الاَرائجُ المِسْكِيّة في تفضيل البَضْعة الزكيّة
تأليف
السيّد حسن الحسيني آل المجدّد الشيرازي
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله وكفى، وسلام على عباده الّذين اصطفى، محمّـدٍ وآله المطهَّرين الحُنفا، وارضَ اللّهمّ عن صحبه ذوي النجابة والوفا، الناهجين سـبيله ومَن تبعهم واقتفى.
وبعـد،
فلمّا اتّفق لي الوقوف على كلام الشيخ الفاضل أبي فراس محمّـد بدر الدين النعساني الحلبي في المفاضلة بين النساء، فإذا هو قد ركب متن عمياء، وخَبَط خَبْط عشواء في ليلة ظلماء، وخالف صريح السـنن وأقوال العلماء، اختلج بالبال، إفراد المسألة بنبذة من المقال، تكون وافية بالمقصود، بعون المعبود الودود، وهو المستعان، وعليه التكلان.
* * *
إعلم ـ هدانا الله وإيّاك إلى منهجه القويم، وصراطه المستقيم ـ أنّ الرجل ادّعى أنّ نساء النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم أفضل النساء جملةً حاشا اللواتي خصّهنّ الله تعالى بالاِيحاء، وأنّ أفضل نسائه صلى الله عليه وآله وسلم عائشة! فهنا دعويان ينبغي التكلّم عليهما، وبيان الحقّ فيهما.
* أمّا الاَُولى:
فقد ذكر في تعليقه على «الدرّ النضيد من مجموعة الحفيد»(1): أنّ الذي تشهد له الاَدلّة من القرآن والسُـنّة أنّ نساء النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم أفضل النساء جملةً حاشا اللواتي خصّهنّ الله تعالى بالاِيحاء، كأُمّ موسى وأُمّ عيسى، قال الله تعالى: (يا نساء النبيّ لسـتنّ كأحدٍ من النساء إنِ اتّقيتنّ) فهذا ظاهرٌ في أنّهنّ أفضل من غيرهنّ.
قال: ولا يعارضه قوله عليه الصلاة والسلام: «خير نسائها فاطمة بنت محمّـد» فإنّه عليه السلام لم يقل: خير النساء فاطمة، وإنّما قال: خير نسائها، فخصّ ولم يعمّ، والله تعالى في تفضيل نساء نبيّه عمّ ولم يخصّ، فلا يجوز أن يُسـتثنى منه إلاّ من اسـتثناه نصٌّ ظاهر، فصحّ أنّه عليه السلام إنّما فضّل فاطمة على نساء المؤمنين بعد نسائه، فاتّفقت الآية مع الحديث.
انتهى كلامه بلفظه.
ولا يخفى على الحاذق اللبيب مواقع النظر في هذا الكلام، فلنبيّـنها، وبالله تعالى الاستعانة والاعتصام.
____________
(1) الدرّ النضيد من مجموعة الحفيد: 56.
* الاَوّل:
دعواه اختصاص بعض النساء بالاِيحاء:
وقد قلّد في ذلك جماعةً من المتقدّمين كالاَشعري، حيث نقل عنه أنّ في النساء عدّة نبيّات! وحصرهنّ ابن حزم في ستّ: حوّاء وسارة وهاجر وأُمّ موسى وآسية ومريم! ونقله القرطبي في (التمهيد) عن أكثر الفقهاء ـ ولم يذكر سارة ولا هاجر ـ وقال: الصحيح أنّ مريم نبيّة! وتعقّبه القاضي عياض بأنّ الجمهور على خلافه.
وذكر النووي في «الاَذكار»(1) عن إمام الحرمين أنّه نقل الاِجماع على أنّ مريم ليست نبيّة، ونسبه في «شرح المهذّب» لجماعة.
وجاء عن الحسن البصري: ليس في النساء نبيّة ولا في الجنّ.
