البراءة كما الولاية قد دل الدليل عليها، بل يمكن القول بعدم إمكان الفصل بينهما، فمن يرتبط بالدين ونبيه وأئمته ورموزه برباط التولي، لا يمكنه إلا أن يتبرأ من أعداء الدين وقتلة الأنبياء وأبناء الأنبياء ومنتهكي حرمات المسلمين.
قال تعالى: (لَا تَجِدُ قَوْماً يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كَانُوا آبَاءهُمْ أَوْ أَبْنَاءهُمْ أَوْ إِخْوَانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ أُوْلَئِكَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الْإِيمَانَ وَأَيَّدَهُم بِرُوحٍ مِّنْهُ وَيُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ أُوْلَئِكَ حِزْبُ اللَّهِ أَلَا إِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْمُفْلِحُونَ) [سورة المجادلة: 22].
والموادة هي الموالاة بالنصرة والمحبة، وقد استفاد العلماء منها وجوب البراءة من كل أحد اتسم بمخالفة حدود الله ويشاقق الله ورسوله، وقال بعضهم أن ملاطفتهم والسلام عليهم قد تخرج الإنسان من البراءة منهم إلى موالاتهم.
وقال تعالى: (وَلَوْ كَانُوا يُؤْمِنُونَ بِالله والنَّبِيِّ وَمَا أُنزِلَ إِلَيْهِ مَا اتَّخَذُوهُمْ أَوْلِيَاء وَلَـكِنَّ كَثِيراً مِّنْهُمْ فَاسِقُونَ) [سورة المائدة: 81].
• التولي والتبري في زيارة عاشوراء:
مفهومي الولاية والبراءة يتجليان بوضوح في ألفاظ هذه الزيارة المباركة، ولعله الموضوع الأبرز التي تدور حوله كلمات الزيارة، وقد استخدمت التلقين والاستنتاج كأسلوب تربوي رائع في زرع هذين المفهومين في فكر الإنسان ونفسه، وتفعيلهما في سلوكه وحركته على المستوى الخارجي، فإعلان الموالاة لهم (عليهم السلام) ولأشياعهم والبراءة من أعدائهم ولعنهم، دعوة للتبني والعمل، ولعل اللعن الذي هو الطرد يمثل أعلى درجة في هذا المجال.
وهذا عند العقلاء ليس من الأمور المنكرة، لأنه مسلك طبيعي ليس للأديان والمذاهب فحسب، بل حتى الدول والأحزاب والتجمعات الصغيرة، فإنها تعمل جاهدة على ضمان ولاية منتسبيها لها وبراءتهم من أعدائها.
• اللعن في زيارة عاشوراء:
يرى البعض أن اللعن الموجود في هذه الزيارة يشكل حلقة الضعف فيها، وربما صدر عن بعضهم المطالبة بحذف الفقرات المتضمنة للعن، والحق الذي لا ينبغي الحياد عنه هو أن اللعن ثابت في الكتاب والسنة، ومنها ما هو موجود في هذه الزيارة المباركة.
• معنى اللعن:
اللعن هو الطرد والإبعاد من الخير (1)، فيقال: لعن الله الشيطان، أي طرده من الجنة وأبعده من جوار الملائكة، وكذلك يقال لعنه أهله، أي طردوه وأبعدوه.
وقال المحقق الثاني: إذا قيل: لعنه الله على طريق الدعاء، كان معناه طرده الله وأبعده من رحمته. قال: والمراد من الطرد والإبعاد هنا نزول العقوبة والعذاب به وحرمان الرحمة، وهو لازم المعنى، وليس معنى الغضب ببعيد عنه، إذ المتعقل من غضب الله سبحانه فعل أثر الغضب، لا حصول الغضب الحقيقي الذي هو من توابع الأجسام، فإن ذلك محال عليه تعالى (2).
