المساعد الشخصي الرقمي

مشاهدة النسخة كاملة : مَعَ الثورة الحُسيْنيّة


تراب البقيع
28-11-2008, 09:23 PM
مَعَ الثورة الحُسيْنيّة



ورافق أبو الفضل العباس ( عليه السلام ) الثورةالاِسلامية الكبرى التي فجّرها أخوه أبو الاَحرار وسيّد الشهداء الاِمام الحسين ( عليه السلام ) ، تلك الثورة العملاقة التي كانت من أهمّ الثورات العالمية ، ومنأكثرها عطاءً لشعوب الاَرض ، فقد غيّرت مجرى التاريخ وهزّت العالم بأسره ، وحرّرتالانسان المسلم ، ودفعت القطعات الشعبية من المسلمين إلى التمرّد على الظلم ،ومناهضة الجور والطغيان.
وقد ساهم قمر بني هاشم وفخر عدنان في هذه الثورةالمباركة مساهمة إيجابية وفعّالة ، وشارك أخاه الحسين في جميع فصولها ، وقد وعىجميع أهدافها وما تنشده من خير ورحمة للشعوب المحرومة والمضطهدة ، فآمن بها إيماناًمطلقاً.
لقد كان العبّاس أهمّ عضو بارز في هذه الثورة المشرقة ، وقد لازم أخاهم متثلاً لاَمره ، منفّذاً لرغباته ، شادّاً لعضده ، مؤمناً بقوله ، مصدقاً لمبادئه، لم يفارقه في مسيرته الخالدة من يثرب إلى مكّة ، ثم إلى أرض الكرامة والشهادة ،ففي كل موقف من ثورة الاِمام الحسين ( عليه السلام ) ، كان العبّاس معه ، وشريكاًله ، .. ونتحدّث ـ عن بعض الفصول التأريخية لهذه الثورة العظمى التي كان العباسالعلم البارز فيها.
رفض الامام الحسين لبيعة يزيد:
وأعلنالاِمام الحسين ( عليه السلام ) رسمياً رفضه الكامل لبيعة يزيد ، وذلك حينمااستدعاه حاكم المدينة الوليد بن عقبة في غلس الليل ، وقد فهم الاِمام ما أراد منه ،فاستدعى عضده وأخاه أبا الفضل العبّاس وسائر الفتية من أهل بيته ليقوموا بحمايته ،وأمرهم بالجلوس في خارج الدار فاذا سمعوا صوته قد علا فعليهم أن يقتحموا الدارلانقاذه ، ودخل الامام على الوليد فاستقبله بحفاوة وتكريم ، ثم نعى إليه هلاكمعاوية ، وما أمره به يزيد من أخذ البيعة من أهل المدينة عامة ومن الحسين خاصة ،فاستمهله الاِمام حتى الصبح ، ليجتمع الناس ، وقد أراد أن يعلن أمامهم رفضه الكامللبيعة يزيد ، ويدعوهم إلى التمرّد على حكومته ، وكان مروان بن الحكم الذي هو منرؤوس المنافقين ، ومن أعمدة الباطل حاضراً ، فاندفع لاشعال نار الفتنة ، فصاحبالوليد:
« لئن فارقك الساعة ، ولم يبايع لا قدرت منه على مثلها أبداً حتى تكثرالقتلى بينكم وبينه ، أحبسه فان بايع ، وإلاّ ضربت عنقه.. ».
ووثب أبي الضيم فيوجه مروان ، فقال محتقراً له:
« يا بن الزرقاء أأنت تقتلني أم هو؟ ، كذبت واللهولؤمت.. ».
ثم التفت أبو الاَحرار إلى الوليد فأخبره عن عزمه ، وتصميمه في رفضه لبيعة يزيد قائلاً:
« أيّها الاَمير ، إنّا أهل بيت النبوة ، ومعدن الرسالة ،ومختلف الملائكة ، ومحلّ الرحمة ، بنا فتح الله ، وبنا ختم ، ويزيد رجل فاسق ، شاربالخمر ، قاتل النفس المحرّمة ، معلن بالفسق ، ومثلي لا يبايع
مثله ، ولكن نصبح وتصبحون ، وننظر وتنظرون ،أيّنا أحقّ بالخلافة والبيعة.. ».
لقد أعلن الاِمام رفضه لبيعة يزيد في بيتالامارة ورواق السلطة ، وهو غير حافل بالحكم القائم ، فقد وطّن نفسه على التضحيةوالفداء لينقذ المسلمين من حكم إرهابي عنيف يستهدف إذلالهم ، وإرغامهم على مايكرهون.
لقد كان أبو الاَحرار عالماً بفسق يزيد وفجوره ومروقه من الدين ، ولوأقرّ لحكومته لساق المسلمين إلى الذلّ والعبودية ، وعصف بالعقيدة الاِسلامية فيمتاهات سحيقة من مجاهل هذه الحياة ، ولكنّه سلام الله عليه صمد في وجه الاعاصيرهازئاً من الحياة ، ساخراً من الموت ، فبنى للمسلمين عزّاً شامخاً ، ومجداً رفعياً، ورفع كلمة الاِسلام عالية في الاَرض.




إلى مكّة المكرّمة:
وصمّم أبوالاَحرار على مغادرة يثرب ، والتوجه إلى مكّة المكرّمة ليتّخذ منها مقرّاً لبثّدعوته ، ونشر أهداف ثورته ، ويدعو المسلمين إلى الانتفاضة على الحكم الاَموي الذييمثّل الجاهلية بجميع أبعادها الشريرة ، وقبل أن يتوجّه إلى مكّة خفّ إلى قبر جدّه ( صلى الله عليه وآله ) وهو حزين قد أحاطت به الاَزمات فشكى إليه ما ألمّ به منالمحن والبلوى ، ثم توجّه إلى قبر سيّدة النساء أمّه الزكيّة فألقى عليها نظراتالوداع الاَخير ، وزار بعد ذلك قبر أخيه الزكيّ أبي محمد ( عليه السلام ) ثم توجّهمع جميع أفراد عائلته إلى مكّة التي هي


حرم الله ليعوذ ببيتها الحرام الذي فرض اللهفيه الاَمن لجميع عباده ، وكان أخوه أبو الفضل إلى جانبه قد نشر رايته ترفرف علىرأسه ، وقد تولّى جميع شؤونه وشؤون عائلته ، وقام خير قيام بما يحتاجونإليه.
وسلك أبو الاَحرار في مسيره الطريق العام فأشار عليه بعض من كان معه بأن يحيد عنه ـ كما فعل ابن الزبير ـ مخافة أن يدركه الطلب من السلطة فأجابه بكل شجاعةوثقة في النفس:
« لا والله ما فارقت هذا الطريق ، أو أنظر إلى أبيات مكة حتىيقضي الله في ذلك ما يحبّ ويرضى.. ».
وانتهى ركب الاِمام إلى مكّة ليلة الجمعةلثلاث ليال مضين من شعبان وحطّ رحله في دار العبّاس بن عبد المطلب ، وقد احتفى بهالمكّيون خير احتفاء ، وجعلوا يختلفون إليه بكرة وعشية ، وهم يسألونه عن أحكامدينهم ، وأحاديث نبيّهم ، كما توافد لزيارته القادمون إلى بيت الله الحرام منالحجّاج والمعتمرين من سائر الآفاق ، ولم يترك الاِمام ( عليه السلام ) لحظة تمرّمن دون أن يبثّ الوعي الديني والسياسي في نفوس زائريه من المكيّين وغيرهم ، ويدعوهمإلى التمرّد على الحكم الاَموي الذي عمد على إذلالهم وعبوديتهم.