وقال السبكي الكبير: اختُلِف في هذه المسألة، ولم يصحّ عندي في ذلك شيء(2).
وقال الحافظ السيوطي: الاَصحّ أنّها ـ يعني مريم ـ غير نبيّة(3).
وقال العلاّمة ابن قاسم في «الآيات البيّنات»: زَعْمُ نبوّتها ـ يعني مريم ـ كزعم نبوّة غيرها من النساء، كهاجر وسارة، غير صحيح لاشتراط الذكورة في النبوّة على الصحيح، خلافاً للاَشعري. انتهى(4).
وفي تفسير الآلوسي(5): أنّ مريم لا نبوّة لها على المشهور.
____________
(1) الاَذكار: 130.
(2) فتح الباري 6|542 ـ 543، و ج 6|546، و ج 7|173.
(3) فيض القدير 1|105.
(4) روح المعاني 28|165.
(5) روح المعاني 2|140.
قلـت:
وقد حكى جماعة كالبيضاوي وأبي حيّان والكرماني والنووي الاِجماعَ على عدم نبوّة النساء(1).
هـذا، مع أنّ معنى الاِيحاء في مثل قوله تعالى: (وأوحينا إلى أُمّ موسى أن أرضعيه) الآية.. الاِلهام والقذف في القلب كما هو كذلك في تكليمه عزّ سلطانه بعضَ خلقه ـ غير الاَنبياء والرسل ـ كقوله تعالى: (وأوحى ربّك إلى النحل) وقوله سبحانه: (بأنّ ربّك أوحى لها) فليس كلّ إيحاء وحي نبوّة، والله تعالى أعلم.
* الثـاني:
احتجاجه على أفضليّة نساء النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم بقوله عزّ من قائل: (يا نساء النبيّ لسـتنّ كأحدٍ من النساء إنِ اتّقيتنّ).
وقد سبقه السبكي إلى ذلك(2)، وزعم الرافعي أنّ أزواج النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم أفضل نساء هذه الاَُمّة(3).
وهو مدخول بأنّ غاية ما تدلّ عليه الآية تفضيل نسائه صلى الله عليه وآله وسلم على نساء غيره، لا تفضيل كلّ واحدة منهنّ على كلّ واحدة من آحاد النساء
____________
(1) فيض القدير 4|125، روح المعاني 20|45، فتح الباري 6|516، شرح صحيح مسلم 9|304، مرقاة المفاتيح 5|347، السيرة النبوية ـ لابن دحلان ـ 1|222.
(2) فتح الباري 7|173.
(3) فتح الباري 7|136.
ـ كما اختـاره الزمخشـري وغيره(1) ـ، ومع ذلك فلا دليل على دخول الزهراء عليها السلام في المفضَّل عليهنَّ.
مضافاً إلى أنّ ما ذهب إليه السبكي هنا مخالف لِما اشتهر عنه من تفضيل سيّدة نساء العالمين على أُمّهات المؤمنين ـ كما سيأتي إن شاء الله تعالى ـ.
اللّهمّ إلاّ أن يريد تفضيلهنّ بعد اسـتثناء الصدّيقة الطاهرة عليها الصلاة والسلام، كاستثنائه مَن قيل إنّها نبيّة كمريم عليها السلام .
ثمّ لا يخفى عليك أنّه يلزم على هذا القول أن تكون كلّ واحدة من نساء النبي صلى الله عليه وآله وسلم أفضل من فاطمة عليها الصلاة والسلام، مع أنّه ليس كذلك ـ كما عرفت ويأتي ـ.
وأُجيب عنه: بأنّه لا مانع من التزامه، إلاّ أنّه يلتزم كون الاَفضلية من حيث أُمومة المؤمنين والزوجيّة لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ، لا من سائر الحيثيّات الاَُخر، بل هي من بعض الحيثيّات، كحيثية البضعيّة أفضل من كلّ من الخلفاء الاَربعة(2)، وهو كما ترى.
