بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله ب العالمين والصلاة والسلام على سيد الأنبياء والمرسلين أبي القاسم محمد وعلى آله الطيبين الطاهرين .
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته
الصدق مع الله سبحانه وتعالى أم إتباع الهوى
إن فينا من يطلب الله سبحانه وتعالى صادقا نيته وقلبه , مؤمنا وموقنا به تعالى .
ومن أراد الله سبحانه وتعالى وهو صادق معه فأن الله سبحانه وتعالى سيستجيب له فالله سبحانه وتعالى لا يرد من يطلبه .
ولكننا نرى كما هو الواقع أن هناك الكثير من الخلق ممن يدعي هذه الدعوى ودائما ما يردد أنه يطلب الباري عز وجل , ولكن هل يدرك هذا الطلب في وجدانه وهل يعلم أنه صادق مع الله سبحانه وتعالى .
فمثلا يطلب الإنسان ربه ويرجوه وهو في نفس الوقت يطلب الدنيا , فكيف يجتمع حب الله سبحانه وتعالى مع حبه للدنيا ؟!
كيف وقد ذم الله سبحانه وتعالى طالبها ومن فضلها على الآخرة قال تعالى :
" أُولَئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الْحَيَاةَ الدُّنْيَا بِالْآَخِرَةِ فَلَا يُخَفَّفُ عَنْهُمُ الْعَذَابُ وَلَا هُمْ يُنْصَرُونَ "
وقال عز وجل :
"زُيِّنَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَيَسْخَرُونَ مِنَ الَّذِينَ آَمَنُوا وَالَّذِينَ اتَّقَوْا فَوْقَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَاللَّهُ يَرْزُقُ مَنْ يَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ "
وقال تعالى :
"زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَوَاتِ مِنَ النِّسَاءِ وَالْبَنِينَ وَالْقَنَاطِيرِ الْمُقَنْطَرَةِ مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَالْخَيْلِ الْمُسَوَّمَةِ وَالْأَنْعَامِ وَالْحَرْثِ ذَلِكَ مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَاللَّهُ عِنْدَهُ حُسْنُ الْمَآَبِ "
وقال تعالى :
"وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا مَتَاعُ الْغُرُورِ "
وقال سبحانه :
"وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَلَلدَّارُ الْآَخِرَةُ خَيْرٌ لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ أَفَلَا تَعْقِلُونَ "
والكثير من الآيات التي تذم الدنيا ومن طلبها وترك الآخرة ويكفي أنها سميت دنيا كونها من أدنى العوالم التي خلقها الله سبحانه وتعالى .
والله سبحانه وتعالى نبه على ذلك وحذر خلقه من إتباع الدنيا والسقوط في هاويتها قال سبحانه :
" يَا مَعْشَرَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ يَقُصُّونَ عَلَيْكُمْ آَيَاتِي وَيُنْذِرُونَكُمْ لِقَاءَ يَوْمِكُمْ هَذَا قَالُوا شَهِدْنَا عَلَى أَنْفُسِنَا وَغَرَّتْهُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَشَهِدُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ أَنَّهُمْ كَانُوا كَافِرِينَ "
ومع هذا فلا يعني ترك الدنيا العزوف عن ما فيها من خيرات سخرها الله سبحانه وتعالى لعباده وأحلها لهم بفضله وكرمه .
بل المطلوب هو ان لا تكون الدنيا غاية مطلبنا وهدفنا حتى تشغلنا عن طلب الله سبحانه والتقرب إليه .
ومن هنا بدأت المشكلة فالكثير ممن يظن انه لا يطلب الدنيا وهي تشغله في حياته وفكره وأعماله وتصرفاته حتى أنه يوجد المبررات العديدة في محاولة منه لأقناع نفسه أنه ليس من اهل الدنيا .
