المساعد الشخصي الرقمي

مشاهدة النسخة كاملة : الغزو الفكري قديماً وحديثا


لبيك داعي الله
11-02-2011, 03:25 PM
نص المحاضرة التي ألقاها الشيخ أحمد بن حمد الخليلي في جامع نزوى يوم الأربعاء الرابع من شهر رجب 1423هـ، الموافق 11 سبتمبر 2002 م.

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله رب العالمين، حمداً يليق بجلال وجهه وعظيم سلطانه، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن سيدنا ونبينا محمد عبده ورسوله، أرسله الله بالحجة القاطعة والمعجزة الساطعة والدعوة الجامعة، فبلّغ الرسالة وأدّى الأمانة ونصح الأمة وكشف الله به الغمة، صلوات الله وسلامه عليه وعلى آله وصحبه أجمعين، وعلى تابعيهم بإحسان إلى يوم الدين، أما بعد،،،
فالسلام عليكم أيها المشائخ والأخوة والأبناء ورحمة الله وبركاته، أحييكم بهذه التحية الطيبة المباركة، وأسأل الله سبحانه وتعالى الذي جمعني بكم في هذا البلد العريق وفي هذا المسجد العتيد في ظل كتاب الله الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، تنزيل من حكيم حميد، ونحن نستبشر بهذه الشبيبة التي نرجو بمشيئة الله سبحانه وتعالى أن تكون دعامة حق لهذا الدين، وأن تكون مضطلعة بأمانته، قائمة بواجباته، مبلغة لرسالته، ناصحة لهذه الأمة، آخذة بزمام قافلة الإنسانية إلى طريق الخير والسعادة.
-أهمية الفكر السليم-

ولا ريب أنكم تدركون أن فكر الإنسان هو مصدر استقامته أو انحرافه، وهداه أو ضلاله، فبقدر ما يكون عليه الفكر من الهدى بحيث يكون نابعاً من أصل سوي تكون استقامة الإنسان في سلوكه، وبقدر ما يكون بخلاف ذلك يكون أيضاً انحرافه، ومن أجل ذلك أرسل الله سبحانه وتعالى رسله، وأنزل كتبه من أجل تنظيف فكر الإنسان من الدخيل الذي لا يتفق مع الحقيقة ولا ينسجم مع الفطرة، وقد أرسل الله سبحانه وتعالى عبده ورسوله محمداً صلى الله عليه وسلّم على حين فترة من الرسل بعدما استبدت الأهواء بالناس، وتشبعت بهم المسالك، وتفرقت بهم الطرق، وكانوا في أفكارهم وتصوراتهم وفي سلوكهم ومعاملاتهم متباينين تمام التباين، وأكثرهم لم يكونوا على شيء من الهدى إلا من كان مستمسكاً بالكتاب الذي أنزل من قبل، ولم يفرط في المحافظة عليه، ولم يحرف شيئاً مما جاء به، أولئك الذي قال الله سبحانه وتعالى فيهم (الذين آتيناهم الكتاب من قبله هم به يؤمنون وإذا يتلى عليهم قالوا آمنا به إنه الحق من ربنا إنا كنا من قبله مسلمين) وكان من بين أولئك الذين استمسكوا بالفكر الصحيح الحنيفيون الذين حرصوا على اتباع الحنيفية، وحرصوا على عقيدة التوحيد والبعد عن الضلال وسائر الإنسانية كانت تتسكع في الظلمات، وتهيم في أودية الضلال، لا تفرق بين حقيقة بين خيال، ولا بين حق وباطل، لأنها لم تكن على بينة من أمرها، ولم تكن على بصيرة من ربها فلذلك ضل فكرها ذلك الضلال البعيد، وقد حرص النبي صلى الله عليه وسلم على تنظيف الفكر من كل ما علق به من الأوهام والضلالات والخيالات التي سلكت بالناس مسالك متعددة في الانحراف عن طريق الحق.
وقد ترك النبي صلوات الله وسلامه عليه الناس على المحجة البيضاء الناصعة ليلها كنهارها لا يزيغ عنها إلا هالك، ولكن هل بقي هذا الفكر على نصاعته ووضوحه وظهوره للناس؟!، أو أن هذا الفكر أصيب بكثير من اللوثات التي انحرفت به ذات اليمين وذات الشمال.
من المعلوم أن اليهود منذ أن بعث الله تعالى نبيه صلوات الله وسلامه عليه ظلوا يخططون من أجل الانحراف بفكر هذه الأمة عن المنهج السوي، فلذلك دخل في أدمغة هذه الأمة الكثير من الأفكار التي خطط لها اليهود بطريقة أو بأخرى، وقد صدّق الناس كثيراً أولئك الذين تظاهروا بالإسلام من أهل الكتاب وتلقوا عنهم، ووجدت رواية تنسب إلى النبي صلى الله عليه وسلّم هي أبعد ما تكون عن الحقيقة أنه قال: (حدثوا عن بني إسرائيل ولا حرج)، فلذلك دخلت الأفكار المنحرفة في صميم عقيدة هذه الأمة وكان ذلك سبباً لزيغ هذا الفكر عن المنهج السوي.
ومن المعلوم أن من فضل الله سبحانه وتعالى على هذه الأمة أن حفظ لها كتابها من التحريف والتبديل، وتلك إحدى معجزات القرآن الكريم، فإن كل من أراد أن يتطاول على القرآن بتحريف أو تبديل رد الله تبارك وتعالى كيده في نحره ولم يستطع أن يتوصل إلى مرامه، وظل الكتاب محفوظاً كما يقول الحق تبارك وتعالى: (إنا نحن نزلنا الذكر وإنا له لحافظون)، ولكن مع هذا كله دخلت مرويات ألحقت بالسنة النبوية فيها الكثير من الانحراف عن منهج الحق، وقد حرص العلماء على تنقية هذه المرويات من الشوائب، ولكن مما يؤسف له أن أولئك الذين اهتموا بهذا الجانب إنما عنوا بالنظر في الأسانيد، ولم يعنوا بالنظر في المتون، ومع ذلك نظروا إلى هذه الأسانيد من زاوية معينة، فكان المُجرح أو المُعدل ينظر إلى الراوي من خلال اتفاقه معه في معتقده، فمهما خالف معتقده رماه بالجرح، ووصمه بكثير من الصفات التي تنتقص من قدره وتشوه سمعته بين الناس؛ فلذلك لم يمكن لهؤلاء أن ينقوا السنة من جميع الشوائب التي ألحقت بها وسنة النبي صلى الله عليه وسلّم بريئة من ذلك.
-كذبوا على الأنبياء-

