتغّذيه، لعل أبرزها ما يأتي:
أ ـ ممارسة بعض الآباء للدكتاتورية في التعامل مع الأبناء، ومصادرة ارادتهم، والاكثار من منعهم من غير موجب مشروع للمنع. فالأب لا يُغيّر طريقة تعامله مع المراهق والشاب، ويظل يتعامل معه كما يتعامل مع الطفل الذي لا يملك وعياً ولا ارادة، من خلال الأوامر والنواهي، والتدخل في شؤون الأبناء، كشؤون الدراسة، والزواج، والعمل، والحياة اليومية، والصرف المالي، بل ونوع اللباس …الخ، مما يضطر بعض الأبناء الى التمرد والرفض، وعدم الانصياع لأراء الآباء وأوامرهم، فتحدث المشاكل وتتعقد العلاقة بينهم، وقد تنتهي الى نتائج سيئة من التشرد، وسقوط الاحترام المتبادل، والخروج من بيت الاسرة، أو غير ذلك.
وقد تناول الفكر الاسلامي هذه المسألة بالدراسة والبحث والتوجيه لتحصل الطاعة والاحترام بين الطرفين، فقد فرّق الفكر الاسلامي بين برِّ الوالدين، وبين الطاعة لهما، كما فرَّق بين الارشاد والتوجيه والتربية، وبين فرض الارادة على الأبناء، والاملاء عليهم.
وأوجب الفقه الاسلامي برَّ الآباء، ولم يوجب الطاعة بغير طاعة الله، فمثلاً التشريع الاسلامي لم يوجب على البنت أو الابن طاعة والديهما اذا رغبا بزواجهما من زوج أو زوجة لا تتوفر الرغبة فيه.
ان واجب الآباء هو ارشاد أبنائهم الى الطريق السوي، وتجنيبهم ما يضرّ بحاضرهم ومستقبلهم، انطلاقاً من المسؤولية الشرعية، وواجب الأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر، والتوسل بكل الوسائل السليمة للحيلولة دون وقوعهم في مهاوي السقوط، والفشل في الحياة، وعليهم أن يُفهموا الأبناء أن المنطلق للمعارضة لارادة الأبناء ورفض اختيارهم، انما هو لصالحهم، وعليهم أن يوضحوا لهم ذلك بالنصيحة، وبالتي هي أحسن، ويحولوا دون الوقوع في الانحراف، والتورط بالمشاكل والممارسات السيئة.
وإن من الخطأ أن يحاول الآباء أن يفرضوا على الأبناء قناعاتهم، ونمط تفكيرهم، وطريقة حياتهم الخاصة التي ليس لها مبرر مشروع، بل لمجرد الالفة، والاعتياد الاجتماعي، فتصطدم بما يحمله الأبناء من تطلعات واهتمامات، وما يفرضه العصر من أوضاع، وطريقة خاصة للحياة.
وقد حذّر الامام علي (ع) الآباء من ذلك بقوله:
«لا تقسروا أولادكم على آدابكم، فإنهم مخلوقون لزمان غير زمانكم»(17).
فهذا التشخيص الاسلامي للتطور في أساليب الحياة، وما يحدث من تحول فارق في الوضع الاجتماعي بين جيلين، يلقي الضوء التشخيصي على أعقد مسألة في الصراع بين جيل الآباء وجيل الأبناء، المؤدي الى التمرد بشقَّيه السلبي والايجابي.
والفكر الاسلامي عندما يشخّص هذه الحقيقة، انّما يدعو لأخذها بنظر الاعتبار والتعامل معها كحقيقة حضارية في حياة الانسان، ضمن الاُسس والقيم السليمة، ولقد شدد الاسلام على تحذير الآباء، ومنعهم من سوء التعامل مع أبنائهم الذي يجرُّ الى التمرد والعصيان، فيصل الى العقوق.
فقد ورد في التوجيه النبوي الكريم: « ياعلي لعن الله والدين حملا ولدهما على عقوقهما»(18).
كل ذلك لتحصين الجيل الجديد من الدخول الى دائرة التمرد السلبي، الذي تعاني منه الاُسر والدول والمجتمعات في حضارة الانسان المادية، والفهم المخالف للمنهج الاسلامي في التعامل مع هذه القضية.
وكما يتحمل الآباء هذه المسؤولية، فإن توعية الأبناء وتربيتهم على حب الوالدين، واحترامهم والاستماع الى نصائحهم منذ الطفولة، وتحاشي التمرد عليهم، مسألة مهمة.
ان تربية الطفل، وتعريفه بحقوق الوالدين، وأدب التعامل معهما بالقول والتصرف معهما، هي من الأسباب المساعدة على حل مشكلة التمرد. ولظروف البيئة العائلية، لاسيما العلاقة بين الأبوين والاحترام المتبادل بينهما، أو العلاقة السيئة التي تكثر فيها المشاكسة والعصيان والمشاكل، أثرها البالغ في تعميق أو معالجة هذه المشكلة.
ب ـ المدرسة: وكما يساهم تعامل الآباء في ايجاد روح التمرد السلبي الهدام، فإن للمدرسة دورها الفاعل في هذا المجال، بما فيها من نظام وطريقة تعامل معقد يلمس فيه الطالب التجاوز على شخصيته وطموحه الدراسي، أو لا ينسجم مع الظرف الواقعي له، فيساق بهذه الاسباب وغيرها الى تحدي النظام المدرسي، واحداث المشاكل، فترك الدراسة.
لذا كان من الضروري أن تكيّف المدرسة وضعها ونظمها مع روح العصر، وظروف المجتمع، وتتعامل مع الطالب في هذه المرحلة بوعي لطبيعة الصبا والمراهقة ومشاكلها، من خلال التربية والتعامل، كموجه وخبير يحل المشاكل، وليس طرفاً مواجهاً يريد الانتقام، وفرض العقاب، إلاّ اذا كان العقاب ضرورة للاصلاح.
ج ـ طبيعة المراهق وتكوينه النفسي والسلوكي: للطبيعة النفسية والعصبية، ومستوى التعليم والثقافة للمراهق، أثرها البالغ في التمرد والرفض والتحدي.
فمرحلة المراهقة هي مرحلة الاحساس بالغرور والقوة، وهي مرحلة الاحساس بالذاتية، والانفصال عن الوالدين، لتكوين الوجود الشخصي المستقل، وهي مرحلة تحدي ما يتصوره عقبة في طريق طموحاته، على مستوى الاُسرة والدولة والمجتمع؛ لذا ينشأ الرفض والتمرد السلبي، كما ينشأ الرفض والتمرد الايجابي.
ومعالجة ظاهرة التمرد السلبي، تكون بالاهتمام بالتربية السليمة المبكّرة، وتوعية المراهقين على مشاكل المراهقة، وابعاد المثيرات من الأجواء المحيطة بالمراهق.
فالشاب والشابة اللذان يتمتعان بمستوى من الوعي والثقافة يتفهّمان الحوار والمشاكل ويتقّبلان الحلول المعقولة من غير تمرد واساءة، في حين يتصرف الشاب الهابط الوعي والثقافة بعنجهية، وسوء تصرف.
د ـ الظروف والأوضاع: إن لطبيعة الظروف والأوضاع الاقتصادية والسياسية والفكرية والاجتماعية، وللقوانين والأعراف، تأثيراً بالغاً، وبالاتجاهين ـ السلبي والايجابي ـ على سلوك الشباب، وموقفهم من السلطة والقانون، والأوضاع القائمة.
فالظروف التي يشعر فيها جيل الشباب بالفقر والحاجة، وتضييع أحلام مستقبله، وبالارهاب الفكري والسياسي، والاضطهاد العنصري، أو الطائفي، يندفع، وبقوة، الى تحدّيها، والتمرّد عليها بالرفض، وعدم الانصياع، والرد بالعنف والقوة أحياناً، كما يحدث في كثير من بلدان العالم.
لذا فإن الحرية المعقولة، وتحسين الأوضاع الاقتصادية، وتوفير الحقوق الانسانية، ومشاريع التنمية الخدمية، التي تستوعب مشاكل الجيل وتطلعاته، وليس وسائل القمع والارهاب الفكري والبوليسي، هي السبيل لمعالجة حالة الرفض، والتمرد السلبي.
3ـ تسلط الخيال وأحلام اليقظة
الخيال هو أحد القوى العقلية، ذات النتائج الايجابية والسلبية، يتحد مردودها على الانسان حسب استعمالها، والاستفادة منها، وهي في حقيقتها غير الوهم وأحلام اليقظة التي تسيطر على الانسان وتبعده عن الواقعية والموضوعية، غير أنها قابلة لأن تتحول الى وهم، وأحلام يقظة لا واقع لها، تقود الانسان بعيداً عن الواقعية.
وفي مرحلة الشباب ينشط الخيال، وتتفتح تلك القوة العقلية عنده، وهي باتجاهها الايجابي المادة الأساسية للابداع والابتكار والتطوير. فبالخيال يبدأ الشاب عمله الفني والكتابي، وبالخيال تتفتح القدرة على الابداع والابتكار والاختراع.
وبالخيال يتصور الانسان أوضاعاً جديدة، غير الأوضاع التي هو عليها، تمهيداً للتغيير، فالخيال هو الجسر الذي ينقل الانسان من الواقع الراكد الى واقع متصور، يحمل التجديد والابداع.
وفي مرحلة الشباب، ولقلة الخبرة والتجربة الموضوعية لدى جيل الشباب، وبغياب الارشاد والتوجيه من الأبوين، أو الأصدقاء والأقارب، والاجهزة الاجتماعية، وأجهزة الدولة المختصة، يبدأ الانسياق وراء الخيال، وتتحكم أحلام اليقظة والوهم في مشاريع الشاب، وطريقة تفكيره فيما يتعلق بالمستقبل من حيث الأهداف المعاشية، والدراسية، والزواج، وطبيعة الزوجة أو الزوج، الذي يتصوره، وبمستوى الحياة، وما يتوقعه من الآخرين أن يحققوه له، وما يحتمل وقوعه وحدوثه من احتمالات ايجابية مفرطة التفاؤل، فيخدع نفسه، ويفرض على مستقبله تصورات خيالية بعيدة عن الامكان الواقعي، فيصاب بالاحباط، ورد الفعل العنيف، عندما تتحطم أخيلته، وأحلام يقظته.
لذا كان من الضروري تزويد الشباب بالخبرة والتجارب الواقعية، والتوعية على هذه الظاهرة، وتوفير النصح والارشاد الكافي لهم، وتوجيه ملكة الخيال باتجاه العمل المبدع.
وكم كانت وصية الامام علي عليه السلام معبّرة عن أهمية النصح، والاستفادة من التجارب عندما خاطب ابنه الامام الحسن عليه السلام بقوله: «....فبادرتك بالأدب قبل أن يقسو قلبك ويشتغل لبّك، لتستقبل بجدِّ رأيك من الأمر ما قد كفاك أهل التجارب بغيته وتجربته، فتكون قد كُفيت مؤونة الطلب، وعُوفيت من علاج التجربة، فأتاك من ذلك ما قد كنا نأتيه، واستبان لك منه ما ربّما أظلم علينا فيه»(19).
4ـ الغرور وعدم تقدير العواقب
الغرور والاعجاب بالنفس حالة مرضية تعتري الانسان بسبب الشعور بالتفوّق على الآخرين، والاعتداد بما عنده من قوة، أو مال، أو جمال، أو سلطة، أو موقع اجتماعي، أو مستوى علمي.
وتلك الظاهرة المرضية هي من أخطر ما يصيب الانسان، ويقوده الى المهالك، ويورطه في مواقف، قد تنتهي به الى مأساة مفجعة، صوّرها القرآن بقوله: (إنّ الانسان لَيطغى * أن رآه استغنى).(العلق / 6 ـ 7)
وحذر من تلك الظاهرة في ايراده لوصية لقمان لابنه: (ولا تُصَعِّر خدّك للناس ولا تمش في الأرض مرحاً إنّ الله لا يحبّ كلّ مُختال فخور). (لقمان / 18)
(انك لن تخرِقَ الارضَ ولن تبلغَ الجبالَ طولاً). (الاسراء / 37)
وتعتبر مرحلة الشباب، لاسيما مرحلة المراهقة، من أكثر مراحل حياة الانسان شعوراً بالغرور، والاعجاب بالنفس، والاستهانة بالآخرين، أو بالمخاطر والاحتمالات، والدخول في المغامرات.
وكم كان لهذا الشعور المرضي أثره السيّئ على سلوك الشباب بما يجلبه عليهم من مآسي.
