المساعد الشخصي الرقمي

مشاهدة النسخة كاملة : السـجدة على تربة كربـلاء


تراب البقيع
22-11-2008, 07:19 AM
السـجدة على تربة كربـلاء
هذا ، وأمّا السـجدة على تربة كربلاء واتّخاذها مسـجداً ، فإنّ الغاية المتوخّاة منها ـ للشـيعة ـ إنّما هي تستند إلى أصلين قويمَين ، وتتوقّف على أمرين قـيّمَين :
أوّلهما :
استحسان اتّخاذ المصلّي لنفسـه تربة طاهرة طيّبة يتيقّن بطهارتها ، من أيّ أرض أُخذت ، ومن أيّ صقع من أرجاء العالم كانت ، وهي كلّها ذات شـرع سواء سواسية ، لا امتياز لإحداهنّ على الأُخرى في جواز السـجود عليها.
وإنْ هو إلاّ كرعاية المصلّي طهارة جسـده وملبسـه ومصلاّه ، يتّخذ المسلم لنفسـه صعيداً طيّباً يسـجد عليه في حلّه وترحاله ، وفي حضره وسـفره ، ولا سيّما في السـفر ، إذ الثقة بطهارة كلّ أرض يحلّ بها ويتّخذها مسـجداً لا تتأتّى له في كلّ موضع من المدن ، والرساتيق ، والفنادق ، والخانات ، وباحات النزل ، والساحات ، ومحالّ المسافرين ، ومحطّات وسائل السير والسـفر ، ومهابط فئات الركاب ، ومنازل الغرباء ،
أنّى له بذلك وقد يحلّ بها كلّ إنسان من الفئة المسلمة وغيرها ، ومن أخلاط الناس الّذين لا يبالون ولا يكترثون لأمر الدين في موضوع الطهارة والنجاسـة ؟!
فأيّ وازع من أن يستحيط المسلم في دينه ، ويتّخذ معه تربة طاهرة يطمئنّ بها وبطهارتها ، يسـجد عليها لدى صلاته ، حـذراً مـن السـجدة على الرجاسـة والنجاسـة والأوساخ التـي لا يتقرّب بها إلى الله قـطّ ، ولا تجـوّز السُـنّة السـجود عليهـا ، ولا يقبله العقل السليم بعد ذلك التأكيد التامّ البالغ في طهارة أعضاء المصلّي ولباسـه ، والنهي عن الصلاة في مواطن ، منها : المزبلة ، والمجزرة ، والمقبرة ، وقارعة الطريق ، والحمّام ، ومعاطن الإبل ، والأمر بتطهير المساجد وتطييبها ؟!
وكأنّ هذه النظرة الصائبة القيّمة الدينية كانت متّخذة لدى رجال الورع من فقهاء السلف في القرون الأُولى.
وأخذاً بهذه الحيطة المستحسنة جدّاً كان التابعي الفقيه الكبير ، الثقة العظيم ، المتّفق عليه ، مسـروق بن الأجدع يأخذ في أسـفاره لبنة يسـجد عليها كما أخرجه شـيخ المشـايخ ، الحافظ الثقة ، إمام السُـنّة ومسندها في وقته ، أبو بكر ابن أبي شـيبة في كتابه « المصنّف » في المجلّد الثاني ، باب : من كان يحمل في السـفينة شـيئاً يسـجد عليه.
فأخرج بإسنادين أنّ مسـروقاً كان إذا سافر حمل معه في السـفينة لبنة يسـجد عليها .
هذا هو الأصل الأوّل لدى الشـيعة ، وله سابقة قدم منذ يوم الصحابة الأوّلين التابعين لهم بإحسان.