فزع السلطةبمكّة:
وفزعت السلطة المحلّية بمكة من قدوم الاِمام إليها ، واتخاذها مقراًلدعوته ، ومركزاً لاِعلان ثورته ، وكان حاكم مكّة الطاغية عمرو بن سعيد الاَشدق ،فقد رأى بنفسه تزاحم المسلمين على الاِمام ، وسمع ما يقولونه ان الاِمام أولىبالخلافة الاِسلامية وأحقّ بها من آل أبي سفيان الذين لا
يرجون لله وقاراً ، فخف مسرعاً نحو الاِمام فقال لهبغيظ:
« ما أقدمك إلى البيت الحرام؟.. ».
وكأن بيت الله العظيم ملك لبنيأميّة ، وليس هو لجميع المسلمين ، فأجابه الاِمام بثقة وهدوء:
« أنا عائذ بالله، وبهذا البيت... ».
ورفع الطاغية بالوقت رسالة إلى سيّده يزيد بن معاوية أحاطهبها علماً بمجيء الامام إلى مكّة ، واختلاف الناس إليه ، والتفافهم حوله ، وان ذلكيشكّل خطراً على حكومته ، ففزع يزيد كأشدّ ما يكون الفزع حينما قرأ رسالة الاَشدقفرفع في الوقت مذكّرة إلى ابن عباس يتهدّد فيها الحسين على تحرّكه ، ويطلب منهالتدخّل فوراً لاِصلاح الاَمر وحجب الحسين عن مناهضته ، فأجابه ابن عبّاس برسالة ،نصحه فيها بعدم التعرّض للحسين ، وانه انّما هاجر إلى مكّة فراراً من السلطةالمحلّية في يثرب التي لم ترع مكانته ، ومقامه.
ومكث الاِمام ( عليه السلام ) فيمكّة ، والناس تختلف إليه ، وتدعوه إلى إعلان الثورة على الاَمويين ، وكانت مباحثالاَمن تراقبه أشدّ ما تكون المراقبة ، وتسجّل جميع تحرّكاته ونشاطاته السياسية ،وما يدور بينه وبين الوافدين عليه ، وتبعث بجميع ذلك إلى دمشق لاطلاع يزيدعليه.




تحرّك الشيعة في الكوفة:
وحينما أشيع هلاك معاوية في الكوفة أعلنتالشيعة أفراحها بموته وعقدوا مؤتمراً شعبياً في بيت أكبر زعمائهم ، وهو سليمان بنصرد الخزاعي ، واندفعوا إلى إعلان الخطب الحماسية فيها وقد عرضوا بصورة
شاملة إلى ما عانوه من الاضطهاد والتنكيل ، فيأيّام معاوية ، وأجمعوا على بيعة الاِمام الحسين ، ورفض بيعة يزيد ، وأرسلوا في نفسالوقت وفداً منهم ليحثّ الاِمام على القدوم إلى مصرهم لتشكيل حكومته ليعيد لهمالحياة الكريمة التي فقدوها في ظلال الحكم الاَموي ويبسط في بلادهم الاَمن والرخاء، وترجع بلدهم عاصمة للدولة الاِسلامية كما كانت أيّام أبيه الاِمام أمير المؤمنين ( عليه السلام ) ، وكان من بين ذلك الوفد عبدالله البجلي ، وأخذ الوفد يسرع في سيرهحتّى انتهى إلى مكّة ، فعرض على الامام مطاليب أهل الكوفة ، وألحّوا عليه بالاسراعإلى القدوم إليهم.




رسائل الكوفة:
ولم يكتف الكوفيون بالوفد الذي بعثوهإلى الاِمام ، وانّما عمدوا إلى إرسال آلاف الرسائل إليه أعربوا فيها عن عزمهمالجادّ على نصرته ، والوقوف إلى جانبه ، وانّهم يفدونه بأرواحهم وأموالهم ، ويطلبونمنه الاِسراع إلى مصرهم ليشكّل فيه دولة القرآن والاِسلام التي هي غاية آمالهموحملوا الاِمام المسؤولية أمام الله والتأريخ إن لم يستجب لدعوتهم.
ورأى الاِمام ( عليه السلام ) أنّه قد قامت عليه الحجّة الشرعية ، وان الواجب يحتّم عليهإجابتهم.




