سماحة الشيخ محمّد صنقور
ملاحظات حول مبدأ نزول الوحي
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم
بسم الله الرحمن الرحيم
والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين، وخاتم النبيين، حبيب إله العالمين، أبي القاسم محمد وعلى آله الأخيار الأبرار، الذين أذهب الله عنهم الرجس وطهرهم تطهيرا.
اللهم أخرجنا من ظلمات الوهم، وأكرمنا بنور الفهم، وافتح علينا أبواب رحمتك، وانشر علينا خزائن علومك.
قال الله تعالى في محكم كتابه المجيد:
بسم الله الرحمن الرحيم
﴿اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ / خَلَقَ الْإِنسَانَ مِنْ عَلَقٍ / اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ / الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ / عَلَّمَ الْإِنسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ﴾(1)
صدق مولانا العلي العظيم.
الحديث في محورين:
الأول حول زمان نزول الوحي، وهل أنه بدأ بنزول القرآن الكريم في شهر رمضان، أو انَّ الوحي قد نزل على محمدٍ (ص) وبُعث بالرسالة قبل ان يُخاطب بالقرآن؟
والمحور الثاني سنتناول فيه كيفية نزول الوحي، بالمقارنة بين روايات العامة، وروايات أهل البيت (ع).
المحور الأول: متى بدأ نزول الوحي؟
الأيات التى تلوناها هي من سورة العلق، وقد ذكر أكثر المفسرين أنَّ هذه الآيات هي أول ما نزل من القرآن على قلب رسول الله (ص)، وقد أنزلها الله -عزَّ اسمه وتقدَّس- بواسطة الأمين جبرئيل، على قلب رسول الله (ص)، في ليلة القدر من شهر رمضان المبارك. وقد اختلفنا -نحن، وأبناء العامة- في أنَّ نزول هذه الآيات المباركات هل يُمثِّل بداية المبعث النبوي، أو أنَّها لم تكن بداية المبعث النبوي وإنَّما كانت بداية نزول القرآن على قلب رسول الله (ص)، وأنَّ رسول الله (ص) كان يُوحى إليه قبل نزول هذه الآيات؟
رأي العامة:
ذهب الكثير من أبناء العامة إلى أنَّ المبعث النبوي بدأ ببداية نزول القرآن في ليلة القدر، فالمبعث النبوي -بنظر الكثير منهم- بدأ في ليلة القدر.
رأي الإمامية:
أما نحن الإمامية فنقول بأنَّ مبدأ المبعث النبوي وقع في شهر رجب، في السابع والعشرين منه(2).
لا ملازمة بين نزول القرآن، وبين البعثة وبداية الوحي:
فنحن وإنْ كنا نُسلِّم بأن بداية نزول القرآن كان في ليلة القدر؛ تصديقًا لما ورد في القرآن: ﴿إِنَّا أَنزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ﴾(3)، وقوله تعالى: ﴿إِنَّا أَنزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةٍ مُّبَارَكَةٍ﴾(4) وقوله تعالى: ﴿شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِيَ أُنزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ﴾(5)، إلَّا أنَّ ذلك لا يعني أنَّ بداية المبعث النبوي وقعت في شهر رمضان، فلا ملازمة بين نزول القرآن، وبين بداية البعثة النبوية؛ فقد تسبق البعثة نزول الكتاب .. فموسى (ع) بُعث نبياًّ ورسولاً، وبعد ردحٍ من الزمن نزلت عليه التوراة .. وهكذا المسيح عيسى بن مريم (ع).
بدأ نزول الوحي والبعثة في رجب:
والنبي الكريم (ص) كان الأمر معه كذلك، فقد بُعث في شهر رجب، وأَوَّل ما بُعث -كما أكدت الروايات من طرقنا، وكذلك من طرق العامة- كان يُوحى إليه، فكان يرى الرؤية الصادقة فتكون كفلق الصبح(6)، وكان يأتيه الوحي بطرقٍ شتَّى، ويُخبره بأنَّه رسول هذه الأمة (ص)، وبأنَّه المبعوث للأميِّين، وللعالمين، وكان -كما أكَّدت الروايات- بعد مجيء شهر رجب، وبعد مجيء ليلة السابع والعشرين من شهر رجب، كان بعدها لا يمرُّ على حجرٍ، ولا شجر، إلَّا وسلَّم عليه، وناداه بالرسالة، وقال له: السلام عليك يا رسول الله (ص)(7).