إذ ليس لاَُمومة المؤمنين وزوجيّة النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم والاتّصال به ـ من حيث هي ـ كرامة عند الله تعالى، وإنّما الفضل لهنّ في الاتّقاء كما دلّ عليه قوله تعالى: (إن اتّقيتنّ) وهو شرط لنفي المثلية وفضلهنّ على النساء، وجوابه محذوف دلّ عليه المذكور، والاتّقاء بمعناه المعروف في لسان الشرع، والمفعول محذوف أي: إن اتّقيتنّ مخالفة حكم الله تعالى ورضا
____________
(1) الكشّاف 3|235، روح المعاني 22|5.
(2) روح المعاني 22|4.
رسوله صلى الله عليه وآله وسلم ، والمراد إن دمتنّ على اتّقاء ذلك، ومثله شائع، أو هو على ظاهره ـ كما قال الشهاب الآلوسي ـ(1).
ونظير ذلك صحبة النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم ، فإنّها من حيث هي ليست كرامة تستوجب التفضيل، وإنّما تكون كذلك إذا اقترنت بالاِيمان والتقوى كما قال عزّ من قائل: (محمّـدٌ رسول الله والّذين معه أشدّاء على الكفّار رحماء بينهم تراهم ركّعاً سجّداً ـ إلى قوله تعالى: ـ وعد الله الّذين آمنوا منهم وعملوا الصالحات أجراً عظيماً)، على أنّ ظاهر قوله عزّ وجلّ: (عسى ربّه إنْ طلّقكنّ أن يبدله أزواجاً خيراً منكنّ) الآية.. على حاله، فتندفع تلك الدعوى(2)
ثمّ لو سلّمنا بأفضليّة أُمّهات المؤمنين على سائر النساء، فإنّا نقطع بأنّ عائشة لم تكن أفضلهنّ، بل أُمّ المؤمنين خديجة بنت خويلد رضي الله تعالى عنها فضـلاهنّ.
أمّا الاَوّل: فلاَنّ الله تبارك وتعالى قد أمر نساء نبيّه صلى الله عليه وآله وسلم بأوامر فقال عزّ وجلّ: (وقلن قولاً معروفاً * وقرن في بيوتكنّ ولا تبرّجن تبرّج الجاهلية الاَُولى وأقمن الصلاة وآتين الزكاة وأطعن الله ورسوله) الآيـة.
فهل كان من قول المعروف قولها لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ـ فيما جرى بينهما من كلام ـ: تكلّم أنت ولا تقل إلاّ حقّـاً(3)؟!
____________
(1) روح المعاني 22|5.
(2) روح المعاني 28|155.
(3) أخرجه الطبراني في الاَوسط والخطيب في التاريخ من حديث عائشة، وذكره الغزالي في آداب المعاشرة من كتاب النكاح من إحياء علوم الدين 2|43.
وقالت له صلى الله عليه وآله وسلم مرّةً في كلام غضبت عنده: أنت الذي تزعم أنّك رسول الله؟!(1)!!
وأخرج أحمد وأبو داود(2) عن النعمان بن بشير، قال: جاء أبو بكر يستأذن على النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم فسمع عائشة وهي رافعة صوتها على رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ، فأذن له فدخل فقال: يا ابنة أُمّ رومان ـ وتناولها ـ: أترفعين صوتك على رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ؟! قال: فحال النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم بينه وبينها.. الحديث.
وقد بلغ بها الحال أن أغاظت الحليم غيظاً، حتّى قال صلى الله عليه وآله وسلم لاَبي بكر: يا أبا بكر، ألا تعذرني من عائشة؟!(3).
أم هل كان من قول المعروف قولها ـ لمّا استفزّت حميّة الناس، وألّبتهم على قتل عثمان ـ: اقتلوا نعثلاً، قتل الله نعثلاً(4)؟!