إيفاد مسلم إلى الكوفة:
ولمّا تتابعت الوفود والرسائل من أهلالكوفة على الاِمام ، وهي تحثّه على القدوم إليهم ، لم يجد بُدّاً من إجابتهم ،فأوفد إليهم ثقته وكبير أهل بيته ، والمبرز من بينهم بالفضيلة وتقوى الله ابن عمّهمسلم بن عقيل ،
وكانت مهمّته خاصة ومحدودة ، وهي الوقوف على واقعالكوفيين ، ومعرفة أمرهم ، فان صدقوا فيما قالوا توجّه الاِمام إليهم وأقام فيمصرهم دولة القرآن.
ومضى مسلم يجد في السير لا يلوي على شيء حتى انتهى إلىالكوفة فنزل في بيت زعيم من زعماء الشيعة ، وسيف من سيوفهم ، وهو المختار بن أبي عبيدة الثقفي ، الذي كان يتمتّع بخبرة سياسية واسعة ، وشجاعة فائقة ، ودراية تامةبالشؤون النفسية والاجتماعية ، وقد فتح المختار أبواب داره إلى مسلم ، وصار بيتهمركزاً للسفارة الحسينيّة. ولما علمت الشيعه بقدوم مسلم سارعوا إليه مرحّبين به ،ومقدمين له جميع ألوان الحفاوة والدعم ، والتفوا حوله ، طالبين منه أن يأخذ منهمالبيعة للاِمام الحسين ( عليه السلام ) ، واستجاب لهم مسلم ففتح سجلاً للمبايعينوقد أحصي عددهم في الاَيام القليلة بما يزيد على ثمانية عشر ألفاً ، وفي كل يوميزداد عدد المبايعين منهم ، وألحّوا عليه أن يراسل الاِمام بالاِسراع إلى القدومإليهم ليتولّى قيادة الاَمة ، .. ومن الجدير بالذكر أن السلطة المحليّة في الكوفةكانت على علم بمجريات الثورة ، وقد وقفت منها موقف الصمت ، فلم تتخذ أي اجراءاتضدّها ، ويعود السبب في ذلك إلى ان حاكم الكوفة النعمان بن بشير الاَنصاري كان منالمنحرفين عن يزيد بسبب مواقفه المعادية للاَنصار ، ومضافاً إلى ذلك فان ابنته كانتزوجة المختار الذي استضاف مسلماً ووقف إلى جانبه.
ومن الطبيعي أنّه لم يرقلعملاء الاَمويين وأذنابهم موقف النعمان المتّسم بالليونة وعدم المبالاة بالثورة ،فبادروا إلى الاتصال بدمشق ، وعرّفوا يزيد بموقف النعمان ، وطلبوا المبادرة بإقصائه، وتعيين حاكماً حازماً
يستطيع القضاء على الثورة ، وإخضاع الجماهيرإلى حكمه ، وفزع يزيد من الاَمر ، فأرسل إلى مستشاره الخاص سرجون ، وكان دبلوماسياًمحنّكاً ، فعرض عليه ما ألمّ به وطلب منه أن يرشده إلى حاكم يتمكّن من السيطرة علىالاَوضاع المتفجّرة في الكوفة ، فأشار عليه بتولّيه الاِرهابي عبيدالله بن زيادفانّه شبيه بأبيه في التجرّد من كلّ نزعة إنسانية ، وعدم المبالاة في اقتراف أبشعالجرائم ، فاستجاب يزيد لرأيه ، وكتب لابن زياد مرسوماً بولايته على الكوفة بعد أنكان والياً على البصرة فقط ، وبذلك فقد أصبح العراق كلّه خاضعاً لسيطرته ، وأصدرإليه الاَوامر المشدّدة بالاِسراع إلى الكوفة لاستئصال الثورة ، والقضاء علىمسلم.




سفر ابن زياد إلى الكوفة:
وحينما تسلّم ابن زياد المرسوم في ولايتهعلى الكوفة توجّه إليها فوراً ، وأخذ يجد في السير لا يلوي على شيء مخافة أن يسبقهإليها الاِمام الحسين ( عليه السلام ) ، وحينما أشرف على الكوفة غيّر ملابسه ، ولبسثياباً يمانية وعمامة سوداء ليوهم على الكوفيين أنّه الامام الحسين ، وقد اعتقدوابذلك فأحاطوا به مرحّبين بقدومه ، وهاتفين بحياته ، فاستاء ابن زياد من ذلك كأشدّما يكون الاستياء ، وأسرع في سيره مخافة أن ينكشف أمره ، فيقتل ، ولما انتهى إلىقصر الامارة ، وجد الباب مغلقاً فطرقه فأشرف عليه النعمان ، وقد توهّم أنه الامامالحسين ( عليه السلام ) فانبرى يخاطبه بلطف قائلاً:
« ما أنا بمؤدّ إليك أمانتييا بن رسول الله ، وما لي في قتالك من ارب »..
فصاح به ابن مرجانة:
« افتح لافتحت فقد طال ليلك.. ».
وعرفه بعض من كان خلفه فصاح بالجماهير:
« انّهابن مرجانة ، وربّ الكعبة.. ».
وكان ذلك الصاعقة على رؤوسهم فولّوا منهزمين إلىدورهم ، وقد ملئت قلوبهم خوفاً ورعباً ، وبادر الطاغية نحو القصر فاستولى على المالوالسلاح ، وأحاط به عملاء الاَمويين أمثال عمر بن سعد وشمر بن ذي الجوشن ، ومحمد بنالاَشعث وغيرهم من وجوه الكوفة فجعلوا يحدثونه عن الثورة ، ويعرفونه بأعضائهاالبارزين ، ويضعون معه المخططات الرهيبة للقضاء عليها.
ولمّا أصبح الصبح جمع ابنمرجانة الناس في المسجد الاَعظم ، فأعلمهم بولايته على مصرهم ، ومنّى أهل الطاعةبالصلة ، وأهل المعصيّة بالعقاب الصارم ثم عمد إلى نشر الخوف والاِرهاب بين الناس ،وقد أمسك جماعة لم يجر معهم أي تحقيق فأمر بإعدامهم ، وملاَ السجون بالمعتقلين ،واتخذ من ذلك وسيلة للسيطرة على البلاد.
ولمّا علم مسلم بقدوم ابن مرجانة ، وماقام به من الاَعمال الاِرهابية تحوّل من دار المختار إلى دار الزعيم الكبير هانىَبن عروة ، وهو سيّد الكوفة ، وزعيمها المطاع ، وقد عرف بالولاء والمودّة لاَهلالبيت عليهم السلام ، وقد استقبله هانئ بحفاوة وتكريم ، ورحّب به كأعظم ما يكونالترحيب وفتح داره على مصراعيها لشيعة مسلم ، واتخاذ القرارات لدعم الثورة ،ومناهضة خصومها.




المخطّطات الرهيبة:
واتّخذ ابن مرجانة سلسلة من المخططاتأدّت إلى نجاحه في الميادين السياسية ، والتغلّب على الاَحداث ، فبعد أن كانتالكوفة تحت
قبضة مسلم انقلبت رأساً على عقب ، وصارت مع ابنزياد ، ومن بين تلك المخططات التي تمّ تنفيذها ما يلي:




التجسّس علىمسلم:
وأول بادرة سلكها ابن مرجانة هي التجسس على مسلم ، ومعرفة نشاطاتهالسياسية ، والاحاطة بنقاط الضعف والقوة عنده والوقوف على جميع ما يجري عنده منالاَحداث ، وقد اختار للقيام بهذه المهمة مولاه معقلاً ، وكان فطناً ذكياً ذا معرفةبالسياسة الماكرة ، وأعطاه ثلاثة آلاف درهم ، وأمره بالاتصال بأعضاء الثورة ،وإعلامهم بأنه من الموالي الذين عرف أكثرهم بالولاء لاَهل البيت عليهم السلام ،وانه قد جاء إلى مصرهم حينما بلغه أن داعية الاِمام الحسين ( عليه السلام ) قدمإليهم ليأخذ البيعة منهم له ، وان عنده مالاً ليوصله له ليستعين به على حرب عدوّه .
ومضى معقل في مهمته ، وجعل يفتّش عمن له معرفة بسفير الحسين فأرشد إلى مسلم بنعوسجة وهو من أعلام الشيعة ، وأحد القادة الطليعيين في الثورة ، فاتصل به ، وأظهرله الولاء المزيّف لاَهل البيت ، والتعطّش الكاذب لرؤية سفيرهم مسلم ، فانخدع ابنعوسجة بكلامه ، وغرّه تلهّفه المصطنع لرؤية داعية الحسين ، فأدخله على مسلم فبايعه، وأخذ المال منه ، وجعل يتردّد عليه في كل يوم فكان ـ فيما يقول المؤرّخون أوّلداخل عليه ، وآخر خارج عنه ، وقد وقف على جميع شؤون الثورة ، وعرف أعضاءها ،والمتحمّسين لها وما يستجدّ فيها من شؤون ، وكان ينقل ذلك حرفياً إلى سيّده ابنمرجانة وبذلك فقد أحاط بجميع مجريات الاَحداث ، ولم يخف عليه أي شيءمنها.
اعتقال هانئ:
وقدم ابن زياد على أخطر عملية كُتبله فيها النجاح لتنفيذ مخططاته ، فقد قام باعتقال هانىَ بن عروة سيد الكوفة ،والزعيم الاَوحد لقبائل مذحج التي كانت تشكّل الاَكثرية الساحقة من سكّان الكوفة ،وقد أشاع بذلك موجة من الخوف والاِرهاب عند جميع الكوفيين ، كما وجّه ضربة قاسيةومدمّرة للثورة فقد استولى الرعب والفزع على انصار مسلم ، ومنوا بهزيمة نفسية ساحقةوعلى أي حال فان هانىَ حينما مثل أمام الطاغية استقبله بشراسة وعنف وطلب منه بالفورتسليم ضيفه الكبير مسلم ، فأنكر هانئ أن يكون عنده لاَنّه أحاط أمره بكثير منالسرية والكتمان ، فأمر ابن زياد بإحضار الجاسوس معقل ، فلما حضر سقط ما في يدهانىَ وأطرق برأسه إلى الاَرض. ولكن سرعان ما سيطرت شجاعته على الموقف ، فانتفضكالاَسد ساخراً من ابن زياد ومتمرداً على سلطته ، فامتنع كأشدّ ما يكون الامتناع منتسليم ضيفه إليه لاَنّه بذلك يسجّل عاراً وخزياً عليه ، فثار الطاغية في وجهه ، وثمأمر غلامه مهران أن يدنيه منه ، فأدناه ، فاستعرض وجهه المكرم بالقضيب ، وضربهضرباً عنيفاً حتى كسر أنفه ، ونثر لحم خدّيه وجنبيه على لحيته حتى تحطّم القضيب ،وسالت الدماء على ثيابه ، ثم أمر باعتقاله في أحد بيوت القصر.




انتفاضةمذحج:
ولمّا شاع اعتقال هانىَ اندفعت قبائل مذحج نحو قصر الامارة ، وقد قادجموعها الانتهازي القذر عمرو بن الحجاج ، وهو من أذناب السلطة
ومن أحقر عملائها ، وقد رفع عقيرته ليسمعه ابن زيادقائلاً:
« أنا عمرو بن الحجاج ، وهذه فرسان مذحج ، ووجوهها لم نخلع طاعة ، ولمنفارق جماعة.. ».
وحفل كلامه بالخنوع والمسالمة للسلطة ، وليس فيه أي اندفاعلاِنقاذ هانئ ، وانّما فيه التأييد والدعم لابن زياد ، ولذا لم يكترث به ، وأوعزإلى شريح القاضي ، وهو من وعاظ السلاطين ، ومن دعائم الحكم الاَموي فأمره أن يدخلعلى هانئ ، ويخرج لهم ، ويخبرهم بأنّه حيّ سالم وانّه يأمرهم بالانصراف إلى منازلهم، ودخل على هانئ فلما بصر به صاح مستجيراً:
« ياللمسلمين أهلكت عشيرتي!! أين أهلالدين ، أين أهل المصر ، أيخلوني وعدوهم.. ».
والتفت إلى شريح ، وقد سمع أصواتأسرته قائلاً:
« يا شريح انّي لاَظنّها أصوات مذحج وشيعتي من المسلمين ، انّه إندخل عليَّ عشرة نفر أنقذوني.. ».
وخرج شريح الذي باع آخرته وضميره على ابنمرجانة ، فقال لمذحج:
« نظرت إلى صاحبكم ، انّه حي لم يقتل.. ».
وبادر ابنالحجاج عميل الاَمويين وخادمهم فرفع صوته لتسمعه مذحج قائلاً:
« إذا لم يقتلفالحمد لله.. ».
وولّت قبائل مذحج منهزمة كأنّما أتيح لها الخلاص من سجن ، وقدصحبت معها الخيانة والخزي ، ومن المؤكّد أن هزيمة مذحج بهذه السرعة كانت نتيجةاتفاق سرّي بين زعمائها وبين ابن مرجانة للقضاء على هانىَ ،
ولولا ذلك لهجمت على السجن وأخرجته.
لقد تنكّرتمذحج لزعيمها الكبير الذي كان محسناً عليها فلم تف بحقوقه ، وتركته أسيراً بيدالاِرهابي ابن مرجانة ، وهو يمعن في إذلاله وقهره ، في حين أن مذحج كانت لهمالسيادة على الكوفة.




ثورة مسلم:
ولما علم مسلم ما جرى على هانىَ العضوالبارز في الثورة من الاعتداء والاعتقال ، بادر إلى اعلان الثورة على ابن زياد ،فأوعز إلى أحد قاده جيشه عبدالله بن حازم أن ينادي في أصحابه ، وقد ملاَ بهم الدور، فاجتمع إليه زهاء أربعة آلاف مقاتل أو أربعون ألفاً ، كما في رواية أخرى ، وتعالتأصواتهم بشعار المسلمين يوم بدر « يا منصور أمت.. ».
وقام مسلم بتنظيم جيشهفاسند القيادات العامة إلى من عرفوا بالولاء والاِخلاص لاَهل البيت عليهم السلام ،وزحف بجيشه نحو قصر الاِمارة ، وكان ابن زياد قد خرج إلى الجامع ، وقد ألقى خطاباًعلى الجماهير تهدّد فيه على كل من يخلع يد الطاعة ، ويناهض الدولة ، وحينما أنهىخطابه سمع الضجّة وأصوات الثوّار وهتافاتهم بسقوطه فهاله ذلك ، وسأل عن السبب فأخبرأن مسلم بن عقيل قد أقبل في جمهور من شيعته لحربه ، ففزع الجبان ، واختطف الرعبلونه ، وأسرع نحو القصر يلهث كالكلب من شدّة الفزع والخوف وضاقت عليه الدنيا إذ لمتكن عنده قوة عسكرية تحميه سوى ثلاثين شرطياً وعشرين رجلاً من أشراف الكوفة الذينعرفوا بالعمالة للاَمويين.
وتضاعف جيش مسلم ، وقد نشروا الاعلام والسيوف ، ودقّتطبول
الحرب ، وأيقن الطاغية بالهلاك إذ لم يكن يأوي إلىركن شديد.