خلاصة
إذن، فنحن نقول -إعتمادًا على الروايات الواردة عن أهل البيت (ع) والذين هم أعلم بالسيرة النبوية، وبحقائق الوحي من سائر الناس-: نزل الوحي على قلب رسول الله (ص)، وبدأتْ البعثة النبوية في السابع والعشرين من شهر رجب .. وأما نزول القرآن، فكان في شهر رمضان المبارك.
ظاهرة خاطئة
وهنا نشير إلى ظاهرة خاطئة، وقد أصبحت سائدة؛ نتيجة التأثر بثقافة الآخرين، وهي أنَّنا في السابع والعشرين من شهر رجب نحتفل بالإسراء والمعراج. وهذا ليس صحيحاً؛ فليس عندنا من روايةٍ نعتمدها تقول بأنَّ الإسراء والمعراج قد وقع في السابع والعشرين من شهر رجب. نعم، ورد في بعض روايات العامة أنَّ الإسراء والمعراج وقع في السابع والعشرين من شهر رجب، إلا أنَّنا لا نقول بذلك، وهم كذلك لا يعوِّل الكثيرُ منهم على هذه الروايات، فالذي وقع في ليلة ويوم السابع والعشرين من شهر رجب، إنَّما هو المبعث النبوي الشريف، فلابد وأن يكون الاحتفال -بذلك اليوم، وفي تلك الليلة- بمناسبة المبعث النبوي، وليس بالإسراء والمعراج، فالإسراء والمعراج قد وقع في وقتٍ آخر، وليلةٍ أخرى.
المحور الثاني: كيف بدأ الوحي؟
ونودُّ أن نتحدث هنا عن أنَّه:
كيف بدأ الوحي، أو كيف بدأ نزول القرآن الكريم -بالتحديد- على قلب رسول الله (ص)؟
أولاً: كيفية نزول الوحي بحسب روايات العامة:
الروايات المتصدية لبيان كيفيَّة نزول الوحي من طرق العامة كثيرة، إلا أنَّها متقاربة في بعض المضامين، فما ورد في صحيح البخاري، وصحيح مسلم، وغيرهما من المجاميع الروائية، أفادت بأنَّ مبدأ نزول القرآن على قلب رسول الله (ص) كان بهذه الكيفية، -نرويها لكم بما يقارب النص-:
النزول المرعب!
روى عروة بن الزبير، عن السيدة عائشة: "أنَّه نزل جبرئيل بغار حراء على رسول الله (ص)، وكان حينها يتعبَّد في ذلك الموقع، فنزل عليه جبرئيل وقال له: يا محمد، إقرأ. قال: ما أنا بقاريء. فأخذه، وغطَّه، حتى بلغ منه الجهد، وفي رواية: حتى كاد أنْ يموت، فلما أشرف على الموت أطلقه. ثم قال له: يا محمد، إقرأ، قال: ما أنا بقارئ. فأخذه، وغطَّه، وضمَّه ضمًّا شديدًا، حتى بلغ منه الجهد، وحتى كادت روحه أن تزهق، ثم أطلقه. ثم قال له: يا محمد، إقرأ، اقرأ باسم ربِّك الذي خلق -فتلا عليه الآيات-.. فنزل محمد (ص) من الجبل، وذهب إلى بيت السيدة خديجة مرهوباً، مرعوباً، مضطربًا، خائفًا، وقال: زمِّلوني زمِّلوني(8).
لا يدري ما نزل عليه وما حلَّ به!