وأمّا الأصل الثاني :
فإنّ قاعدة الاعتبار المطّردة تقتضي التفاضـل بين الأراضي ، بعضها على بعض ، وتستدعي اختلاف الآثار والشـؤون والنظرات فيها ، وهذا أمر طبيعي عقلي متسالم عليه ، مطّرد بين الأُمم طرّاً ، لدى الحكومات والسلطات والملوك العالمية برمّتهم ، إذ بالإضافات والنِسَـب تُقبل الأراضي والأماكن والبقاع خاصة ، ومزيّة بها تجري عليها مقرّرات ، وتنتزع منها أحكام لا يجوز التعدّي والصفح عنها.
ألا ترى أنّ المستقلاّت ، والساحات ، والقاعات ، والدور ، والدوائر الرسـمية المضافة إلى الحكومات ، وبالأخصّ ما ينسـب منها إلى البلاط الملكي ، ويعرف باسـم عاهل البلاد وشـخصه ، لها شـأن خاصّ ، وحكم ينفرد بها ، يجب للشـعب رعايته ، والجري على ما صدر فيها من قانون.
فكذلك الأمر بالنسـبة إلى الأراضي والأبنية والديار المضافة المنسوبة إلى الله تعالى ، فإنّ لها شـؤوناً خاصة ، وأحكاماً وطقوساً ، ولوازم وروابط لا مناص ولا بُـدّ لمن أسلم وجهه لله من أن يراعيها ، ويراقبها ، ولا مندوحة لمن عاش تحت راية التوحيد والإسلام من القيام بواجبها والتحفّظ عليها ،
والأخذ بها.
فبهذا الاعتبار المطّرد العامّ المتسالم عليه انتُزع للكعبة حكمها الخاصّ ، وللحرم شـأنّ يُخصّ به ، وللمسـجدين الشـريفين ـ جامع مكّة والمدينة ـ أحكامهما الخاصة بهما ، وللمساجد العامة والمعابد والصوامع والبِيَع التي يُذكر فيها اسـم الله ، في الحرمة والكرامة ، والتطهير والتنجيس ، ومنع دخول الجنب والحائض والنفساء عليها ، والنهي عن بيعها نهياً باتاً نهائياً من دون تصوّر أيّ مسوّغ لذلك قطّ ، خلاف بقية الأوقاف الأهلية العامّة التي لها صور مسوّغة لبيعها وتبديلها بالأحسن ، إلى أحكام وحدود أُخرى منتزعة من اعتبار الإضافة إلى ملك الملوك ، ربّ العالمين.
فاتّخاذ مكّة المكرّمة حرماً آمناً ، وتوجيه الخلق إليها ، وحجّهم إليها من كلّ فجّ عميق ، وإيجاب كلّ تلكم النُسُـك وجعل كلّ تلكم الأحكام ، حتّى بالنسـبة إلى نبتها وأبّها ، إنْ هي إلاّ آثار الإضافة ، ومقرّرات تحقّق ذلك الاعتبار ، واختيار الله إيّاها له من بين الأراضي.
وكذلك عدّ المدينة المنوّرة حرماً إلهياً محترماً ، وجعل كلّ تلكم الحرمات الواردة في السُـنّة الشـريفة لها ، وفي أهلها وتربتها ، ومن حلّ بها ، ومن دفن فيها ، إنّما هي لاعتبار ما فيها من الإضافة والنسـبة إلى الله تعالى ، وكونها عاصمة عرش نبيّه الأعظم صاحب الرسالة الخاتمة ( صلى الله عليه وآله وسلم ).
وهذا الاعتبار وقانون الإضافة ، كما لا يُخَصّ بالشـرع فحسـب ، بل هو أمر طبيعي أقرّ الإسلام الجري عليـه ..
كذلك لا ينحصر هو بمفاضلة الأراضي ، وإنّما هو أصل مطّرد في باب المفاضلة في مواضيعها العامّة ، من الأنبياء ، والرسل ، والأوصياء ، والأولياء ، والصدّيقين ، والشـهداء ، وأفراد المؤمنين وأصنافهم .. إلى كلّ ما يتصوّر له فضل على غيره لدى الإسلام المقـدّس.