ولكن الحقيقة هي أننا يجب أن نفرق بين التعلق بالدنيا وبين عدم طلبها فالزهد عنها وطلب الآخرة ليس بتركها وترك ما أحل الله لنا فيها من خيرات كثيرة ولكن المسألة كما قال أمير المؤمنين عليه السلام :
"ليس الزهد أن لا تملك الشيء ولكن الزهد أن لا يملكك الشيء "
فللعبد أن يملك الدنيا ولكن أن لا يتعلق بها ويكون عبدا لها بل يكون فيها من الزاهدين فليست هي أمله ولا غاية مراده ومنتهى طلبه .
وحتى يدرك المرء أنه هل يطلب الدنيا في واقعه أم انه يريد الله سبحانه وتعالى فعليه أولا ان يهذب نفسه ويربيها ولما تبلغ مراتب الرقي له بعد ذلك ان يدرك أنه من اهل الدنيا ام ممن يريد الله سبحانه وتعالى وإلا فأن النفس كثيرا ما توهم الإنسان وتطمئنه بالفاسد وتقنعه بقناعات كثيرة هي في الواقع أوهام تسيطر عليه , ولهذا فهو يحتاج أولا ان يريقي نفسه ويرفع من مستواها , لا أقل ان تكون لوامة فضلا عن كونها مطمئنة .
وترقي النفس لا يكفي بالقول والتمني بل يجب العمل على تهذيبها وصقلها بالفضائل وتجنيبها الرذائل ومثل هذا لا يكفي فيه الكلام إنما يحتاج الإنسان فيه الى العمل حتى يكون منصفا مع نفسه كما قال أمير المؤمنين عليه السلام في أحدى خطبه :
"أول عدله نفي الهوى عن نفسه يصف الحق ويعمل به ولا يدع للخير غاية إلا أمها – أي قصدها – ولا مظنة الا قصدها – أي أتاها – قد أمكن الكتاب – وهو القرآن - من زمامه فهو قائده وإمامه يحل حيث حل ثقله وينزل حيث كان منزله - أي أطاع أوامره وجعله إمامه فهو إمامه وقائده أينما حل ونزل " .
وكان يقول عليه السلام : إني لأخير نفسي بين أمرين إن اختارت أمرا اخترت الثاني , لعلمه عليه السلام أنها لا تختار إلا ما يقود الى التهلكة بل لو تبعها الأنسان دائما لجعلها إلها يعبده قال تعالى :
" أفرأيت من أتخذ إلهه هواه وأضله الله على علم"
وقال عز وجل :
" ومن أضل ممن أتبع هواه بغير هدى من الله إن الله لا يهدي القوم الظالمين"
فقد ظلموا أنفسهم بإتباعها وعدم تهذيبها للصلاح قال تعالى :
" وما ظلمناهم ولكن أنفسهم كانوا يظلمون " .
وكما جاء في الحديث الشريف إن الجهاد الأكبر هو جهاد النفس .
إن هذا إن دل فإنما يدل على مدى خطر هذه النفس على الإنسان حتى يذكر النبي صلى الله عليه وآله وسلم أن جهادها هو الجهاد الأكبر .
فليس هو بالهين محاربة النفس والهوى فيجب أولا معرفتها ومعرفة صلاحها حتى يتمكن من تهذيبها .
وقد ذكروا أن حكيما نصح ولده فقال له :
أعلم يا بني أن أصعب ما على الإنسان ستة أشياء ( أن يعرف نفسه ويعلم عيبه ويكتم سره و يهجر هواه ويخالف شهوته ويمسك عن القول فيما لا يعنيه )
وإنما يكمن خطرها في ساعات الغفلة , فمن هذا نعلم أن الكلام لا يكفي في ترقيها حتى تكون نفس مطمئنة فيجب أولا الحذر منها والاستعانة بالله عز وجل ومن ثم العمل بما جاءنا به النبي الكريم صلوات الله عليه وآله وما بينه لنا أهل بيته الأطهار عليهم السلام.