ومن بين هذا الغزو الفكري الذي بدأ في مرحلة مبكرة وكان له أثر على هذه الأمة في سلوكها؛ ما يتعلق بتفسير القرآن الكريم، فقد أدرجت في تفسير القرآن الكريم مرويات شتى فيها الكثير جداً من الانحراف عن الحق، فنحن إن سكتنا عما يتعلق بالطبيعة وما أدخل في تفسير القرآن الكريم مما يتنافى مع دلالة القرآن، فإننا نرى أن الكثير من هذه المرويات فيما يتعلق بتفسير الآيات التي تتناول قصص الأنبياء تنتقص من قدرهم، وتصورهم شهوانيين لا هم لهم إلا السعي وراء شهوات أنفسهم، وهذا غير بدع إذا نظرنا إلى مسلك اليهود، فإن اليهود إنما ألصقوا بأنبياء بني إسرائيل الكثير جداً من المرويات التي شوهت صورتهم، حتى أنهم قالوا في لوط عليه السلام إنه كان في حالة سكر وزنى بابنته وحملت منه، ونسبوا إلى الكثير من أنبياء بني إسرائيل من ذرية يعقوب عليه السلام ما نسبوا إليهم من الضلال، وغير بدع وقد صدق الناس مرويات بني إسرائيل أن تدخل هذه الروايات في تفسير القرآن الكريم، لذلك وجدنا التفسير محشواً بالكثير جداً من الضلالات التي نسبت إلى الأنبياء.
-قصة داود عليه السلام-

من ذلك ما نسب إلى نبي الله داود عليه السلام أنه عشق امرأة وبعث بزوجها في سرية من أجل أن يقتل حتى يتمكن من الزواج بتلك المرأة، وهذا مما تداوله المفسرون كثيراً وهو بطبيعة الحال من الغزو الفكري، والله تبارك وتعالى وصف نبيه داود عليه السلام بأحسن الصفات التي تبرئه من هذا الذي نسب إليه.
-قصة يوسف عليه السلام-