حرب الأعصاب
وأمعن الطاغية في أقرب الوسائل ، وأكثرها ضماناًلاِنقاذه فرأى أن لا طريق له سوى حرب الاَعصاب ، ونشر الدعايات الكاذبة ، وكانعالماً بتأثيرها على نفوس الكوفيين ، فأوعز إلى عملائه من أشراف الكوفة ووجوهها أنيندسّوا بين صفوف جيش مسلم ، فيذيعون الاِرهاب ، وينشرون الخوف ، وانطلق العملاءبين قطعات جيش مسلم ، فأخذوا يبثّون الاَراجيف والكذب ، وتناولت دعاياتهم مايلي:
أ ـ تهديد أصحاب مسلم بجيوش أهل الشام ، وانّها سوف تنكل بهم إن بقوامصرّين على متابعة مسلم.
ب ـ ان الحكومة سوف تقطع مرتباتهم وتحرمهم من جميعمواردهم الاقتصادية.
ج ـ إن الدولة ستزجّ بهم في مغازي أهل الشام.
د ـ إنالحكومة ستعلن فيهم الاَحكام العرفية ، وتسوسهم بسياسة زياد بن أبيه التي تحملاشارات الموت والدمار.
وكانت هذه الاشاعات كالقنابل على رؤوسهم ، فقد انهارتأعصابهم واضطربت قلوبهم ، وجبنوا كأبشع ما يكون الجبن ، وولّوا منهزمين على أعقابهم، وهم يقولون:
« ما لنا والدخول بين السلاطين.. ».
ولم يمض قليل من الوقت حتىفرّ معظمهم ، وبقي ابن عقيل مع جماعة قليلة وقصد بهم نحو الجامع الاَعظم ليؤدّيصلاة العشائين ، ففرّوا
منهزمين في أثناء الصلاة ، فقد قذف في قلوبهم الرعب، وسرت فيهم أوبئة الخوف ، وما أنهى ابن عقيل صلاته حتى انهزموا جميعاً ولم يبق معهإنسان يدلّه على الطريق أو يأويه ، وقد لبس الكوفيون بذلك ثياب العار والخزي ،وأثبتوا أن ولاءهم لاَهل البيت عليهم السلام كان عاطفياً ، وغير مستقرّ في دخائلقلوبهم ، وأعماق نفوسهم وأنّهم لا ذمّة ولا وفاء لهم.
وسار مسلم فخر بني هاشممتلدّداً في أزقّة الكوفة ، وشوارعها يلتمس فيها داراً لينفق فيه بقية الليل ، فلميظفر بذلك ، فقد خلت المدينة من المارة ، كأنّما أعلن فيها منع التجول ، فقد أغلقالكوفيون عليهم الاَبواب مخافة أن تعرفهم مباحث الاَمن ، وعيون ابن زياد بأنّهمكانوا مع ابن عقيل فتلقي عليهم القبض ، وتعرّضهم للتنكيَل وسوء العذاب.




فيضيافة طوعة:
وبقي ابن عقيل حائراً لا يدري إلى ابن مأواه وملجئه ، فقد أحاطت بهتيّارات من الهموم ، وكاد قلبه أن ينفجر من شدّة الاَلم العاصف واستبان له انّه ليسفي المصر رجل شريف يقوم بضيافته وحمايته ، ومضى متلدّداً في أزقّة الكوفة ، وانهىبه السير إلى سيّدة كريمة ، يقال لها طوعة هي سيّدة من في المصر بما تملكه منإنسانية وشرف ونبل ، وكانت واقفة على باب دارها تنتظر قدوم ابنها ، وهي فزعة عليه ،من الاَحداث الرهيبة التي مُني بها المصر ، ولما رآها مسلم بادر نحوها فسلّم عليها، فردّت عليه السلام ، ووقف مسلم ، فأسرعت قائلة:
« ما حاجتك؟.. ».
« اسقينيماءاً.. ».
وبادرت السيدة فجاءته بالماء فشرب منه ، ثم جلسفارتابت منه فقالت له:
« ألم تشرب الماء؟.. ».
« بلى.. ».
« اذهب إلى أهلكان مجلسك مجلس ريبة.. ».
وسكت مسلم فأعادت عليه القول ، وطلبت منه الانصراف منباب دارها ومسلم ساكت ، فذعرت منه ، وصاحت به:
« سبحان الله!! إنّي لا أحلّ لكالجلوس على بابي.. ».
ولمّا حرّمت عليه الجلوس نهض ، وقال لها بصوت خافت حزينالنبرات:
« ليس لي في هذا المصر منزل ولا عشيرة ، فهل لك إلي أجر ومعروف أنتقومي بضيافتي في هذه الليلة ، ولعلّي أكافئك بعد هذا اليوم.. ».
وشعرت المرأةبأن الرجل غريب ، وانّه ذو شأن كبير ، ومكانه عظمى ، وانّه سيقوم بمكافئتها إن أسدتعليه إحساناً ومعروفاً فبادرته قائلة:
« ما ذاك يا عبدالله؟!! »
فقال لهاوعيناه تفيضان دموعاً:
« أنا مسلم بن عقيل كذّبني القوم وغرّوني.. ».
فذهلتالسيّدة ، وقالت في دهشة وإكبار:
« انت مسلم بن عقيل؟. ».
« نعم.. ».
وسمحت السيّدة بخضوع وإكبار لضيفها الكبير بتشريف منزلها وقد
حازت المجد والشرف بذلك ، فقد آوت سليل هاشم وسفيرريحانة رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) ، وتحمّلت المسؤولية من السلطة بضيافتهاله.
وأدخلت السيّدة ضيفها العظيم في بيت غير البيت الذي كانت تأوي إليه ، وجاءتهبالضياء والطعام ، فأبى أن يأكل ، فقد مزّق الاَسى قلبه الشريف ، وأيقن بالرزءالقاصم ، وتمثّلت أمامه الاَحداث التي سيواجهها ، وقد شغل فكره الاِمام الحسين ( عليه السلام ) الذي كتب إليه بالقدوم إلى الكوفة وانّه سيلاقي ما لاقاه.
ولم يمضقليل من الوقت حتى قدم بلال ابن السيدة طوعة ، فرأى أمّه تكثر من الدخول والخروجإلى البيت الذي فيه مسلم لتقوم بخدماته ورعايته ، فأنكر عليها ذلك ، وسألها عنالسبب فأبت أن تخبره ، فألحّ عليها ، فأخبرته بالاَمر بعد أن أخذت عليه الاَيمانوالمواثيق بالكتمان ، وطارت نفس الخبيث فرحاً وسروراً ، وأنفق ليله ساهراً يترقّببفارغ الصبر انبثاق نور الفجر ليخبر السلطة بمقام مسلم عندهم ليتزلّف بذلك إليها ،وينال الجائزة منها ، وقد تنكّر هذا الوغد لجميع الاَعراف ، والاَخلاق العربية التيتلزم بقرى الضيف ، وحمايته من كل مكروه ، وكانت هذه الظاهره سائدة حتى في العصرالجاهلي ، وقد دلّ ما فعله هذا الجلف على انهيار القيم الاَخلاقية والانسانية ليسعنده فحسب ، وانّما في أغلبية ذلك المجتمع الذي فقد جميع ما يسمو به الاِنسان منالقيم الكريمة.
وعلى أيّ حال فقد قضى سليل هاشم ليله حزيناً قلقاً مضطرباً ، وقدخلص في معظم الليل إلى العبادة ما بين الصلاة وقراءة القرآن ، فقد أيقن أن تلكالليلة هي آخر آيّام حياته ، وقد خفق في بعض الليل فرأى عمّه الاِمام أمير المؤمنين ( عليه السلام ) في منامه فأخبره بسرعة اللحاق به ، فعند ذلك أيقن بدنوّ
الاَجل المحتوم منه.