فكما جاء عن الصادق عليه السلام في مصباح الشريعة قوله :
" طوبى لعبد جاهد الله نفسه وهواه ومن هزم حينئذ هواه ظفر برضى الله ومن جاوز عقله نفسه الامارة بالسوء بالجهد والاستكانة والخضوع على بساط خدمة الله تعالى فقد فاز فوزا عظيما ولا حجاب أظلم وأوحش بين العبد وبين الله تعالى من النفس والهوى وليس لقتلهما وقطعهما سلاح وآلة مثل الافتقار إلى الله سبحانه والخشوع والجوع والظماء بالنهار والسهر بالليل فإن مات صاحبه مات شهيدا وان عاش واستقام أداه عاقبته إلى الرضوان الأكبر قال الله عز من قائل :
( والذين جاهدوا فينا لنهدينهم سبلنا وان الله لمع المحسنين ) وإذا رأيت مجتهدا أبلغ منك في الاجتهاد فوبخ نفسك ولمها وعيرها تحثيثا على الازدياد عليه واجعل لها زماما من الامر وعنانا من النهى وسقها كالرايض الفادة التي لا يذهب عليه خطوة من خطواتها إلا وقد صحح أولها وآخرها .
وكان رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) يصلى حتى يتورم قدماه وقال ا فلا أكون عبدا شكورا أراد ( صلى الله عليه وآله وسلم ) ان يعتبر به أمته فلا يغفلوا عن الاجتهاد والتعب والرياضة بحال إلا انك لو وجدت حلاوة عبادة الله ورأيت بركاتها واستضأت بنورها لم تصبر عنها ساعة واحدة ولو قطعت إربا إربا فما اعرض من اعرض عنها بحرمان فوائد السلف من العصمة والتوفيق ".
وترقي النفس تمر بمراحل يجب على المؤمن عبورها جميعها حتى يصح عنه الكمال ويكون صاحب نفس مطمئنة قد ترقى فيها بما يقربه من الله تعالى فكما جاء عن الرضا عليه السلام في الاحتجاج قوله :
عن الرضا عليه السلام أنه قال :
قال علي بن الحسين : إذا رأيتم الرجل قد حسن سمته وهديه ، وتماوت في منطقه ، وتخاضع في حركاته فرويدا لا يغرنكم ، فما أكثر من يعجزه تناول الدنيا وركوب الحرام منها لضعف نيته ومهانته ، وجبن قلبه ، فنصب الدين فخا لها ، فهو لا يزال يختل الناس بظاهره فإن تمكن من حرام اقتحمه ، وإذا وجدتموه يعف عن المال الحرام ، فرويدا لا يغرنكم !
فإن شهوات الخلق مختلفة ، فما أكثر من ينبوا عن المال الحرام وإن كثر ، ويحمل نفسه على شوها قبيحة ، فيأتي منها محرما .
فإذا وجدتموه يعف عن ذلك فرويدا لا يغرنكم ، حتى تنظروا ما عقدة عقله ، فما أكثر من ترك ذلك أجمع ثم لا يرجع إلى عقل متين ، فيكون ما يفسد بجهله أكثر مما يصلحه بعقله فإذا وجدتم عقله متينا فرويدا لا يغركم ! تنظروا أمع هواه يكون على عقله أم يكون مع عقله على هواه وكيف محبته للرياسات الباطلة وزهده فيها فإن في الناس من خسر الدنيا والآخرة يترك الدنيا للدنيا ويرى أن لذة الرياسة الباطلة أفضل من لذة الأموال والنعم المباحة المحللة فيترك ذلك أجمع طلبا للرياسة حتى إذا قيل له اتق الله أخذته العزة بالإثم فحسبه جهنم ولبئس المهاد .