مما يؤسف له كذلك ما نسب إلى يوسف عليه السلام، فقد روى ابن جرير الطبري في تفسيره وتناقله الكثير من المفسرين من أنه همّ بإتيان الفحشاء مع امرأة العزيز، وفُسّر بذلك قول الله سبحانه وتعالى: (ولقد همت به وهم بها لولا أن رأى برهان ربه)، بحيث زعموا أنه قعد منها مقعد الرجل من امرأته بين فخذيها بعدما حلّ تِكة سراويله، ورأى في هذه الحالة يعقوب عليه السلام عاضاً على أنامله، ومنهم من قال بأنه رأى يداً مكتوباً عليها كيف تفعل هذه الأفعال وأنت من النبيين، إلى غير ذلك مما نسبوه، مع أن هذا بعيد عن الحقيقة.
وقد أجاد الفخر الرازي في هذا عندما قال بأن من قال هذا القول فقد كذّب الله تبارك وتعالى، وكذّب يوسف عليه السلام، وكذّب امرأة العزيز، وكذّب النساء اللواتي كن يراودن يوسف عن نفسه، وكذّب الشيطان نفسه.
أما تكذيبه لله تبارك وتعالى فإن الله سبحانه وتعالى قال: (كذلك لنصرف عنه السوء والفحشاء إنه من عبادنا المخلصين) فكيف مع ذلك يوصف بهذا الوصف، وتكذيبه ليوسف عليه السلام فإن الله تبارك وتعالى حكى عنه بأنه قال: (رب السجن أحب إلي مما يدعونني إليه) فرجل يصل به الأمر وهو في ميعة الشباب إلى أن يستحب السجن مع ما فيه من العذاب والتنكيل، ويرى تغييبه في غياهب السجون خيراً له من أن يأتي شيئاً مما يدعى إليه هو ولا ريب أبعد ما يكون من أن يهم بهذه الفحشاء، وتكذيبه لامرأة العزيز لأنها قالت كما حكى الله تبارك وتعالى عنها (ولقد راودته عن نفسه فاستعصم)، ومعنى استعصم امتنع، أي كان معصوماً من إتيان هذا الأمر، وأما تكذيبه للنسوة فإن الله تبارك وتعالى حكى عنهن قولهن (حاش لله ما علمنا عليه من سوء)، وأما تكذيبه للشيطان فإن الشيطان الرجيم لعنه الله عندما أعلن التمرد على أمر الله سبحانه وتعالى قال في خطابه لله سبحانه (لأضلنهم أجمعين إلا عبادك منهم المخلصين)، ويوسف عليه السلام من عباد الله المخلصين بنص القرآن الكريم.
وما أدرك هؤلاء حقيقة الهم الذي نسبه الله سبحانه وتعالى إلى يوسف عليه السلام بعدما نسبه إلى امرأة العزيز، لا ريب أن امرأة العزيز راودته عن نفسها، وأرادت أن يقضي لها وطرها عندما تعلق قلبها به، ولكن بعدما امتنع عليها بأي شيء همت هي، وبأي شيء هم هو؟.
المرأة -كما بيّن العلامة السيد رشيد رضا في تفسيره المنار- لا يمكن أن تهم بأن تفعل شيئاً للرجل، وإنما غاية ما تفعله أن تدعوه إليها وتمكنه من نفسها، أما أن تهم به، أي تهم أن تفعل به الفاحشة فلا، لأنها مفعول بها وليست بفاعل، وإنما الرجل يفعل بها، فإذن ما الذي همت به وهم بها بسبب همها به؟، همت أن تضربه بسبب كبريائها وامتناعها عليها وعصيانه لأمره، وهم هو أن يرد عليها بأن يضربها دفاعاً عن نفسه، ولكن رأى من آيات ربه سبحانه وتعالى ما يدله على أنه لو فعل ذلك وظهر الأثر عليها لكانت لها حجة في هذا لتوقعه في التهمة فلذلك هرب عنها، ولما هرب عنها استمسكت بقميصه فقدّت قميصه من دبر فكانت الحجة له عليها، ولم تكن الحجة لها عليه، هذا الهم الذي كان بينه وبينها، ولا ريب أنها كانت تريد أن يواقعها ولكن ليس هذا هو الهم المعهود في قول الله تعالى (ولقد همت به وهم بها).
إنما همت أن تضربه بسبب امتناعه عليها كما هددته بالسجن فيما بعد، فهم هو أن يرد عليها دفاعاً عن نفسه، ورأى من آيات الله سبحانه وتعالى ومن الإلهام الرباني الذي وقع في نفسه بأنه لو فعل ذلك لأدى هذا إلى أن تبدو عليها آثار التهمة بسبب ما يكون عليها من علامة فعله ذلك، ولكن مع ذلك حشا الكثير جداً من المفسرين تفاسيرهم بهذه الأشياء، وقالوا بأنه رأى برهان ربه، أي رأى يعقوب يعاتبه أو رأى الكف التي كتب عليها ما كتب، ولو كان رجل من الفساق في لحظة قضاء وطره ورأى مثل هذا: أما كان له في ذلك ردع؟، فكيف يكون هذا ميزة لعبد وصفه الله تبارك وتعالى بأنه من عباده المخلصين ؟!، مع أن الفاجر الذي دأب على الفحشاء عندما يحاول إتيان الفحشاء وإذا به يرى أباه بين يديه يعاتبه أو أن يرى كفاً كتب عليها ما كتب أما كان في ذلك ما يردعه عن الوقوع في الفحشاء؟!.
ولا ريب أن هؤلاء النبيين قدرهم عال وشأنهم عظيم، وقد أمر الله تبارك وتعالى نبيه صلى الله عليه وسلّم أن يقتدي بهم عندما قال بعد ذكرهم (فبهداهم اقتده). ألا يجد من يقرأ عنهم مثل هذا الذي كتب عنهم من هذه السفاسف الدنية في ذلك ما يشجعه على الوقوع الفحشاء والانحراف عن سواء الصراط؟!، فهذا من جملة الغزو الفكري الذي أصيبت به هذه الأمة في صميم عقيدتها لأن نزاهة النبيين وعفتهم من صميم عقيدة هذه الأمة.
-قصة هاروت وماروت-