وبعد أنْ هدَأ عنه الرَّوع والخوف، أخبر خديجة بالأمر، وقال: أخشى أنَّه قد إعتراني مسٌّ من الشيطان -يعني أصابه مسٌ من الجان"- .. أخشى أنَّه قد أصابني مسٌّ من الشيطان، أو إعتراني جنون. فهدَّأتْ خديجةُ من رَوعه، وقالت: أبشر فوالله لا يخزيك اللهُ أبدًا، إنَّك لتصل الرحم، وتصدق الحديث وتحمل الكلَّ وتُقري الضيف وتعين على نوائب الحقّ، فحاولت أن تهدئه، وكان يقول: إنَّ الأبعد -يقصد نفسه- لشاعر، أو مجنون(9).
يفكر في الإنتحار!
ثم قال: لأطرحـنَّ نفسي منه، فلأقتلـنَّها، ولأستريحـن. وفي رواية، أو روايات عديدة: ولألقيـنَّ نفسي من أعالي الجبال، وأقتلها(10).
تطمينات خديجة، وورقة بن نوفل!!
خديجة خافت على محمد، فبحثت عن وسائل لتطمينه، و التهدئة من روعه، وبعْث الاستقرار والسكون والثبات في قلبه. فذهبت به إلى ورقة بن نوفل -الذي كان يتنصَّر، وكان يقرأ الكتاب المقدس!-، فهدَّأ ورقةُ من روعه، وقال: إنَّ الذي يأتيك هو الناموس الأكبر الذي كان يأتي النبي موسى(11). فاطمئنَ قليلاً، إلا أنَّه لا يكاد يطمئن إلا ويعاوده التردُّد، والشك، والرهبة، والرعب، والخوف! وتُؤكد الروايات الواردة من طرقهم بأنَّه لم يطمئن بذلك في أول الأمر، بل بادر إلى قتل نفسه، فذهب إلى الجبال؛ يريد أن يلقي بنفسه من أعاليها -كما تؤكِّد رواياتهم-، وكان كلَّما أراد أنْ يُلقي بنفسه تجلَّى له جبرئيل، وقال له: إنَّك لرسول. فيهدأ، ثم يُعاوده الشك، وهكذا مرارًا(12).
من وسائل تطمين النبي بنبوَّته:
ثمّ إنَّ النبي (ص) لم يطمئن انَّه رسولٌ من عند الله -كما هو مفاد رواياتهم-، وذلك هو ما دفع السيدة خديجة إلى أن تتوسَّل بوسائل أخرى؛ لتطمينه، ومن تلك الوسائل:
أنَّها بعثت إلى عددٍ من النصارى -بعضهم عبيد، وبعضهم رهبان- فطمئنوه! فكانت قد بعثت إلى نسطور، وعداس، وناصح، وبحيرا الراهب(13)، وغيرهم .. وهذه شخصيات -هم يذكرونها- بعضها وهمية، وبعضها لا يُمكن أن تتصل بهم السيدة خديجة! على كل حال، فأخذ هؤلاء يؤكِّدون له بأنَّه نبيّ، طلب منه بعضهم أن يكشف عن ظهره، فرأى فيه خاتم النبوة فطمئنه!
حيلة ورقة ابن نوفل!
ومن الوسائل التي اعتمدتْها السيدة خديجة -كما يروون- بطلبٍ من ورقة بن نوفل، حيث قال لها: إذا جاءه الذي يأتيه، فليجلس على شقِّك الأيمن، ثم الشق الأيسر، ثم في حجرك. ففعلت ذلك، فلما جاءه الملَك، جلس عند جانبها الأيمن، فلم يذهب الملَك .. ثم قام وجلس عند قدمها اليسرى، فلم يذهب الملَك.. ثم أدخل رأسه من تحت جيبها، وألصق جلده بجلدها، وكشفت هي عن خمارها وشعرها، فرحل الملَك. فقالت ما هذا بشيطان و إنَّه الملَك؛ إذ لو لم يكن هو الملَك، لما رحل عندما كشفتُ خماري، هكذا قال ورقة (14)، فهذا دليلٌ على أنَّه ملَك؛ لأنَّ الملَك لا يجلس في موقع كشفت فيه المرأة عن شعرها، وأما الشيطان فلا يذهب عندما يرى ذلك، وعندئذٍ اطمأنتْ نفسه!