فكم يكون للغرور مثلاً عند الفتى والفتاة من آثار سلبية على اختيار الزوج، أو الزوجة، أو التعامل من قبل أحدهما مع الآخر، أو مع أسرته، فالشاب المعجب بنفسه، لا يرى زوجاً مناسباً له الاّ نوادر، وكم من الشابات بقيت عانساً لم تتزوج بسبب الغرور حتى فقدت شبابها، وتتحول الحياة الاسرية الى جحيم، وربما تنتهي الى الفراق، عندما يفشل المرء في الاقتران بمختار أحلامه، فيتعامل معه باستخفاف وتعال وغرور.
والشاب المغرور بقوته الجسدية يتعامل بتحدّ واستهتار مع الآخرين، وكم انتهى الغرور به الى السجن، أو النبذ الاجتماعي، أو الى أن يكون ضحية الغرور. بل كم هي حوادث السير التي يذهب ضحيتها عشرات الآلاف في كل عام من الشباب، وانما تحدث بسبب الطيش والمجازفات.
وجدير ذكره أن الاحصاءات تفيد بأن عدد من تقضي عليه حوادث السير يزيد على عدد من يقضي عليه مرض الايدز والسل وأمراض اخرى، وأن ثلاثة وخمسين مليار دولار تفقدها دول العالم الثالث بسبب حوادث السير، وهي تساوي مجموع المساعدات المقدّمة اليها من الدول الغنية.
بل قد يستولي الغرور على البعض من الشباب فيخجل من الانتساب الى أسرته، أو ذويه، أو مدينته، أو قريته عندما يتوهم أنّ ذلك لا يناسب موقعه المغرور به، بل ويتعالى على والديه عندما يرى نفسه أصبح بوضع اجتماعي غير الوضع الذي ينتسب اليه ويعيش فيه والداه.
بل ويُكّون الشعور بالتفوق العلمي لديه حالة من الاستخفاف بفكر الآخرين وآرائهم، ولقد قاد الغرور العلمي قطاعات واسعة الى الاستخفاف بالايمان بالله وبما جاء به النبيون.
ان ظاهرة الغرور والاعجاب بما لدى الشباب من قوة، أو جمال، أو مال، أو شعور بالتفوق الاجتماعي، أو العلمي على الآخرين، هي احدى المشاكل الكبرى في المجتمع، يجب علاجها، وتثقيف جيل الشباب ثقافة أخلاقية وتربوية، تجنبهم مخاطر الغرور، والاعجاب بالنفس، عن طريق المدرسة، والاعلام، والاسرة، والضبط القانوني، لاسيما بتعريفهم بالنتائج المأساوية التي انتهى اليها المغرورون والمعجبون بأنفسهم.
5ـ القلق
يعتبر القلق مرضاً من أخطر أمراض البشرية المعاصرة التي تهدّد الانسان، وصحته النفسية والجسدية، وتدفع به الى أنماط السلوك المنحرف.
والقلق كما عرّف هو: (انفعال مركّب من الخوف، وتوقع الشر والخطر والعقاب).
والقلق مشكلة من أخطر مشاكل الشباب، لاسيما في مرحلة المراهقة، خصوصاً لدى الشاب الذي نشأ وتربى في أجواء البيئة والثقافة التي تفتقد الايمان بالله وقيم الأخلاق، وتصوّر الاحصائيات التي تسجلها البحوث والدراسات والمصحات النفسية، هذه الظاهرة بشكل مفزع في جيل الشباب.
فالقلق كثيراً ما يتحول الى ممارسات خطرة، وجرائم مأساوية، أمثال الانتحار، واللجوء الى المخدّرات، والشعور باللامعنى للحياة، والاصابة بسرعة الانفعال، وبالأرق والأمراض العصبية والجسدية الخطيرة، واللجوء الى التدخين، والتعبير المنحرف والشاذ.
ومن مظاهر القلق الخطرة في هذه المرحلة، هي مرحلة القلق الفكري، وعدم الاستقرار العقيدي، والانتماء الاجتماعي والسياسي، لذا كان من السهل اجتذاب الشباب نحو الآراء والنظريات التي تقدّم كبدائل فكرية في المجتمع.
ولعل أهم أسباب القلق لدى الشباب هي: الفراغ الفكري الذي يدفع الشباب الى اعتناق الأفكار التي يتصورون صحتها، وفقدان الايمان بالله سبحانه أو ضعفه، الاحساس بالخوف على المستقبل، الاضطهاد السلطوي، البطالة وتردّي الأوضاع المعاشية، وغياب الأمل في تحقيق الأهداف المعاشية، الخوف من الفشل الدراسي وتلاشي الطموح المدرسي، الخوف من الاصابة بالأمراض، لاسيما الأمراض الوبائية، كمرض الايدز، مشاكل الجنس، والخوف على مستقبل الحياة الزوجية.
وتفيد الدراسات والاحصاءات العلمية أنّ ظاهرة القلق تزداد اتساعاً في صفوف الناس؛ لاسيما في صفوف الشباب، في البلدان الغربية التي يضعف فيها الايمان بالله سبحانه وتعالى، أو ليس للدين الحق تأثير في سلوك الانسان فيها، كأمريكا وبعض الدول الاوربية والآسيوية.
ان عقيدة الايمان بالله وتفويض الآمر اليه، والرضا بقضائه وقدره وحكمته وعدله، وحبه لخلقه، ورحمته بهم، واتخاذ ألاجراءات القانونية والاخلاقية اللازمة لحل مشاكل الانسان الاقتصادية والاسرية والغريزية والاجتماعية، هي الأساس والقاعدة لحلّ مشكلة القلق وتوفير الضمانات الأمنية والمعاشية واحترام شخصية الانسان وكرامته، والتي تستأصل معظم مناشئ القلق ودواعيه.
نذكر من معالجات القرآن لهذه المشكلة توفير الأمن النفسي، الناشئ عن الايمان بالقضاء والقدر الالهي العادل كما في قوله تعالى: (قل لن يصيبنا الاّ ما كتب الله لنا). (التوبة / 51)
(الذين آمنوا وتطمئنّ قلوبهُم بذكر الله ألا بذكر الله تطمئنّ القلوبُ). (الرعد / 28)
وتثبيته وثيقة الحقوق المعاشية للنوع البشري الذي خوطب به آدم عليه السلام : (إنَّ لك ألا تجوع فيها ولا تعرى * وأنك لا تظمأ فيها ولا تضحى). (طه / 118 ـ 119)
(فليعبدُوا ربّ هذا البيت الذي أطعمهم من جوع وآمنهم من خوف). (قريش / 3-4)
انّ هذه الوثيقة لهي من أهم الضمانات الموفّرة للأمن النفسي للانسان، وابعاد شبح القلق والخوف من أزمات الحياة المادية، ودعوته الى توفير الأمن الاجتماعي واقامة العدل السياسي، كما في قوله تعالى: (انّ الله يأمر بالعدل والاحسان وايتاء ذي القربى وينهى عن الفحشاء والمنكر والبغي....). (النحل / 90)
6ـ الشباب والجنس
اعتبر الاسلام مسألة الجنس والحقوق الجنسية من المسائل الأساسية في حياة الانسان، ووضع القوانين والقيم اللازمة لاشباع الغريزة الجنسية وتنظيم نشاطها.
ولكي نقدم وضوحاً أوفر، فلنقرأ بعضاً من أحكام الشريعة الاسلامية، وقيمها ومبادئها التي تحدثت عن الجنس، والحقوق الجنسية، والمتعة، والجمال، مما يوفر ثقافة جنسية طاهرة، وخالية من عقدة الجنس، التي تتحكم في بعض المجتمعات والأعراف والتقاليد، كما هي خالية من التلوث، والانحدار، والسقوط الجنسي.
ويتوفر ذلك بقراءة النصوص القرآنية، والأحاديث والبيانات النبوية، وما استنبطه الفقهاء من أحكام خاصة بتلك المسألة من الكتاب والسنّة، والتي احتلت مساحة واسعة من أبواب ومباحث الفقه الاسلامي.
وهذا الاهتمام الواسع بأحكام الجنس، ليدلّ دلالة واضحة على أهمية الجنس في حياة الانسان، والى النظرة العلمية والموضوعية التي تعامل بها الاسلام مع المسألة الجنسية وحل مشاكلها. وتقديم التعريف الكافي بهذا الموضوع، يحتاج الى كتاب مستقل.
وفي بحثنا هذا سنقوم بعرض لقطات، ومقتطفات من البيانات والأحكام، والثقافة الجنسية في الاسلام:
قال تعالى:
(ومن آياته أن خلق لكم من أنفسكم أزواجاً لِتسكنوا اليها وجعل بينكم موّدة ورحمة). (الروم / 21)
(فما استمتعتم به منهنّ فآتوهنّ أجورهنّ). (النساء / 24)
(وتذرون ما خلق لكُم ربُّكم من أزواجكم). (الشعراء / 166)
(ويسألونك عن المحيض قل هو أذىً فاعتزلوا النساء في المحيض ولا تقربوهنّ حتّى يطهرن فإذا تطهرن فأتوهنّ من حيثُ أمركُم الله). (البقرة / 222)
(وأنكحوا الأيامى منكُم والصالحين من عبادكم وامائكم). (النور / 32)
(فإنكحوهنّ بإذن أهلهنّ وآتوهنّ اُجورهنّ بالمعروف محصنات غير مسافحات). (النساء / 25)
(نساؤكُم حرث لكم فأتوا حرثكُم أنّى شئُتم). (البقرة / 223)
(يزوّجهم ذكرانًا واناثاً). (الشورى / 50)
(وليستعفف الذين لا يجدون نكاحاً حتّى يغنيهُمُ الله من فضله). (النور / 33)
وكما تحدّث القرآن الكريم في العشرات من الآيات عن الجنس تحت عنوان الزواج والنكاح، وعن المرأة، وعلاقتها الحياتية بالرجل، قامت السنّة النبوية ببيان هذه المبادئ، والعمل على تطبيقها، قانوناً وعملاً بشرياً.
وحين نعرض تلك المبادئ يجب أن نفهم أنها ليست وصايا ونصائح ومواعظ، بل هي قانون ونظام مجتمع تبنى عليه الحياة، ويتبناه المجتمع والدولة، والمؤسسات الاجتماعية، كما يتبنّاه الأفراد، ويسأل الجميع عنها مسؤولية قانونية، كما يُسألون أمام الله سبحانه يوم الحساب.
ولمزيد من الوضوح نعرض مختارات من الأحاديث الشريفة. روي عن الرسول (ص) قوله:
«حبب اليَّ من دنياكم ثلاث: الطيب والنساء وقرّة عيني في الصلاة» (20).
«من تزوَّج أحرز نصف دينه» (21).
«من أحبَّ أن يلقى الله طاهراً مطهراً فليلقه بزوجة»(22).
وروي أنّ جماعة من صحابة رسول الله (ص) حرَّموا على أنفسهم النساء والافطار بالنهار، والنوم بالليل فأخبرت اُم سلمة رسول الله (ص) فخرج الى أصحابه، فقال: «أترغبون عن النساء، اني آتي النساء، وآكل بالنهار، وأنام بالليل، فمن رغب عن سنّتي فليس مني. وأنزل الله تعالى : (لا تحرّموا طيبّات ما أحلّ الله لكم، ولا تعتدُوا انّ الله لا يحبُ المعتدين...)»(23). (المائدة / 87)
ومن استقراء ما سبق من نصوص نستطيع انّ نلتقط العبارات الآتية المعبّرة عن أهمية الجنس في حياة الانسان فهي:
(لتسكنُوا اليها..). (الروم / 21)
(.. فما استمتعُتم به منهنّ). (النساء / 24)
(.. تذرون ما خلق لكم ربّكم من أزواجكم). (الشعراء / 166)
(.. نساؤكم حرث لكم..). (البقرة / 223)
(.. فأتوا حرثكُم أنّى شئُتم..). (البقرة / 223)
وكل تلك المبادئ تدعو لاحترام الجنس، والاشباع الجنسي المشروع، في حين تشتد الدعوة، والحث على الابتعاد عن الزنا، والانحراف والشذوذ الجنسي، كما تشتد العقوبة على العلاقات الجنسية المحرَّمة، كالزنا واللواط وغيرهما. ويمكن من خلال استعراض الاحصاءات التي سجلتها معاهد الصحة والاجرام نعرف لماذا حرم الاسلام هذه الممارسات المنحرفة؟ ولماذا شدّد العقوبة عليها؟
فاذا عرفنا الكوارث والمآسي التي تجرّها تلك الممارسات المحرّمة والشاذّة، اتضح لنا عدالة وحكمة تلك التشريعات، وأنها وضعت لحماية البشرية، وليست للاستهانة بانسانية الانسان، أو استنكار الحقوق الجنسية المشروعة للانسان.