بل هذا الأصل هو محور دائرة الوجود ، وبه قوام كلّ شـيء ، وإليه تنتهي الرغبات في الأُمور ، ومنه تتولّد الصلات والمحبّات ، والعلائق والروابط ، وتتولّد عوامل البغض والعداء والشـحناء والضغائن.
وهو أصل كلّ خلاف وشـقاق ونفاق.
كما إنّه أساس كلّ وحدة واتّحاد وتسالم ووئام وسلام.
وعليه تبنى صروح الكلّيات ، وتتمهّد المعاهـد الاجتماعية.
وفي أثره تشـكَّل الدول ، وتختلف الحكومات ، وتحدث المنافسات والمشـاغبات والتنازع والتلاكم والمعارك والحروب الدامية.
وعلى ضوئه تتحزّب الشـعوب والقبائل ، وتتكثّر الأحزاب والجمعيات.
وبالنظر إليه تؤسّـس المؤسّـسات في أُمور الدين والدنيا ، وتتمركز المجتمعات الدينية ، والعلمية ، والاجتماعية ، والشـعوبية ، والقومية ، والطائفية ، والحزبية ، والسياسية.
.. إلى كلّ قبض وبسـط ، وحركة وسـكون ، ووحدة وتفكّك ، واقتران وافتراق.
فالحكومة العالمية القوية ، القهّارة الجبّارة ، الحاكمة على الجامعة البشـرية بأسـرها ، من أوّل يومها وهلمّ جرّاً إلى آخر الأبـد ، من دون شـذوذ لأيّ أحد وخروج فرد عن سلطتها ، ومن دون اختصاص بيوم دون يوم ، إنّما هي حكومة « ياء النسـبة »!
بها قوام الدين والدنيا ، وإليها تنتهي سلسلة النظم الإنسانية ، وقانون الاجتماع العامّ ، وشـؤون الأفراد البشـري.
والبشـر ـ مع تكثّر أفراده ـ على بكرة أبيهم مُسيّر بها ، مقهور تحت نير سلطتها ، مصفّد بحبالهـا ، مقيّـد في شـراكها ، لا مهرب له منها.
هي التي تُحْكِم وتفتق ، وتنقض وتبرم ، وترفع وتخفض ، وتصل وتقطع ، وتقرّب وتبعّد ، وتأخذ وتعطي ، وتعزّ وتذلّ ،

وتثيب وتعاقب ، وتحقّر وتعظّم.
هي التي تجعل الجندي المجهول مكرّماً ، معظّماً ، محترماً ، وتراه أهلا لكلّ إكبار وتجليل وتبجيل ، لدى الشـعب وحكومته ، وتنثر الأوراد والأزهار على تربته ومقبرته ، وتدعه يُذكر مع الأبد ، خالداً ذِكره في صفحة التاريخ.
هي التي تهون لديها الكوارث والنوازل ، وبمقاييسـها يقاسي الإنسان الشـدائد والقوارع والمصائب الهائلة ، ويبذل النفس والنفيس دونها.
هي التي جعلت رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) يُقَبّل الصحابي العظيم عثمان بن مظعون وهو ميّت ، ودموعه تسيل على خدّيه كما جاء عن السيّدة عائشـة .
هي التي دعت النبيّ ( صلى الله عليه وآله وسلم ) إلى أن يبكي على ولده الحسين السـبط ، ويقيم كلّ تلكم المآتم ، ويأخذ تربة كربلاء ويشـمّها ويقبّلها .. إلى آخر ما سـمعت من حديثه .
هي التي جعلت السيّدة أُمّ سلمة أُمّ المؤمنين تصرّ تربة كربلاء على ثيابها .
هي التىّ سوّغت للصدّيقة فاطمة أن تأخذ تربة قبر أبيها الطاهر وتشـمّها .