____________
(1) أخرجه أبو يعلى في مسنده وأبو الشيخ في كتاب الاَمثال من حديثها معنعناً، وذكره الغزالي أيضاً في الموضع المذكور آنفاً.
(2) مسند أحمد 4|272، سنن أبي داود 4|300 ح 4999، باب ما جاء في المزاح من كتاب النكاح.
(3) طبقات الصحابة 8|56 ـ طبعة ليدن سنة 1322 هـ.
(4) بل هي أوّل من سمّته بذلك؛ راجع شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد 6|215، و 20|17 و22، وتاريخ الطبري 3|477، والنهاية ـ لابن الاَثير ـ 5|80، وتاج العروس 8|141، والكامل في التاريخ 3|206، طبعة دار صادر، بيروت، سنة 1402 هـ.
وقال الجوهري في الصحاح 5|1832 ـ مادّة «نعثل»: النعثل: الذَكَر من الضباع، ونعثل اسم رجل كان طويل اللحية، وكان عثمان إذا نيل منه وعيب شُبّه بذلك الرجل. انتهى.
وقال ابن الاَثير في النهاية 5|79 ـ 80: في مقتل عثمان: «لا يمنعنّك مكان ابن سلاّم أن تسـبّ نعثلاً» كان أعداء عثمان يسمّونه نعثلاً تشـبيهاً برجل من مصر
وما عساك أن تقول في قولها ـ لمّا انتهى إليها قتل عليٍ عليه السلام ـ:
فألقت عصاها واستقرّ بها النوى *** كما قرّ عيناً بالاِياب المسافرُ
وسألت عن قاتله فقيل: رجل من مراد، فقالت:
فـإن يَـكُ نـائـيـاً فـلـقـد نـعـاه *** غـلامٌ لـيـس في فـيـه الـتـرابُ
فقالت زينب بنت أبي سلمة: ألِعَليٍ تقولين هذا؟! فقالت: إنّي أنسى، فإذا نسيت فذكّروني!!(1).
وهل كان من امتثال أمر الله تعالى بقرارها في بيتها خروجها ـ دون صواحبها من أُمّهات المؤمنين ـ بذلك العسكر الجرّار؟!
أم كيف رأت بيت ابن ضبّة بيتها الذي أمر الله أن تقرّ فيه؟!
بل ما أشدّ انتهائها بنهي الله إيّاها عن التبرّج، إذ حسـبت قيادتها لتلك الجيوش سُرداقاً ضربه طلحة والزبير عليها يصونها عن تبرّج الجاهلية الاَُولى ويفرّغها للصلاة والزكاة وطاعة الله ورسوله!!
أم كان من طاعة الله ورسوله بغيها وخروجها على إمام زمانها وسفكها دماء المسلمين، في وقعة الجمل؟! وركوبها البغل وتأجيجها نار الفتنة يوم
____________
= كان طويل اللحية اسمه نعثل، وقيل: النعثل: الشيخ الاَحمق، وذَكَرُ الضباع؛ قال: ومنه حديث عائشة: «اقتلوا نعثلاً، قتل الله نعثلاً» تعني عثمان. انتهى.
وقال الفيروزآبادي في القاموس 4|59: النعثل ـ كجعفر ـ: الذَكَر من الضباع، والشيخ الاَحمق، ويهودي كان بالمدينة، ورجل لحياني ـ أي طويل اللحية ـ كان يُشـبّه به عثمان إذا نيل منه. انتهى.
وانظر: تاريخ الطبري 3|400، والاِمامة والسياسة ـ لابن قتيبة ـ: 43، في مخاطبتهم عثمان نعثلاً، فمن شطط الآلوسي ما ذكره في ج 22|11 من روح المعاني في هذا المقام، فراجع واحكم بالحقّ ولا تشطط.
(1) تاريخ الطبري 4|115، طبقات الصحابة 3 القسم الاَوّل ص 27، مقاتل الطالبيّين: 26.
