المساعد الشخصي الرقمي

مشاهدة النسخة كاملة : الاسلام والسعادة


عاشقة النور
03-03-2011, 12:13 AM
الاسلام والسعادةقال الله العظيم في كتابه الحكيم: ﴿فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا فِطْرَةَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ﴾(الروم:30).

السعادة
نشأ الانسان منذ نعومة أظفاره محباً للسعادة والهناء، فاراً من البؤس والشقاء... فكل الناس يحبون أن يكونوا سعداء مرفهين، ويصرفون كل جهودهم في سبيل تحقيق ذلك الهدف المقدس النير... السعادة.

ولكن المشكلة المهمة هي معرفة أساس السعادة وحقيقة الرفاه، إذ لا يتسنى لمن لا يعرف حقيقة السعادة أن يطلبها ويسعى وراءها، لأن السعي وراء أمر مجهول عبث وباطل.

وطوال القرون المتمادية والأعصار المنصرمة، بحث العلماء عن السعادة البشرية وألفوا فيها وأوردوا نظريات مختلفة في هذا الموضوع.

وكذلك الأمم والكتل البشرية اتخذت طرقاً معينة وأساليب خاصة للوصول إلى السعادة، وإذا أردنا أن نستقصي جميع تلك النظريات والآراء والطرق والأساليب لاحتجنا إلى مقال أوسع من هذا، إلا أننا سنكتفي بذكر أهم تلك الآراء والنظريات المعروفة الآن. ثم نشير إلى بعض الأحاديث الواردة بشأن السعادة. هذا ولا يخفى أن المدار في تلك النظريات والأقوال ومحل النزاع في البحث هو ما يعتبره كل طائفة أصلاً ثابتاً للوصول إلى السعادة وأساساً لتحقيقها.

المبدأ النفسي
1- ذهب بعض العلماء والفلاسفة اليونانيين الذين سبقوا (أرسطو) إلى أن سعادة البشرية تنحصر في الكمالات النفسية، وهم يرون أن أساس السعادة الانسانية أربع صفات هي: الحكمة، الشجاعة، العفة، العدالة. فمن كان واجداً لهذه الصفات كان سعيداً، ومعها لا حاجة إلى الكمالات الجسدية وسلامة الجسم أو أمور خارجة عن البدن، فهؤلاء يقولون: "إن الانسان إذا حصل تلك الفضائل لم يضره في سعادته أن يكون ناقص الأعضاء مبتلى بجميع أمراض البدن "1.

فالأمراض البدنية عندهم لا تضر بالسعادة إلا إذا أوردت نقصاً على الجانب المعنوي منه، وأدت به إلى الجنون أو الحمق. وكذلك الفقر والتردي الاجتماعي فإنهما لا يضران بسعادة الانسان إذا كان محرزاً للصفات النفسانية الأربع الآنفة الذكر.

2- ويعتقد المرتاضون بالمبدأ النفسي في السعادة البشرية ويقولون: إن السعادة والكمال يرتبطان بكمال النفس والتعالي في الجوانب الروحية فقط. ويجب تحقيق تكامل الروح وإظهاره في الخارج عن طريق الرياضة النفسية ومجاهدة الأهواء والشهوات. ويفرط المرتاضون في عدم اعتنائهم بالجانب البدني كثيراً حتى أنهم أشد تفريطاً من اليونانيين الذين سبقوا (أرسطو) بالنسبة إلى أبدانهم. فبينما كان يرى حكماء اليونان أن السعادة تتعلق بكمال النفس ولا يضر معها نقصان البدن وليس في منهجهم ما يوجب الإضرار بالبدن نجد المرتاضين يعتقدون بأن كمال النفس يتناسب تناسباً طردياً مع حرمان البدن والأضرار به. فكلما كانت درجة الحرمان عن اللذائذ والطيبات عندهم أكثر، كانت درجة التكامل الروحي أكثر. ولهذا فان السالكين في هذا الطريق يسعون بجد واجتهاد لحرمان الجسد من ميوله وأهوائه، ويعذبون أجسادهم بالنوم على المسامير أو التعليق من غصن شجرة وما شابه ذلك من أساليب التعذيب أملاً في الحصول على السعادة المعنوية الكاملة.

