
القصة الأولى :ألم ينهي ألم
لم تكن تتجاوز السادسة عشر.. لم تكمل تعليمها الثانوي لتعمل بائعة في أحد المحلات التجارية.. تستقبل الزبائن بصدر رحب و نفس بهية.. نجحت في عملها لادراكها أخيراً حاجتها لذلك النجاح الذي لم تبلغه من الدراسة.
اجتهدت في عملها لأنها أحبته.. كان أقرب إلى نفسها.. فهي تحب الحديث،شعبية ، اجتماعية .. مرحة فرحة .. و أخيراً وجدت نفسها في هذا المكان.
كانت تعمل بدوامين كاملين .. لكن ذلك لم يهمها.. فقد كانت سعيدة تحب العمل .. و خاصة هذا العمل ..
و كانت تشغل مواصلات الشركة التي تعمل فيها ذهاباً و إياباً لذا لم ينقصها شيء ..معتمدة على نفسها تماما تعمل بهدوء و سعادة .. حتى جاء يوم..
أتى العمل زبون ، زبزن مميز ، طويل القامة ابيض اللون , خفيف الشعر و سيم المظهر ، رغم بعض البثور المتناثرة على وجهه.. شاء شراء هدية ، فقامت الفتاة بدورها على أكمل وجه , و انتقت له هدية جميلة و رخيصة ، سعد بها الشاب و أبدى إعجابه بذوقها ، و بعد بعض الوقت أبدى إعجابه بها!
بعض الوقت تعني أياماً قلائل ، حيث اعتاد الشاب زيارة المحل بين يوم و آخر بقصد الشراء..لكن الحقيقة كانت مختلفة لأن الهدف لم يكن الشراء بقدر ما كانت الفتاة ..أعجبته فبدأ يتردد عليها، يسمعها أحلى الكلام ، و يشتري لها الهدايا، كان كل شيء سهل بحكم عملها .. فاسقبال الزبائن و ترددهم كان أمراً مرغوباً فيه .
و استمر الأمر على ذلك أشهراً عدة ..أحبته الفتاة خلالها بشدة .. فقد و عدها بازواج و الإستقرار.
كانت سعيدة .. فهي تفتقد الحنان كثيراً مع وجود والديها .. تردد دائماً لا يفهمني أحد .. والداها كانا طيبين و ساذجين للغاية ، لذا خرجت مسؤليتهما من يديهما تماماً، فأخوها الأكبر كان من يدير المنزل ، فابوها متقاعد و أمها أميَة .
بدأت تحادثه كثيراً في الهاتف .. هناك متى ما انتصف الليل.. سحبت سلك الهاتف من الصالة و مدَته إلى غرفتها .. و بدأت تحدثه حتى الفجر..
كانت و حيدة في الغرفة ، فهي الفتاة الوحيدة في المنزل ، ولها أخ أكبر و أخ أصغر ، لذلك شعرت دائماً بالوحدة ، فأمها تكبرها بكثير لذلك لا تستطيع فهم حديثها و تقديره .. و أخوها الأصغر مشغول دائماً بالكرة.. بينما الأكبر لم يكن صديقاً كفاية .
لذلك أحبت الشاب بقوة .. فهو يملأ فراغها ووحدتها.. بل كل حياتها .. فتجد نفسها سعيدة به و معه .. و تضع الأحلام و الآمال مع أن الرجل كانت له عيوب واضحة ..
كان الرجل يتهرب دائماً من أمر الزواج في تلك الفترة ، لأنه لم يكن مستعداً كما كان يقول، و يفرض عليها أن يراها كل يوم ، فتضطر للعمل في يوم إجازتها أيضاً حتى يتمكن من رؤيتها.. لكنها الأخرى كانت سعيدة بذلك ..
كانت المرة الأولى التي تحب فيها ، المرة الأولى التي شعرت فيها بالسعادة و الحياة و الوجود ، لأنها بدأت تشعر نفسها موجودة .. نعم.. لأن أحدهم أصبح يبحث عنها دائماً ، يزورها ، يتصل بها، فهي تفتقد الحنان و الصداقة كثيراً ، خرجت من المدرسة باكراً قبل الجميع ، لذلك خسرت صديقاتها، معظمهن بقين في المدرسة ينهين تعليمهن ، فاختلفت حياتها عن حياتهن، فاتجهن إلى طريق و هي إلى آخر ..