تأليف
السيّد حسن الحسيني آل المجدّد الشيرازي
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله وكفى، وسلام على عباده الّذين اصطفى، محمّـدٍ وآله المطهَّرين الحُنفا، وارضَ اللّهمّ عن صحبه ذوي النجابة والوفا، الناهجين سـبيله ومَن تبعهم واقتفى.
وبعـد،
فلمّا اتّفق لي الوقوف على كلام الشيخ الفاضل أبي فراس محمّـد بدر الدين النعساني الحلبي في المفاضلة بين النساء، فإذا هو قد ركب متن عمياء، وخَبَط خَبْط عشواء في ليلة ظلماء، وخالف صريح السـنن وأقوال العلماء، اختلج بالبال، إفراد المسألة بنبذة من المقال، تكون وافية بالمقصود، بعون المعبود الودود، وهو المستعان، وعليه التكلان.
* * *
إعلم ـ هدانا الله وإيّاك إلى منهجه القويم، وصراطه المستقيم ـ أنّ الرجل ادّعى أنّ نساء النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم أفضل النساء جملةً حاشا اللواتي خصّهنّ الله تعالى بالاِيحاء، وأنّ أفضل نسائه صلى الله عليه وآله وسلم عائشة! فهنا دعويان ينبغي التكلّم عليهما، وبيان الحقّ فيهما.
* أمّا الاَُولى:
فقد ذكر في تعليقه على «الدرّ النضيد من مجموعة الحفيد»(1): أنّ الذي تشهد له الاَدلّة من القرآن والسُـنّة أنّ نساء النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم أفضل النساء جملةً حاشا اللواتي خصّهنّ الله تعالى بالاِيحاء، كأُمّ موسى وأُمّ عيسى، قال الله تعالى: (يا نساء النبيّ لسـتنّ كأحدٍ من النساء إنِ اتّقيتنّ) فهذا ظاهرٌ في أنّهنّ أفضل من غيرهنّ.
قال: ولا يعارضه قوله عليه الصلاة والسلام: «خير نسائها فاطمة بنت محمّـد» فإنّه عليه السلام لم يقل: خير النساء فاطمة، وإنّما قال: خير نسائها، فخصّ ولم يعمّ، والله تعالى في تفضيل نساء نبيّه عمّ ولم يخصّ، فلا يجوز أن يُسـتثنى منه إلاّ من اسـتثناه نصٌّ ظاهر، فصحّ أنّه عليه السلام إنّما فضّل فاطمة على نساء المؤمنين بعد نسائه، فاتّفقت الآية مع الحديث.
انتهى كلامه بلفظه.
ولا يخفى على الحاذق اللبيب مواقع النظر في هذا الكلام، فلنبيّـنها، وبالله تعالى الاستعانة والاعتصام.
____________
(1) الدرّ النضيد من مجموعة الحفيد: 56.
* الاَوّل:
دعواه اختصاص بعض النساء بالاِيحاء:
وقد قلّد في ذلك جماعةً من المتقدّمين كالاَشعري، حيث نقل عنه أنّ في النساء عدّة نبيّات! وحصرهنّ ابن حزم في ستّ: حوّاء وسارة وهاجر وأُمّ موسى وآسية ومريم! ونقله القرطبي في (التمهيد) عن أكثر الفقهاء ـ ولم يذكر سارة ولا هاجر ـ وقال: الصحيح أنّ مريم نبيّة! وتعقّبه القاضي عياض بأنّ الجمهور على خلافه.
وذكر النووي في «الاَذكار»(1) عن إمام الحرمين أنّه نقل الاِجماع على أنّ مريم ليست نبيّة، ونسبه في «شرح المهذّب» لجماعة.
وجاء عن الحسن البصري: ليس في النساء نبيّة ولا في الجنّ.
وقال السبكي الكبير: اختُلِف في هذه المسألة، ولم يصحّ عندي في ذلك شيء(2).