7ـ تناول المخدّرات
من المشاكل الكبرى، والآفات الاجتماعية، والصحية، والآمنية، التي تعاني منها الحضارة المادية المعاصرة، والانسان غير الطبيعي، هي مشكلة المخدّرات، واللجوء الى استخدامها، والادمان عليها.
وتؤكد الاحصاءات التي تقوم بها المعاهد، والجهات المختصة، أنّ من مشاكل المراهقين والشباب المعقدة، ذكوراً واناثاً، هي مشكلة تناول المخدّرات. فلهذه المواد آثارها، ونتائجها السلبية الهدامة في مجال الصحة الجسدية، والنفسية، والاقتصادية، وفي مجال الجريمة والانحراف السلوكي العام، والتأثير على الانتاج، والعلاقات الاُسرية، والاجتماعية.
فالمخدّرات آفة تدمر طاقة الانسان، وقواه العقلية والنفسية، وتسقط وجوده الاجتماعي، وتشلّ قدراته، فيتحول الى عالة، ومشكلة في المجتمع، ووجود غير مرغوب فيه.
ولتناول المخدّرات والادمان عليها أسبابها النفسية، والعقلية المرضية، التي تبذل الحكومات، والمؤسسات الاصلاحية والاعلامية، جهوداً ضخمة لمكافحتها، وانقاذ الانسان من شرورها، لا سيما جيل الشباب والمراهقين.
وقد صدرت عدة قوانين، واتفاقات دولية، وعقدت عدة مؤتمرات لمكافحة المخدّرات على مستوى الانتاج، والمتاجرة، والتعاطي، اضافة الى ما تقوم به بعض الحكومات الحالية من جهود للقضاء على هذه الآفة الخطيرة، وليس هذا وحسب، بل وقد بذلت جهود علمية كبيرة من علماء الطب والكيمياء والاجرام والاجتماع وغيرهم، لدراسة ظاهرة تناول المخدّرات، والادمان عليها، وتأثير ذلك على الصحة الجسدية، والسلوك، والشخصية، والمجتمع، ونشاطات الانسان بصورة عامة، فكانت كلها تسير باتجاه واحد، وهو انقاذ الانسان والمجتمع من شرور المخدّرات.
وبالتالي انتهت الأبحاث العلمية، ودراسات العلماء والمختصين في شتّى الحقول، الى ما قرّرته الشريعة الاسلامية من تحريم تناول الكحول والمخدّرات، والمعاقبة على تناولها.
وتعتني الدول والمؤسسات الاصلاحية، باعادة تأهيل المدمنين، ومتعاطي المخدّرات مهنياً واجتماعياً، أي توفير الخبرات المهنية والأعمال لهم، واعادة الاعتبار الأدبي والاجتماعي للشخصية المدمنة، ودمجها في الحياة الطبيعية، من حيث الانتاج، والعلاقات الاجتماعية، والسلوك السوي المقبول، بعد الانحراف السلوكي، والمفارقات السلوكية الشاذّة.
وحين تتظافر جهود العلماء، والاعلاميّين، والاُسرة، والمدرسة، والقانون، والسلطة، والمؤسسات الاصلاحية، لانقاذ الانسان من هذا الوباء الخطير، فالشاب هو الأولى بانقاذ نفسه، انقاذ شخصيته من الانهيار، وسلوكه من الانحراف والسقوط الاجتماعي، وتعريض حياته وصحته للخطر، وتحوّله الى عالة على المجتمع، ووجود يُنظر اليه بازدراء، وخارج على القانون، والقيم الأخلاقية، فيجني على نفسه بإسقاط شخصيته، وتعريض وجوده للخطر.
ومن أخطر المخدّرات التي يتناولها المدمنون على الصحة والمجتمع والنظام، كما يصنفها العلماء هي:
1 ـ الكحول 2 ـ الأفيون ومشتقّاته 3 ـ القنب 4 ـ الكوكايين 5 ـ القات 6 ـ المهلوسات 7 ـ الباربيتورات 8 ـ الأمفيتامينات.
وقد حرّمت الشريعة الاسلامية تناول الخمور، كما حرّمت تناول المخدّرات لضررها بالعقل والنفس والجسم والمال، وفرضت العقاب على متناولها، حماية للصحة الفردية، وللمجتمع من شرور هذه الآفات، وما تقود اليه من جرائم القتل، والاغتصاب، والسرقة، والعدوان على الآخرين، والمشاكل الاُسرية، والآثار التربوية السيّئة على الأبناء الناشئين في ظل المدمنين من متناولي الكحول والمخدّرات الاُخرى:
قال تعالى: (يا أيّها الذين آمنوا إنّما الخمُر والميسرُ (24) والأنصابُ والأزلاُم رجس من عمل الشيطان فاجتنبوه). (المائدة / 90)
وبذا اعتبر القرآن الخمر رجساً، وعملاً شريراً يجب اجتنابه، كما اعتبر القرآن الخمر من الأسباب المؤدية الى التنازع، والمشاكل الأمنية، التي عبّر عنها بالعداوة والبغضاء.
قال تعالى: (إنما يريدُ الشيطانُ أن يوقع بينكمُ العداوة والبغضاء في الخمر والميسر).(المائدة / 91)
وروي عن الرسول (ص) قوله: «كل شراب أسكر فهو حرام» (25).
ولشدة الخطر المتأتّي من تناول هذه المادة الفتاكة، حرم الاسلام صناعة الخمر، وبيعه، وشربه، بل وبيع المواد التي يصنع منها، اذا علم انها مشتراة ليصنع منها الخمر. والاهتمام التربوي والاعلامي والتثقيفي على حرمة الخمر، وخطره على الحياة، إنما يقوم على أساس حفظ الحياة البشرية، ودفع الشرور عنها.
ومن أخطر الآثار التي يقود اليها شرب هذه المادة، هو التأثير على العقل، وفقدان الوعي الذي يتسبب في حوادث القتل، والاغتصاب الجنسي، وحوادث السير المروِّعة، كما يتسبب في اتلاف عشرات المليارات من الدولارات في العام، في شرب هذه المواد، وللعلاج الطبيّ منها، في حين يمكن توظيف هذه المبالغ الضخمة في مكافحة الفقر، وتوفير الخدمات الصحية والعلمية وغيرها للانسان. وهذا التبذير، والاتلاف المالي، يقف وراء شقاء ملايين الاُسر، وضياع أبنائها، اضافة الى المضار الصحية الخطرة، التي تؤدي اليها هذه المادة الفتاكة.
8ـ البطالة
البطالة مشكلة اقتصادية، كما هي مشكلة نفسية، واجتماعية، وأمنية، وسياسية. وجيل الشباب هو جيل العمل والانتاج، لأنه جيل القوة والطاقة والمهارة والخبرة.
فالشاب يفكّر في بناء أوضاعه الاقتصادية والاجتماعية، بالاعتماد على نفسه، من خلال العمل والانتاج، لا سيما ذوي الكفاءات، والخريجين الذين أمضوا الشطر المهم من حياتهم في الدراسة والتخصص، واكتساب الخبرات العملية، كما ويعاني عشرات الملايين من الشباب من البطالة بسبب نقص التأهيل وعدم توفر الخبرات لديهم، لتَدنّي مستوى تعليمهم واعدادهم من قبل حكوماتهم، أو أولياء اُمورهم.
وتؤكد الاحصاءات أنّ هناك عشرات الملايين من العاطلين عن العمل في كل أنحاء العالم من جيل الشباب، وبالتالي يعانون من الفقر والحاجة والحرمان، وتخلف أوضاعهم الصحية، أو تأخرهم عن الزواج، وانشاء الاُسرة، أو عجزهم عن تحمل مسؤولية اُسرهم.
تفيد الاحصاءات العلمية أنّ للبطالة آثارها السيّئة على الصحة النفسية، كما لها آثارها على الصحة الجسدية. إنّ نسبة كبيرة من العاطلين عن العمل (يفتقدون تقدير الذات، ويشعرون بالفشل، وأنهم أقل من غيرهم، كما وجد أن نسبة منهم يسيطر عليهم الملل، وأنّ يقظتهم العقلية والجسمية منخفضة)(26)، وأنّ البطالة تعيق عملية النمو النفسي بالنسبة للشباب الذين ما زالوا في مرحلة النمو النفسي.
كما وجد أن القلق والكآبة وعدم الاستقرار يزداد بين العاطلين، بل ويمتد هذا التأثير النفسي على حالة الزوجات، وأنّ هذه الحالات النفسية تنعكس سلبياً على العلاقة بالزوجة والأبناء، وتزايد المشاكل العائلية.
وعند الأشخاص الذين يفتقدون الوازع الديني، يقدم البعض منهم على شرب الخمور، بل ووجد أن 69% ممن يقدمون على الانتحار، هم من العاطلين عن العمل.
ونتيجة للتوتر النفسي، تزداد نسبة الجريمة، كالقتل والاعتداء، بين هؤلاء العاطلين.
ومن مشاكل البطالة أيضاً هي مشكلة الهجرة، وترك الأهل والأوطان التي لها آثارها ونتائجها السلبية، كما لها آثارها الايجابية.
والسبب الأساس في هذه المشاكل بين العاطلين عن العمل، هو الافتقار الى المال، وعدم توفره لسد الحاجة.
إن تعطيل الطاقة الجسدية بسبب الفراغ، لاسيما بين الشباب الممتلئ طاقة وحيوية ولا يجد المجال لتصريف تلك الطاقة، يؤدي الى أن ترتد عليه تلك الطاقة لتهدمه نفسياً مسببة له مشاكل كثيرة.
وتتحول البطالة في كثير من بلدان العالم الى مشاكل أساسية معقّدة، ربما أطاحت ببعض الحكومات، فحالات التظاهر والعنف والانتقام توجه ضد الحكام وأصحاب رؤوس المال فهم المسؤولون في نظر العاطلين عن مشكلة البطالة.
وقد حلّل الاسلام مشكلة الحاجة المادية والبطالة، تحليلاً نفسياً كما حللها تحليلاً مادياً:
منها ما روي عن رسول الله (ص) قوله: «إنّ النفس اذا أحرزت قوتها استقّرت» (27).
وعن الامام جعفر الصادق (ع): «ان النفس قد تلتاث على صاحبها، اذا لم يكن لها من العيش ما تعتمد عليه، فإذا هي أحرزت قوتها اطمأنت»(28).
وهذا النص يكشف العلمية التحليلية للعلاقة بين الجانب النفسي من الانسان، وبين توفر الحاجات المادية، وأثرها في الاستقرار والطمأنينة، وأن الحاجة والفقر يسببان الكآبة والقلق وعدم الاستقرار،
وما يستتبع ذلك من مشاكل صحية معقّدة، كأمراض الجهاز الهضمي والسكر، وضغط الدم، وآلام الجسم، وغيرها.
والبطالة هي السبب الأوّل في الفقر والحاجة والحرمان، لذلك دعا الاسلام الى العمل، وكره البطالة والفراغ، بل وأوجب العمل من أجل توفير الحاجات الضرورية للفرد، لاعالة من تجب اعالته.
ولكي يكافح الاسلام البطالة دعا الى الاحتراف، أي الى تعلم الحرف؛ كالتجارة والميكانيك والخياطة وصناعة الأقمشة والزراعة…الخ، فقد جاء في الحديث الشريف: «انّ الله يحبّ المحترف الأمين» (29).
ولقد وجّه القرآن الكريم الأنظار الى العمل والانتاج، وطلب الرزق، فقال: (فامشُوا في مناكبها وكُلوا من رزقه واليه والنشورُ). (الملك / 10)
وقال: (فإذا قُضيت الصلاةُ فإنتشرُوا في الارض وابتغوا من فضل الله). (الجمعة / 10)
واعتبر الرسول الكريم محمد (ص) العمل كالجهاد في سبيل الله؛ فقد روي عنه (ص) قوله: «الكادّ على عياله، كالمجاهد في سبيل الله» (30).
وروي عن الامام علي عليه السلام قوله: «إن الأشياء لمّا ازدوجت، ازدوج الكسل والعجز، فنتجا بينهما الفقر»(31).
وفي التشديد على التحذير من البطالة والكسل والفراغ، نقرأ ما جاء في رواية الامام الرضا عن أبيه موسى بن جعفر عليه السلام قال: «قال أبي لبعض ولده: إياك والكسل والضجر، فإنهما يمنعانك من حظك في الدنيا والآخرة»(32).