• مشروعية اللعن:
أولا: القول بمشروعية اللعن مما لا ينبغي الريب فيه، وقد دل على ذلك الكتاب العزيز والسنة النبوية المطهرة، كما لا إشكال في الموارد التي ذكروها فقهاء الإسلام وإن اختلفوا في تعدادها، واختلافهم في ذلك يعود إلى تداخل بعض الموارد في بعضها الآخر، ويمكن لنا القول أن مواردها ثلاثة: الكفر والظلم والفسق، ولكل مورد من هذه الموارد أفراده، وإن كان يمكن أيضا جعلها اثنين الكفر والظلم باعتبار أن الفسق ظلم للنفس، بل يمكن القول بأنه واحد بلحاظ ذات الاعتبار.
قال المحقق الثاني: لا ريب أن اللعن من الله تعالى هو الطرد والإبعاد من الرحمة، وإنزال العقوبة بالمكلف، وكل فعل أو قول اقتضى نزول العقوبة بالمكلف من فسق أو كفر فهو مقتضٍ لجواز اللعن، ويدل عليه قوله تعالى في القاتل: ?وَمَن يَقْتُلْ مُؤْمِناً مُّتَعَمِّداً فَجَزَآؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِداً فِيهَا وَغَضِبَ اللّهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ وَأَعَدَّ لَهُ عَذَاباً عَظِيماً? [سورة النساء: 93]، وقوله تعالى: (وَالْخَامِسَةُ أَنَّ لَعْنَتَ اللَّهِ عَلَيْهِ إِن كَانَ مِنَ الْكَاذِبِينَ) [سورة النور: 7]، فرتب اللعن على الكذب، وهو إنما يقتضي الفسق، وكذا قوله تعالى: (وَالْخَامِسَةَ أَنَّ غَضَبَ اللَّهِ عَلَيْهَا إِن كَانَ مِنَ الصَّادِقِينَ) [سورة النور: 9]، رتب الغضب على صدقه في كونها زنت، والزنا ليس بكفر.
وقوله تعالى: (أَلاَ لَعْنَةُ اللّهِ عَلَى الظَّالِمِينَ) [سورة هود: 18]، أي على كل ظالم، لأن الجمع المعرف للعموم، والفاسق ظالم لنفسه كما يرشد إليه قوله تعالى: (فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِّنَفْسِهِ) [سورة فاطر: 32]، حيث جعله سبحانه قسيما للمقتصد وقسيما للسابق بالخيرات.
قال (رحمه الله): ولا ريب أن الكبائر مجوزة للعن، لأن الكبيرة مقتضية لاستحقاق الذم والعقاب في الدنيا والآخرة، وهو معنى اللعن، وأما الصغائر فإنها تقع مكفرة لقوله تعالى: (الَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبَائِرَ الْإِثْمِ وَالْفَوَاحِشَ إِلَّا اللَّمَمَ) [سورة النجم: 32]، فقد فسر بصغائر الذنوب، فلهذا لا ينقص إيمان فاعلها ولا ترد شهادته ولا تسقط عدالته.. نعم، لو أصر عليها ألحقت بالكبائر، وصار اللعن بها سائغا (3).
وقال الغزالي: الصفات المقتضية للعن ثلاثة: الكفر والبدعة والفسق (4).
ثانيا: قد يتصور البعض أن اللعن غير جائز، نظرا لورود النهي عنه في الروايات الواردة عن أهل البيت (عليهم السلام) وغيرهم، والصحيح أنها تمنع اللعن إلا عمن يستحقها، كالكافـر والظالم وغيرهما من الأصناف المستحقة للعن، والتي صرح الكتاب العزيز والسنة الطاهرة بلعنهم، كالكذاب والعاق وشارب الخمر وما أشبه.