لم تكن غبية .. لكنها كانت مهملة .. ما أحبت أن تدرس يوماً.. كانت رومانسية جداً.. تفكر في أمور أخرى.. منها الناس و منها الزوج و الأسرة.
تريد حياة أفضل من التي تعيشها.. أسرة أفضل من التي تربت فيها.. تريد أبوين متماسكين ، أطفالاً كثيرين، تعلمهم كيف يكونون أصدقاء، كيف يحتاجون لبعضهم و يحبون بعضهم و يملأون فراغ بعضهم بعضاً.. أفضل بكثير من الحال التي تعيشها هي.
مع بعض الوقت .. لاحظ أخوها الأكبر حماسها الزائد للعمل.. بدأ الشك يأخذ طريقه إلى قلبه ..
..اليوم لا تذهبي إلى العمل خذي إجازة !.. هكذا بدأ تعبيره عن شكه!
تغيبت عن العمل يوماً واحداً .. غضب حبيبها .. هدَدها أن لا تكرر ذلك .. فهو يكره أن يمر يوم دون أن يراها كل يوم .
في الأسبوع الثاني طلب منها أخوها مجدداً أن تأخذ إجازة ، أبت بقوة ، لكن لا فائدة ، اضطرت لعدم الذهاب إلى العمل ، غضب حبيبها مجدداً، لا يريد تقدير صعوبة موقفها ، يصر على رأيه.. يريدها كل يوم .. لا يهم إن شك بها أخوها .
بدأ الأخ يلاحظ تصرفاتها جيداً .. لاحظ يوماً سلك الهاتف ممتداً إلى الغرفة فدخلها ، فأغلقت أخته سماعة الهاتف بسرعة خائفة و متوترة ، فأدرك أنها تخفي شيئاً ، و أنها على علاقة برجل بالتأكيد تعرفه من مكان عملها .
أصر على إخراجها من العمل ، حرمها الذهاب إليه عدة أيام .. حبها أصبح في خطر، حبيبها سيتركها ، فهو لا يهتم لظروفها ، المهم عنده أن يراها ، كلَمته مرة سراً ، و أعلمته بأن الوضع أصيح سيئاً معها ، لا بد من أن يتقدم لخطبتها ، لا حل آخر ، لكن الشاب أبى ، فهو لا يستطيع الآن ، هو يريدها حقاً لكن ليس الآن ..
أصرت .. بكت كثيراً لأخيها حتى يعيدها إلى العمل ، فوافق بصعوبة شرط أن يوصلها إلى العمل و يجلبها منه كل يوم ، فوافقت على شرطه .. لكن لا تزال هنالك مشكلة ..
هي غالباً ما تكلم حبيبها و هي في إنتظار المواصلات .. نصف ساعة تقريباً تقضيها بسعادة مع حبيبها .. لكن ذلك أصبح صعباً الآن .. قلَت إمكانية الحديث معه ، صحيح أنه يذهب إلى محل عملها لكنه لا يستطيع الوقوف هناك كثيراً ..
غضب حبيبها مجدداً .. لا فائدة .. أصبح و ضعهما غير مريح.. سألها أن تتصرف .. أن تفعل أي شيء حتى يتمكنا من اللقاء على راحتهما.. لكن أخاها لا يسمح لها بالخروج من المنزل لمفردها فكيف سترى حبيبها ؟!!
تأخر أخوها مرة .. حسبته لن يأتي ، لأنه أعلمها يومها بأنه قد يتأخر ، و بذلك ربما يكون عليها الذهاب في المواصلات ، فقد كان مشغولاً يومها ، و قد لا يستطيع الذهاب لأخذها ..
كا نت سعيدة.. إذ حسبت أن أخاها لن ياتي يومها .. لكنه جاء .. و رآها .. قطع شكه باليقين .. ذهب و تشاجر مع الشاب الذي أنكر كل شيء بينه و بينها .. و رددت هي " إنه مجرد زبون أراد سؤالي عن شيء!"
لم يصدقها أخوها ، حرمها من العمل هذه المرة ، و أصرَ أن تكون المرة الأخيرة ، حبسها في غرفتها ، و منع عنها الهاتف..هو متأكد أنها على علاقة مع أحدهم ، فلا يُفتح بابها إلا وقت الطعام ، حيث يؤخذ الطعام إلى غرفتها ، بقيت في الغرفة لمدة أسبوع تبكي خائفة .. لأنها تدرك بأن حبيبها لن يسامحها ..فهو فهو لا يقبل أن يراها يوماً واحداً .. فكيف و هي لا تكلمه الآن منذ أسبوع !!