هي التي حكمت على بني ضبّة يوم الجمل أن تجمع بعرة جمل عائشـة أُمّ المؤمنين وتفتّها وتشـمّها كما ذكره الطبري .
هي التي جعلت عليّاً أمير المؤمنين ( عليه السلام ) يأخذ قبضة من تربة كربلاء لمّا حلّ بها ، فشـمّها وبكى حتّى بلّ الأرض بدموعه ، وهو يقول : يحشـر من هذا الظهر سـبعون ألفاً ، يدخلون الجنّة بغير حساب.
أخرجه الطبراني ، وقال الهيثمي في المجمع : رجاله ثقات .
ورد أنّ سيّدة نساء العالمين فاطمة الزهراء ( عليها السلام ) سارت إلى قبر أبيها النبيّ ( صلى الله عليه وآله وسلم ) بعد وفاته ووقفت عليه وبكت ، ثمّ أخذت قبضة تراب من القبر فجعلتها على عينيها ووجهها ، ثمّ أنشأت تقول :
ماذا على من شمّ تربة أحمد أن لا يشمّ مدى الزمان غواليا
هي التي جعلت رجل بني أسـد يشـمّ تربة الحسين ويبكي.
قال هشـام بن محمّـد : لمّا أُجري الماء على قبر الحسين نضب بعد أربعين يوماً وامْـتَـحَى أثرُ القبر ، فجاء أعرابي من بني أسـد فجعل يأخذ قبضة قبضـة من التراب ويشـمّه حتّى وقع على [ قبـر ] الحسين ، فبـكى وقال : بأبي وأُمّي ما كان أطيبك حيّاً ، وأطيب تربتك ميتاً! ثمّ بكى وأنشـأ يقول :
فالفرد البشـري كائناً من كان ، أينما كان وحيثما كان ، من أيّ عنصر وشـاكلة ، على تكثّر شـواكله ، واختلاف عناصره ، في جميع أدوار الحياة ، هو أسير تلك الحكومة ، ورهين لفظة :
روحي ، بدني ، مالي ، أهلي ، ولدي ، أقاربي ، رحمي ، أُسـرتي ، تجارتي ، نحلتي ، ملّتي ، طائفتي ، مبدئي ، داري ،
ملكي ، حكومتي ، قادتي ، سادتي .. إلى ما لا يحصى من المضاف المنسوب إليه.
وهذه هي حرفياً بصورة الجمع الإضافي مأكلة بين شـدقي الحـكومات والـدول ، والجمعيات ، والهيئـات ، والأحياء ، والشـعوب ، والقبائل ، والأحزاب ، والملل ، والنحل ، والملوك ، والطوائف ، والسلطات الحاكمة .. إلى كلّيات لا تتناهى.
وبمجرّد تمامية النسـبة وتحقّق الإضافة في شـيء جزئي أو كلّي ، أو أمر فردي أو اجتماعي ، لدى أُولئك المذكورين تترتّب آثار ، وتتسـجّل أحكام لا منتدح لأيّ أحد من الخضوع لها والإخبات إليها ، والقيام دونها ، والتقيّد بها.
وهذا بحث جدّ ناجع ، تنحل به مشـكلات المجتمع في المبادئ والآراء والمعتقدات ، وعقود الضغينة والمحبّة ، وعويصات المذاهب ، ومقرّرات الشـرع الأقدس ، وفلسـفة مقرّبات الدين الحنيف ، ومقدّسات الإسلام وشـعائره ، والحرمات والمقامات والكرامات.
فبعد هذا البيان الضافي يتّضح لدى الباحث النابه الحرّ سـرّ فضيلة تربة كربلاء المقدّسـة ، ومبلغ انتسابها إلى الله سـبحانه وتعالى ، ومدى حرمتها وحرمة صاحبها دنوّاً واقتراباً من العليّ الأعلى ، فما ظنّك بحرمة تربة هي مثوى قتيل الله ، وقائد جنده الأكبر ، المتفاني دونه ؟!