فهو يخبط خبط عشواء ، يقوده أول باطل إلى أبعد غايات الخسارة ، ويمده ربه بعد طلبه لما لا يقدر عليه في طغيانه ، فهو يحل ما حرم الله ، ويحرم ما أحل الله ، لا يبالي ما فات من دينه إذا سلمت له رياسة التي قد شقي من أجلها ، فأولئك الذين غضب الله عليهم ولعنهم وأعد لهم عذابا مهينا ، ولكن الرجل كل الرجل , نعم الرجل هو :
الذي جعل هواه تبعا لأمر الله ، وقواه مبذولة في رضى الله ، يرى الذل مع الحق أقرب إلى عز الأبد من العز في الباطل ، ويعلم أن قليل ما يحتمله من ضرائها يؤديه إلى دوام النعيم في دار لا تبيد ولا تنفذ ، وأن كثيرا ما يلحقه من سرائها إن اتبع هواه يؤديه إلى عذاب لا انقطاع له ولا يزول فذلكم الرجل نعم الرجل فيه فتمسكوا وبسنته فاقتدوا وإلى ربكم فتوسلوا فإنه لا ترد له دعوة ولا يخيب له طلبة .
اللهم انا نستعينك، ونستهديك، ونؤمن بك، ونتوكل عليك، ونثني عليك بالخير، ولا نكفرك، ونخلع ونترك من ينكرك، اللهم اياك نعبد، ولك نصلي ونسجد، واليك نسعى ونحفد، ونرجو رحمتك ونخشى عذابك، ان عذابك بالكافرين يخلق، اللهم اهدنا فيمن هديت، وعافنا فيمن عافيت، وتولنا فيمن توليت، وبارك لنا فيما اعطيت، وقنا شر ما قضيت، انك تقضي ولا يقضى عليك، انه لايذل من واليت، ولا يعز من عاديت، تباركت ربنا وتعاليت، نستغفرك ونتوب اليك، ربنا لا تؤاخذنا ان نسينا أو اخطأنا ربنا ولا تحمل علينا اصرا كما حملته على الذين من قبلنا، ربنا ولا تحملنا ما لا طاقة لنا به، واعف عنا واغفر لنا، وارحمنا انت مولانا فانصرنا على القوم الكافرين .
الحمد لله ب العالمين والصلاة والسلام على سيد الأنبياء والمرسلين أبي القاسم محمد وعلى آله الطيبين الطاهرين .
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته
الصدق مع الله سبحانه وتعالى أم إتباع الهوى
إن فينا من يطلب الله سبحانه وتعالى صادقا نيته وقلبه , مؤمنا وموقنا به تعالى .
ومن أراد الله سبحانه وتعالى وهو صادق معه فأن الله سبحانه وتعالى سيستجيب له فالله سبحانه وتعالى لا يرد من يطلبه .
ولكننا نرى كما هو الواقع أن هناك الكثير من الخلق ممن يدعي هذه الدعوى ودائما ما يردد أنه يطلب الباري عز وجل , ولكن هل يدرك هذا الطلب في وجدانه وهل يعلم أنه صادق مع الله سبحانه وتعالى .
فمثلا يطلب الإنسان ربه ويرجوه وهو في نفس الوقت يطلب الدنيا , فكيف يجتمع حب الله سبحانه وتعالى مع حبه للدنيا ؟!
كيف وقد ذم الله سبحانه وتعالى طالبها ومن فضلها على الآخرة قال تعالى :
" أُولَئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الْحَيَاةَ الدُّنْيَا بِالْآَخِرَةِ فَلَا يُخَفَّفُ عَنْهُمُ الْعَذَابُ وَلَا هُمْ يُنْصَرُونَ "
وقال عز وجل :
"زُيِّنَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَيَسْخَرُونَ مِنَ الَّذِينَ آَمَنُوا وَالَّذِينَ اتَّقَوْا فَوْقَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَاللَّهُ يَرْزُقُ مَنْ يَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ "
وقال تعالى :
"زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَوَاتِ مِنَ النِّسَاءِ وَالْبَنِينَ وَالْقَنَاطِيرِ الْمُقَنْطَرَةِ مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَالْخَيْلِ الْمُسَوَّمَةِ وَالْأَنْعَامِ وَالْحَرْثِ ذَلِكَ مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَاللَّهُ عِنْدَهُ حُسْنُ الْمَآَبِ "
وقال تعالى :
"وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا مَتَاعُ الْغُرُورِ "
وقال سبحانه :
"وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَلَلدَّارُ الْآَخِرَةُ خَيْرٌ لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ أَفَلَا تَعْقِلُونَ "
والكثير من الآيات التي تذم الدنيا ومن طلبها وترك الآخرة ويكفي أنها سميت دنيا كونها من أدنى العوالم التي خلقها الله سبحانه وتعالى .