3- وطائفة ثالثة تعتقد بالمبدأ النفسي في سعادة الانسان أيضاً، ولكنها في نفس الوقت لا تغمط الجسد حقه. هؤلاء يقولون: إن السعادة الحقيقية تكمن في التكامل الروحي ويجب الاعتناء به كثيراً، ولكن لا ينبغي التغافل عن إرضاء الميول الجنسية الخارجة عن حريم السعادة. ويؤكدون على نقطة مهمة هي أن كل ما كان مشتركاً بين الانسان والحيوان من الصفات والميول والشهوات فهو خارج عن نطاق السعادة الانسانية، ولذلك يقول قائلهم: "إن ما كان منها عاماً للانسان والبهائم فليست سعادة لنا"2.

إن نقطة الاشتراك بين هذه العقائد الثلاث التي كان لها أنصار في الأزمنة الغابرة بين الفلاسفة والحكماء اليونانيين وغيرهم من الناس طوال القرون المتمادية، هي أن الجانب النفسي فقط هو الذي يراعى فيه ويفقد الجانب البدني الاعتناء والمراعاة اللازمة، فالجسد عندهم يفقد قيمته الحقيقية وليس له أي دخل في تحقيق السعادة البشرية. والميول والرغبات المادية تلاقي حرماناً وكبتاً شديدين في نظرهم، حتى أنها لتقع تحت مطرقة الرياضة النفسية الثقيلة والتعذيب الشديد... ولا يخفى على من له مسكة من العقل أن هذا هو الشقاء والحرمان بعينه، وليس موصلاً إلى السعادة كما يظنون أبداً.

السعادة في المدنية الحديثة
وتعرف السعادة في العالم اليوم وفي كنف المدنية الحديثة بلون آخر، وتفسر بتفسير مضاد لتفسير الأمم السالفة والعصور القديمة مضادة تامة. فبينما كان أولئك يرون أن الأصل في الوصول إلى السعادة هو الكمال النفسي والتكامل الروحي، يذهب هؤلاء إلى التمسك بالجانب المادي واعتبار الأهواء والرغبات المادية ملاكاً في معرفة السعادة. وعليه فالكمالات النفسية والسجايا الخلقية والفضائل تفقد أثرها على مذهب هؤلاء المتمدنين.

وبصورة موجزة، فإن الافراط الشديد في الجانب الروحي، والتفريط الشديد في الجانب المادي... اللذين كنا نشاهدهما عند فلاسفة العصور القديمة قد انقلبا إلى العكس تماماً في المدنية الغربية المعاصرة. فأخذت بالافراط الشديد في الجانب المادي والتفريط الشديد في الجانب الروحي، كرد فعل للنظرة السابقة. وهنا لا بأس بأن نتطرق إلى بعض تلك المبادىء بصورة إجمالية:

المبدأ الاقتصادي
يعتقد العالم المتمدن اليوم وفي المعسكر الشرقي منه بالخصوص بأن السعادة منحصرة في التقدم الاقتصادي، وأن مصير السعادة الانسانية مرتبط بمصير الوضع الاقتصادي، هؤلاء ينظرون إلى كل زوايا الحياة بمنظار الاقتصاد، ويعللون جميع المسائل الاخلاقية والاجتماعية والدينية والاعتقادية بعلل اقتصادية... فهم يقولون: "إن تغير الأساس الاقتصادي يزعزع كل البناء الفوقي والهائل على صور مختلفة من السرعة أو البطء... هذا الانقلاب الذي يشاهد بالضبط الخاص بعلوم الطبيعة وبين الأشكال الحقوقية والسياسية والدينية والفنية والفلسفية أو بكلمة مختصرة، الأشكال الفكرية التي يتصور فيها الناس هذا النزاع ويكافحونه... فينبغي تفسير هذا الوعي في المجتمع بالقوى المنتجة وعلاقات الانتاج... "3 وكما وجدنا المرتاضين والمنخرطين في سلك المبدأ النفسي ينكرون كثيراً من الحقائق المادية والميول الجسدية، نجد في الطرف المقابل أن المنخرطين في سلك المبدأ الاقتصادي ينكرون كثيراً من الحقائق الروحية والاعتقادية والاخلاقية ولم يعتبروا لها وجوداً أصلاً...