عجبًا
إذن، فهذه مجموعة وسائل أنتجت تطمين النبي (ص) بأنَّه رسول من عند الله تعالى، وإلَّا قبل ذلك لم يكن مطمئنًا بأنَّه نبيّ ورسول لله تعالى، وكان شاكاًّ في نبوة نفسه، وكان يخشى أن يكون قد أصابه مسٌّ من الشيطان، أو أنَّه أصابه واعتراه الجنون، أو أنَّه شاعر ليس أكثر، يعتريه ما يعتري الشعراء من هواجس وأوهام وخيالات!!!
ضرورة إصلاح المناهج التعليمية
وللأسف الشديد فإنَّ هذه الروايات يُلقِّنها الآخرون أطفالنا في المدارس! ولذلك، طالبنا -وبإلحاح- أن يكون تعليم أبنائنا موافقاً لمنهجنا، وأنَّه لا يصحُّ للآخرين أن يُلقِّنوا أبناءنا غير ثقافتنا.
ملاحظات حول روايات العامة:
أ- إذا لم يكن مطمئنا من نبوَّة نفسه، فكيف يُطمأن له؟!
عندما نقف على مثل هذه الروايات نجد أنَّها مليئة بالتناقضات والثغرات، وهي تشتمل على الكثير من الأخطاء! وأكثر ما اشتملت عليه هذه الروايات هو أنَّها أكَّدت ما كان يُروِّج له المستشرقون من أنَّ محمدًا (ص) لم يكن مطمئنًا بنبوَّة نفسه، فكيف تطمئنون بأنَّ ما جاءكم به هو من عند الله؟ وما الذي يضمن لنا أنَّه نبيّ، والحال أن نبيَّكم لم يطمئن بنبوّة نفسه، إلا بعد أن طمأنته إمرأة، وطمأنه بعض النصارى ممَّن لا يُعلم مبلغ علمهم وحقيقة دوافعهم.
يتبع
ملاحظات حول مبدأ نزول الوحي
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم
بسم الله الرحمن الرحيم
والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين، وخاتم النبيين، حبيب إله العالمين، أبي القاسم محمد وعلى آله الأخيار الأبرار، الذين أذهب الله عنهم الرجس وطهرهم تطهيرا.
اللهم أخرجنا من ظلمات الوهم، وأكرمنا بنور الفهم، وافتح علينا أبواب رحمتك، وانشر علينا خزائن علومك.
قال الله تعالى في محكم كتابه المجيد:
بسم الله الرحمن الرحيم
﴿اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ / خَلَقَ الْإِنسَانَ مِنْ عَلَقٍ / اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ / الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ / عَلَّمَ الْإِنسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ﴾(1)
صدق مولانا العلي العظيم.
الحديث في محورين:
الأول حول زمان نزول الوحي، وهل أنه بدأ بنزول القرآن الكريم في شهر رمضان، أو انَّ الوحي قد نزل على محمدٍ (ص) وبُعث بالرسالة قبل ان يُخاطب بالقرآن؟
والمحور الثاني سنتناول فيه كيفية نزول الوحي، بالمقارنة بين روايات العامة، وروايات أهل البيت (ع).
المحور الأول: متى بدأ نزول الوحي؟
الأيات التى تلوناها هي من سورة العلق، وقد ذكر أكثر المفسرين أنَّ هذه الآيات هي أول ما نزل من القرآن على قلب رسول الله (ص)، وقد أنزلها الله -عزَّ اسمه وتقدَّس- بواسطة الأمين جبرئيل، على قلب رسول الله (ص)، في ليلة القدر من شهر رمضان المبارك. وقد اختلفنا -نحن، وأبناء العامة- في أنَّ نزول هذه الآيات المباركات هل يُمثِّل بداية المبعث النبوي، أو أنَّها لم تكن بداية المبعث النبوي وإنَّما كانت بداية نزول القرآن على قلب رسول الله (ص)، وأنَّ رسول الله (ص) كان يُوحى إليه قبل نزول هذه الآيات؟
رأي العامة:
ذهب الكثير من أبناء العامة إلى أنَّ المبعث النبوي بدأ ببداية نزول القرآن في ليلة القدر، فالمبعث النبوي -بنظر الكثير منهم- بدأ في ليلة القدر.