والله سبحانه وتعالى نبه على ذلك وحذر خلقه من إتباع الدنيا والسقوط في هاويتها قال سبحانه :
" يَا مَعْشَرَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ يَقُصُّونَ عَلَيْكُمْ آَيَاتِي وَيُنْذِرُونَكُمْ لِقَاءَ يَوْمِكُمْ هَذَا قَالُوا شَهِدْنَا عَلَى أَنْفُسِنَا وَغَرَّتْهُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَشَهِدُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ أَنَّهُمْ كَانُوا كَافِرِينَ "
ومع هذا فلا يعني ترك الدنيا العزوف عن ما فيها من خيرات سخرها الله سبحانه وتعالى لعباده وأحلها لهم بفضله وكرمه .
بل المطلوب هو ان لا تكون الدنيا غاية مطلبنا وهدفنا حتى تشغلنا عن طلب الله سبحانه والتقرب إليه .
ومن هنا بدأت المشكلة فالكثير ممن يظن انه لا يطلب الدنيا وهي تشغله في حياته وفكره وأعماله وتصرفاته حتى أنه يوجد المبررات العديدة في محاولة منه لأقناع نفسه أنه ليس من اهل الدنيا .
ولكن الحقيقة هي أننا يجب أن نفرق بين التعلق بالدنيا وبين عدم طلبها فالزهد عنها وطلب الآخرة ليس بتركها وترك ما أحل الله لنا فيها من خيرات كثيرة ولكن المسألة كما قال أمير المؤمنين عليه السلام :
"ليس الزهد أن لا تملك الشيء ولكن الزهد أن لا يملكك الشيء "
فللعبد أن يملك الدنيا ولكن أن لا يتعلق بها ويكون عبدا لها بل يكون فيها من الزاهدين فليست هي أمله ولا غاية مراده ومنتهى طلبه .
وحتى يدرك المرء أنه هل يطلب الدنيا في واقعه أم انه يريد الله سبحانه وتعالى فعليه أولا ان يهذب نفسه ويربيها ولما تبلغ مراتب الرقي له بعد ذلك ان يدرك أنه من اهل الدنيا ام ممن يريد الله سبحانه وتعالى وإلا فأن النفس كثيرا ما توهم الإنسان وتطمئنه بالفاسد وتقنعه بقناعات كثيرة هي في الواقع أوهام تسيطر عليه , ولهذا فهو يحتاج أولا ان يريقي نفسه ويرفع من مستواها , لا أقل ان تكون لوامة فضلا عن كونها مطمئنة .
وترقي النفس لا يكفي بالقول والتمني بل يجب العمل على تهذيبها وصقلها بالفضائل وتجنيبها الرذائل ومثل هذا لا يكفي فيه الكلام إنما يحتاج الإنسان فيه الى العمل حتى يكون منصفا مع نفسه كما قال أمير المؤمنين عليه السلام في أحدى خطبه :
"أول عدله نفي الهوى عن نفسه يصف الحق ويعمل به ولا يدع للخير غاية إلا أمها – أي قصدها – ولا مظنة الا قصدها – أي أتاها – قد أمكن الكتاب – وهو القرآن - من زمامه فهو قائده وإمامه يحل حيث حل ثقله وينزل حيث كان منزله - أي أطاع أوامره وجعله إمامه فهو إمامه وقائده أينما حل ونزل " .