وقد جسّد الأنبياء والأئمة والصالحون هذه المبادئ تجسيداً عملياً؛ فكانوا يعملون في رعي الغنم والزراعة والتجارة والخياطة والنجارة.
وقد وضح الامام علي بن موسى الرضا ذلك، فقد نقل أحد أصحابه، قال: «رأيت أبا الحسن يعمل في أرضه، قد استنقعت قدماه في العرق، فقلت له: جعلت فداك، أين الرجال؟ فقال: رسول الله(ص) وأمير المؤمنين وآبائي، كلهم كانوا قد عملوا بأيديهم، وهو من عمل النبيين والمرسلين والأوصياء والصالحين)(33).
إن كل ذلك يوفر لجيل الشباب وعياً لقيمة العمل، وفهماً عميقاً لأخطار البطالة، مما يدعوهم الى توفير الكفاية المادية، والكرامة الشخصية بالعمل والانتاج، والابتعاد عن البطالة والكسل.
ومن أولى مستلزمات العمل في عصرنا الحاضر، هو التأهيل الحرفي والمهني، واكتساب الخبرات العملية؛ فالعمل يملأ الفراغ، وينقذ الشباب من الأزمات النفسية، ويلبي له طموحه في توفير السعادة، وبناء المستقبل.
وكم تجني الأنظمة والحكومات، لاسيما الدول الرأسمالية، والشركات الاحتكارية، على أجيال الشباب في العالم الثالث، باستيلائها على خيراته وثرواته، واشعال نيران الحروب والصراعات والفتن، واستهلاك مئات المليارات بالتسليح والاقتتال، مما يستهلك ثروة هذه الشعوب، ويضعها تحت وطأة البطالة والفقر والتخلف والحرمان، لذا يجب أن نتسلح بالوعي السياسي والاجتماعي، ونعمل على استثمار ثرواتنا، وتنمية الانتاج والخدمات لأجيال الحاضر والمستقبل.
4 ـ الجيوش والحرب والشباب
من المشاكل الكبرى التي تعاني منها البشرية على مدى العصور والأجيال هي الحروب والصراعات الدموية بين الشعوب والأمم.
والحرب كيفما وقعت، لابد وأن يكون فيها طرف ظالم، أو يتقاسم الظلم طرفا الحرب.
وكم عانت البشرية من الحروب الظالمة. فالحرب استهلاك، وهدر لطاقات الانسان وتدميرها. وكما هو واضح فإن الحرب تحتاج الى الطاقة الجسدية، واللياقة القتالية، وإعداد الجيوش، وإنفاق الاموال الطائلة، وتجنيد خيرة الطاقات الشابة والمنتجة، وجيوش العالم في معظم عناصرها هي من جيل الشباب.
فالحرب أينما وقعت دارت بشكل أساس على رؤوس الشباب وكان ضحاياها في ساحات القتال، هم الشباب في الدرجة الأولى، كما هم ضحايا التدمير الاقتصادي، وتخلف التنمية والخدمات، لأنهم الجيل الذي يتحمل التبعات الاقتصادية والسياسية والاجتماعية للحرب.
فالشاب الذي يجنّد للحرب، وكثيراً ما يطول تجنيده سنوات عدة في ثكنات الجيش، ومواقع القتال، يحال بينه وبين بناء حياته الاسرية من الزواج، وانجاب الأبناء، وانشاء الاسرة، وتوفير مستلزمات الحياة الاقتصادية، ومواصلة الدراسة، والعمل والانتاج. كما تكون الحروب مصدراً للقلق والاضطراب النفسي والجسمي لدى جيل الشباب، الذي يجنّد، ويساق الى ساحات القتال بقرار يصنعه تجّار الحروب، الذين يبحثون عن الثروات الطبيعية، والأسواق التجارية، واحتلال البلاد المستضعفة، أو حماقات الحكام، من دون قناعات من يساق الى ساحات القتال.
وقد كشفت حرب فيتنام والحرب الكورية، وحرب التحالف وصدام حسين في الخليج، والحرب العراقية الايرانية، والحربان العالميتان، الأولى والثانية عن الآثار التدميرية على الملايين من الشباب، كضحايا ومعّوقين ومصابين بأمراض عصبية، أو لجأوا الى الانتحار والمخّدرات، كما تركوا وراءهم ملايين الأيتام والأرامل والثكالى، من هنا كان على الشباب أن يكونوا على وعي تام بالحروب التي يُدعون للمشاركة فيها.
إن الحرب العادلة، حرب الدفاع عن المبادئ الحقة، أو حماية مصالح الأوطان والأمة وقيم الانسانية السامية، لهي حرب مقدسة، فمثل هذه الحروب حروب الدفاع عن الحق، لهي احدى عناصر حماية الأمن والسلم، وتحقيق أهداف البشرية الخيّرة ومصالحها.
والاسلام وفق منطقه، ومنهجه في فهم الحياة والموت والآخرة، قد جعل الجهاد والشهادة من المبادئ السامية والمقدسة، قال تعالى: (وأشرقت الارضُ بنور ربِّها وجيء بالنبيّين والشهداء وقضي بينهم بالحق وهم لا يظلمون). (الزمر / 69)
وقال تعالى موضّحاً بعض أهداف القتال السامية في الاسلام: (وما لكم لا تقاتلون في سبيل الله والمستضعفين من الرجال والنساء والولدان الذين يقولون ربّنا أخرجنا من هذه القرية الظالم أهلها..). (النساء / 75)
وفي موقع آخر أوضح القرآن أن القتال يجب ان يكون ضد الطاغوت، (ضد الطغاة) الذين يتجاوزون على أمن البشرية، وحقوقها، وارادتها المتجهة الى خالق الوجود، ويمارسون الظلم والفساد والعدوان، قال تعالى: (الذين آمنوا يقاتلون في سبيل الله والذين كفروا يقاتلون في سبيل الطاغوت)(34). (النساء / 76)
وهكذا فإن جيل الشباب في منطق الحرب المادية، هم وقود الحرب، وأدوات لمصالح الحكام والطغاة، وتجار الحروب. وفي منطق الاسلام ان القادرين على الجهاد يتحملون مسؤولية الدفاع عن حقوق المستضعفين، ومحاربة الظلم والفساد والطغيان في هذه الأرض.
34ـ الطاغوت: كل متعدّ وكل معبود من دون الله. مفردات الراغب.
ودعوة القرآن الى البشرية ، هي دعوة الحب والسلام، وليست دعوة الحرب والعدوان، قال تعالى: (وان جنحوا للسلم فاجنح لها وتوكل على الله). (الانفال / 61)
فالقتال في هذا المنطق هو للدفاع عن الحق، ودفع العدوان، وازاحة كابوس الطواغيت عن طريق الهدى والسلام.
وكم عظيم هو المبدأ الاسلامي الذي ثبته رسول الله محمد (ص) بقوله، «وهل الدين الا الحب»(35)، في حين تقوم المبادئ والنظريات المادية الجاهلية على أساس الحرب والعدوان.
فالنظرية الرأسمالية، مثلاً، التي تحكم الغرب تقوم على أساس الاحتكارات، والبحث عن الأسواق التجارية والمصادر الطبيعية، كالنفط والذهب واليورانيوم، وأنشأت انظمتها وطريقة حياتها على استغلال الشعوب الضعيفة، ونهب خيراتها، فأعدّت لذلك ما يكفي لتدمير البشرية مرات عديدة من الأسلحة النووية والجرثومية والكيمياوية والتقليدية، وتجنّد أساطيلها لاحتلال العالم، والهيمنة على المستضعفين، وتشعل نار الحرب في كل مكان للسيطرة على المواد الأساسية، وعلى الأسواق التجارية، والهيمنة على المواقع الاستراتيجية، والتمهيد لبيع الأسلحة، كما تفعل الآن في مناطق مختلفة من العالم، وتمهّد للحروب في كل أنحاء العالم بسياستها الرأسمالية، وحساباتها المادية العدوانية.
وشتّان بين جيلين من الشباب، جيل يعيش نظرية الحب والسلام، ويعتبر الحرب أداة للدفاع عن الحق، وجيل يعيش على الحرب كأداة للظلم والاستغلال والعدوان على المستضعفين.
5 ـ الشباب والثقافة والانتماء الفكري
مما يميز انسانية الانسان أنه كائن عاقل مفكر يُنمّي فكره ومعارفه عن طريق التفكير والتجارب والتعلم من الآخرين، وإن من الغرائز الأساسية الّتي يشترك فيها الانسان والحيوان هي غريزة التجمع، أو غريزة القطيع.
فالحيوان والطير والأسماك تتجمّع على شكل جماعات ومجموعات في المراعي والسير والاستراحة والهجرة والبحث عن الطعام والشراب، وقد عبّر المثل العربي عن ذلك بقوله: (الطيور على أشكالها تقع)، فنجد قطيع الغزلان، وتجمعات العصافير والحمام والغربان والأسماك المتماثلة، كما يتجمع النّاس في المجالس والنوادي ومواقع الاجتماعات المتعددة.
ومن الواضح أن الطفل ينشأ في بيئة محددة الثقافة، والحضارة، والانتماء الفكري والثقافي، فتساهم تلك البيئة النفسية والثقافية في تكوين شخصيته،ونمط حياته، فمنها يكتسب، وبها يتأثر.
والقرآن الكريم يرفض طريقة التبعية غير الواعية، ويهاجمها بشدة، ويطالب بالوعي والتأمل، وتوظيف العقل في محاكمات القضايا وتمحيصها، واختيار الطريق الأسلم، وتحديد الانتماء الفكري والسياسي الانتخابي على وعي وبصيرة. قال تعالى: (قُل هذه سبيلي أدعُو الى الله على بصيرة انا ومن اتُبعني وسبحان الله وما أنا من المشركين). (يوسف / 108)
ولقد استنكر القرآن طريقة الانتماء البيئي غير الواعي أو تقليد الآباء والأجداد من غير فهم ولا تمحيص ولا تمييز بين الخطأ والصواب في العديد من آياته، منها قوله تعالى: (واذا قيل لهم تعالوا الى ما أنزل الله والى الرسول قالوا حسبنا ما وجدنا عليه آباءنا أَوَلو كان آباؤهُم لا يعلمون شيئاً ولا يهتدون). (المائدة / 104)
ويحدثنا القرآن الكريم عن معاناة الأنبياء والرسل من تبعية الانتماء البيئي والتحجّر الفكري، والوقوف على الموروث الثقافي المتردّي لدى شعوبهم وأُممهم؛ لذلك وجدناهُ يشخّص تلك الظاهرة المعيقة في طريقة التفكير والانتماء الفكري والسياسي، ويحذّر منها، كما في قوله تعالى:
(وكذلك ما أرسلنا من قبلك في قرية من نذير الاّ قال مترفُوها انّا وجدنا آباءنا على أُمة وانّا على آثارهم مُقتدون ). (الزخرف / 23)
وحذّر الرسول (ص) من تبعية الامَّعة الذي لا يحّدد موقفه وانتماءه عن فهم ووعي وقناعة علمية سليمة؛ بل يعيش مقلداً تابعاً للآخرين، أو لظروف البيئة الّتي ولد فيها، فلا يكلّف نفسه بمناقشة أو تمحيص ما وجد نفسه جزءاً منه؛ من فكر وعقيدة وسلوك وأعراف، ليتمسك بالصواب، ويرفض ما أخطأ السابقون بحمله؛ لتتم الغربلة والتنقيح عبر مسيرة الاجيال، وليتم التخلص من تراكمات الرواسب والأخطاء والممارسات غير السوية.
انا نجد تحذير الرسول (ص) دقيقاً من خلال قوله (ص): «لا تكونوا امَّعة تقولون إن أحسن الناس أحسنّا، وإن ظلموا ظلمنا، ولكن وطّنوا أنفسكم إن أحسن الناس أن تحسنوا، وإن أساؤوا فلا تظلموا»(36).
إنّ من القضايا المتأصّلة في أعماق الانسان هي طبيعته الاجتماعية ـ كما أوضحنا ـ وانتماؤه الشعوري واللاشعوري الى الجماعة، كالانتماء الى عنوان الاُسرة والعشيرة، والى المدينة والاقليم والقومية والوطنية، والى الاُمّة والجماعة على أساس الدّين والمذهب، والى الجمعية والمنظمة والحزب والطبقة المهنية والاجتماعية والنادي، بل والفريق الرياضي وغيرها من أُطر الانتماء أو التجمع والانحياز، وربما التعصب اليها.