ومن الروايات ما روي عن الإمام الباقر (عليه السلام) أنه قال: "خَطَبَ رَسُولُ اللَّهِ (صلى الله عليه وآله) النَّاسَ فَقَالَ: أَلاَ أُخْبِرُكُمْ بِشِرَارِكُمْ؟ قَالُوا: بَلَى يَا رَسُولَ اللَّهِ، قَالَ: الَّذِي يَمْنَعُ رِفْدَهُ، وَيَضْرِبُ عَبْدَهُ، وَيَتَزَوَّدُ وَحْدَهُ، فَظَنُّوا أَنَّ اللَّهَ لَمْ يَخْلُقْ خَلْقاً هُوَ شَرٌّ مِنْ هَذَا، ثُمَّ قَالَ: أَلاَ أُخْبِرُكُمْ بِمَنْ هُوَ شَرٌّ مِنْ ذَلِكَ؟ قَالُوا: بَلَى يَا رَسُولَ اللَّهِ، قَالَ: الَّذِي لَا يُرْجَى خَيْرُهُ، وَلَا يُؤْمَنُ شَرُّهُ، فَظَنُّوا أَنَّ اللَّهَ لَمْ يَخْلُقْ خَلْقاً هُوَ شَرٌّ مِنْ هَذَا، ثُمَّ قَالَ: أَلاَ أُخْبِرُكُمْ بِمَنْ هُوَ شَرٌّ مِنْ ذَلِكَ؟ قَالُوا: بَلَى يَا رَسُولَ اللَّهِ، قَالَ: الْمُتَفَحِّشُ اللَّعَّانُ، الَّذِي إِذَا ذُكِرَ عِنْدَهُ الْمُؤْمِنُونَ لَعَنَهُمْ وَإِذَا ذَكَرُوهُ لَعَنُوهُ" (5).
وما روي عن الإمام الباقر (عليه السلام): "إِنَّ اللَّعْنَةَ إِذَا خَرَجَتْ مِنْ فِي صَاحِبِهَا تَرَدَّدَتْ بَيْنَهُمَا، فَإِنْ وَجَدَتْ مَسَاغاً وَإِلاَّ رَجَعَتْ عَلَى صَاحِبِهَا" (6).
ويستظهر من هاتين الروايتين وغيرها مشروعية اللعن لمن يستحقه، فقوله في الأولى: "وَإِذَا ذَكَرُوهُ لَعَنُوهُ"، وفي الثانية: "فَإِنْ وَجَدَتْ مَسَاغاً"، تدلل على ذلك فذكروه تعود إلى المؤمنين وهم ليسوا بملعونين، وفي الثانية إنما ترد اللعنة على صاحبها إن لم تجد مساغا.
ويضاف إلى ذلك: أن اللعن هو الطرد والإبعاد كما بينا، فمن يصدر منه اللعن يكون حاكما بالبعد أو طالبا ذلك من الله، وحكم الإنسان على الآخر بالبعد غيب، فيبقى الدعاء وهو لا يجوز إلا على من اتصف بصفة تبعده عن الباري (عز وجل).
ثالثا: وضح أنه لا ريب ولا شبهة في مشروعية اللعن على وجه العموم، ولكن هل يجوز ذلك على وجه الخصوص؟ يعني يقصد شخص بعينه؟
قال الشيخ النراقي: الحق جواز اللعن على شخص معين علم اتصافه بصفة الكفر أو الظلم أو الفسق.
وما قيل من عدم جواز ذلك إلا على من يثبت لعنه من الشرع كفرعون وأبي جهل، لأن كل شخص معين كان على إحدى الصفات الثلاثة ربما رجع عنها، فيموت مسلما أو تائبا، فيكون مقربا عند الله لا مبعدا عنه كلام ينبغي أن يطوى ولا يروى، إذ المستفاد من كلام الله تعالى وكلام رسوله (صلوات الله عليهم) وكلام أئمتنا الراشدين: جواز نسبته إلى الشخص المعين، بل المستفاد منها أن اللعن على بعض أهل الجحود والعناد من أحب العبادات وأقرب القربات.
قال الله سبحانه: (أُوْلَـئِكَ جَزَآؤُهُمْ أَنَّ عَلَيْهِمْ لَعْنَةَ اللّهِ وَالْمَلآئِكَةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ) [سورة آل عمران: 87].
وقال: (أُولَـئِكَ يَلعَنُهُمُ اللّهُ وَيَلْعَنُهُمُ اللَّاعِنُونَ) [سورة البقرة: 159].
وقال النبي (صلى الله عليه وآله): "لعن الله الكاذب ولو كان مازحا".
وقال (صلى الله عليه وآله) في جواب أبي سفيان حين هجاه بألف بيت: "اللهم إني لا أحسن الشعر ولا ينبغي لي، اللهم العنه بكل حرف ألف لعنة".