وقد نسبوا إلى الملائكة أنهم كان بينهم وبين الله تبارك وتعالى ما كان، وأن الله عز وجل أمرهم أن يختاروا ملكين هما من أكثر الملائكة عبادة وأكثرهم خشية لله تبارك وتعالى، فأنزلهما إلى الدنيا ولما أنزلهما إليها ابتلاءً وركّب فيهما الشهوة جاءتهما امرأة تشكو إليهما زوجها فكان منهما أن راوداها فاشترطت عليهما أن يسجدا للصنم وأن يشربا الخمر وأن يقتلا زوجها ففعلا ذلك، ثم بعد ذلك نالهما من العذاب ما نالهما إلى آخر ما نسب إليهما مما هو أبعد ما يكون عما وصف الله تبارك وتعالى به الملائكة في كتابه، فالله تعالى يقول فيهم (لا يعصون الله ما أمرهم ويفعلون ما يؤمرون)، ويقول (لا يسبقونه بالقول هم بأمره يعملون يعلم ما بين أيديهم وما خلفهم ولا يشفعون إلا لمن ارتضى وهم من خشيته مشفقون).
ومن المعلوم أن مثل هذه الأفكار عندما تروج وتشيع في أوساط الناس تؤدي إلى وقوع الناس في الفحشاء، إذ يقول الإنسان: إذا كان الملائكة وقد وصفوا بما وصفوا به وهم لم يستطيعوا أن يتمالكوا أنفسهم فاندفعوا وراء شهواتهم، حتى وقعوا في الكفر وسجدوا للصنم وشربوا الخمر وقتلوا النفس المحرمة بغير حق، فكيف بنا نحن؟، هذا الذي يقع في نفوس كثير من الضعفاء عندما تروج هذه الأفكار.
-افتراء على النبي صلى الله عليه وسلم-