وقال الحافظ السيوطي: الاَصحّ أنّها ـ يعني مريم ـ غير نبيّة(3).
وقال العلاّمة ابن قاسم في «الآيات البيّنات»: زَعْمُ نبوّتها ـ يعني مريم ـ كزعم نبوّة غيرها من النساء، كهاجر وسارة، غير صحيح لاشتراط الذكورة في النبوّة على الصحيح، خلافاً للاَشعري. انتهى(4).
وفي تفسير الآلوسي(5): أنّ مريم لا نبوّة لها على المشهور.
____________
(1) الاَذكار: 130.
(2) فتح الباري 6|542 ـ 543، و ج 6|546، و ج 7|173.
(3) فيض القدير 1|105.
(4) روح المعاني 28|165.
(5) روح المعاني 2|140.
قلـت:
وقد حكى جماعة كالبيضاوي وأبي حيّان والكرماني والنووي الاِجماعَ على عدم نبوّة النساء(1).
هـذا، مع أنّ معنى الاِيحاء في مثل قوله تعالى: (وأوحينا إلى أُمّ موسى أن أرضعيه) الآية.. الاِلهام والقذف في القلب كما هو كذلك في تكليمه عزّ سلطانه بعضَ خلقه ـ غير الاَنبياء والرسل ـ كقوله تعالى: (وأوحى ربّك إلى النحل) وقوله سبحانه: (بأنّ ربّك أوحى لها) فليس كلّ إيحاء وحي نبوّة، والله تعالى أعلم.
* الثـاني:
احتجاجه على أفضليّة نساء النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم بقوله عزّ من قائل: (يا نساء النبيّ لسـتنّ كأحدٍ من النساء إنِ اتّقيتنّ).
وقد سبقه السبكي إلى ذلك(2)، وزعم الرافعي أنّ أزواج النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم أفضل نساء هذه الاَُمّة(3).
وهو مدخول بأنّ غاية ما تدلّ عليه الآية تفضيل نسائه صلى الله عليه وآله وسلم على نساء غيره، لا تفضيل كلّ واحدة منهنّ على كلّ واحدة من آحاد النساء
____________
(1) فيض القدير 4|125، روح المعاني 20|45، فتح الباري 6|516، شرح صحيح مسلم 9|304، مرقاة المفاتيح 5|347، السيرة النبوية ـ لابن دحلان ـ 1|222.
(2) فتح الباري 7|173.
(3) فتح الباري 7|136.
ـ كما اختـاره الزمخشـري وغيره(1) ـ، ومع ذلك فلا دليل على دخول الزهراء عليها السلام في المفضَّل عليهنَّ.
مضافاً إلى أنّ ما ذهب إليه السبكي هنا مخالف لِما اشتهر عنه من تفضيل سيّدة نساء العالمين على أُمّهات المؤمنين ـ كما سيأتي إن شاء الله تعالى ـ.
اللّهمّ إلاّ أن يريد تفضيلهنّ بعد اسـتثناء الصدّيقة الطاهرة عليها الصلاة والسلام، كاستثنائه مَن قيل إنّها نبيّة كمريم عليها السلام .
ثمّ لا يخفى عليك أنّه يلزم على هذا القول أن تكون كلّ واحدة من نساء النبي صلى الله عليه وآله وسلم أفضل من فاطمة عليها الصلاة والسلام، مع أنّه ليس كذلك ـ كما عرفت ويأتي ـ.
وأُجيب عنه: بأنّه لا مانع من التزامه، إلاّ أنّه يلتزم كون الاَفضلية من حيث أُمومة المؤمنين والزوجيّة لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ، لا من سائر الحيثيّات الاَُخر، بل هي من بعض الحيثيّات، كحيثية البضعيّة أفضل من كلّ من الخلفاء الاَربعة(2)، وهو كما ترى.