وقد لعن أمير المؤمنين (عليه السلام) جماعة، وروي أنه كان يقنت في الصلاة المفروضة بلعن معاوية وعمرو بن العاص وأبي موسى الأشعري وأبي الأعور الأسلمي، مع أنه أحلم الناس وأشدهم صفحاً عمن يسوء به، فلو لا أنه كان يرى لعنهم من الطاعات لما يتخير محله في الصلوات المفروضات.
وروى الشيخ الطوسي: إن الصادق (عليه السلام) كان ينصرف من الصلاة بلعن أربعة رجال.
ومن نظر إلى ما وقع للحسن (عليه السلام) مع معاوية وأصحابه وكيف لعنهم، وتتبع ما ورد من الأئمة في الكافي وغيره من كتب الأخبار والأدعية في لعنهم من يستحق اللعن من رؤساء الضلال والتصريح بأسمائهم، يعلم أن ذلك من شعائر الدين، بحيث لا يعتريه شك ومرية (7).
رابعا: اللعن الوارد في زيارة عاشوراء هو كغيره ممن ورد في الذكر الحكيم والسنة النبوية، وهو على نحوين:
الأول: التصريح، كلعن بني أمية ومعاوية ويزيد وغيرهم، وهذا عند الشيعة مما لاخلاف في أنه من أجلى مصاديق مورد اللعن، والمخالف إن وجد فهو شاذ لا يعتنى بخلافه.
وأما غيرهم، فيتوقفون عند الصحابة كمعاوية، وهذه المسألة من المسائل الخلافية بين الفريقين، ففريق يعتمد في نظرته إلى الصحابة على منظار عاطفي، فيقدس ما هو جليل ويتوقف في غيره، والفريق الآخر يعتمد في نظرته إليهم على منظار علمي، فيضعهم على مشرحة البحث تماما كما يعمل الرجالي بأدواته في الجرح والتعديل.
الثاني: الكناية، كلعن أول من أسس أساس الظلم والجور على أهل البيت، أو كلعن الأول، وهذه من موارد الاجتهاد، فحملها على أئمة المسلمين غير مقبول، و على شخص بعينه يحتاج إلى دليل، فالمناقشة في الدليل وطريقة الاستدلال وليس في الزيارة.
قال تعالى: (لَا تَجِدُ قَوْماً يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كَانُوا آبَاءهُمْ أَوْ أَبْنَاءهُمْ أَوْ إِخْوَانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ أُوْلَئِكَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الْإِيمَانَ وَأَيَّدَهُم بِرُوحٍ مِّنْهُ وَيُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ أُوْلَئِكَ حِزْبُ اللَّهِ أَلَا إِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْمُفْلِحُونَ) [سورة المجادلة: 22].
والموادة هي الموالاة بالنصرة والمحبة، وقد استفاد العلماء منها وجوب البراءة من كل أحد اتسم بمخالفة حدود الله ويشاقق الله ورسوله، وقال بعضهم أن ملاطفتهم والسلام عليهم قد تخرج الإنسان من البراءة منهم إلى موالاتهم.
وقال تعالى: (وَلَوْ كَانُوا يُؤْمِنُونَ بِالله والنَّبِيِّ وَمَا أُنزِلَ إِلَيْهِ مَا اتَّخَذُوهُمْ أَوْلِيَاء وَلَـكِنَّ كَثِيراً مِّنْهُمْ فَاسِقُونَ) [سورة المائدة: 81].
• التولي والتبري في زيارة عاشوراء:
مفهومي الولاية والبراءة يتجليان بوضوح في ألفاظ هذه الزيارة المباركة، ولعله الموضوع الأبرز التي تدور حوله كلمات الزيارة، وقد استخدمت التلقين والاستنتاج كأسلوب تربوي رائع في زرع هذين المفهومين في فكر الإنسان ونفسه، وتفعيلهما في سلوكه وحركته على المستوى الخارجي، فإعلان الموالاة لهم (عليهم السلام) ولأشياعهم والبراءة من أعدائهم ولعنهم، دعوة للتبني والعمل، ولعل اللعن الذي هو الطرد يمثل أعلى درجة في هذا المجال.