وكذلك وُصف نبينا صلى الله عليه وسلّم -على عظم قدره وعلو شأنه- في الكثير من هذه الروايات بأوصاف لا تدل إلا على الهمجية و الشهوانية، فمما يؤسف له أن نجد في صحيح البخاري أن النبي صلى الله عليه وسلم عندما كان يشارك قومه في بناء البيت الحرام ويحمل الحجارة على كتفه لم يجد ما يتقي به فأشار عليه عمه العباس رضي الله عنه أن يخلع إزاره ويتقي به، فخلع إزاره وكان بادي العورة أمام الناس وأمام بيت الله الحرام ثم انتبه بعد ذلك وخر مغشياً عليه، من يصدق هذه الرواية ولو جاءت بأصح الأسانيد كما يزعمون؟!، من يصدق أن النبي صلى الله عليه وسلّم الذي يصفه الله بأنه على خلق عظيم (وإنك لعلى خلق عظيم) يصل به الأمر بأن يرضى أن يبدي عورته؟!.
ذلك الشيء لا يرضاه حتى أولئك الذين يعيشون في الأدغال أبعد ما يكونون عن الحضارة وعن القيم الإنسانية فضلاً عن القيم الدينية، من الذي يصدق هذا؟!.
وكذلك ما نسب إليه صلوات الله وسلامه عليه كما جاء في صحيح مسلم أنه نما إلى علمه بأن ابن عم جاريته مارية يواقعها، فأمر النبي صلى الله عليه وسلّم علي بن أبي طالب أن يذهب إليه ويقتله على الفور، هذا أمر لو نسب إلى جبار من جبابرة الأرض لكان ملوماً، وقالوا بأن علياً ذهب والسيف في يده ووجد الرجل يستحم في ركوة ماء فأمسك بيده وأخرجه من الركوة من أجل أن يقتله، وإذا به يسقط إزاره ويتبين أنه مجبوب ليس فيه ذكر، فرجع علي إلى النبي صلى الله عليه وسلّم وأخبره الخبر فأمره النبي صلى الله عليه وسلّم بالكف عنه..... من الذي يصدق هذه الرواية؟.
هل النبي صلى الله عليه وسلّم جبار يأخذ الناس بالظنة بمجرد أن ينسب إلى أحد أنه يفعل هذا الأمر فيأمر بقتله؟!، مع أن مجيء هذه الجارية إليه كان بعد وقوع قصة الإفك عند أم المؤمنين عائشة رضي الله تعالى عنها، وقصة الإفك فيها درس لأي أحد، فلو كان النبي صلى الله عليه وسلّم رجلاً عادياً ولم يكن نبياً مرسلاً من قبل الله سبحانه وتعالى لكفته قصة الإفك درساً حتى لا يتجرأ مثل هذا التجرؤ.
ثم من ناحية أخرى؛ ثم هل يكون النبي صلى الله عليه وسلّم أغير على جاريته منه على زوجه أم المؤمنين السيدة عائشة رضي الله تعالى عنها؟!، فعندما نُمي إليه ما نُمي وتحدث الناس بأن رجلاً صارت بينه وبين أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها علاقة وبرأها الله من ذلك، فلماذا لم يأمر بقتل ذلك الرجل في ذلك الحال؟، مما يدل على أن هذه الرواية ليست صحيحة ولا يمكن أن تقبل، ومع الأسف جاءت في صحيح مسلم معزوة إلى أنس بن مالك رضي الله تعالى عنه!.
وكذلك نسب إلى النبي صلى الله عليه وسلّم كما جاء في تفسير ابن جرير الطبري بأنه أبصر امرأة زيد وكانت عليها ثياب رقاق فاستبد جمالها بقلبه، وسرى حبها في أعماق نفسه، فلم يتمالك وخرج وهو يقول سبحان مقلب القلوب، وقالوا بأن هواه بها وتعلقه بها هو المعني بقول الله تبارك وتعالى (وتخفي في نفسك ما الله مبديه)، ونحن نتساءل:من أين جاء ذلك؟ وهل يليق هذا بالنبي صلى الله عليه وسلّم؟. وهل يليق برجل مؤمن عادي- فضلاً عن أن يكون نبياً مرسلاً من عند الله تبارك وتعالى عصمه الله- أن يذهب إلى بيت إنسان ويمتد نظره إلى ما في داخل حرمه حتى يرى امرأته بالثياب الرقاق، ويأخذ جمالها بشعاب نفسه ويستبد حبها بقلبه؟، فعلى هذا يكون المراد بقول الله تبارك وتعالى (وتخفي في نفسك ما الله مبديه) أنه كان يأمر زوجها زيداً بأن يستمسك بها ويقول له (أمسك عليك زوجك) مع أنه يعلم بأن الله تعالى كتب له أن يتزوجها.
-عقيدة التجسيم والتشبيه -

ونجد أن من جملة ما غزا به اليهود أفكار هذه الأمة؛ ما أشاعوه من تشبيه الله تبارك وتعالى بخلقه، وتشبيه الخلق بالله تبارك وتعالى، فقد أشاعوا في أوساط الأمة تشبيه الخالق سبحانه وتعالى بعباده، فوصفوه بكل صفات الخلق حتى وصفوه بالذهول والنسيان، ووصفوه سبحانه وتعالى بأن له أجزاء وله حدود وأنه ينزل ويطلع إلى آخر ما وصفوه به، مع أن هذه الأوصاف هي ما يصف به اليهود ربهم سبحانه وتعالى كما في توراتهم المحرفة، وقد شاع ذلك في أوساط هذه الأمة حتى اعتبرت عقيدة التشبيه هي عقيدة السلف؛ نسبة لها إلى السلف الصالح، مع أن السلف براء منها.
وكذلك تشبيه الخلق بالله سبحانه وتعالى، بحيث جعلوا ما لله للعباد من البسط والقبض والعطاء والمنع والتصرف في هذا الكون إلى غير ذلك مما شاع عند الاتجاه الآخر، إذ لا تبقى هيبة للربوبية عند تشبيه الله بخلقه أو عند تشبيه الخلق بالله سبحانه وتعالى، ويؤدى إلى شيوع الفحشاء والمعصية، وعدم المبالاة بانتهاك الحرم والتملص من واجبات الدين والتخلص من تبعاته، والاستخفاف بجميع حرماته.