إذ ليس لاَُمومة المؤمنين وزوجيّة النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم والاتّصال به ـ من حيث هي ـ كرامة عند الله تعالى، وإنّما الفضل لهنّ في الاتّقاء كما دلّ عليه قوله تعالى: (إن اتّقيتنّ) وهو شرط لنفي المثلية وفضلهنّ على النساء، وجوابه محذوف دلّ عليه المذكور، والاتّقاء بمعناه المعروف في لسان الشرع، والمفعول محذوف أي: إن اتّقيتنّ مخالفة حكم الله تعالى ورضا
____________
(1) الكشّاف 3|235، روح المعاني 22|5.
(2) روح المعاني 22|4.
رسوله صلى الله عليه وآله وسلم ، والمراد إن دمتنّ على اتّقاء ذلك، ومثله شائع، أو هو على ظاهره ـ كما قال الشهاب الآلوسي ـ(1).
ونظير ذلك صحبة النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم ، فإنّها من حيث هي ليست كرامة تستوجب التفضيل، وإنّما تكون كذلك إذا اقترنت بالاِيمان والتقوى كما قال عزّ من قائل: (محمّـدٌ رسول الله والّذين معه أشدّاء على الكفّار رحماء بينهم تراهم ركّعاً سجّداً ـ إلى قوله تعالى: ـ وعد الله الّذين آمنوا منهم وعملوا الصالحات أجراً عظيماً)، على أنّ ظاهر قوله عزّ وجلّ: (عسى ربّه إنْ طلّقكنّ أن يبدله أزواجاً خيراً منكنّ) الآية.. على حاله، فتندفع تلك الدعوى(2)
ثمّ لو سلّمنا بأفضليّة أُمّهات المؤمنين على سائر النساء، فإنّا نقطع بأنّ عائشة لم تكن أفضلهنّ، بل أُمّ المؤمنين خديجة بنت خويلد رضي الله تعالى عنها فضـلاهنّ.
أمّا الاَوّل: فلاَنّ الله تبارك وتعالى قد أمر نساء نبيّه صلى الله عليه وآله وسلم بأوامر فقال عزّ وجلّ: (وقلن قولاً معروفاً * وقرن في بيوتكنّ ولا تبرّجن تبرّج الجاهلية الاَُولى وأقمن الصلاة وآتين الزكاة وأطعن الله ورسوله) الآيـة.
فهل كان من قول المعروف قولها لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ـ فيما جرى بينهما من كلام ـ: تكلّم أنت ولا تقل إلاّ حقّـاً(3)؟!
____________
(1) روح المعاني 22|5.
(2) روح المعاني 28|155.
(3) أخرجه الطبراني في الاَوسط والخطيب في التاريخ من حديث عائشة، وذكره الغزالي في آداب المعاشرة من كتاب النكاح من إحياء علوم الدين 2|43.
وقالت له صلى الله عليه وآله وسلم مرّةً في كلام غضبت عنده: أنت الذي تزعم أنّك رسول الله؟!(1)!!
وأخرج أحمد وأبو داود(2) عن النعمان بن بشير، قال: جاء أبو بكر يستأذن على النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم فسمع عائشة وهي رافعة صوتها على رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ، فأذن له فدخل فقال: يا ابنة أُمّ رومان ـ وتناولها ـ: أترفعين صوتك على رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ؟! قال: فحال النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم بينه وبينها.. الحديث.
وقد بلغ بها الحال أن أغاظت الحليم غيظاً، حتّى قال صلى الله عليه وآله وسلم لاَبي بكر: يا أبا بكر، ألا تعذرني من عائشة؟!(3).
أم هل كان من قول المعروف قولها ـ لمّا استفزّت حميّة الناس، وألّبتهم على قتل عثمان ـ: اقتلوا نعثلاً، قتل الله نعثلاً(4)؟!