رأي الإمامية:
أما نحن الإمامية فنقول بأنَّ مبدأ المبعث النبوي وقع في شهر رجب، في السابع والعشرين منه(2).
لا ملازمة بين نزول القرآن، وبين البعثة وبداية الوحي:
فنحن وإنْ كنا نُسلِّم بأن بداية نزول القرآن كان في ليلة القدر؛ تصديقًا لما ورد في القرآن: ﴿إِنَّا أَنزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ﴾(3)، وقوله تعالى: ﴿إِنَّا أَنزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةٍ مُّبَارَكَةٍ﴾(4) وقوله تعالى: ﴿شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِيَ أُنزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ﴾(5)، إلَّا أنَّ ذلك لا يعني أنَّ بداية المبعث النبوي وقعت في شهر رمضان، فلا ملازمة بين نزول القرآن، وبين بداية البعثة النبوية؛ فقد تسبق البعثة نزول الكتاب .. فموسى (ع) بُعث نبياًّ ورسولاً، وبعد ردحٍ من الزمن نزلت عليه التوراة .. وهكذا المسيح عيسى بن مريم (ع).
بدأ نزول الوحي والبعثة في رجب:
والنبي الكريم (ص) كان الأمر معه كذلك، فقد بُعث في شهر رجب، وأَوَّل ما بُعث -كما أكدت الروايات من طرقنا، وكذلك من طرق العامة- كان يُوحى إليه، فكان يرى الرؤية الصادقة فتكون كفلق الصبح(6)، وكان يأتيه الوحي بطرقٍ شتَّى، ويُخبره بأنَّه رسول هذه الأمة (ص)، وبأنَّه المبعوث للأميِّين، وللعالمين، وكان -كما أكَّدت الروايات- بعد مجيء شهر رجب، وبعد مجيء ليلة السابع والعشرين من شهر رجب، كان بعدها لا يمرُّ على حجرٍ، ولا شجر، إلَّا وسلَّم عليه، وناداه بالرسالة، وقال له: السلام عليك يا رسول الله (ص)(7).
خلاصة
إذن، فنحن نقول -إعتمادًا على الروايات الواردة عن أهل البيت (ع) والذين هم أعلم بالسيرة النبوية، وبحقائق الوحي من سائر الناس-: نزل الوحي على قلب رسول الله (ص)، وبدأتْ البعثة النبوية في السابع والعشرين من شهر رجب .. وأما نزول القرآن، فكان في شهر رمضان المبارك.
ظاهرة خاطئة
وهنا نشير إلى ظاهرة خاطئة، وقد أصبحت سائدة؛ نتيجة التأثر بثقافة الآخرين، وهي أنَّنا في السابع والعشرين من شهر رجب نحتفل بالإسراء والمعراج. وهذا ليس صحيحاً؛ فليس عندنا من روايةٍ نعتمدها تقول بأنَّ الإسراء والمعراج قد وقع في السابع والعشرين من شهر رجب. نعم، ورد في بعض روايات العامة أنَّ الإسراء والمعراج وقع في السابع والعشرين من شهر رجب، إلا أنَّنا لا نقول بذلك، وهم كذلك لا يعوِّل الكثيرُ منهم على هذه الروايات، فالذي وقع في ليلة ويوم السابع والعشرين من شهر رجب، إنَّما هو المبعث النبوي الشريف، فلابد وأن يكون الاحتفال -بذلك اليوم، وفي تلك الليلة- بمناسبة المبعث النبوي، وليس بالإسراء والمعراج، فالإسراء والمعراج قد وقع في وقتٍ آخر، وليلةٍ أخرى.