هي مثوى حبيبه وابن حبيبه ، والداعي إليه ، والدالّ عليه ، والناهض له ، والباذل دون سـبيله أهله ونفسـه ونفيسـه ، والواضع دم مهجته في كفّه تجاه إعلاء كلمته ، ونشـر توحيده ، وتحكيم معالمه ، وتوطيد طريقه وسـبيله.
فأيّ من ملوك الدنيا ومن عواهل البلاد ـ من لدن آدم وهلمّ جرّاً ـ عنده قائد ناهض طاهر ، كريم وفيّ ، صادق أبيّ ، شـريف عزيز ، مثل قائد شـهداء الإخلاص بالطفّ : الحسين المفـدّى ؟!
لماذا لا يباهي به الله ؟!
وكيف لا يتحفّظ على دمه لديه ، ولا يدع قطرة منه أن تنزل إلى الأرض لمّا رفعه الحسين بيديه إلى السـماء ؟! .
كيف لا يديم ذِكره في أرضه وسـمائه ، وقد أخذت محبّة الله بمجاميع قلبه ؟!
وكيف لا يُسَـوِّدُ وجهَ الدنيا في عاشـورائه ، ولا يبدي بيّنات سـخطه وغضبه يوم قتله في صفحة الوجود ؟!
ولماذا لا تبكي عليه الأرض والسـماء ؟! كما جاء عن ابن سيرين في ما أخرجه جمع من الحفّاظ .
ولماذا لا تمطر السـماء يوم قتله دماً ؟! كما جاء حديثه متواتراً .
ولماذا لا يبعـث الله رسله من الملائـكة المقـرّبين إلى نبيّه ( صلى الله عليه وآله وسلم ) بتربة كربلائه ؟!
ولماذا لا يشـمّها رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) ؟! ولِمَ يقبّلها ؟! ولِمَ
يذكرها طيلة حياته ؟!
ولماذا لا يتّخذها بلسـماً في بيته ؟!
فهلمّ معي أيّها المسلم الصحيح ، أفليست السـجدة على تربة هذا شـأنّها لدى التقرّب إلى الله في أوقات الصلوات ، أطراف الليل والنهار ، أَوْلى وأحرى من غيرها من كلّ أرض وصعيد وقاعة وقرارة طاهرة ، أو من البسـط والفرش والسـجّاد المنسوجة على نول هويّات مجهولة ، ولم يوجد في السُـنّة أيّ مسوّغ للسـجود عليها ؟!
أليس أجدر بالتقرّب إلى الله ، وأقرب بالزلفى لديه ، وأنسـب بالخضوع والخشـوع والعبودية له تعالى أمام حضرته ، وَضْعَ صَفْحِ الوجه والجباه على تربة في طيّها دروس الدفاع عن الله ومظاهر قدسـه ، ومجلى التحامي عن ناموسـه ناموس الإسلام المقدّس ؟!
أليس أليق بأسـرار السـجدة على الأرض ، السـجود على تربة فيها سـرّ المنعـة والعظمة والكبرياء والجلال لله جلّ وعلا ، ورموز العبودية والتصـاغر دون الله بأجلى مظاهرها وسـماتها ؟!
أليس أحقّ بالسـجود ، تربة فيها بيّنات التوحيد والتفاني دونه ؟! تدعو إلى رقّة القلب ، ورحمة الضمير ، والشـفقة والتعطّف.
أليس الأمثل والأفضل اتّخاذ المسـجد من تربة تفجّرت في صفيحها عيون دماء اصطبغت بصبغة حبّ الله ، وصيغت على سُـنّة الله وولائه المحض الخالص ؟!
فعلى هذين الأصلين نتّخذ نحن من تربة كربلاء قطعاً لُمَعاً وأقراصاً نسـجد عليها كما كان فقيه السلف مسـروق بن الأجدع يحمل معه لبنة من تربة المدينة المنوّرة يسـجد عليها.