وكان يقول عليه السلام : إني لأخير نفسي بين أمرين إن اختارت أمرا اخترت الثاني , لعلمه عليه السلام أنها لا تختار إلا ما يقود الى التهلكة بل لو تبعها الأنسان دائما لجعلها إلها يعبده قال تعالى :
" أفرأيت من أتخذ إلهه هواه وأضله الله على علم"
وقال عز وجل :
" ومن أضل ممن أتبع هواه بغير هدى من الله إن الله لا يهدي القوم الظالمين"
فقد ظلموا أنفسهم بإتباعها وعدم تهذيبها للصلاح قال تعالى :
" وما ظلمناهم ولكن أنفسهم كانوا يظلمون " .
وكما جاء في الحديث الشريف إن الجهاد الأكبر هو جهاد النفس .
إن هذا إن دل فإنما يدل على مدى خطر هذه النفس على الإنسان حتى يذكر النبي صلى الله عليه وآله وسلم أن جهادها هو الجهاد الأكبر .
فليس هو بالهين محاربة النفس والهوى فيجب أولا معرفتها ومعرفة صلاحها حتى يتمكن من تهذيبها .
وقد ذكروا أن حكيما نصح ولده فقال له :
أعلم يا بني أن أصعب ما على الإنسان ستة أشياء ( أن يعرف نفسه ويعلم عيبه ويكتم سره و يهجر هواه ويخالف شهوته ويمسك عن القول فيما لا يعنيه )
وإنما يكمن خطرها في ساعات الغفلة , فمن هذا نعلم أن الكلام لا يكفي في ترقيها حتى تكون نفس مطمئنة فيجب أولا الحذر منها والاستعانة بالله عز وجل ومن ثم العمل بما جاءنا به النبي الكريم صلوات الله عليه وآله وما بينه لنا أهل بيته الأطهار عليهم السلام.
فكما جاء عن الصادق عليه السلام في مصباح الشريعة قوله :
" طوبى لعبد جاهد الله نفسه وهواه ومن هزم حينئذ هواه ظفر برضى الله ومن جاوز عقله نفسه الامارة بالسوء بالجهد والاستكانة والخضوع على بساط خدمة الله تعالى فقد فاز فوزا عظيما ولا حجاب أظلم وأوحش بين العبد وبين الله تعالى من النفس والهوى وليس لقتلهما وقطعهما سلاح وآلة مثل الافتقار إلى الله سبحانه والخشوع والجوع والظماء بالنهار والسهر بالليل فإن مات صاحبه مات شهيدا وان عاش واستقام أداه عاقبته إلى الرضوان الأكبر قال الله عز من قائل :
( والذين جاهدوا فينا لنهدينهم سبلنا وان الله لمع المحسنين ) وإذا رأيت مجتهدا أبلغ منك في الاجتهاد فوبخ نفسك ولمها وعيرها تحثيثا على الازدياد عليه واجعل لها زماما من الامر وعنانا من النهى وسقها كالرايض الفادة التي لا يذهب عليه خطوة من خطواتها إلا وقد صحح أولها وآخرها .
وكان رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) يصلى حتى يتورم قدماه وقال ا فلا أكون عبدا شكورا أراد ( صلى الله عليه وآله وسلم ) ان يعتبر به أمته فلا يغفلوا عن الاجتهاد والتعب والرياضة بحال إلا انك لو وجدت حلاوة عبادة الله ورأيت بركاتها واستضأت بنورها لم تصبر عنها ساعة واحدة ولو قطعت إربا إربا فما اعرض من اعرض عنها بحرمان فوائد السلف من العصمة والتوفيق ".
