كانت تنظرُ إلى جدرانِ الغرفةِ ؛ تخيَّلتْها تنبضُ بالحياةِ ؛ تحسَّسَتْ خصلاتِ شعرِ الطفلةِ الصغيرةِ؛ كان كلُّ شيءٍ من حولها يحيا من جديدٍ؛ يكتسِبُ لونا مختلفا؛ ضغطتْ بيدها على الجوَّال وهي تستلذُّ لسحْرٍ ٍلم تسمع ْ مثلَه :
ـ "فيكِ انشطارٌ نوويٌّ؛ انفجارُ مذنَّبٍ طائرٍ في السماءِ؛ احتراقُ جزيئاتٍ أيونيةٍ مركبةٍ من اليورانيوم؛ هيجانُ فرسٍ جموحٍ لا تقبل ُ التقييدَ؛ واندلاقُ زئبقٍ على صفحة التراب لا يُمْسَكُ به؛ أنت فكرةٌ جنونيةٌ لا تقبلُ التصديقَ؛ وفكرةٌ عاقلةٌ تبدو في قمةِ الجنونِ؛ نزقُ امرأةٍ ؛ وثورةُ أنثى؛ وتصابي بنتٍ مراهقةٍ لم تبلغْ سنَّ السابعةَ عشرةَ؛ لديك روحٌ طاغيةٌ بالبذخ ِ الجنونيِّ ! وملامحك ترتسمُ في الذهن كعروس البحر المتبذِّلةِ؛ تزرعين أشواكا في القلب مدبَّبةً برياحين الورد؛ وفي لحظات حروفك تمثُل ُ السعادة المشوبةُ بحزنٍ دفينٍ؛ أنت امرأة ٌ غريبةٌ؛ ربما كنت ملاكـا؛ أو شيطانا؛ أو رجلا !! لكنك لست امرأة ًعاديةً؛ أنت امرأة ٌغريبة ٌ !! "
وبعد أن استوعبتْ دفقَ المطرِ على أذنيْها قالت في شَبَقٍ أنثوي ٍّغيرِ مُدارَى :
" أنتَ منحتَني شعورا جميلا ؛ شعورا داخلياً "
: : : : : :
لم ْ تشعرْ بطعمٍ ألذَّ من طعم كوبِ الشاي الدافئ؛وهي تلتهمُ معهُ كلماتهِ السحريةَ؛ صوتُهُ كانَ معزوفةً خارقةً ترسمُ النبضَ والانتشاءَ واللحظاتِ الفاصلةَ لتجمُّعِ البارودِ في قلبِ امرأةٍ :
"حين تقولين: "يا حُلـْوُكَ ! " أتخيلكِ تأكلينَ قطعةَ حلوى شهيَّةً ! حروفُكِ تقطرُ عسلا؛ وهمساتُ الغنج تتسرَّبُ من خلالها بهيةً مشرقةً ؛ أنتِ امرأةٌ غريبةٌ ! "
قالت في شبَق ٍ أنثويٍّ غيرِ مُدَارَى :
ـ احمدْ ربَّك أني أكلمُكَ عن بعدٍ ! وإلا ابتلعتُك كقطعةِ الحلوى هذه دون إضافاتٍ !
ـ أنا أتحدث ُعن حلاوةِ الكلماتِ وهي تهربُ من فمكِ ! كحبيباتِ السكَّرِ المتناثرةِ على شفاهٍ متغنجة ٍ !!
سكتت كالخرس !! تهاوتْ صورةُ ذلكَ القابعِ خارج َ حدودِ تفكيرِها؛ وتمنَّتْ أنْ تقذفَ بهِ في الجحيم !! :
ـ أنا فعلا محتاجة إلى إنسان مثلك ! زوجي أعمى ؛ لا يراني رغم عينيه الواسعتين؛
أنت تثيرُ أنوثتي الكامنةَ !! تفجِّرُ طاقتي؛ تسعُدُني؛ تحرِّكُ فيَّ ذرّاتِ التكوينِ الأولى !