وهذا عند العقلاء ليس من الأمور المنكرة، لأنه مسلك طبيعي ليس للأديان والمذاهب فحسب، بل حتى الدول والأحزاب والتجمعات الصغيرة، فإنها تعمل جاهدة على ضمان ولاية منتسبيها لها وبراءتهم من أعدائها.
• اللعن في زيارة عاشوراء:
يرى البعض أن اللعن الموجود في هذه الزيارة يشكل حلقة الضعف فيها، وربما صدر عن بعضهم المطالبة بحذف الفقرات المتضمنة للعن، والحق الذي لا ينبغي الحياد عنه هو أن اللعن ثابت في الكتاب والسنة، ومنها ما هو موجود في هذه الزيارة المباركة.
• معنى اللعن:
اللعن هو الطرد والإبعاد من الخير (1)، فيقال: لعن الله الشيطان، أي طرده من الجنة وأبعده من جوار الملائكة، وكذلك يقال لعنه أهله، أي طردوه وأبعدوه.
وقال المحقق الثاني: إذا قيل: لعنه الله على طريق الدعاء، كان معناه طرده الله وأبعده من رحمته. قال: والمراد من الطرد والإبعاد هنا نزول العقوبة والعذاب به وحرمان الرحمة، وهو لازم المعنى، وليس معنى الغضب ببعيد عنه، إذ المتعقل من غضب الله سبحانه فعل أثر الغضب، لا حصول الغضب الحقيقي الذي هو من توابع الأجسام، فإن ذلك محال عليه تعالى (2).
• مشروعية اللعن:
أولا: القول بمشروعية اللعن مما لا ينبغي الريب فيه، وقد دل على ذلك الكتاب العزيز والسنة النبوية المطهرة، كما لا إشكال في الموارد التي ذكروها فقهاء الإسلام وإن اختلفوا في تعدادها، واختلافهم في ذلك يعود إلى تداخل بعض الموارد في بعضها الآخر، ويمكن لنا القول أن مواردها ثلاثة: الكفر والظلم والفسق، ولكل مورد من هذه الموارد أفراده، وإن كان يمكن أيضا جعلها اثنين الكفر والظلم باعتبار أن الفسق ظلم للنفس، بل يمكن القول بأنه واحد بلحاظ ذات الاعتبار.
قال المحقق الثاني: لا ريب أن اللعن من الله تعالى هو الطرد والإبعاد من الرحمة، وإنزال العقوبة بالمكلف، وكل فعل أو قول اقتضى نزول العقوبة بالمكلف من فسق أو كفر فهو مقتضٍ لجواز اللعن، ويدل عليه قوله تعالى في القاتل: ?وَمَن يَقْتُلْ مُؤْمِناً مُّتَعَمِّداً فَجَزَآؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِداً فِيهَا وَغَضِبَ اللّهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ وَأَعَدَّ لَهُ عَذَاباً عَظِيماً? [سورة النساء: 93]، وقوله تعالى: (وَالْخَامِسَةُ أَنَّ لَعْنَتَ اللَّهِ عَلَيْهِ إِن كَانَ مِنَ الْكَاذِبِينَ) [سورة النور: 7]، فرتب اللعن على الكذب، وهو إنما يقتضي الفسق، وكذا قوله تعالى: (وَالْخَامِسَةَ أَنَّ غَضَبَ اللَّهِ عَلَيْهَا إِن كَانَ مِنَ الصَّادِقِينَ) [سورة النور: 9]، رتب الغضب على صدقه في كونها زنت، والزنا ليس بكفر.
وقوله تعالى: (أَلاَ لَعْنَةُ اللّهِ عَلَى الظَّالِمِينَ) [سورة هود: 18]، أي على كل ظالم، لأن الجمع المعرف للعموم، والفاسق ظالم لنفسه كما يرشد إليه قوله تعالى: (فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِّنَفْسِهِ) [سورة فاطر: 32]، حيث جعله سبحانه قسيما للمقتصد وقسيما للسابق بالخيرات.