والرجل تلميذ الخلافة الراشـدة ، فقيه المدينة ، ومعلّم السُـنّة بها ، وحاشـاه من البدعة ، ففي أيّ من الأصلين حزازة وتعسّـف ؟!
وأيّ منهما يضادّ نداء القرآن الكريم ؟! أو يخالف سُـنّة الله وسُـنّة رسوله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) ؟!
وأيّهما يُستنكَر ويعدّ بدعة ؟!
وأيّهما خروج عن حكم العقل والمنطق والاعتبار ؟!
وليس اتّخاذ تربة كربلاء مسـجداً لدى الشـيعة من الفرض المحتّم ، ولا من واجب الشـرع والدين ، ولا ممّا ألزمه المذهب ، ولا يفرّق أيّ أحد منهم ـ منذ أوّل يومها ـ بينها وبين غيرها من تراب جميع الأرض في جواز السـجود عليها ، خلاف ما يزعمه الجاهل بهم وبآرائهم.
وإنْ هو عندهم إلاّ استحسان عقلي ليس إلاّ ، واختيار لِما هو الأَوْلى بالسـجود لدى العقل والمنطق والاعتبار فحسـب ، كما سـمعت.
وكثير من رجال المذهب يتّخذون معهم في أسـفارهم غير تربة كربلاء ، ممّا يصحّ السـجود عليه كحصير طاهر نظيف يوثق بطهارته ، أو خُمرة مثله ، ويسـجدون عليه في صلواتهم.
ونحن نرى أنّ الأخذ بهذين الأصلين القويمين ، والنظر إلى رعاية أمرَي الحيطة والحرمة ومراقبتهما ، يحتّم على أهالي الحرمين الشـريفين : مكّة والمدينة ، واللائذين بجنابهما ، والقاطنين في ساحتهما ، أن يتّخذوا من تربتهما أقراصاً وألواحاً مسـجداً لهم ، أخذاً بالأصلين ، وتخلّصاً من حرارة حصاة المسـجد الشـريف اللاهبة أيّام الظهائر وشـدّة الرمضاء ،
1 ـ إنّ كثيراً من العلماء والمفسّرين أعطوا مكّة والمدينة ، بل وحرميهما ، أحكام المسجدين ، فألحقوا مكّة المشرّفة والمدينة المنوّرة بجواز التخيير بين القصر والتمام للمسافر كما هو حكم المسجدين ..
قال السيّد الخوئي ( قدس سره ) : « وذكر جماعة اختصاص التخيير في مكّة والمدينة بالمسجدين ، ولكنّه لا يبعد ثبوت التخيير في البلدين مطلقاً » أي يتخيّر المسافر بين القصر والتمام.
وقال العلاّمة الحلّي في أحكام المسافر من كتابه « تبصرة المتعلّمين » : « ويجب التقصير إلاّ في حرم الله وحرم رسوله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) ، ومسجد الكوفة ، والحائر الحسيني فإنّه يتخيّر » وذلك استناداً إلى نصوص في ذلك ـ وإن لم يعمل بها بعضهم ـ كصحيح ابن الحجّاج عن الإمام الصادق ( عليه السلام ) حين سأله عن التمام في مكّة والمدينة ، فقال ( عليه السلام ) : « أتمّ وإن لم تصلّ فيهما إلاّ صلاة واحدة ». وصحيح علي بن يقطين ، عن الإمام أبي إبراهيم ( عليه السلام ) ، حين سأله عن التقصير بمكّة ، فقال ( عليه السلام ) : أُتمّ وليس بواجب ، إلاّ أنّي أُحبّ لك ما أُحبّ لنفسي. من هذا ـ وممّا سيأتي ـ نستفيد أنّهم يتعاملون مع أرض الحرم إمّا على أنّها مسجد ، أو أنّ لأرض الحرم أحكاماً خاصّة ، ومنها عدم جواز إخراج أحجارها ..