كان يقذف ُ بحِمَمه ِ في الأذُن ِ المتلهِّفةِ :
ـ " الرجال ُ حيوانات ٌ ! "
وراحت تتخلق ُّ كالجمرات ِ الملتهبةِ ؛ كالدودة ِ تتشقَّق ُ شرنقتُها اللزجةُ :
ـ نذهب أحيانا لأهله ؛و يجتمع بأمه وأبيه؛ وإخوته الكثيرين ! أبوه متزوجٌ من ثانيةٍ؛ هناك ينسى اسمي؛ يمنحني لقبا مؤقتا ؛ يناديني ( يا هيه )؛ تتغير ملامحه؛ يقول كلاما مؤذيا!! لا أدري لماذا ؟! إنه يظهرُ لهم عدمَ اهتمامهِ بي !! يقهرني ؛ يقهرُني لدرجةِ أني بكيتُ أمام عمِّي؛ قال : " قومي جيبي القهوة!! " للتوِّ وصلنا؛ كنت لمَّا أسلِّمْ على عمِّي! قلتُ : " فقط أخلع ُ العباءة !! " كانت يده ُ كمخلب ٍ شيطانيٍّ حارق وهو ينزع ُ عباءتي بشكل ٍ فظٍّ؛ تخيَّلتُ أني أسقط ُ في حفرة عميقة ٍ من الذلِّ ! كان َ الذلُّ يتراكم ُ على جسدي ؛ والمهانةُ تغمرُ روحي؛ وعمِّي الطيِّبُ يحلف ُ ألا َّ أحْضرَ شيئا !!
في البيت يلبس ُ الأقنعة ! ! يعاملني بشيءٍ من الاختلافِ؛ أنا أكرَهُ الأقنعةَ !! وأكرهُ الملل ؛ والبلادة !!
استجمعَ ذهنية َ الإغواء ِ في ثوبِ التشجيعِ :
ـ لماذا تنتظرين أن يخلع الأقنعة ! أن يطردَ الملل َ ؛ وأن يقتل َ البلادة َ ! فتنتُـك ِ ستصنع ُ منه ُ شيئاً آخر َ ؛ جرَّبي معه !!
ـ " يا حلوك ! " أتعرف ُ كيف َ تتناسى؛أن تتكبَّرَ على مأساتكَ؛أن تدفن َ هذا الإحساس َ ! ثم َّ فجأة ً يثورُ هذا الإحساس ِ كالبركان ِ ! ويفتك ُ بكَ ! صعب ٌ أنْ تقاوم َ إحساسَك َ ؛ والأصعبُ هو تراكمُ الأحاسيس ِ ! ككرة ِ الثلج تماما لا تصغر ُ أبدا !!
كالمتمرٍّسِ على الجراحة ِ الموضعيَّة ؛ وكصيَّاد ٍ ماهرٍ ألقى في أذنيْها نبتة ً
من يقطين ٍ :
ـ كرةُ الثلج ِ تذوب ُ يوما !!
كانت الرغبةُ المتفتِّقةُ في شرايينها؛ وشبقُها الأنثوي ُّ الطاغي يضغطانِ على أوردةِ لسانِها؛ تبحثُ عن أيِّ شيء ٍ يهدي للحظة التفتُّقِ رونقَها :
ـ الكرة الثلجية تنزلُ بعنف ٍ ؛ وتهوي متسارعةً ؛ تحتاج ُ أن تصطدمَ بشيء صارم ٍ كي تتفتَّتَ وتصبحَ قطعا متناثرةً ؛ وهنا تهدأ ُ الشحنة ُ ! !
فكَّر َ أن َّ هذه ِ المرأة َ الغريبة َ تمتلك ُ قانونَها الخاص َّ ؛ لا نفع َ من مجاراتِها بطرق ٍ تقليدية ! هو يعرفُ أن َّ الأحاسيسَ المتورِّمة َ ككرة ِ الثلج تصبح ُ عبئا ً وحملا ً ؛ وهي في الأخير تؤول ُ إلى لا شيء !
ـ حين تبلغين َ الرابعة َ والأربعين ؛ لن تشعري بشيءٍ ! انتظري فقط خمسةَ عشرَ عاما !
تريدُ ألاَّ يقف َ في طريق ِ تمرُّدِها منطقُ الساحرِ؛ تريدُ أن ْ يعلمَ أنها قرَّرتْ الانفجارَ؛ وثورتُها الشبقية ُ تحرِّضُها على المباغتة :
ـ يا " حلوكَ ! " في الجبالِ الثلجيةِ الحالُ مختلفةٌ ؛ فذرَّاتُ الثلجِ التي نتجَتْ عن ارتطامِ كرةٍ كبيرةٍ تعاودُ تكوين كريَّاتٍ أخرى صغيرةٍ؛ تكبرُ مع مرور الوقتِ ؛ وبعد أن كانت كرةً واحدةً تصبحُ مجموعةَ كريَّات ٍ؛ أعرفُ امرأةً عمرها اثنان وخمسون ما تزال ُ في وهج ِ الاحتياج ! لا تلمْها فزوجُها متزوِّج ٌ بأخريات ٍ ؛ ويقال ُ إنه يشتكي ضعفا !!