الاِفشاءبمسلم:
ولمّا انبثق نور الصبح بادر بلال إلى قصر الاِمارة ليخبر السلطة بمكانمسلم عنده ، وكان الخبيث بحالة من الدهشة تلفت النظر ، فقصد عبدالرحمن بن محمد بنالاَشعث وهو من الاَسرة الانتهازية الخبيثة التي طلقت الشرف والمعروف ثلاثاً ،فأسره بالاَمر ، فأمره بالسكوت لئلا يسمعه غيره فيخبر ابن زياد فينال منه الجائزة ،وأسرع عبدالرحمن إلى أبيه محمد فأخبره بالاَمر الخطير ، وبدت سحنات الفرح والسرورعلى وجهه ، وفطن ابن مرجانة إلى أن هناك أمراً عظيماً يخصّ السلطة فبادرقائلاً:
« ما قال لك: عبد الرحمن؟.. ».
فقال وقد ملاَ الفرح اهابه:
« أصلحالله الاَمير البشارة العظمى... ».
« ماذاك؟ مثلك من بشّر بخير... ».
« إنإبني هذا يخبرني أن مسلماً في دار طوعة... ».
وطار ابن زياد من الفرح والسرورفقد تمّت بوارق آماله وأحلامه ، فقد ظفر بسليل هاشم ليقدّمه قرباناً لاَمويتهاللصيقة ، وأخذ يمني ابن الاَشعث بالمال والجاه المزيّف ، قائلاً له:
« قم فأتنيبه ، ولك ما أردت من الجائزة والحظّ الاَوفى... ».
وسال لعاب ابن الاَشعث فاندفعوراء أطماعه الدنيئة لاِلقاء القبض على مسلم.
الهجوم على مسلم:
وندب ابن مرجانة لحرب مسلم ،محمد بن الاَشعث ، وعمرو بن حريث المخزومي وضمّ إليهما ثلثمائة رجل من فرسان الكوفة، وأقبلت تلك الوحوش الكاسرة التي لا عهد لها بالشرف والمروءة إلى حرب مسلم الذيأراد أن يحررهم من الذلّ والعبودية ، وينقذهم من ظلم الاَمويين وجورهم.
ولماقربت الجيوش من دار طوعة علم مسلم أنها قد أتت لحربه ، فسارع إلى فرسه فأسرجهوألجمه ، وصبّ عليه درعه ، وتقلّد سيفه ، والتفت إلى السيّدة الكريمة طوعة فشكرهاعلى حسن ضيافتها ، وأخبرها أنه انّما أُوتي إليه من قبل ابنها الباغياللئيم.
واقتحم الجيش الدار على مسلم فشدّ عليهم كالليث يضربهم بسيفه ففرّوامنهزمين من بين يديه يطاردهم الرعب والخوف ، وبعد فترة عادوا إليه فحمل عليهم ،وأخرجهم من الدار ، وانطلق نحوهم فجعل يحصد رؤوسهم بسيفه ، وقد أبدى من البطولاتالنادرة ما لم يشاهد مثله في جميع فترات التأريخ ، فقد قتل منهم ـ فيما يقول بعضالمؤرّخين ـ واحداً وأربعين ، عدا الجرحى ، وكان من قوته النادرة ، وعظيم بأسه أنيأخذ الرجل منهم بيده ، ويرمي به فوق البيت كأنّه حجر ، ومن المؤكّد أنّه ليس فيتأريخ الاِنسانية مثل هذه البطولة ، ولا مثل هذه القوة ، وليس ذلك غريباً عليه ،فعمّه الاِمام أمير المؤمنين ( عليه السلام ) أشجع الناس ، وأقواهم بأساً وأشدّهمعزيمة.
وجعل أنذال أهل الكوفة يرمون مسلماً بالحجارة وقذائف النار من
فوق سطوح بيوتهم ، ومما لا ريب فيه أن الحرب لوكانت في البيداء لاَتى عليهم مسلم ، ولكنها كانت في الاَزقة والشوارع ، ومع ذلك فقدفشلت جيوش أنذال أهل الكوفة ، وعجزت عن مقاومة البطل العظيم ، فقد أشاع فيه القتلوالدمار ، وأسرع ابن الاَشعث بالطلب إلى سيّده ابن مرجانة ليمدّه بالخيل والرجال ،لاَنّه لا يقوى على مقاومة هذا البطل العظيم ، وبهر الطاغية ، وأخذ يندد بقيادة ابنالاَشعث قائلاً:
« سبحان الله!! بعثناك إلى رجل واحد تأتينا به فثلم في أصحابكهذه الثلمة العظيمة... ».
وثقل على ابن الاَشعث هذا التقريع ، فراح يشيد ببطولاتابن عقيل قائلاً:
« أتظنّ أنّك أرسلتني إلى بقّال من بقّالي الكوفة ، أو جرمقانيمن جرامقة الحيرة وانّما بعثتني إلى أسد ضرغام ، وسيف حسام في كفّ بطل همام من آلخير الاَنام ». وأمدّه ابن زياد بقوة مكثفة من الجيش ، فجعل بطل الاِسلام وفخرعدنان يقاتلهم أشدّ القتال وأعنفه وهو يرتجز:





أقسـمت لا أقتل إلاّحرّا
*
وإن رأيت الموت شيئاً نكرا
أو يخلط البارد سخناً مرّا
*
ردّشعاع الشمس فاستـقرا
كلّ امرىَ يوماً يلاقي شرّاً
*
أخاف أن أكذب أوأغـرا