المحور الثاني: كيف بدأ الوحي؟
ونودُّ أن نتحدث هنا عن أنَّه:
كيف بدأ الوحي، أو كيف بدأ نزول القرآن الكريم -بالتحديد- على قلب رسول الله (ص)؟
أولاً: كيفية نزول الوحي بحسب روايات العامة:
الروايات المتصدية لبيان كيفيَّة نزول الوحي من طرق العامة كثيرة، إلا أنَّها متقاربة في بعض المضامين، فما ورد في صحيح البخاري، وصحيح مسلم، وغيرهما من المجاميع الروائية، أفادت بأنَّ مبدأ نزول القرآن على قلب رسول الله (ص) كان بهذه الكيفية، -نرويها لكم بما يقارب النص-:
النزول المرعب!
روى عروة بن الزبير، عن السيدة عائشة: "أنَّه نزل جبرئيل بغار حراء على رسول الله (ص)، وكان حينها يتعبَّد في ذلك الموقع، فنزل عليه جبرئيل وقال له: يا محمد، إقرأ. قال: ما أنا بقاريء. فأخذه، وغطَّه، حتى بلغ منه الجهد، وفي رواية: حتى كاد أنْ يموت، فلما أشرف على الموت أطلقه. ثم قال له: يا محمد، إقرأ، قال: ما أنا بقارئ. فأخذه، وغطَّه، وضمَّه ضمًّا شديدًا، حتى بلغ منه الجهد، وحتى كادت روحه أن تزهق، ثم أطلقه. ثم قال له: يا محمد، إقرأ، اقرأ باسم ربِّك الذي خلق -فتلا عليه الآيات-.. فنزل محمد (ص) من الجبل، وذهب إلى بيت السيدة خديجة مرهوباً، مرعوباً، مضطربًا، خائفًا، وقال: زمِّلوني زمِّلوني(8).
لا يدري ما نزل عليه وما حلَّ به!
وبعد أنْ هدَأ عنه الرَّوع والخوف، أخبر خديجة بالأمر، وقال: أخشى أنَّه قد إعتراني مسٌّ من الشيطان -يعني أصابه مسٌ من الجان"- .. أخشى أنَّه قد أصابني مسٌّ من الشيطان، أو إعتراني جنون. فهدَّأتْ خديجةُ من رَوعه، وقالت: أبشر فوالله لا يخزيك اللهُ أبدًا، إنَّك لتصل الرحم، وتصدق الحديث وتحمل الكلَّ وتُقري الضيف وتعين على نوائب الحقّ، فحاولت أن تهدئه، وكان يقول: إنَّ الأبعد -يقصد نفسه- لشاعر، أو مجنون(9).
يفكر في الإنتحار!
ثم قال: لأطرحـنَّ نفسي منه، فلأقتلـنَّها، ولأستريحـن. وفي رواية، أو روايات عديدة: ولألقيـنَّ نفسي من أعالي الجبال، وأقتلها(10).
تطمينات خديجة، وورقة بن نوفل!!
خديجة خافت على محمد، فبحثت عن وسائل لتطمينه، و التهدئة من روعه، وبعْث الاستقرار والسكون والثبات في قلبه. فذهبت به إلى ورقة بن نوفل -الذي كان يتنصَّر، وكان يقرأ الكتاب المقدس!-، فهدَّأ ورقةُ من روعه، وقال: إنَّ الذي يأتيك هو الناموس الأكبر الذي كان يأتي النبي موسى(11). فاطمئنَ قليلاً، إلا أنَّه لا يكاد يطمئن إلا ويعاوده التردُّد، والشك، والرهبة، والرعب، والخوف! وتُؤكد الروايات الواردة من طرقهم بأنَّه لم يطمئن بذلك في أول الأمر، بل بادر إلى قتل نفسه، فذهب إلى الجبال؛ يريد أن يلقي بنفسه من أعاليها -كما تؤكِّد رواياتهم-، وكان كلَّما أراد أنْ يُلقي بنفسه تجلَّى له جبرئيل، وقال له: إنَّك لرسول. فيهدأ، ثم يُعاوده الشك، وهكذا مرارًا(12).