كان من فرط تردّده في فهم هذه الغريبة بدأ يلقي أسئلة ً غبيةً؛ أو هكذا شعر َ !
ـ إذن هو الاحتياج ُ الشبَقي ُّ لا العاطفي ُّ ؟! إنها الهروبُ من العفَّةِ إلى التفاهاتِ !!
و كان دفقُ العسلِ على لسانها يُثير ُ شفقتَه ؛ لكنهُ واصلَ الاستماع َ:
ـ البحثُ عن حبٍّ ليس شبقا ؛ ولا تفاهاتٍ ! ثم َّ إن التفاهاتِ تكونُ ـ أحياناـ قناعا للوصول للحقيقة والغاية !! من خلال التفاهاتِ نختبرُ جدية الآخرين ؛ نمتَحِن ُ استحقاقَهم لممارسة التنقيبِ في دواخلهم عن حبٍّ !
واصل َ تردُّدَه ُ ؛ واستسلم َ للغباءِ ؛ ونفَثَ في أذنيها الغارقتين :
ـ أنت تلعبين بنارٍ حارقة ! ؛ أنت ِ متزوجة !!
وثبت ْ كلماتُها في غنج ٍ شبقيٍّ تتقاطرُ كالخناجر في قلبه ِ :
ـ أنت الآن تمارس ُ سرقة لحظات الفرحِ في زمني؛ تغتالُ تورُّدَ السرور في قلبي ! ليس ذنبي أنَّ الزمن جار َعلي َّ ؛ اختار َ ما لا أريدُه ؛ منحني هذا الجاف َّ الصلد َ! إن لي مطلقَ الحرية ِ أن أنهب َ منه ُ بعض َ أوقات السعادة في الخفاء ِ !! وأنْ أتنعَّمَ بها ! وأرجوك لا تقل لي " الشرف " لا تنطقْها في هذه اللحظة الورديَّة ِ ؛ حين َ تمنح ُ قلبَك لايبقى شيء يستحق ُّ أن تبخلَ به ؛ القلب ُ أهم ُّ من " الشرف ِ"!!
بدأ العجزُ يأكل ُ لسانهُ ؛ وانتهى إلى القطع بوجوب ِ النصح ِ المباشر ؛ كانتْ رغبَتُها تفتكُ بقوَّة التغيير ِالتي يمتلكُها؛ وراح َ يلفظُ موعظته :
ـ ليتك تصبرين ؛ واحلمي بما تشائين ؛ ولكنك لن تستطيعي أن تخلقي عالما على قدرِ جنونك ِ! ومدّ بصركِ؛ تقوقعي في بوتقة المجتمع؛ وتلحَّفي دون رِجْليْ زوجك! هكذا الحياة !!
يكادُ القهرُ يُهْلك ُ ما تبقَّى من انبثاقِ الروح في جسدٍ ميتٍ :
ـ ظهورُك َ المباغتُ جذوةٌ من نورٍ تتسرَّب ُ إليَّ من كوَّة ٍ؛ أنا سجينة ٌ في غرفةٍ لا أبوابَ لها ولا نوافذَ!!
يصدمُها بصوتِه الثقيل ِ؛ وتعجرُفِه ِ الخُلُقيِّ؛ هكذا أحسَّتْ ؛ وهو يُخْمِدُ ثورتَها بكلماتهِ الأفلاطونيةِ :
ـ المسجونونَ يستطيعون أنْ يَخلقوا لهم عالما من نورٍ في خيالِهم !! أنا متعاطفٌ معك؛ لكنَّ حقيقة َ النورِ ستقذفُ بك ِ إلى نارِ الهلاك ِ!
تتمسَّك ُبأمل ٍ ؛ وتدفَع ُ بثورتِها كلمات ٍ من ياقوتٍ :
ـ أنت خيالي ؛ أنت َ جنَّتي ؛ الهلاك ُ في قربِك َ حياة ٌ ! والجنون ُ معكَ لحظاتٌ
عاقلةٌ ! كنْ معي !!