-خطورة الإرجاء-

ومن الفكر اليهودي الذي شاع في أوساط الأمة عقيدة الإرجاء؛ التي جعلت الإنسان يتناسى الوعيد ويستمسك بالوعد، بل إن هذه العقيدة تجعل الإيمان أمراً نظرياً مثالياً لا وجود له في عالم الواقع، إذ الإيمان أن يعتقد الإنسان فحسب تلكم المعتقدات كأنها نظرية تدغدغ الأذهان من غير أن تتحول إلى واقع ملموس، مع أن الإيمان الذي نيطت به النجاة من عذاب الله هو ذلكم الإيمان الذي يملك شعاب النفس ويستولي على الفكر والوجدان، ويهيمن على الجوارح والأركان، ويوجه الإنسان الوجهة المرضية في القول والعمل والأخلاق، فالله سبحانه وتعالى يقول:( إنما المؤمنون الذين إذا ذكر الله وجلت قلوبهم وإذا تليت عليهم آياته زادتهم إيماناً وعلى ربهم يتوكلون الذين يقيمون الصلاة ومما رزقناهم ينفقون أولئك هم المؤمنون حقا لهم درجات عند ربهم ومغفرة ورزق كريم)، فهل مثل هذا الإنسان الذي يوجل قلبه بمجرد ذكر الله تبارك وتعالى يتجرأ على انتهاك حرم الحق؟!، وعلى الوقوع في معاصي الله سبحانه وتعالى من غير أن يتوب عنها ويقلع عنها.
وتجاهل هؤلاء الآيات الكثيرة في كتاب الله سبحانه وتعالى التي تدل على أن كل أحد مجزي بعمله فالله سبحانه يقول: (ليس بأمانيكم ولا أماني أهل الكتاب من يعمل سوء يجز به ولا يجد له من دون الله ولياً ولا نصيرا)، فإذا بهم يتعلقون بأماني المغفرة وأماني الشفاعات وأماني الخروج من النار بعد التعذيب - كما يقولون - مدة قصيرة مع تخفيف عذابها حتى تكون لطيفة جداً.
وقد سمعت أحد هؤلاء الذين يشيعون عقيدة الإرجاء في وقتنا هذا يقول: إن أدخل المسلم النار فإن عذابها يُهوَّن عليه حتى يكون لطيفاً، وتكون النار في منتهى اللطف. فقال له من كان يسجل محاضرته: أتكون حرارة هذه النار مثل حرارة الاستديو؟ قال: هي أشد قليلاً، هكذا وصل الأمر بهؤلاء إلى الاستخفاف بآيات الله مع أن الله تبارك وتعالى يقول (فذكر بالقرآن من يخاف وعيد)، ويقول: (سيذكر من يخشى)، ويقول: (إن في ذلك لآية لمن خاف عذاب الآخرة).
ونجد النصوص القرآنية دالة على أن هذه المعتقدات كلها إنما هي معتقدات يهودية، فالله تبارك وتعالى يقول: (فخلف من بعدهم خلف ورثوا الكتاب يأخذون عرض هذا الأدنى ويقولون سيغفر لنا).
وفعلاً وقعت هذه الأمة فيما وقع فيه اليهود، فنجد في كلام أساطين هذه الأمة بأن الله تبارك تعالى إذا وعد أوفى وإذا توعد عفا، وذلك عين كلام اليهود، وقد بيّن سبحانه وتعالى أن هذا الانحراف في المعتقد هو الذي يؤدي إلى عدم المبالاة بأوامر الله وعدم تحكيم أمره وعدم الانقياد لحكمه فقد قال عز من قائل: (ألم تر إلى الذين أوتوا نصيباً من الكتاب يدعون إلى كتاب الله ليحكم بينهم ثم يتولى فريق منهم وهو معرضون ذلك بأنهم قالوا لن تمسنا النار إلا أياماً معدودات وغرهم في دينهم ما كانوا يفترون فكيف إذا جمعناهم ليوم لا ريب فيه ووفيت كل نفس ما كسبت وهم لا يظلمون)، والآيات الدالة على نفاذ وعيد الله تبارك وتعالى ووعده هي كثيرة جداً فالله تعالى يقول: (لا تختصموا لدي وقد قدمت إليكم بالوعيد ما يبدل القول لدي وما أنا بظلام للعبيد)، ويقول: (لا تبديل لكلمات الله)، ويقول: (إن الله لا يخلف الميعاد).
ولننظر ماذا أثمر هذا الفكر؟!، لقد أثمر شيوع الفحشاء والانحراف لدى هذه الأمة، وقد انعكس ذلك على الأدب الهابط الذي حفلت به كتب الأدب قديماً وحديثاً حتى صارت زاخرة بمثل هذه التصويرات العجيبة للفحشاء في أقبح صورها وتزيينها للناس وترغيب النفوس فيها، وصارت كتب الأدب حافلة بذلك، ليقرأ أحدكم كتاب الأغاني ومحاضرات الأدباء بل ليقرأ التراجم.
ومما يؤسف له أن نجد مثلا ابن خلكان وقد كان حسبما يلقب - قاضي القضاة- في عصره يترجم ليحيى بن أكثم، وهو أيضاً كان قاضي القضاة في عهد المأمون، و ينسب إليه من هذه الأعمال ما يندى له الجبين ويخجل منه المرء بسبب ما نسبه إليه من أمور وقعت موقعاً عجيباً من نفوس الفساق، تدفع بهم إلى ارتكاب الفحشاء من غير مبالاة بالانحراف والشذوذ، وهنا يقف عقل الإنسان حائراً بين التصديق والتكذيب، فكلا الأمرين صعب ( وحسبي من أمرين أحلاهما مر)، مع أن هذا ينسب إلى عالم من كبار العلماء، فإما أن يكون هذا الذي نسب إليه صادقاً فيما نسبه إليه وتلك هي المصيبة، وإما أن يكون كاذباً وهذه أيضاً مصيبة لا تقل عن تلك لأنه افترى عليه كذباً ونسب إليه ما هو منه براء ورماه بالفحشاء، وهذا مما يؤدي إلى شيوع الفحشاء وانتشارها في أوساط الناس.
-الغزو المعاصر-