قال ابن حزم تحـت عنـوان « ولا يُخـرج شـيء من تـراب الحرم ولا حجارته إلى الحلّ » .. قال : « روينا عن طريق سعيد بن منصور ، حدّثنا هشيم ، أخبرنا حجّاج ، عن عطاء ، قال : يُكره أن يُخرج من تراب الحرم إلى الحلّ ، أو يُدخل ترابٌ الحلّ إلى الحرم وهو قول ابن أبي ليلى وغيره ولا بأس بإخراج ماء زمزم لأنّ حرمة الحرم إنّما هي للأرض وترابها وحجارتها ، فلا يجوز له إزالة حرمتها ، ولم يأت في الماء تحريم ». وقال الفخر الرازي في تفسير قوله تعالى في سورة الإسراء : ( سبحان الذي أسرى بعبده ليلا من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى ) : « عن ابن عبّاس : الحرم كلّه مسجد ، وهذا قول الأكثرين » لأنّـه أُسـري بـه ( صلى الله عليه وآله وسلم ) من بيت أُمّ هاني بنت أبي طالب ، ومن المجمع عليه أنّه لا يجوز إخراج حصى المسـجد ولا ترابه.
وقال الطبري في تفسير نفس الآية : « وأمّا قوله : ( من المسجد الحرام ) فإنّه اختُلف فيه وفي معناه ، فقال بعضهم : يعني من الحرم ، وقال : الحرم كلّه مسجد وقد بيّـنّا ذلك في غير موضع من كتابنا هذا »
وسُئل السيّد محسن الحكيم ( قدس سره ) عن الأحجار من المزدلفة يحتفظ بها الحاجّ إلى العام القادم ؟ قال : « الأحوط أن يرميها في منى ». وقال السيّد محمّـد رضا الگلبايگاني ( قدس سره ) في حرمة الحرم : « ويحرم قلع شجره وحشيشه وقطعهما ، ويمنع نقل ترابه وأحجاره على الأحوط ». تلخّص ممّا سبق أنّ هذا هو المانع للصدر الأوّل من المسلمين من أن يحملوا تراب الحرمين على شكل ألواح أو أقراص كما هو عندنا اليوم والذي نطلق عليه التربة الحسينية ، غير أنّ الشيخ الأميني يرى جواز ذلك كما عليه بعضهم ، وهو كما ترى.
ويجعلونهـا في تنـاول يد الزائرين والحجّاج والوافدين إلى تلكم الديار المقـدّسـة من الحواضر الإسلامية ، تقتنيها الأُمّـة المسلمة مسـجداً لهـا ، في الحضر والسـفر ، وتتّخذها تذكـرة وذكرى لله ولرسوله ولمهابـط وحيه ، تذكّـرها ربّها ونبيّهـا متى ما ينظـر إليها ، وتشـمّهـا وتستـشـمّ منها عَـرف التوحيـد والنبـوّة.
وتكون نبراساً في بيوت المسلمين تتنوّر منها القلوب ، وتستـضيء بنورها أفـئدة أُولي الألباب ، ويتقرّب المسلمون إلى الله تعـالى في كلّ صقـع وناحية في أرجاء العـالم بالسـجود على تربة أفضل بقعـة اختـارها الله لنفسـه ، بيـت أمن ودار حرمة وعظمة وكرامة ، ولنبيّـه حرماً ومضجعـاً مبـاركاً.
وفيها وراء هذا كلّه دعاية كبيرة قوية عالمية إلى الإسلام ، وإلى كعبة عبادته ، وعاصمة سُـنّته ، وصاحب رسالته.
( ذلك ومن يعظّم حرمات الله فهو خير له عنـد ربّـه ) .

خادم الباقرع
22-11-2008, 12:36 PM
مشكور اخي الكريم على الموضوع