: : : : : :
بينما يدُها تشتدُّ في قبْض ِ الجوَّال ؛ كانت يدُها الأخرى تمارس ُ العَبَثَ في شَعْرِ الطفلةِ ؛ أحسَّتْ أنَّ شعرَها بدا أكثر َ نعومة ً ؛ ويدَها أكثرَ مرونة ً في تقليبِ خصلاتِه!! فيما كانت زفرتُه ُ المتواطئة ُ مع مشاعرِها تُعْلِن ُ لها اقترابَ الانتصارِ ؛ كان صوتُه ُ يتَهَدَّل ُ في حُزْن ٍ! :
ـ لعنةُ اللهِ على كلِّ عُرفٍ جاهليٍّ مقيتٍ؛ وتقليدٍ اجتماعيٍّ بالٍ لايرعى مشاعرَ ؛ ولا يكترثُ لإحساسٍ ! "الرجالُ قاذورات ٌ " يَهَبُهُم اللهُ نعيمَاً من الهناءِ؛ وجَنَّة ً منَ الصفاءِ؛ وزبرجَدَا من ملائكيَّة ٍ؛ وبساتينَ من وردٍ؛ فلا يأبَهُون لذلك؛ يبحثون عن القاذورات ؛عن العنجهيةِ واليبوسة ؛ وعن العرف؛ والعيب ؛ والناس!!
تتحَجَّرُ كلُّ ذرَّاتِها ؛ ثم تنفَجِرُ كسَيْل ٍ يَهْدِمُ سدَّا :
ـ أحبُّك َ !!
لم تشعرْ بأيِّ أثر ٍ في حروفِه ِ المتثاقلةِ؛ كان َ يزيدُها انجذابا ً وهو ينْسِجُ أسواراً من التباعد ِ بينهما :
ـ تحبِّينني ؟! لا أستحقُّ هذا ؛ولا أبتغيه ؛ كيف لي أنّ أقبل َ حبَّا ً كهذا؟!إنه حبٌّ نزقيٌّ؛ غيرُ سويٍّ؛ خارجُ حدود النصِّ ! ليس فيه مقوِّمات ُ البقاءِ؛ لايقبلُه ُ الله ُ!
ارتختْ يدُها في إمساكِ الجوَّال ِ ؛ وتفلَّتَت ْ خصلاتُ الطفلة ِ من بين أصابِعها ؛ كانتْ تشعرُ بطفحِ العجْزِ في رئتيها ؛ وانخمادِ الروحِ في ضلوعِها ؛ كانت ترقبُ جذوةَ النورِ تأفل ُ من مخيَّلتها ؛ وراحت ْ تسمَعُ في شرودٍ ! :
ـ خارجُ حدود النصِّ ؛ نعم؛ خارجُ حدود النصِّ ؛ لا أنكرُ أنكِ وهبْتِني لحظةً فريدةً من العبق ِ ! أحسستُ بكِ أيَّتها البيضاءُ الملتهبةُ بفيضِ النورِ؛ أيَّتها القُمْرِيَّة ُ المغرِّدَةُ رغمَ انفتاقِ الجروحِ؛ أيتها النخلةُ الوارفةُ بعطاء الجنون ِ التمريِّ اللونِ ! أيتها المرأةُ الغريبةُ ؛ وغرابتُها أنها امرأةٌ فطريَّة ٌ! فطريَّةُ الإحساسِ؛فطريَّةُ القولِ؛ فطريَّةُ النَّفَسِ! كيفَ يتأنَّى لكِ أنْ تبتَسِمي معَ هذا العناءِ؟! يا لكِ من صُمُودٍ أنثويٍّ خارقٍ!! ياوردةً من حبٍّ لو سقطتْ في قعر ِ سَقـرَ لأعشبَتْ !! يا عُشبَةً جبليَّةً مضمَّخةً بترْدَاد النسيمِ على وجنتيْها !! يا شوكةً من غنجٍ بريٍّ ملتهبٍ بالأنوثةِ !!
يا فاتنةَ النورِ والخيالِ والحقيقة ِ!! يا امرأةً غريبةً !!
: : :: :: : :
كانتْ تستترُ بدرع ٍ من أسى ؛ وتخْتَمِرُ بسرْبال ٍ من وجَع ٍ ؛وهي تنصَهرُ في كلماته ِ البركانيَّة :
ـ ياربِّ ؛ يا مانحَ الإنسان ِ كلَّ شيء؛ العنْ رجالَ الأرضِ كلـَّهم !!
تعليق