من وسائل تطمين النبي بنبوَّته:
ثمّ إنَّ النبي (ص) لم يطمئن انَّه رسولٌ من عند الله -كما هو مفاد رواياتهم-، وذلك هو ما دفع السيدة خديجة إلى أن تتوسَّل بوسائل أخرى؛ لتطمينه، ومن تلك الوسائل:
أنَّها بعثت إلى عددٍ من النصارى -بعضهم عبيد، وبعضهم رهبان- فطمئنوه! فكانت قد بعثت إلى نسطور، وعداس، وناصح، وبحيرا الراهب(13)، وغيرهم .. وهذه شخصيات -هم يذكرونها- بعضها وهمية، وبعضها لا يُمكن أن تتصل بهم السيدة خديجة! على كل حال، فأخذ هؤلاء يؤكِّدون له بأنَّه نبيّ، طلب منه بعضهم أن يكشف عن ظهره، فرأى فيه خاتم النبوة فطمئنه!
حيلة ورقة ابن نوفل!
ومن الوسائل التي اعتمدتْها السيدة خديجة -كما يروون- بطلبٍ من ورقة بن نوفل، حيث قال لها: إذا جاءه الذي يأتيه، فليجلس على شقِّك الأيمن، ثم الشق الأيسر، ثم في حجرك. ففعلت ذلك، فلما جاءه الملَك، جلس عند جانبها الأيمن، فلم يذهب الملَك .. ثم قام وجلس عند قدمها اليسرى، فلم يذهب الملَك.. ثم أدخل رأسه من تحت جيبها، وألصق جلده بجلدها، وكشفت هي عن خمارها وشعرها، فرحل الملَك. فقالت ما هذا بشيطان و إنَّه الملَك؛ إذ لو لم يكن هو الملَك، لما رحل عندما كشفتُ خماري، هكذا قال ورقة (14)، فهذا دليلٌ على أنَّه ملَك؛ لأنَّ الملَك لا يجلس في موقع كشفت فيه المرأة عن شعرها، وأما الشيطان فلا يذهب عندما يرى ذلك، وعندئذٍ اطمأنتْ نفسه!
عجبًا
إذن، فهذه مجموعة وسائل أنتجت تطمين النبي (ص) بأنَّه رسول من عند الله تعالى، وإلَّا قبل ذلك لم يكن مطمئنًا بأنَّه نبيّ ورسول لله تعالى، وكان شاكاًّ في نبوة نفسه، وكان يخشى أن يكون قد أصابه مسٌّ من الشيطان، أو أنَّه أصابه واعتراه الجنون، أو أنَّه شاعر ليس أكثر، يعتريه ما يعتري الشعراء من هواجس وأوهام وخيالات!!!
ضرورة إصلاح المناهج التعليمية
وللأسف الشديد فإنَّ هذه الروايات يُلقِّنها الآخرون أطفالنا في المدارس! ولذلك، طالبنا -وبإلحاح- أن يكون تعليم أبنائنا موافقاً لمنهجنا، وأنَّه لا يصحُّ للآخرين أن يُلقِّنوا أبناءنا غير ثقافتنا.
ملاحظات حول روايات العامة:
أ- إذا لم يكن مطمئنا من نبوَّة نفسه، فكيف يُطمأن له؟!
عندما نقف على مثل هذه الروايات نجد أنَّها مليئة بالتناقضات والثغرات، وهي تشتمل على الكثير من الأخطاء! وأكثر ما اشتملت عليه هذه الروايات هو أنَّها أكَّدت ما كان يُروِّج له المستشرقون من أنَّ محمدًا (ص) لم يكن مطمئنًا بنبوَّة نفسه، فكيف تطمئنون بأنَّ ما جاءكم به هو من عند الله؟ وما الذي يضمن لنا أنَّه نبيّ، والحال أن نبيَّكم لم يطمئن بنبوّة نفسه، إلا بعد أن طمأنته إمرأة، وطمأنه بعض النصارى ممَّن لا يُعلم مبلغ علمهم وحقيقة دوافعهم.
يتبع
تعليق