أما أنت يا بن عقيل فكنت سيّد الاَباة والاَحرار فقد رفعت لواء العزّةوالكرامة ، ورفعت شعار الحرية ، وأما خصومك فهم العبيد الذي رضوا بالذلّ والهوان ،وخضعوا للعبودية والذل ، لقد أردت أن تحررهم ، وتعيد لهم الحياة الحرّة الكريمة ،فأبوا ذلك ، وعدوا عليك يقاتلونك ، وقد فقدوا بذلك إنسانيتهم ، ومقوماتحياتهم.
ولمّا سمع ابن الاَشعث رجز مسلم الذي أقسم فيه علىأن يموت ميتة الاَحرار والاَشراف انبرى إليه ليخدعه قائلاً:
« إنّك لا تكذب ،ولا تخدع ، إن القوم بنو عمّك وليسوا بقاتليك ، ولا ضاريّك.. ».
فلم يحفل مسلمبأكاذيب ابن الاَشعث ، وراح يقاتلهم أعنف القتال وأشدّه ، ففرّوا منهزمين من بينيديه ، وهو يحصد رؤوسهم ، وجعلوا يرمونه بالحجارة ، فأنكر عليهم مسلم ذلك وصاحبهم:
« ويلكم ما لكم ترمونني بالحجارة ، كما تُرمى الكفار ، وأنا من أهل بيتالاَبرار ، ويلكم أما ترعون حقّ رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) ، وذريته.. ».
إنّ هؤلاء الاَجلاف قد فقدوا جميع القيم والاَعراف ، فلم يرعوا أيّة حرمةلرسول الله ( صلى الله عليه وآله ) الذي حرّرهم من حياة التيه في الصحراء وأقام لهمحضارة لم تعهدها الاَمم والشعوب ، فكان جزاؤه منهم أن عدوا على أبنائه وذريته فأوسعوهم قتلاً وتنكيلاً.
وعلى أي حال فان جيوش ابن زياد لم تستطع مقاومة البطلالعظيم وبان عليهم الانكسار ، وضاق بابن الاَشعث أمره ، فدنا من مسلم ورفع عقيرتهقائلاً:
« يا بن عقيل لا تقتل نفسك ، أنت آمن ، ودمك في عنقي.. ».
ولم يعنمسلم بأمان ابن الاَشعث لعلمه أنّه من أسرة خبيثة لا تعرف أي معنى من معاني النبلوالوفاء ، فردّ عليه قائلاً:
« يا بن الاَشعث لا أعطي بيدي أبداً ، وأنا أقدرعلى القتال ، والله لا كان ذلك أبداً.. ».
وحمل عليه مسلم ففرّ الجبان منهزماًيلهث كالكلب ، وأخذ العطش




القاسي من مسلم مأخذاً عظيماً ، فجعل يقول:
« اللهمّ إن العطش قد بلغ منّي.. ».
وتكاثرت الجنود على مسلم ، وقد استولى عليهمالرعب والخوف ، وصاح بهم ابن الاَشعث:
« إن هذا هو العار والفشل ان تجزعوا منرجل واحد هذا الجزع ، احملوا عليه بأجمعكم حملة واحدة... ».
فحمل الاَوغاداللئام على مسلم ، وجعلوا يطعنونه برماحهم ، ويضربونه بسيوفهم ، وقد ضربه الوغدبكير بن حمران الاَحمري ضربة منكرة على شفته العليا ، وأسرع السيف إلى السفلى ،وضربه مسلم ضربة أردته إلى الاَرض.




أسره:
وأعيى مسلماً نزيف الدم ، وقدأثخن بالجراح ، فانهارت قواه ، ولم يتمكّن على المقاومة ، فوقع أسيراً بأيدي أُولئكالاَقزام ، وتسابقوا إلى ابن مرجانة يحملون له البشرى بأسرهم للقائد العظيم الذيجاء ليقيم في بلادهم حكم القرآن ، ويحررهم من جور الاَمويين وظلمهم ، وطار ابنمرجانة فرحاً ، فقد ظفر بخصمه ، وتمّ له القضاء على الثورة وحمل مسلم أسيراً إلىعبد الاَمويين وعميلهم ، وقد ازدحمت الجماهير التي بايعته ، وأعطته العهودوالمواثيق في الوفاء ببيعته إلاّ أنهم خانوا بذلك ، وراحوا يقاتلونه.
وانتهىبمسلم إلى قصر الامارة ، وقد أخذ العطش منه مأخذاً عظيماً فرأى جرّة فيها ماء بارد، فالتفت إلى من حوله فقال لهم:




« اسقوني من هذا الماء.. ».
فانبرى له اللئيمالدنس عميل الاَمويين مسلم بن عمرو الباهلي ، فقال له:
« أتراها ما أبردها ،والله لا تذوق منها قطرة حتى تذوق الحميم في نار جهنّم.. ».
ودلّت هذه البادرةوغيرها مما صدر من هؤلاء الممسوخين على تجرّدهم من جميع القيم الاِنسانية ، ومنالمؤكّد أن هذا هو السمت البارز من أخلاق السفلة الساقطين من قتلة الاَنبياءوالمصلحين ، وبهر مسلم من هذا الانسان الممسوخ فقال له:
« من أنت ، .. ».
فأجابه الباهلي بأنّه من خدّام السلطة وأذنابها قائلاً:
« أنا من عرف الحق، إذ تركته ، ونصح الاَمة والامام إذ غششته ، وسمع وأطاع إذ عصيته أنا مسلم بن عمروالباهلي.. ».
أيّ حقّ عرفه هذا الجلف الجافي ، وهو والاَكثرية الساحقة منالمجتمع الذي عاش فيه ، قد غرقوا في الباطل والمنكر... ان غاية ما يفخر به الوغدتماديه في خدمة ابن مرجانة الذي هو أقذر مخلوق عرفه التأريخ البشري ، وردّ عليهمسلم بمنطقه الفيّاض قائلاً:
« لامك الثكل ، ما أجفاك وأفظّك ، وأقسى قلبك ، أنتيا بن باهلة أولى بالحميم والخلود في نار جنهّم منّي.. ».
وكان عمارة بن عقبةحاضراً فاستحيا من جفوة الباهلي ولؤمه فدعا بماء بارد فصبّه في قدح ، وناوله إلىمسلم ، وكلما أراد أن يشرب امتلاَ القدح دماً وفعل ذلك ثلاثاً ، فقال: لو كان ليالرزق المقسوم لشربته.




مع ابن مرجانة:
وادخل قمر عدنان على ابنمرجانة ، فسلّم على الحاضرين ، ولم يسلّم عليه ، فأنكر عليه بعض صعاليك الكوفةقائلاً:
« هل تسلّم على الاَمير؟.. ».
فصاح به البطل العظيم محتقراً لهولاَميره قائلاً:
« اسكت لا أمّ لك ، والله ليس لي بأمير فأسلّم عليه.. »
وتميّز الطاغية غيظاً فراح يقول:
« لا عليك سلّمت أم لم تسلّم فانّكمقتول.. ».
إنّ بضاعة هذا الطاغية هي القتل والدمار ، وهي محالاً تخيف الاَحرارأمثال مسلم ممن صنعوا تأريخ هذه الاَمة ، وأقاموا كيانها الحضاري والفكري وجرت بينمسلم ، وبين ابن مرجانة كثير من المحاورات أثبت فيها مسلم صلابته وقوّة عزيمته ،وعدم انهياره أمام الطاغية ، وأثبت بشجاعته أنّه من أفذاذ التأريخ.