فهذه الغزوات الفكرية حصلت لهذه الأمة من قديم الزمان ، وما حصل الآن ليس بأقل من ذلك ، فكم من أمور دُست في صميم فكر هذه الأمة بسبب عدم استيعابها لمعاني القرآن، وعدم تفقهها في دين الله، وعدم استمساكها بحبل الله، وإذا بها تتخبط ذات اليمين وذات الشمال، وكل ما دس من المكائد إنما يقف وراءه اليهود ومن يشايعهم ويناصرهم من الصليبين والملحدين وغيرهم لأجل صد هذه الأمة عن دين الله.


وحسبنا أن نرى أن الدعوة التنصيرية مع أن ظاهرها دعوة إلى دين، سواء هذا الدين ديناً صحيحاً أو لم يكن ديناً صحيحاً، ولكن مع ذلك يقول المنصرون بأنفسهم بأنهم لا يريدون من المسلم إلا أن يكون شهوانياً، فـ (زويمر) يقول: إن مهمة التبشير التي ندبتكم من أجلها الدول المسيحية للقيام بها في البلاد المحمدية ليست في تنصير المسلمين فإن في ذلك هداية لهم وتكريماً، وإنما هي في إخراج المسلم من الإسلام وجعله مخلوقاً لا صلة له بالله، وبالتالي لا صلة له بالأخلاق التي تعتمد عليها الأمم في حياتها، وبهذا تكونون بعملكم هذا طليعة الفتح الاستعماري، ثم يقول لإخوانه القسيسين: إنكم نجحتم في إخراج جيل من المسلمين لا هم له إلا في الشهوات.
ونجد الآن المؤسسات الإعلامية التي تقف وراءها الصهيونية العالمية والصليبية العالمية والإلحاد العالمي وجميع مؤسسات الكفر في هذا العالم تصب في هذا المصب، فهي أولاً تنحرف بفكر المسلم وتشككه في إسلامه وتحاول إبعاده عن الله تبارك وتعالى، وسلخه من جميع مقومات عقيدته وفكره ليصبح أشبه بالبهيمة العجماء لا هم له إلا في شهواته، مع وجود المغريات الكثيرة حتى أن بعض الكاتبين من الغربيين أنفسهم شبّه (السينما) بحملة المغول التتار على الأمة الإسلامية وسماها (مغول السينما)، ومعنى ذلك ما يدس لأجل القضاء في (السينما) على هذه الأمة و إبعادها عن مقوماتها وأسباب عزتها وكرامتها لا يقل عما أثَّره المغول في هذه الأمة.
وكذلك بجانب هذا الصحافة التي تنشر الصور العارية والتي تؤجج الشهوات في النفوس، والأفلام الخليعة والمسلسلات الهابطة إلى غير ذلك، كل ذلك مما يدخل في الغزو الفكري الأخلاقي لهذه الأمة من أجل الانحراف بمعتقداتها والانحراف بأخلاقها، ذلك لأن الإنسان عندما يصبح أسير شهوته لا يصبح له معتقد، فلا هم له بالفكر ولا بالمعتقد ولا بأي أمر إلا في إشباع هذه الغريزة وما يؤججها من المهيجات الكثيرة التي تؤدي بشباب هذه الأمة إلى المزيد من الانحراف.
وجدت في إحدى الصحف أن شركة واحدة من الشركات الغربية المملوكة لليهود ولمن معهم تسمى (فايزر)، وهذه الشركة ربحت من بيع الدواء المهيج للشهوة الجنسية المسمى (الفياجرا) اثني عشر ملياراً من الدولارات، ذلك إنما هو لأجل أن تكون هذه الأمة أمة شهوانية لا صلة لها بالدين ولا بالأخلاق، إنما تحاول إشباع شهواتها، فالله تبارك تعالى عندما ذكر الخلف الذي خلف أولئك الصالحين أولئك النبيين قال: (فخلف من بعدهم خلف أضاعوا الصلاة واتبعوا الشهوات فسوف يلقون غياً).