وحالات الانتماء الجماعي، والتكتل ضمن إطار تجمّع معين، كلّها تنطلق من غريزة حب الاجتماع، أو ما يسميها علماء النفس بغريزة (القطيع) وشعور الفرد بجزئيته من تلك الجماعة والحاجة اليها، فيرى في الجماعة تعبيراً عن (الأنا) الفرد، لذا يدمج (الأنا) في ضمن (الأنات) الاُخرى فيستعمل كلمة (نحن) و (هم) لتمييز (الأنا) الجماعية عن الآخرين.
وتقوم اللغة بدور المعّبر عن الحالة تلك. كما يشعر بالقوة والتخلص من الشعور بالضعف والوحدة من خلال الانتماء الى الجماعة.
ومن الطبيعي أن الجيل الجديد يشهد تحوّلات اجتماعية، وأوضاعاً فكرية وسياسية جديدة، فالحياة حركة وتحول متواصل، ويختلف حجم وعمق تلك التحولات حسب ظروف المجتمع وأوضاعه، فجيل الشباب الّذي عاصر الدعوة الاسلامية ومرحلة النبوة، مثلاً، كان قد واجه تحولاً فكرياً وحضارياً عظيماً في السعة والعمق والشمول.
فكان هو جيل الرسالة، وكان أنصار الاسلام هم من جيل الشباب والناشئين؛ في حين وقف الجيل القديم متعجرفاً عصيّاً على التفاعلات والتحولات الفكرية والاجتماعية الجديدة الّتي حملتها الرسالة الاسلامية.
وهكذا تشهد الاحصاءات أن جيل الشباب في عصرنا الحاضر هم حملة الاسلام، لاسيما في الجامعات والمعاهد والمدارس، ذكوراً واناثاً.
فالشباب في البلدان الاسلامية مثلاً يمثلون طليعة التغيير والطموح، ويشغل اهتمامهم أوضاع المستقبل، ويتركز لديهم النزوع للتغيير، والثورة على الواقع غير المُرضي، فهم في هذه المرحلة أكثر شعوراً بالتحديات، واحساساً بالقوة الّتي تدفعهم لرد التحدي الدكتاتوري والظلم الاجتماعي.
وللجمعيات والمنظمات والنوادي أثر بالغ في تربية الشباب، وتوجيه التفكير وتكوين نمط الشخصية في هذه المرحلة؛ لاسيّما تلك الّتي تملك برامج ونظريات وثقافة مخصوصة تتبناها لتثقيف عناصرها.
وجيل الشباب المسلم، كما هو مهيأ لتقبل الفكر الاسلامي، والانتماء اليه بقوة وحيوية واخلاص متناه، فإنه عرضة للانتماء الى التيارات الفكرية والسياسية المنحرفة، وقد استحوذ الفكر الماركسي والغربي الرأسمالي على مساحة واسعة من جيل الشباب.
وتشهد المرحلة الحاضرة تحولات هائلة في عالمنا الاسلامي، تحولات الصراع الفكري والسياسي والاجتماعي في وقت يشهد فيه العالم تحولاً تقنياً وعلمياً هائلاً.
فالحضارة الماركسية انهارت ودرست معالمها بعد أن استطاعت في مرحلة بريقها بعد الحرب العالمية الثانية أن تجتذب تياراً واسعاً من جيل الشباب استهلك في الصراع، كما استهلك الذي تلاه حتّى توارت الماركسية في متاحف التأريخ.
وكانت الحضارة الغربية قد غزت العالم الاسلامي بشكل تيار كاسح بعد الحرب العالمية الاُولى، فوجدت فراغاً فكرياً هائلاً لدى جيل الشباب، فإنبهر بها ذلك الجيل للفراغ، ولما صاحبها من تقدم علمي وتقني، واعداد عسكري هائل؛ ولما يعيش فيه المسلمون من قلق ثقافي واقتصادي وعلمي على كلّ المستويات.
وكانت المشكلة الكبرى في هذا الانتماء غير الواعي أنه كان منطلقاً من فهم خاطئ، منطلقاً من أن الاسلام هو سبب تأخّر المسلمين، وأن التقدم العلمي والتقني والتطور يتطلب استبدال الاسلام كمنهج ونظام حياة بالحضارة الغربية.
وهكذا نجحت موجة الغزو الفكري لجيل الشباب المسلم، وكسبت مساحات واسعة من أبناء المسلمين، فإنضموا الى تلك التيارات، وآمنوا بها، ظناً منهم أنها الطريق الى حل مشاكل التخلف العلمي والاقتصادي والاجتماعي، وتحقيق الحرية، والقضاء على الأنظمة الارهابية الّتي كانت تحكم العالم الاسلامي، بتوظيف من قادة الحضارة الاوربية الّتي أوهم دعاتها المسلمين بأنها طريق الخلاص.
وكانت المدارس والجامعات والأحزاب السياسية العلمانية والأجهزة الاعلامية من سينما وتلفزيون وصحافة وكتب القصص والمسرحيات والشعر والأدب، وغيرها من وسائل النشر، هي الوسائل والأدوات لاحتواء جيل الشباب، واجتذابه الى الحضارة الغربية المادية الّتي استخدمت الجنس والاثارة الجنسية، والتستّر بالدعوة الى الحرية، وحقوق المرأة تارة، والتقدم العلمي والتطور الثقافي تارة أُخرى، مستغلين الظروف السيّئة الّتي يعاني منها المسلمون، وفي طليعتهم جيل الشباب.
لم يع جيل الشباب ما انطوى عليه الموقف من خطط سرِّية، وأهداف عدوانية للقضاء على الاسلام، والابقاء على تخلف المسلمين، وغزوهم فكرياً وحضارياً، غير أن عوامل الوعي، ونشاط العاملين للاسلام، وانكشاف زيف الحضارة الغربية لأجيال المسلمين، أوجد حالة واسعة وعميقة من مراجعة الذات، والتأمل في الاندفاع نحو الفكر الغربي.
فقد اكتشف جيل الشباب أن سبب مأساة الانسانية، هو الحضارة المادية، والنظام الرأسمالي الامبريالي، وأن الانسان ضحية هذه الحضارة، فهي الّتي تمارس الارهاب وقتل الشعوب ونهب خيراتها، واسناد الدكتاتورية.
إنَّ كلّ ذلك أوجد تياراً واسعاً وعميقاً في جيل الشباب، عمّق وصحّح مفهوم الانتماء الى الاسلام، وخلق روح التحدي والمواجهة والثورة على الفكر الغربي.
وتمثل الوعي في تشخيص أسباب التخلف والانتماء الفكري والسياسي الكامل للاسلام.
وتشكّل الثقافة ركناً أساسياً من أركان شخصية الانسان، وهي احدى معالم هويته الشخصية، والعناصر المميزة له عن غيره. فنوع الثقافة وحجمها يطبع الشخصية بطابع معين. والثقافة هي غير العلوم المادية التجريبية والمهارات التي يكتسبها الفرد، وإن كانت تنمّي ثقافته، وبشكل تقريبي، نستطيع القول أن العلوم الانسانية والأفكار والنظريات والآراء التي تتعلق ببناء شخصيته، من حيث نظرة الانسان الى الوجود والحياة وخطر تفكيره وسلوكه، هي التي نطلق عليها الثقافة، كالثقافة السياسية والأدبية والتأريخية والعقيدية والفلسفية والاجتماعية وأمثالها. ويتأثر بناء المجتمع والدولة والحضارة بلون الثقافة والفكر السائد في المجتمع. فرؤية الفرد وفهمه للحرية ولحقوق الانسان، وللايمان بالله، ولمسؤوليته تجاه نفسه ومجتمعه ولفهمه للحياة السياسية وأمثالها، هي احدى المفردات الفكرية والثقافية التي ينبغي أن تكوّن حولها أفكار وآراء ثقافية وحضارية.
والمصادر الأساسية للثقافة الانسانية هي الرسالة الالهية، والفلاسفة والكتاب والمفكرون والاُدباء والفنانون والمؤسسات الثقافية والاعلامية.
وفي المجتمع الواحد تتصارع عدة أفكار ونظريات وثقافات، يصل التناقض بينها أحياناً الى حدّ الالغاء. وكثيراً ما تجري التحولات الفكرية والثقافية في المجتمع بشكل حادٍّ ومتسارع، في حياة جيل أو جيلين، وفي كل الأحوال يكون جيل الشباب، هو الجيل الذي يعيش في دائرة الصراع، ويواجه الأزمات الفكرية، ويشهد التحولات الثقافية والحضارية.
ولا بد للشاب من أن تكون لديه شخصية ثقافية وهوية حضارية واضحة المعالم. وهوية الشاب المسلم الثقافية هي الهوية الاسلامية، ولا يعني ذلك أنّ كل حصيلته الثقافية هي مجموعة من المعلومات الدينية التي تتعلق بالعقيدة أو السيرة أو الأحكام الفقهية، وان كان الاهتمام بتلك المعارف مسألة أساسية في ثقافة الشاب المسلم. انّما نعني بالثقافة الاسلامية، هي وعي الحياة والمعرفة والسلوك والكون والطبيعة من خلال المنهج الاسلامي.
فالمثقف المسلم يتعامل مع مفهوم الحرية ومع السياسة والدولة، والجنس، والعلاقة مع الله والرسالة والمال والثروة والذات والفكر..الخ من خلال الفهم والمنهج الاسلامي. وذلك يقتضي تكوين قاعدة فكرية، ورؤية اسلامية ينطلق منها، ويؤسس عليها.
فالشاب المسلم إذن بحاجة الى فهم العقيدة الاسلامية وأُصول الاحكام الشرعية، والسيرة النبوية، والتفقّه في الدين، ومعرفة القرآن والسنّة المطهرة، وأن يبدأ بتكوين ثقافته من خلال الكتّاب والمفكرين الاسلاميين، الذين يتمتعون بالاصالة والعمق في الفكر، والمنهج العصري في البحث والاُسلوب، ليمتلك الاُسس والقواعد الاسلامية في فهم القضايا، ويكون قادراً على التمييز بين ما هو اسلامي، وما هو غير اسلامي.
وكم كان الشاب ضحية الأزمات والصراعات الفكرية التي يعج بها المجتمع البشري، لاسيما في عصرنا الحاضر، عصر نقل المعلومات بواسطة الانترنيت، والتلفزيون العالمي، والاذاعة، والصحافة، والسينما، والكتاب، فلم يعد هناك حاجز يحجز بين الثقافات؛ لذا فإن التفاعل بين الثقافات مسألة يفرضها الأمر الواقع، وينبغي أن نميِّز بين الاستفادة من ثقافات الاُمم، وفق المنهج الاسلامي الملتزم، وبين الذوبان وفقدان الهوية الثقافية، فيلجأ الفرد المسلم الى التقليد الأعمى، والانبهار بما يطرح عليه من الثقافات الأجنبية، لاسيما الثقافة الغربية.
وثمة مسألة حيوية، وهي مسؤولية الكُتّاب والمفكرين الاسلاميين في عرض الثقافة الاسلامية عرضاً حياً متطوراً، ضمن منهج الالتزام الفكري، فإن التحجر، وفرض صيغ متخلفة على الفكر الاسلامي تسيء الى الاسلام، وتبعد جيل الشباب عن الفكر الاسلامي.
إنّ ما ينبغي العمل عليه، هو تناول مشكلات الانسان الفكرية المعاصرة، كمشكلة الحرية والسلطة وحقوق الانسان والجنس والسلوك والايمان وعلاقة العلم بالحياة، وغيرها من المفردات وبحثها بحثاً علمياً، كما أراد المنهج القرآني ذلك، وبروح العصر ولغته.
كما ينبغي تقديم رؤية نقدية للأفكار والنظريات المعادية للاسلام، وحلّ الاشكالات التي يثيرها خصوم الفكر الاسلامي بروح علمية، ليتسلّح الشباب المسلم بالوعي الثقافي، فيمتلكوا الاُسس والقواعد الثقافية الاسلامية، ويكونوا على درجة كافية من فهم نقاط الضعف في الفكر الآخر، كما يكونون قادرين على ردّ الاشكالات والطعون الموجهة للفكر الاسلامي.
وفي كل الأحوال فإن تكوين الثقافة الذاتية، هي من مسؤولية الشاب المسلم، وعليه أن يخصص وقتاً من يومه، لتحصيل الثقافة والفكر الاسلاميين، ويتابع البرامج الثقافية الاسلامية التي تنشر في الصحف والمجلات والكتب والاذاعات وتتحمل المؤسسات الاسلامية المسؤولية الكبرى في تثقيف الشباب، فهي المعنية بإعداد الدورات والمحاضرات والمؤتمرات الثقافية الاسلامية واصدار النشرات والدوريات وسلاسل الكتب المتخصصة بالفكر الاسلامي، ومتابعة التطورات الفكرية والأزمات الثقافية.