____________
(1) أخرجه أبو يعلى في مسنده وأبو الشيخ في كتاب الاَمثال من حديثها معنعناً، وذكره الغزالي أيضاً في الموضع المذكور آنفاً.
(2) مسند أحمد 4|272، سنن أبي داود 4|300 ح 4999، باب ما جاء في المزاح من كتاب النكاح.
(3) طبقات الصحابة 8|56 ـ طبعة ليدن سنة 1322 هـ.
(4) بل هي أوّل من سمّته بذلك؛ راجع شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد 6|215، و 20|17 و22، وتاريخ الطبري 3|477، والنهاية ـ لابن الاَثير ـ 5|80، وتاج العروس 8|141، والكامل في التاريخ 3|206، طبعة دار صادر، بيروت، سنة 1402 هـ.
وقال الجوهري في الصحاح 5|1832 ـ مادّة «نعثل»: النعثل: الذَكَر من الضباع، ونعثل اسم رجل كان طويل اللحية، وكان عثمان إذا نيل منه وعيب شُبّه بذلك الرجل. انتهى.
وقال ابن الاَثير في النهاية 5|79 ـ 80: في مقتل عثمان: «لا يمنعنّك مكان ابن سلاّم أن تسـبّ نعثلاً» كان أعداء عثمان يسمّونه نعثلاً تشـبيهاً برجل من مصر
وما عساك أن تقول في قولها ـ لمّا انتهى إليها قتل عليٍ عليه السلام ـ:
فألقت عصاها واستقرّ بها النوى *** كما قرّ عيناً بالاِياب المسافرُ
وسألت عن قاتله فقيل: رجل من مراد، فقالت:
فـإن يَـكُ نـائـيـاً فـلـقـد نـعـاه *** غـلامٌ لـيـس في فـيـه الـتـرابُ
فقالت زينب بنت أبي سلمة: ألِعَليٍ تقولين هذا؟! فقالت: إنّي أنسى، فإذا نسيت فذكّروني!!(1).
وهل كان من امتثال أمر الله تعالى بقرارها في بيتها خروجها ـ دون صواحبها من أُمّهات المؤمنين ـ بذلك العسكر الجرّار؟!
أم كيف رأت بيت ابن ضبّة بيتها الذي أمر الله أن تقرّ فيه؟!
بل ما أشدّ انتهائها بنهي الله إيّاها عن التبرّج، إذ حسـبت قيادتها لتلك الجيوش سُرداقاً ضربه طلحة والزبير عليها يصونها عن تبرّج الجاهلية الاَُولى ويفرّغها للصلاة والزكاة وطاعة الله ورسوله!!
أم كان من طاعة الله ورسوله بغيها وخروجها على إمام زمانها وسفكها دماء المسلمين، في وقعة الجمل؟! وركوبها البغل وتأجيجها نار الفتنة يوم
____________
= كان طويل اللحية اسمه نعثل، وقيل: النعثل: الشيخ الاَحمق، وذَكَرُ الضباع؛ قال: ومنه حديث عائشة: «اقتلوا نعثلاً، قتل الله نعثلاً» تعني عثمان. انتهى.
وقال الفيروزآبادي في القاموس 4|59: النعثل ـ كجعفر ـ: الذَكَر من الضباع، والشيخ الاَحمق، ويهودي كان بالمدينة، ورجل لحياني ـ أي طويل اللحية ـ كان يُشـبّه به عثمان إذا نيل منه. انتهى.
وانظر: تاريخ الطبري 3|400، والاِمامة والسياسة ـ لابن قتيبة ـ: 43، في مخاطبتهم عثمان نعثلاً، فمن شطط الآلوسي ما ذكره في ج 22|11 من روح المعاني في هذا المقام، فراجع واحكم بالحقّ ولا تشطط.
(1) تاريخ الطبري 4|115، طبقات الصحابة 3 القسم الاَوّل ص 27، مقاتل الطالبيّين: 26.
تعليق