قال (رحمه الله): ولا ريب أن الكبائر مجوزة للعن، لأن الكبيرة مقتضية لاستحقاق الذم والعقاب في الدنيا والآخرة، وهو معنى اللعن، وأما الصغائر فإنها تقع مكفرة لقوله تعالى: (الَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبَائِرَ الْإِثْمِ وَالْفَوَاحِشَ إِلَّا اللَّمَمَ) [سورة النجم: 32]، فقد فسر بصغائر الذنوب، فلهذا لا ينقص إيمان فاعلها ولا ترد شهادته ولا تسقط عدالته.. نعم، لو أصر عليها ألحقت بالكبائر، وصار اللعن بها سائغا (3).
وقال الغزالي: الصفات المقتضية للعن ثلاثة: الكفر والبدعة والفسق (4).
ثانيا: قد يتصور البعض أن اللعن غير جائز، نظرا لورود النهي عنه في الروايات الواردة عن أهل البيت (عليهم السلام) وغيرهم، والصحيح أنها تمنع اللعن إلا عمن يستحقها، كالكافـر والظالم وغيرهما من الأصناف المستحقة للعن، والتي صرح الكتاب العزيز والسنة الطاهرة بلعنهم، كالكذاب والعاق وشارب الخمر وما أشبه.
ومن الروايات ما روي عن الإمام الباقر (عليه السلام) أنه قال: "خَطَبَ رَسُولُ اللَّهِ (صلى الله عليه وآله) النَّاسَ فَقَالَ: أَلاَ أُخْبِرُكُمْ بِشِرَارِكُمْ؟ قَالُوا: بَلَى يَا رَسُولَ اللَّهِ، قَالَ: الَّذِي يَمْنَعُ رِفْدَهُ، وَيَضْرِبُ عَبْدَهُ، وَيَتَزَوَّدُ وَحْدَهُ، فَظَنُّوا أَنَّ اللَّهَ لَمْ يَخْلُقْ خَلْقاً هُوَ شَرٌّ مِنْ هَذَا، ثُمَّ قَالَ: أَلاَ أُخْبِرُكُمْ بِمَنْ هُوَ شَرٌّ مِنْ ذَلِكَ؟ قَالُوا: بَلَى يَا رَسُولَ اللَّهِ، قَالَ: الَّذِي لَا يُرْجَى خَيْرُهُ، وَلَا يُؤْمَنُ شَرُّهُ، فَظَنُّوا أَنَّ اللَّهَ لَمْ يَخْلُقْ خَلْقاً هُوَ شَرٌّ مِنْ هَذَا، ثُمَّ قَالَ: أَلاَ أُخْبِرُكُمْ بِمَنْ هُوَ شَرٌّ مِنْ ذَلِكَ؟ قَالُوا: بَلَى يَا رَسُولَ اللَّهِ، قَالَ: الْمُتَفَحِّشُ اللَّعَّانُ، الَّذِي إِذَا ذُكِرَ عِنْدَهُ الْمُؤْمِنُونَ لَعَنَهُمْ وَإِذَا ذَكَرُوهُ لَعَنُوهُ" (5).
وما روي عن الإمام الباقر (عليه السلام): "إِنَّ اللَّعْنَةَ إِذَا خَرَجَتْ مِنْ فِي صَاحِبِهَا تَرَدَّدَتْ بَيْنَهُمَا، فَإِنْ وَجَدَتْ مَسَاغاً وَإِلاَّ رَجَعَتْ عَلَى صَاحِبِهَا" (6).
ويستظهر من هاتين الروايتين وغيرها مشروعية اللعن لمن يستحقه، فقوله في الأولى: "وَإِذَا ذَكَرُوهُ لَعَنُوهُ"، وفي الثانية: "فَإِنْ وَجَدَتْ مَسَاغاً"، تدلل على ذلك فذكروه تعود إلى المؤمنين وهم ليسوا بملعونين، وفي الثانية إنما ترد اللعنة على صاحبها إن لم تجد مساغا.
ويضاف إلى ذلك: أن اللعن هو الطرد والإبعاد كما بينا، فمن يصدر منه اللعن يكون حاكما بالبعد أو طالبا ذلك من الله، وحكم الإنسان على الآخر بالبعد غيب، فيبقى الدعاء وهو لا يجوز إلا على من اتصف بصفة تبعده عن الباري (عز وجل).