6 ـ رعاية الشباب
الشباب هم أغلى ما تملك الاُمة من طاقاتها البشرية؛ فهم في مرحلة المراهقة، وبداية مرحلة الشباب، قوة احتياطية تعدّ نفسها لتسلم مهامّ الحياة، وكيف ما يكون الشباب، يكون مستقبل الاُمة، وعمّا قريب يتسلمون شؤون الحياة بأكملها، لذا فإن العناية بجيل الشباب ورعايته، هي جزء من التخطيط لمستقبل الاُمة، والحرص على مكانتها.
إنّ التفكير باستيعاب طاقات الشباب، من خلال المؤسسات الشبابية، ورعاية طاقاتهم، وتنمية قدراتهم وملكاتهم، هي مسؤولية الدولة والمجتمع والاُسرة.
إنّ طاقة الشباب الجسدية والفكرية والنفسية، إن لم توجّه وتوظّف، تتحول الى عمليات هدم وتخريب في المجتمع، بل وتنعكس على كيان الفرد نفسه انعكاساً سلبياً.
إنّ الأهمية الكبرى لطاقة الشباب، ومخاطر اهمالها، وعدم توجيهها ورعايتها، هي التي دعت الدول الى تأسيس وزارة خاصة بالشباب، تكون مهمتها رعاية الشباب ، وتوجيه طاقاتهم والاهتمام بمواهبهم وميولهم.
ففي الشباب قطاعات واسعة تحتاج الى تأهيل، واكتساب الخبرات والمهارات العملية، واللحاق بحركة العلوم والمدنية وتطور المجتمع، لذا فإن تدريبهم من خلال معاهد التأهيل على الوسائل العلمية الحديثة، وادارة الأجهزة واستخدامها، مسألة أساسية.
فالتدريب على الكومبيوتر واستخداماته المختلفة، والآت الانتاج، وأجهزة ادارة الأعمال والأجهزة الالكترونية، وتدريبهم على الأعمال التأهلية المختلفة، لإنقاذهم من الفراغ والبطالة، السببين الرئيسيين في الفقر، والمشاكل الاجتماعية والنفسية والأمنية قضية هامة وحيوية.
ولأعداد كبيرة من الشباب مواهب ومؤهلات فنية، كموهبة الخط والرسم والزخرفة والقدرة على الأعمال الفنية والجمالية المصنَّعة.
إنّ توفير الظروف المعنوية والمادية والخبرات والمعاهد والمعارض، وفتح الدورات الاختصاصية، والنوادي المعنية، وتسويق انتاجهم، يساعد على تشجيع الشباب على تنمية مواهبهم، وتنمية الحركة الفنية، وإشغال الشباب، وإنقاذهم من الفراغ، فإن خطر الفراغ كبير على الانسان، وذو مردود سلبي على نفسيته وسلوكه.
ولدى كثير من الشباب ملكات كتابية وشعرية، كثيراً ما تهمل وتموت. إن الرعاية الأدبية والثقافية، بايجاد جمعيات ونواد ثقافية وأدبية، وطبع ونشر الانتاج الثقافي والأدبي للشباب، وتشجيعهم على تنمية المواهب، سيمد الاُمة بأعداد من المبدعين، ومن الكتّاب والشعراء والاُدباء والفنانين.
وفي الشباب طاقات ابداعية تنفجر في مجال الاكتشاف والاختراع، تجب رعايتها، وتوفير المستلزمات المادية، والتسهيلات والتوجيه العلمي لاُولئك المبدعين.
لابد للجهات والمؤسسات المعنية في الدولة من اعداد برامج اذاعية وتلفزيونية خاصة بالشباب، وبمشاكلهم وبتوجيههم.
كما أنّ وجود صحافة ومجلات ودوريات متخصصة بشؤون الشباب ومشاكلهم، ونشر انتاجهم ومساهماتهم، وابراز دور المتفوقين منهم، مسألة هامة في التشجيع، وحل المشاكل، وتوجيه الشباب، وتنمية وعيهم، وتزويدهم بالخبرات والنصائح.
ويمتاز الشباب في هذه المرحلة بالحيوية، والقوة الجسدية، لذا فإن تنمية روح الفتوة والرياضة مسألة أساسية، لإنقاذهم من الميوعة والتحلل، بفتح النوادي الرياضية، والملاعب، والمسابح، وساحات السباق، وإقامة المسابقات الرياضية، ورصد الجوائز.
لقد اعتنى الاسلام عناية فائقة بالرياضة، والتربية البدنية، واعداد جيل قوي.
والرياضة كما هي تربية واعداد جسدي، فإنها تربية واعداد أخلاقي؛ فهي تربية على أخلاقية القوة والفتوّة واحترم المنافسة، وتفوّق الآخرين، وانضباط أخلاقي في التعامل مع القوة وجمال الجسم، بعيداً عن الغرور والاستعلاء.
لقد وجه الرسول محمد(ص)السباق بنفسه، فسبق، وسُبق فرسه، ورصد الجوائز للمتسابقين ومنحها للمتفوقين. فقد كان(ص) يشجع الرياضة، ويدعو لها، ويكافئ عليها.
فالرياضة من أولى وسائل توفير القوة واللياقة البدنية التي دعا اليها القرآن بقوله: (وأعدّوا لهم ما استطعُتم من قوة)، لذا فإن جيل الشباب يجب ان يتمتع بالقوة والفتوة والفروسية بعيداً عن الميوعة والتسكّع.
7 ـ الشباب والسياسة
مع تطور الحياة المدنية، وتعاظم دور السلطة والسياسة في الحياة الاجتماعية والفردية، ازداد ارتباط المصير الفردي والاجتماعي بالسلطة والدولة.
فالدولة هي التي تتولى مهمة التربية والتعليم، وهي التي تصمم وتخطط الاعلام، وهي المسؤولة عن الأمن والنظام، وهي التي تدير شؤون الاقتصاد والمال، وهي الجهة المعنية بتقديم الخدمات، وهي التي تقرر علاقة الاُمة والشعب بغيره من الأمم والشعوب، حرباً أو سلماً، صداقة أو عداء، تعاوناً أو مقاطعة.
وهكذا فإن مصير الفرد والجماعة، أضحى مرتبطاً ارتباطاً وثيقاً بالدولة، والعلاقة بالدولة تعني العلاقة بالسياسة والحياة السياسية، وبذا صارت السياسية، والحياة السياسة، جزءاً هاماً وخطيراً من حياة الفرد، ومن حقه أن يهتم بمسألة السياسة والدولة، ونوع النظام الذي يحكمه؛ لأنّه يقرر مصيره، ويتدخل في كل شأن من شؤون حياته، بل وآخرته.
لذا اعتبر الاسلام السياسة والعمل السياسي، مسؤولية جماعية، تُخاطب بها الاُمة بأسرها. فقد ورد في الخطاب النبوي الشريف: «كلكم راع وكلكم مسؤول عن رعيته»(37). وورد أيضاً؛ «من اصبح لا يهتّم بأُمور المسلمين فليس بمسلم»(38).
والسياسة هي رعاية شؤون الاُمة، وهي أبرز أمر من أُمورها التي يجب أن يهتم بها الفرد والجماعات المنظَّمة، وغير المنظمة.
وصراع الشعوب والاُمم ضد الحكومات والأنظمة المستبدّة والارهابية، صراع دام. وقد كان ولم يزل ارهاب السلطة واستبدادها، هو المشكلة الكبرى أمام ارادة الانسان الحرَّة، وأمام سعادة البشرية وتقدمها، وعيشها بسلام ورفاه، مما دعا الشعوب الى الكفاح ضد الانظمة الجائرة، والى العمل السياسي، لتحرّر نفسها، وتحقّق المستوى اللائق من العيش، وتساهم في تقرير مصيرها، وطبيعة النظام الذي يسيّر حياتها.
وفي طليعة المهتمين بالعمل السياسي والحياة السياسية هم الشباب، ذلك لأسباب عديدة أهمها:
1 ـ إنّ الشباب يحمل طاقة جسدية ونفسية، تؤهله للصراع والتحدي، أكثر من غيره، لذا يكون مهيّأً لمواجهة الارهاب، والاحتلال، والظلم السياسي.
2 ـ إنّ العمل السياسي، يستلزم العمل ضمن الجماعات السياسية، والشباب في هذه المرحلة يبحثون عن التعبير عن النزعة الجماعية فيهم، وهي الانتظام مع الجماعة، فيدفعهم نحو العمل السياسي دافع غريزي، بالاضافة الى القناعة الفكرية.
3 ـ في مرحلة الشباب والمراهقة يتجه الانسان الى التجديد والتغيير، لاسيما وأن ظروف الحياة المدنية تتطور بسرعة هائلة في مجال التقنية والعلوم، والاستخدام العلمي، فينخرط الشباب في العمل السياسي، رغبة في التغيير والاصلاح، والالتحاق بمظاهر التقدم والرقي المدني.
4 ـ في مرحلة الشباب يكون الطموح في احتلال دور اجتماعي، والتعبير عن الارادة بدرجة عالية، مما يدفع الشباب الى الانضمام الى الحركات، والتيارات السياسية، لاحتلال موقع اجتماعي، ودور مرموق في المجتمع.
وقد أكد الباحث الاجتماعي الألماني (كاس) عام 1971 (من جمهورية ألمانيا الفيدرالية): (أن هناك فروقاً بين الشباب الطلبة وغير الطلبة، وخاصة فيما يتعلق بالاهتمامات السياسية، والآراء السياسية والايديولوجيات ... وأشار كاس الى أن المظاهرات التي حدثت في فرنسا عام 1968 واشترك فيها 95% من الطلاب تقريباً، ونسبة 5%
من هم ليسوا بطلبة، أكدت على ان الطلاب أكثر اهتماماً وتأثراً بالقضايا السياسية والايديولوجية من غيرهم من الشباب، ومن باقي أفراد المجتمع)(39).
ومن أوضح الأدلة على دور الشباب في المقاومة السياسية، هو الانتفاضة الفلسطينية ضد الاحتلال الصهيوني، واعلان ثورة الحجارة التي تحدّت الارهاب اليهودي بما يملك من قوة ودعم وتسليح، وبما يمارس من جريمة وارهاب وحقد وانتقام.
فإنّ الشباب هم روّاد هذه الثورة التي ليس لها سلاح غير الحجارة، والقوة المتحدية للغرور والاستكبار الصهيوني رغم سقوط الآلاف من الشباب الفلسطيني المسلم ضحايا وشهداء وجرحى وعشرات الآلاف منهم في السجون وتعريضهم للتعذيب البشع.
وتتفاوت هذه العوامل من شخص الى آخر، ومن بيئة الى أُخرى، ومن ظروف سياسية الى ظروف أُخرى.
وإنّ كل تلك الدوافع، والنوازع الذاتية، يعمل الاسلام على توجيهها وترشيدها، لتصبّ في الاتجاه الصحيح، ولتتحرك جميعها وفق رؤية منهجية، وخط فكري وسلوكي وسياسي متكامل، يتحرك في دائرة العبادة، وحفظ المصالح العامة وخدمة الناس، والتفاعل مع الجماعة بأهدافها، ومصالحها المشروعة.
39ـ د. فيصل محمد خير الزرّاد / مشكلات المراهقة والشباب / ص 102.
فالتربية السياسية الاسلامية، تعدّ الفرد لأن يكون عضواً مهتماً بالسياسة وبمصير الاُمة، كجزء من مهمته العقيدية، وتكليفه الشرعي والعبادي، وهو يدرك أنّ الفكر السياسي الاسلامي يؤمن بدور الاُمة في السياسة، ويقيم العلاقة بين الحاكمين والناس على أساس الشورى، واحترام الرأي، وقاعدة المحاسبة (الأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر) واحترام ارادة الانسان، وحقوقه الانسانية، وأنّ السلطة، ومصالح الاُمة وثرواتها ومصيرها، أمانة بيد الحاكم، عليه أن يسير بها وفق المنهج الاسلامي.