وترقي النفس تمر بمراحل يجب على المؤمن عبورها جميعها حتى يصح عنه الكمال ويكون صاحب نفس مطمئنة قد ترقى فيها بما يقربه من الله تعالى فكما جاء عن الرضا عليه السلام في الاحتجاج قوله :
عن الرضا عليه السلام أنه قال :
قال علي بن الحسين : إذا رأيتم الرجل قد حسن سمته وهديه ، وتماوت في منطقه ، وتخاضع في حركاته فرويدا لا يغرنكم ، فما أكثر من يعجزه تناول الدنيا وركوب الحرام منها لضعف نيته ومهانته ، وجبن قلبه ، فنصب الدين فخا لها ، فهو لا يزال يختل الناس بظاهره فإن تمكن من حرام اقتحمه ، وإذا وجدتموه يعف عن المال الحرام ، فرويدا لا يغرنكم !
فإن شهوات الخلق مختلفة ، فما أكثر من ينبوا عن المال الحرام وإن كثر ، ويحمل نفسه على شوها قبيحة ، فيأتي منها محرما .
فإذا وجدتموه يعف عن ذلك فرويدا لا يغرنكم ، حتى تنظروا ما عقدة عقله ، فما أكثر من ترك ذلك أجمع ثم لا يرجع إلى عقل متين ، فيكون ما يفسد بجهله أكثر مما يصلحه بعقله فإذا وجدتم عقله متينا فرويدا لا يغركم ! تنظروا أمع هواه يكون على عقله أم يكون مع عقله على هواه وكيف محبته للرياسات الباطلة وزهده فيها فإن في الناس من خسر الدنيا والآخرة يترك الدنيا للدنيا ويرى أن لذة الرياسة الباطلة أفضل من لذة الأموال والنعم المباحة المحللة فيترك ذلك أجمع طلبا للرياسة حتى إذا قيل له اتق الله أخذته العزة بالإثم فحسبه جهنم ولبئس المهاد .
فهو يخبط خبط عشواء ، يقوده أول باطل إلى أبعد غايات الخسارة ، ويمده ربه بعد طلبه لما لا يقدر عليه في طغيانه ، فهو يحل ما حرم الله ، ويحرم ما أحل الله ، لا يبالي ما فات من دينه إذا سلمت له رياسة التي قد شقي من أجلها ، فأولئك الذين غضب الله عليهم ولعنهم وأعد لهم عذابا مهينا ، ولكن الرجل كل الرجل , نعم الرجل هو :
الذي جعل هواه تبعا لأمر الله ، وقواه مبذولة في رضى الله ، يرى الذل مع الحق أقرب إلى عز الأبد من العز في الباطل ، ويعلم أن قليل ما يحتمله من ضرائها يؤديه إلى دوام النعيم في دار لا تبيد ولا تنفذ ، وأن كثيرا ما يلحقه من سرائها إن اتبع هواه يؤديه إلى عذاب لا انقطاع له ولا يزول فذلكم الرجل نعم الرجل فيه فتمسكوا وبسنته فاقتدوا وإلى ربكم فتوسلوا فإنه لا ترد له دعوة ولا يخيب له طلبة .
اللهم انا نستعينك، ونستهديك، ونؤمن بك، ونتوكل عليك، ونثني عليك بالخير، ولا نكفرك، ونخلع ونترك من ينكرك، اللهم اياك نعبد، ولك نصلي ونسجد، واليك نسعى ونحفد، ونرجو رحمتك ونخشى عذابك، ان عذابك بالكافرين يخلق، اللهم اهدنا فيمن هديت، وعافنا فيمن عافيت، وتولنا فيمن توليت، وبارك لنا فيما اعطيت، وقنا شر ما قضيت، انك تقضي ولا يقضى عليك، انه لايذل من واليت، ولا يعز من عاديت، تباركت ربنا وتعاليت، نستغفرك ونتوب اليك، ربنا لا تؤاخذنا ان نسينا أو اخطأنا ربنا ولا تحمل علينا اصرا كما حملته على الذين من قبلنا، ربنا ولا تحملنا ما لا طاقة لنا به، واعف عنا واغفر لنا، وارحمنا انت مولانا فانصرنا على القوم الكافرين .