ساعدتها أمها مرة واحدة .. جلبت لها الهاتف لتكلم حبيبها عن ظروفها ، لكنه أبى الإستماع ، أصر إن لم تأتِ لرؤيته فإنه سيتركها و للأبد ..
بكت كثيراً.. أصرت على الذهاب إلى العمل لرؤية حبيبها..
لحياتها الجميلة من جديد، سألت أخاها ذلك، طلبت منه فقط أن يفتح الباب و يسمعها، فهي لم ترتكب مع الرجل أي سوء، تريده زوجاًو هو أيضاً يريدها كذلك، كانت تريد إخباره كل شيء، أن يذهب لحبيبها و يتأكد بنفسه من مدى طهارة علاقتهما، لا يربطهما شيء شائن، فعلاقتهما بريئة ، أرادت أن تكلم أخاها طرقت الباب كثيراً "أخي افتح أرجوك أريد أن أكلمك!"
لا فائدة ، لا يفتح الباب، خشيت أن تخسر حبها ، فإن لم يسمعها أخوها سينتهي ما يربطها بحبيبها، بينما هي تريده.. فهي ترى أنه يناسبها كثيراً..ترتاحله..تريده أن يشاركها حياتها.. لكن لا فائدة.. أخوها لا يفتح الباب.. و لكنه جاء أخيراً قرب الباب ليقول" لن تريه طوال حياتك ، و لن أسمح لك بالتحدث إليه أيضاً أبداً،و فكرة زواجك منه انسيها، فنحن لا نناسب أبناء الشوارع!"
بكت كثيراً.. سألته فتح الباب و الاستماع إليها.. ستكلمه عنه.. عن حبيبها.. هو شاب جيد .. لكن أخاها لا يفتح الباب.. بكت كثيراً .. شعرت بالجنون بدأت تصرخ بقوة.. شاءت أن تتكلم.. تريد من يسمعها.. لكن لم يفتح الباب أحد..
سمعت صوت أمها تسأل أخاها فتح الباب.. لكنه رفض..بينما هي كانت تطرقه بقوة..كانت يائسة تشعر..بالحزن..بالغضب.. بالألم.. بقيت تطرق الباب و تصرخ ما يقارب الساعتين .. بدأ صوتها يهدأ.. لقد تعبت كثيراً..لم تعد قادرة على الصراخ أكثر..و يداها تورمت من كثرة الضرب.. بدأت الكلمات تخرج منفمها متكسرة.. و مع ذلك لم يفتح الباب أحد..لم يرغب في الإستماع إليها أحد..
تذكرت الألوان .. فكم أحبت الرسم بالألوان الزيتية .. فهذا هو الشيء الوحيد الذي نجحت فيه أيام دراستها.. مجال الرسم.. فقد كانت ترسم برشاقة و خفة.. و كانت معلماتها يمتدحن رسمها كثيرا.. و هي لا تزال تحتفظ ببعض اللوحات الناجحة التي نسيتها مع العمل.. فهي لم تمارس الرسم منذ مدة.. لكنها مع ذلك لا تزال تحتفظ بالألوان و الدفاتر.. و لا تزال زجاجة كبيرة من الزيت موجودة في غرفتها.. كانت تستخدمها للتلوين..
كما تذكرت المرات العديدة التي تنقطع فيها الكهرباء في المنزل ، لذلك هي تحتفظ دائماً بشمعة و علبة كبريت في دولب قريب من سريرها..
لم تكن في وعيها تماماً بدأت تلعب بحماس بالزيت و الكبريت تريد الشعور بالألم.. تريد الشعور بشيء ينسيها اليأس الذي تشعره، ينسيها الألم الذي يحيطها ، لتشعر بالحقد و الجنون .. الخوف و الوحدة.. تشعر بأشياء كثيرة .. لماذا تعيش إن كان الذين حولها لا يهمهم كيف تعيش؟
ليس مهماً أن تكون سعيدة.. إن كان من حولها لا يهمهم أن تكون سعيدة.. بل ليس مهماً أصلاً أن تكون موجودة .. ما دام وجودها لا يعني شيء.. لا فائدة من البقاء .. الزيت و الكبريت ينسيها كل ذلك .. سكبت الزيت على ملابسها.. كان قميص النوم فاتح اللون فتشبع بالزيت بسهولة.. أشعلت عود ثقاب واحد.. فاشتعلت النار في جسدها.. و انتهى كل شيء.. ألم أنهى الألم..
تحياتي
تعليق