إلىالرفيق الاَعلى:
والتفت العتُلّ الزنيم ابن مرجانة إلى بكير بن حمران الذي ضربهمسلم فقال له: خذ مسلماً ، واصعد به إلى أعلى القصر ، واضرب عنقه بيدك ليكون ذلكأشفى لصدرك ، واستقبل مسلم الموت بثغر باسم ، فقد بقي رابط الجأش ، قويّ العزيمة ،مطمئنّ النفس ، فصعد به إلى أعلى القصر ، وهو يسبّح الله ، ويقدّسه ، ويدعو علىالسفكة المجرمين وأشرف به الجلاّد على موضع الحذائين فضرب عنقه ، ورمى بجسده ورأسهإلى الاَرض ،




وهكذا انتهت حياة هذا البطل العظيم الذي استشهددفاعاً عن حقوق المظلومين ، والمضطهدين ، ودفاعاً عن كرامة الاِنسان ، وقضاياهالمصيرية ، وهو أوّل شهيد من الاَسره النبوية يقتل علناً أمام المسلمين ، ولم يهبوالاِنقاذه والدفاع عنه.



إعدام هانئ:
وأمر سليل الغدر والخيانة بعد قتلمسلم ، بإعدام الزعيم الكبير ، والعضو البارز في الثورة هانىَ بن عروة ، فأخرج منالسجن ، وهو يصيح أمام أسرته التي هي كالحشرات قائلاً:
« وامذحجاه.. ».
« واعشيرتاه.. ».
ولو كان عند أسرته صبابة من الغيرة والحمية لهبّت لاِنقاذ زعيمهاالعظيم الذي كان لها كالاَب ، والذي قدّم لها جميع الخدمات ، ولكنها كبقيّة قبائلالكوفة قد طلّقت المعروف ثلاثاً ، ولا عهد لها بالشرف والكرامة.
وجيء بهانيء إلىساحة يباع فيها الاَغنام ، فنفّذ الجلاّدون فيه حكم الاِعدام ، فهوى إلى الاَرضيتخبّط بدم الشهادة.. لقد استشهد هانىَ دون مبادئه وعقيدته ، وقد انطوت بشهادتهأروع صفحة من صفحات البطولة والجهاد في الاِسلام.




السحل في الشوارع:
وقامعملاء ابن زياد وعبيدة من الانتهازيين والغوغاء فسحلوا جثّة مسلم وهانىَ في الشوارعوالاَزقّة ، وذلك لاِخافة العامة وشيوع الاِرهاب بين




الناس ، والاستهانة بشيعة مسلم وأنصاره ، وقد انتهتبذلك الثورة العملاقة التي كانت تهدف إلى إشاعة العدل والاَمن والرخاء بين الناس ،وقد خلد الكوفيون بعد فشل الثورة إلى الذلّ والعبودية وأمعن الطاغية في ظلمهم فأعلنالاَحكام العرفية في بلادهم ، وأخذ يقتل على الظنّة والتهمة ، ويأخذ البريء بالمذنب، كما فعل أبوه زياد من قبل ، وقد ساقهم كالاَغنام لاَفظع جريمة عرفها التأريخالبشري وهي حربهم لحفيد النبي ( صلى الله عليه وآله ) الاِمام الحسين ( عليه السلام)نسالكم الدعاء

خادم الباقرع
28-11-2008, 09:49 PM
بارك الله فيك اخي الكريم على الموضوع المميز skj

محـب الحسين
29-11-2008, 12:57 AM
وفقك الله لما يحبه ويرضاه

انوار ولائيه
29-11-2008, 01:45 AM
جزاك الله خير

تراب البقيع
29-11-2008, 09:25 PM
بارك الله فيك اخي الكريم على الموضوع المميز skj




بسم الله الرحمن الرحيم

اللهم صل على محمد وال محمد وعجل فرجهم
ولعنة الابديه على اعدائهم الى يوم الدين
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته
اشكرك اخي خادم الباقر (ع) على مرورك
الكريم رحم الله ولديك ان شاء الله
موفقين للخير
اخوك تراب البقيع
http://www.al3lwih.net/up//uploads/images/al3lwih.com-55d81067e3.gif (http://www.al3lwih.net/up//uploads/images/al3lwih.com-55d81067e3.gif)
دمتم بحب الزهراء عليها السلام

تراب البقيع
29-11-2008, 09:26 PM
وفقك الله لما يحبه ويرضاه


بسم الله الرحمن الرحيم

اللهم صل على محمد وال محمد وعجل فرجهم
ولعنة الابديه على اعدائهم الى يوم الدين
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته
اشكرك اخي محب الحسين (ع) على مرورك
الكريم رحم الله ولديك ان شاء الله
موفقين للخير
اخوك تراب البقيع
http://www.al3lwih.net/up//uploads/images/al3lwih.com-55d81067e3.gif (http://www.al3lwih.net/up//uploads/images/al3lwih.com-55d81067e3.gif)
دمتم بحب الزهراء عليها السلام

تراب البقيع
29-11-2008, 09:27 PM
جزاك الله خير


بسم الله الرحمن الرحيم

اللهم صل على محمد وال محمد وعجل فرجهم
ولعنة الابديه على اعدائهم الى يوم الدين
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته
اشكرك اختي انوار ولائيه على مرورك
الكريم رحم الله ولديك ان شاء الله
موفقين للخير
اخوك تراب البقيع
http://www.al3lwih.net/up//uploads/images/al3lwih.com-55d81067e3.gif (http://www.al3lwih.net/up//uploads/images/al3lwih.com-55d81067e3.gif)
دمتم بحب الزهراء عليها السلام

سكون الليل
30-11-2008, 03:36 PM
gbvgbv وفقك الله اخي على الموضوعgbvgbv

تراب البقيع
30-11-2008, 04:25 PM
gbvgbv وفقك الله اخي على الموضوعgbvgbv
بسم الله الرحمن الرحيم


اللهم صل على محمد وال محمد وعجل فرجهم
ولعنة الابديه على اعدائهم الى يوم الدين
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته
اشكرك اخي محمد لمرورك الكريم
رحم الله ولديك ان شاء الله
موفقين للخير
اخوك تراب البقيع
http://www.al3lwih.net/up//uploads/images/al3lwih.com-55d81067e3.gif (http://www.al3lwih.net/up//uploads/images/al3lwih.com-55d81067e3.gif)
دمتم بحب الزهراء عليها السلام