ثالثا: وضح أنه لا ريب ولا شبهة في مشروعية اللعن على وجه العموم، ولكن هل يجوز ذلك على وجه الخصوص؟ يعني يقصد شخص بعينه؟
قال الشيخ النراقي: الحق جواز اللعن على شخص معين علم اتصافه بصفة الكفر أو الظلم أو الفسق.
وما قيل من عدم جواز ذلك إلا على من يثبت لعنه من الشرع كفرعون وأبي جهل، لأن كل شخص معين كان على إحدى الصفات الثلاثة ربما رجع عنها، فيموت مسلما أو تائبا، فيكون مقربا عند الله لا مبعدا عنه كلام ينبغي أن يطوى ولا يروى، إذ المستفاد من كلام الله تعالى وكلام رسوله (صلوات الله عليهم) وكلام أئمتنا الراشدين: جواز نسبته إلى الشخص المعين، بل المستفاد منها أن اللعن على بعض أهل الجحود والعناد من أحب العبادات وأقرب القربات.
قال الله سبحانه: (أُوْلَـئِكَ جَزَآؤُهُمْ أَنَّ عَلَيْهِمْ لَعْنَةَ اللّهِ وَالْمَلآئِكَةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ) [سورة آل عمران: 87].
وقال: (أُولَـئِكَ يَلعَنُهُمُ اللّهُ وَيَلْعَنُهُمُ اللَّاعِنُونَ) [سورة البقرة: 159].
وقال النبي (صلى الله عليه وآله): "لعن الله الكاذب ولو كان مازحا".
وقال (صلى الله عليه وآله) في جواب أبي سفيان حين هجاه بألف بيت: "اللهم إني لا أحسن الشعر ولا ينبغي لي، اللهم العنه بكل حرف ألف لعنة".
وقد لعن أمير المؤمنين (عليه السلام) جماعة، وروي أنه كان يقنت في الصلاة المفروضة بلعن معاوية وعمرو بن العاص وأبي موسى الأشعري وأبي الأعور الأسلمي، مع أنه أحلم الناس وأشدهم صفحاً عمن يسوء به، فلو لا أنه كان يرى لعنهم من الطاعات لما يتخير محله في الصلوات المفروضات.
وروى الشيخ الطوسي: إن الصادق (عليه السلام) كان ينصرف من الصلاة بلعن أربعة رجال.
ومن نظر إلى ما وقع للحسن (عليه السلام) مع معاوية وأصحابه وكيف لعنهم، وتتبع ما ورد من الأئمة في الكافي وغيره من كتب الأخبار والأدعية في لعنهم من يستحق اللعن من رؤساء الضلال والتصريح بأسمائهم، يعلم أن ذلك من شعائر الدين، بحيث لا يعتريه شك ومرية (7).
رابعا: اللعن الوارد في زيارة عاشوراء هو كغيره ممن ورد في الذكر الحكيم والسنة النبوية، وهو على نحوين:
الأول: التصريح، كلعن بني أمية ومعاوية ويزيد وغيرهم، وهذا عند الشيعة مما لاخلاف في أنه من أجلى مصاديق مورد اللعن، والمخالف إن وجد فهو شاذ لا يعتنى بخلافه.
وأما غيرهم، فيتوقفون عند الصحابة كمعاوية، وهذه المسألة من المسائل الخلافية بين الفريقين، ففريق يعتمد في نظرته إلى الصحابة على منظار عاطفي، فيقدس ما هو جليل ويتوقف في غيره، والفريق الآخر يعتمد في نظرته إليهم على منظار علمي، فيضعهم على مشرحة البحث تماما كما يعمل الرجالي بأدواته في الجرح والتعديل.
الثاني: الكناية، كلعن أول من أسس أساس الظلم والجور على أهل البيت، أو كلعن الأول، وهذه من موارد الاجتهاد، فحملها على أئمة المسلمين غير مقبول، و على شخص بعينه يحتاج إلى دليل، فالمناقشة في الدليل وطريقة الاستدلال وليس في الزيارة.