فيجب على هذه الأمة أن تحافظ على نفسها، وأن تحرص على المحافظة على شبابها، أولاً قبل كل شيء بغرس العقيدة الصحيحة وإبعاد عقيدة الإرجاء وعقيدة التشبيه وعقيدة الاستخفاف بالنبيين وعقيدة نسبة هذه الرزايا إلى هؤلاء الأنبياء؛ حتى يكون هؤلاء الشباب عارفين بالصورة الصحيحة التي كان عليها الأنبياء والمرسلون، وأن يحرصوا على اتباع هذا المنهج، ومع ذلك أن يربوا على الأخلاق الفاضلة والبعد عن متابعة مثل هذه المسلسلات الهابطة و الأفلام المدسوسة والصحف الخليعة وغير ذلك مما يروج له بطريقة أو بأخرى من أجل إبعاد الشباب المسلم عن قرآنه ودينه ومنهاج النبوة حتى يكون شباباً شهوانياً، فالشباب المسلم بحاجة إلى تربية على هذه الأخلاق، وبحاجة إلى النهوض به لتكون همته همة عالية يطمح في معالي الأمور ويسعى إليها، ويضحي بالغالي والثمين في سبيل تحقيقها، وهذا ما نرجو أن يتحقق من خلال المؤسسات التربوية والمراكز الصيفية التي تُنشئ هؤلاء الشباب هذه التنشئة، ونريد بمشيئة الله أن لا تكون هذه التربية تربية نظرية بل نريدها تربية عملية ليحرص الكل على اتباع الحق.
ومع هذا فإنه من الأهمية بمكان أن يعرف الشباب من يقتدون به ، وأعداء الإسلام أدركوا هذه الناحية لذلك لمّعوا شخصيات كافرة شخصيات هابطة سافلة شخصيات شهوانية من أجل أن يكون الشباب المسلم يحتذي بهذه الشخصيات ويعجب بها بحيث يدرس بعض هؤلاء الشباب مع الأسف الشديد سيرة هؤلاء الشخصيات أكثر مما يدرسون سيرة النبي صلى الله عليه وسلّم، وهذا مما يجعلهم يعجبون بهؤلاء وإذا بهم ينساقون وراء مسلكهم، وكذلك من الأهمية بمكان أن يغرس في نفوس هؤلاء الشباب بأن قيم الإسلام هي مصدر العز لهم، وأن المسلم المعتز بمواريثه الفكرية ومواريثه العقدية والذي لا يخجل من شيء منها بحيث لا يصاب بمركب النقص ولا يصاب بهزيمة نفسية وإنما يعتز بذلك بحيث يكون ولاؤه لله تبارك وتعالى وولاؤه لنبيه صلى الله عليه وسلّم وولاؤه للمؤمنين الصالحين، عندما يكون الشباب بهذه الحالة يكون عارفاً بما يأتيه وما يذره، قادراً على التكيف في هذه الحياة وفق معطيات القرآن، وفق توجيه السنة النبوية على صاحبها أفضل الصلاة والسلام ليكون شباب مكيناً مضطلعاً بواجباته، قائماً بكل ما كُلّفه من تكاليف شريعة ، ومن بين هذه التكاليف بذل هذه الدعوة في أرجاء الأرض ونشر هذا الخير بين هذه القطعان الضالة من البشرية لإخراجها من ضلالها إلى الهدى ومن ظلماتها إلى النور .


والسلام ختام