لقد أوضح القرآن ذلك بقوله:( إنّ الله يأمركُم أن تؤّدوا الامانات الى أهلها واذا حكمتُم بين الناس أن تحكُموا بالعدل). (النساء / 58)
وقال تعالى: (ولا تركنُوا الى الذين ظلمُوا فتمسّكُم النارُ). (هود / 113)
وقال تعالى: (وأمرهُم شورى بينهم). (الشورى / 38)
وقال تعالى: (ولتكن منكُم أُمة يدعون الى الخير ويأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر وأُولئك همُ المفلحون). (آل عمران / 104)
ومن سلبيات العمل والنشاط السياسي غير الموجّه في وسط الشباب المسلم، أو الذي قاد الى مآس وانحرافات، هو الانضمام الى الأحزاب والمنظمات السياسية التي تحمل الأفكار والنظريات الغريبة على عقيدة الاُمة ومبادئها وقيمها، وتستفحل في هذه الفترة الأفكار الغربية الرأسمالية، وتحت ستار الحرية، وتستهوي الكثير من الشباب، كما ضلع اكثر من جيل في ركاب الفكر الماركسي، وقدم التضحيات الهائلة الجسيمة، وانتهت تلك النظريات والأحزاب الى كارثة.
وكم خسر جيل الشباب من حياته وطاقته وفكره ووقته في الدعوة الى الفكر الغربي والماركسي، فإنعكست تلك النشاطات السياسية، والصراعات المريرة، بالسلب، واستهلاك جهود الاُمة، والعبث بهويتها، وشخصيتها الفكرية والحضارية، ولم تزل الاُمة وجيلها المعاصر يعيشان حالة من القلق والفوضى السياسية.
إنّ مشكلة الارهاب، والاستبداد السياسي في عالمنا الاسلامي، هي من أخطر وأعقد مشاكل الانسان في عالمنا. إنّ الهيمنة الاستكبارية على الحياة السياسية، تلقي بكل ثقلها وطاقاتها للحيلولة دون تفوق التيار الاسلامي، واحتلاله دور القيادة الجماهيرية، لاسيما في وسط المثقفين وجيل الشباب المتعلم.
ومما ينبغي ذكره أنّ اليقظة الاسلامية المعاصرة، قد أوجدت وعياً عقيدياً وسياسياً اسلامياً جديراً بأن يُحدث تغييراً في مسار الاُمة، وذلك يحتاج الى توعية وترشيد.
8 ـ الشباب والتراث
التراث مصطلح ثقافي معاصر، اتّخذ مجراه ودوره في الفكر والثقافة، وصار الموقف من التراث مجالاً للحوار والخلاف والنظر، وتعدّد الرأي، ويستعمله الكتّاب والمفكّرون، والمثقفون غير الاسلاميين، كما يستعمله الكتّاب والمثقّفون الاسلاميون.
وكم شهد العقدان الآخيران من بحوث ودراسات نقدية وتحليلية للتراث الفكري والثقافي للمسلمين.
ويقصدون بمصطلح التراث: (الموروث الفكري والثقافي، الذي ورثه الجيل المعاصر عن الأجيال الماضية) ويشمل منهج البحث والتأريخ والفقه وأُصوله، والفلسفة، وعلم الكلام، وعلم الأخلاق، والفن، والأدب، واللغة، والتفسير، ودراسات الحديث، والرواية، وعلم الرجال، بل وينظر البعض من الكتّاب غير الاسلاميين الى أنّ السيرة النبوية، والحديث النبوي، وما أُثر عن الأئمة، هو جزء من التراث.
وفي اطار العمل النقدي الذي يشهده التراث، من قبل بعض الكتّاب العلمانيّين والكتّاب الاسلاميين، يبرز اتجاهان متطّرفإن:
1 ـ اتجاه يقدّس كل ما هو موروث ، ويدافع عن كل ما يحوي التراث.
2 ـ واتجاه يسعى للتقليل من أهمية التراث وقيمته، ويعمل على الغائه، أو التشكيك بقيمته، ويعمل على أن يكون التراث مجرّد افراز الماضي الذي لا ينبغي أن يكون له دور في بناء الحاضر، وبالتالي يسعى للفصل بين ماضي الاُمة وحاضرها، ويُخضع المقبول عنده من التراث لمقاييس يثبتها، ويقترحها هو، فهو يحدد منهج التعامل مع التراث، والموقف منه، أي يخضعه لعملية انتقاء وفق ما يقتنع به.
وكلا الاتجاهين قد غالى وأخطأ؛ فهناك خلط بين ما هو تراث، يجب أن يخضع للغربلة والتنقيح، وبين ما هو شريعة وقيم الهية ليست تراثاً، ولا تخضع للانتقاء؛ وهي القرآن الكريم، وما ثبتت صحته من السنّة المطهّرة، وفق منهج الاثبات العلمي الأمين، اذ ليس كل ما حوت الكتب من رواية، وعمل منسوب الى الرسول (ص) أو الأئمة(عليهم السلام)هو صحيح، يجب التمسك به.
أمّا ما تركه العلماء من فلاسفة ومتكلمين (40) ومفسرين ومؤرخين، وباحثين في شؤون الفقه، والسياسة، وعلم الرجال، وما حوت كتب الحديث والرواية، فكلها تخضع للنقد والتمحيص، ولا يحكم على شيء من هذه الآراء والأفكار، ووجهات النظر بالصحة أو الخطأ الاّ بعد التمحيص والنقد. والصحيح ما يثبته البحث العلمي، ويسنده الدليل.
فليس كل ما وصلنا من الصحابة، والتابعين، والعلماء، من كتب، وآثار علمية، وما رووا من أحداث السيرة، وأحاديث الرسول(ص) والأئمة، هو مطلق الصحة، بل فيه الخطأ والصواب، وفيه الصحيح والمدسوس.
وليس كل ما ورثناه من آراء وأفكار، ونظريات العلماء، في مجال الفكر السياسي، والعقيدي، والتأريخي، والثقافي، وتفسير القرآن، هو مقّدس لا يجوز المساس به، بل المنهج العلمي الذي يثبته القرآن، هو منهج الدليل والبرهان، والنقد العلمي الرصين.
وهكذا يجب أن نتعامل مع التراث، كما هو المنهج مع أفكار ونظريات المعاصرين، من اسلاميين، وغير اسلاميين.
والشباب يواجه المعركة بين تيارين متعصّبين: تيار يريد أن يفصل بين الجيل المعاصر وبين التراث، ويعزل الاُمة عن ماضيها، وبالتالي عن عقيدتها، وقيمها الاسلامية، بحجة التشكيك بالتراث، وأنّ التراث لا يصلح الاّ للماضي.
وتيار آخر يريد أن يفرض على العقل العلمي حالة التحجّر والتخّلف، بحجة المحافظة على التراث، بكل ما فيه من مخلّفات، حتى تلك التي تحتاج الى تصحيح، ولا يسندها الدليل العلمي، ولا المنطق العقلي السليم، بحجة أنّ التشكيك بتلك الموروثات، يقود الى التشكيك بالعقيدة، وقدسية ماضي الاُمة.
وبين هذين التيارين يقف جيل الشباب تتجاذبه أطراف المعركة، ويستهوي مساحات واسعة من الشباب مصطلحات المعاصرة والتجديد والحداثة، والانتقال من الماضي الى الحاضر. ويستغل الكتاب العلمانيون، والمشككون بقيمة الفكر الاسلامي الموروث ثقافة الشباب الناشئة، وغير الواسعة، او المعدومة في بعض الأحيان للتشكيك بالتراث.
إنّ جيل الشباب يجب أن يعرف عظمة أُمته، وماضيها الفكري المجيد، وما قدّمه المسلمون من مساهمة علمية وفنية وأدبية، ومنهج علمي للبحث والتفكير للبشرية بأكملها، ولنهضتها المعاصرة.
فأُسس النهضة الحديثة تستند في حقيقتها الى ما قدّمه علماء الاسلام من أُسس فكرية، وعلمية، ومنهج بحث علمي انتقلت الى اوربا عبر الاندلس بواسطة ترجمة كتب علماء المسلمين بعد فترة القرون الوسطى المظلمة التي عاشها الغرب، ولم يكن الاسلام الاّ رائد النهضة العلمية، ونصير العقل، ومؤسس حضارة الانسان.
إنّ ما ينبغي أن يؤمن به جيل الشباب، هو منهج التعامل السليم مع التراث، وعظمة تراث الاُمة من بحوث ودراسات علمية، وذلك من خلال نشر الآثار العلمية والتراثية في مجال الفكر والثقافة والفن والأدب، وبلغة عصرية حديثة، وتنشيط حركة النقد، وغربلة التراث مما حمله من مدسوسات، وآراء شخصية، ووجهات نظر لا تمثل الحقيقة العلمية، والفصل بين الاسلام كعقيدة وشريعة وقيم، وبين ما أنتجه العلماء والباحثون وأصحاب الآراء والنظريات من القدماء، كما هو الحال والموقف من المحدثين والمعاصرين، فلا ينسب الى الاسلام الاّ ما أسنده الدليل، وأثبته البرهان وفق منهج استدلالي سليم.
يجب أن يعي جيل الشباب المؤامرة الكبرى على الاسلام، بل وعلى الانسانية من خلال اطروحات فكرية تحمل اصطلاحات المعاصرة والتجديد والحرية الفكرية، وهي في حقيقتها محاولات لهدم كيان الاُمة الفكري، وتذويب هويتها الحضارية التي هي سر قوة شخصيتها وتقدمها وكرامتها في الحياة.
فالاُمة الاسلامية عاشت فترة من الضياع الفكري، حينما عاش جيل الشباب والمثقفين في هذا الضياع، متأثرين بالحضارة المادية الحديثة التي جنت على الانسانية بالحروب والاستعمار، واستغلال ثرواتها واضطهادها وتجويعها واستعبادها.
ولايعني ذلك بأي حال عدم الاستفادة من منجزات النهضة العلمية الحديثة التي شهدتها اوربا، بل المطلوب انتقاء الفكر السليم والثقافة العلمية التي تتكامل مع حضارتنا وثقافتنا الاسلامية.
إن القوى الاستكبارية تخشى عظمة الاسلام، وقدرة الفكر الاسلامي على بناء أُمة قوية، وحضارة رائدة، تتسلح بالعلم والايمان والأخلاق، لذا تسخِّر شبكات اعلامية وثقافية وكتاّباً، للنيل من الفكر الاسلامي بخلط القضايا والمفاهيم، واستغلال روح الاندفاع الفكري، والبحث عن التجديد، والمستقبل الأفضل لدى جيل الشباب.
إنّ الدراسة النقدية للفكر الآخر المواجه للاسلام، تكشف للشباب زيف ادّعاء هذه الاطروحات التي جرَّت على الاُمة الاسلامية الويلات، وإن دراسة الفكر الاسلامي من منابعه الأصيلة، وبروح علمية، ومنهج عقلي نزيه، تكشف عظمة الاسلام، وقدرته على قيادة البشرية، واصلاح شؤونها.
وهناك مسألة أساسية في دراسة الاسلام؛ وهي التمييز بين الاسلام وواقع المسلمين المتخّلف. إنّ المطلوب هو الارتفاع بالمسلمين الى مستوى الاسلام العقيدي والتشريعي والأخلاقي، وليس قياس الاسلام على ما يتحرك به المسلمون من فهمهم وممارستهم المتخّلفة عن الاسلام.
9 ـ الشباب والصداقة
من يتأمل في العقيدة والقوانين والعبادات والأخلاق والقيم والتعاليم الاسلامية يجدها كلاً متكاملاً، يعمل بالتكامل على بناء الوضع الاجتماعي، وترسيخ العلاقات الانسانية بين أفراد النوع البشري، ومن هذه الاجراءات والتعاليم، الدعوة الى اتخاذ الأخلاّء والأصدقاء، وتكوين علاقات الاُخوّة والمحبة والصداقة بين أفراد المجتمع الاسلامي.
وقد حدد الاسلام القواعد والاُسس لتنطيم علاقات الخلّة والصداقة، بعد أن حثّ عليها حثاً واسعاً ومتواصلاً.
ولقد تحدث القرآن عن الأخّلاء والأصدقاء في موارد عدة من بيانه وهديه:
قال تعالى متحدثاً عن الأخلاّء:
(الأخلاّء يومئذ بعضهُم لبعض عدوٌّ الاّ المتّقين). (الزخرف/ 67)
(يوم يعضُّ الظالمُ على يديه يقول يا ليتني اتّخذتُ مع الرسول
سبيلاً * يا ويلتى ليتني لم أتّخذ فلاناً خليلاً * لقد أضلّني عن الذّكر بعد اذ جاءني وكان الشيطانُ للانسان خذولاً). (الفرقان / 27 ـ 29)
في هذه الآيات يتحدث القرآن عن صنفين من الأخّلاء:ـ
1 ـ صنف الأخلاّء الاخيار، الّذين ينفعون أخلاّءهم بخلّتهم وصداقتهم، ويجلبون لهم المنفعة والخير.
2 ـ وصنف من الأخلاّء الأشرار الّذين يسلكون بأصدقائهم سبل الشر والفساد والجريمة، فيتحولون الى أعداء، وسبباً للضرر والمأساة.
وتشهد الوقائع الاجتماعية أن أصدقاء السوء هم أعداء مُبطّنون، يحملون الشر وسوء القصد والعدوان لأصدقائهم، وكم كشفت التجارب والتحقيقات الجنائية من جرائم اعتداء من قتل وسرقة وعدوان من أصدقاء السوء الأشرار على أصدقائهم، سواء أكان الطرفإن شريرين، أو ضحاياهم الّذين خدعوا بصداقتهم، فاتّخذوهم أصدقاء.
لذا يجب على من يتّخذ له صديقاً وخليلاً من الشباب، أن يعرف شخصية ذلك الانسان وخلفيّته الأخلاقية والاجتماعية، ودوافع صداقته وسلوكه الشخصي؛ فلا يصادق ولا يخالل إلاّ أصدقاء الخير، وإلاّ الشخص السويّ المستقيم السلوك، المعروف لديه، الّذي يبادله المحبة والاخلاص حقاً، ولا يجلب له الاّ الخير وحسن المآل.
وكم حذّر القرآن من قرناء السوء، كما في قوله تعالى:
(فأقبل بعضهُم على بعض يتساءلُون * قال قائل منهم اني كان لي قرين * يقولُ أإنّك لَمِنَ المصدّقين * أإذا متنا وكنّا تراباً وعظاماً أانّا لمدينون * قال هل أنتم مطّلعون * فاطّلعَ فرآه في سواء الجحيم * قال تاللهِ إن كدتَ لتردين * ولولا نعمة ربّي لكنتُ من المحضرين). (الصافات / 50 ـ 57)
ويوضح القرآن كيف يبغي خليط السوء على خليطه، ويسيء اليه، فلا يحفظ له المعروف، ولا يفي بحقّ الاُخوّة والصداقة.
فالقرآن ببيانه يوضح أن الأصدقاء المخلصين هم قليلون، وأن كثيراً ممن يخالطهم الانسان يبغون عليه، جاء ذلك في قوله تعالى:
(وإنّ كثيراً من الخلطاء(41) لَيبغي بعضهُم على بعض إلاّ الّذين آمنوا وعملوا الصالحات وقليل ما هُم...). (ص / 24)
ونعرف اهتمام الاسلام بالصداقة والاُخوة الاجتماعية من سيرة الرسول (ص)العملية؛ فهو (ص)الّذي أسس نظام المؤاخاة وآخى بين المهاجرين والأنصار، وأمرهم بذلك بقوله: «تآخوا في الله:
أخوين أخوين؛ ثم أخذ بيد عليّ بن أبي طالب (ع) فقال: هذا أخي، ثمّ تآخى المهاجرون والأنصار: فتآخى حمزة وزيد بن حارثة، وجعفر الطيار ومعاذ بن جبل، وأبو بكر وخارجة بن زهير… الخ»(42).
وهكذا آخى بين أصحابه، وعلّق العلماء على تلك المؤاخاة، وحلّلوا أهدافها العقيدية والاجتماعية، قال السهيلي:
«آخى رسول(ص) بين أصحابه حين نزلوا بالمدينة؛ ليذهب عنهم وحشة الغربة، ويؤنسهم من مفارقة الأهل والعشيرة، ويشد أزر بعضهم ببعض…»(43)
ويوصي الامام عليّ (ع) باتّخاذ الإخوان فيقول:
«عليكم بالإخوان، فإنهم عدّة للدّنيا، وعدة للآخرة، ألا تسمع الى قول أهل النّار: فما لنا من شافعين ولا صديق حميم»(44).
وتحدّث الامام جعفر بن محمد الصادق (ع) عن أهمية الاُخوة والصداقة فقال: «ما أحدث عبد أخاً في الله الاّ له درجة في الجنة»(45).
من هذه التعاليم والارشادات الاجتماعية الخالدة نفهم قيمة الصداقة والاُخوة، ومعناها والاُسس الّتي ينبغي أن تقوم عليها.
فالاسلام ينظر الى الانسان أنه كائن اجتماعي بطبعه، يحمل في أعماق نفسه غريزة الاجتماع والائتلاف، ويكره الوحدة والعزلة.
وحالة العزلة والانطواء هي حالة مرضيّة ضارّة بأوضاع الفرد النفسية والاجتماعية، والحياة البشرية بطبيعتها، لا سيما في عصرنا الحاضر، حياة تفاعل بشري متواصل.
فالانسان يتفاعل مع الآخرين بدءاً من مرحلة الطفولة؛ فالطفل في بداية حياته يختلط بالأطفال الصغار في الروضة والمدرسة الابتدائية، ومع أبناء جيرانه في المحلة.
وفي مرحلة الشباب والمراهقة تنمو غريزة الاجتماع، وتشتد الدوافع الاجتماعية، فيندفع الشاب الى التعارف، وتكوين العلاقات والصداقة، والانضمام الى الجماعات السياسية والاجتماعية، والنوادي الفنية والرياضية والمهنية و... الخ، كما يختلط بالآخرين في المدرسة والجامعة والمحلة، فيتخذ بدافع الطبيعة الاجتماعية له أصدقاء وأخلاّء.
ولهذه الصداقة والخّلة دوافعها النفسية، وآثارها على السلوك والوضع النفسي، ومصير الفرد واتجاهه في الحياة، فهي من الممكن أن تكون ذات أثر سلبي يجر الناشئ والشاب الى حالة الانحراف والسقوط والمأساة التي لا علاج لها، كما لها نتائجها الايجابية على أوضاع الفرد وطبيعة حياته اذا ما وجّهت غريزة الاجتماع والعلاقة بالأصدقاء توجيهاً حسناً، كاختلاط الشاب بالأصدقاء المستقيمي السلوك، والفتاة بالفتيات المستقيمات السلوك.
فإن الانسان يكتسب من الآخرين، ولاسيما في هذه المرحلة، ويتأثر بهم، كما يكتسبون منه، ويتأثّرون به، وتتوقف درجة التأثير على قوة الشخصية، والاستعداد للتقبل.
ويمكن أن يقال أن دوافع الصداقة في مرحلة المراهقة والشباب تتمثل في:
1 ـ ملء الفراغ النفسي، ودفع الشعور بالوحدة والوحشة والضيق والضجر. وقد وضح الامام الصادق دور الخلة والصداقة في معالجة تلك المشكلة النفسية بقوله: «اذا ضاق أحدكم فليعلم أخاه، ولا يعن على نفسه»(46).
2 ـ تبادل مشاعر الحب والولاء. فإن الانسان، لا سيما في هذه المرحلة، يحمل طاقة عاطفية ضخمة وهو بحاجة الى الشعور بحب الآخرين له وحبِّه للآخرين والافضاء بما في نفسه من أسرار. والافضاء بالسّر مسألة خطيرة. فعليه، مهما بلغت ثقته بالاخرين، أن يكون متحفظاً من الاباحة بما عنده.
والحب في الاسلام يقوم على أساس الولاء والمبدئية، والطهارة الأخلاقية، والعلاقة الروحية.
لذا لخص الامام الصادق (ع) عظمة الحب في الاسلام بقوله:
«هل الدّين الاّ الحب، ان الله عزّ وجلّ يقول: ان كنتم تحبون الله فاتبعوني يحببكم الله»(47).
فاعتبر الاسلام رسالة حب وتحابب في الله؛ أي في مبادئ الخير والصلاح للبشرية.
3 ـ الشعور بالحاجة الى التعاون مع الآخرين، والعيش معهم: إن الاحساس بالحاجة الى الآخرين، والتعاون معهم على مشاكل الحياة، مسألة أساسية في حياة الانسان، تملأ نفسه بشكل شعوري أو لا شعوري.
واتخاذ الأصدقاء والخلاّن هو أحد وسائل اشباع هذه الحاجة النفسية، فالانسان بحاجة الى مساعدة الآخرين المادية والمعنوية واسنادهم، وان وجود الأخ والصديق، يساهم في حل المشاكل المادية والمعنوية، فكثيراً ما يلجأ الأصدقاء في الملمّات والأزمات الى أصدقائهم لانقاذهم من المأزق، وحلّ مشاكلهم.
وقد حثّ الاسلام على قضاء الحوائج، ومساعدة الآخرين والتعاون معهم، فقال تعالى: (وتعاونوا على البّر والتقوى ولا تعاونُوا على الإثم والعدوان).
فهو في هذه الآية يبيِّن أن أصدقاء السوء الذين يتعاونون على الجريمة والعدوان، فينهى عن ذلك كما يدعو الى التعاون على البر والتقوى. وقضاء الحوائج من أعظم مصاديق البر والتقوى. وفي الحديث المروي عن الامام الصادق(ع) : «الماشي في حاجة أخيه كالساعي بين الصفا والمروة»(48).
والحمد لله رب العالمين
^^^^^^
1ـ بحار الانوار / جلد 71 / ص 342.
2ـ الطبرسي / مجمع البيان / تفسير الآية 30 من سورة الروم.
3ـ نهج البلاغة / تنظيم صبحي الصالح / ص 393.
4ـ د. علي محمد جعفر / الأحداث المنحرفون، ص/ 60 ـ 62.
5ـ الجامع الصغير للسيوطي / ج 1 / رقم الحديث 1832/ ص 246.
6ـ الحسد: تمني زوال نعمة من مستحق لها، وربما مع ذلك سعي في ازالتها.
7ـ الامام زين العابدين / الصحيفة السجادية.
8ـ سنن النسائي / شرح السيوطي / ج 6 / كتاب الجهاد / باب فضل من عمل في سبيل الله / دار الفكر / لبنان.
9 ـ الكافي / ج 1 / ص 30.
10ـ الكافي / ج 1 / ص 34.
11ـ دور الاتصال والاعلام في الشخصية الشاملة / ص 315.
12ـ علي محمد جعفر / الأحداث المنحرفون / ص 82.
13ـ الحراني / تحف العقول / ص 483.
14ـ المصدر السابق / ص 489.
15ـ المصدر السابق.
16ـ د. فيصل محمد الزرّاد / مشكلات المراهقة والشباب / ص 101 ـ 102.
17ـ نهج البلاغة / تنظيم صبحي صالح / ص 393.
18ـ كتاب المواعظ / الشيخ الصدوق / ص 43.
19ـ الحرّاني / تحف العقول عن آل الرسول / ص 70.
20- الحّر العاملي/ وسائل الشيعة / ج 7 / ص 9.
21- المصدر السابق / ص 5.
22- المصدر السابق / ص 6.
23- المصدر السابق / ص 8 ـ 9.
24- الميسر: القمار.
25- سنن ابي داود / النبي عن المنار / ج 3 / ص 328.
26- مابكل أرجابل / سيكولوجية السعادة / ص 76 / ترجمة د. فيصل عبد القادر يونس.
27ـ الكليني / الكافي / ج 5 / ص 89.
28ـ المصدر نفسه.
29ـ الكافي / ج 5 / ص 113.
30ـ الكليني / الاصول من الكافي / ج 5 / كتاب المعيشة / ص 67.
31ـ المصدر السابق.
32ـ المصدر السابق / ص 76.
33ـ المصدر السابق / ص 74.
35ـ المحاسن / ص 409.
36ـ سنن الترمذي / كتاب البر والصدقة / رقم الحديث (2007).
37ـ جامع الأحاديث / ص 111.
38ـ الكافي / ج 2 / ص 163.
40- علم الكلام: هو علم العقيدة الاسلامية.
41 ـ يقال للصديق والمجاور والشريك خليط. الراغب الاصفهاني/ معجم مفردات ألفاظ القرآن.
42 ـ سيرة ابن هشام/ ج 2/ ص 150.
43 ـ حاشية سيرة ابن هشام/ المصدر السابق.
44 ـ الطبرسي/ مشكاة الأنوار/ ص 187/ ط 1385 هـ.
45 ـ المصدر السابق/ ص 188.
46 ـ الطبرسي/ مشكاة الأنوار/ الباب الرابع/ الفصل الاول ـ في اتخاذ الإخوان/ ص 186، ط 1385 هـ.
47 ـ المجلسي / البحار / ج 69 / ص 237.
48ـ المصدر السابق / ج 78 / ص 281