نحن لا ننكر أن الكمالات النفسية والسجايا الخلقية تشكل الأركان المهمة للسعادة، ولكن لا يصح القول بأن السعادة البشرية منحصرة في الأخلاق والمثل. كما أننا لا ننكر أن الاقتصاد من الأسس القويمة للسعادة البشرية، إذ بدونه لا تحصل السعادة الكاملة، كما ورد في الحديث: "من لا معاش له لا معاد له "إلا أنه لا يصح القول بأن السعادة البشرية منحصرة في الاقتصاد.

وهنا لا بأس بأن نستشهد بكلام لأحد العلماء الغربيين المعاصرين بهذا الصدد:

"نحن اليوم نسير في جادة الزمن مع التقدم التكنولوجي من دون أن نعير أهمية إلى الاحتياجات الأصلية للجسد والروح. ومع أننا نتخبط في المادة نعتبر أنفسنا بمعزل عنها ولا نحاول أن نفهم بأنه يجب لأجل الاستمرار في الحياة السير بمقتضى طبيعة الأشياء وطبيعة أنفسنا لا على طبق الأهواء والرغبات. ان البشرية المتمدنة تتردى منذ قرون طويلة في هذه الهوة السحيقة. وإن تاريخ الانحطاط الخلقي والابتعاد عن الروح الدينية يتفق تماماً مع تاريخ الخروج على القوانين الأصلية للطبيعة. إنه لا يمكن حصر النشاطات البشرية كلها في الجوانب المادية فقط إلا بعد تحطيم شخصية الانسان لأن الانسان لم يخلق للأكل والتكاثر بل أقدم منذ نعومة أظفاره على ابتداء التكامل بحب الجمال، والاحساس الديني والنشاط الفكري، والشعور بالتضحية والحياة البطولية... "4.

"وإذا حددنا الانسان بنشاطه الاقتصادي فقط فكأننا فصلنا جزءاً كبيراً منه. وعليه فإن الليبرالية والماركسية تسحقان الرغبات الأصلية والنوازع الفطرية في النفس الانسانية"5.

"إن الفضيلة من القيم الانسانية القديمة، ويمكن العثور عليها في العالم المتمدن، إلا أنه يندر العثور عليها في الجماعات التي ترزح تحت نير النظم المادية، إن المجتمع الذي يقدس الاقتصاد لا يعرف شيئاً عن الفضيلة. لأن الذي يريد الفضيلة لا بد وأن يبتغي إطاعة القوانين الحياتية. أما إذا قيد الانسان نفسه بالنشاط الاقتصادي فقط فلا يطيع القوانين الكونية والاجتماعية أصلاً"6.

مبدأ اللذة
وتذهب طائفة كبيرة من المتمدنين اليوم إلى أن الأصل في السعادة الانسانية هو اللذة. وعليه فالسعادة عبارة عن تحقيق اللذائذ المادية، والمثل الأعلى للانسان السعيد هو الذي يستفيد من لذائذ الحياة أكثر من غيره.

ويمكن اعتبار العالم النفسي سيجموند فرويد ومن لف لفه، رافعي راية هذا المبدأ. وكما رأينا أصحاب المبدأ الاقتصادي ينظرون إلى كل شيء بمنظار الاقتصاد، فإن فرويد يعلل جميع ظواهر الحياة بمنظار الميول والدوافع الجنسية، ولذلك فهو يقول في موضوع حقيقة السعادة:

"إنه لا يفوتني الادراك بأن الحب هو مركز الحياة، وعليه فإن الناس يعللون كل فرح ونجاح بالحب والمحبوبية وهذا الوضع النفسي موجود عند الجميع. إن من المظاهر التي يظهر فيها الحب هو الحب الجنسي الذي يكسبنا حالة من الانجذاب والشعور باللذة. وفي النتيجة فإن هذه اللذة تكون قدوة ودليلاً لميلنا نحو السعادة. فأي شيء إذن أقوم من أن نسلك الطريق إلى السعادة في نفس الطريق الذي صادفناه أول مرة "7.

أرأيت كيف يعتبر فرويد، اللذة والشهوة الجنسية مصدراً لكل شيء؟!. حتى أنه يقول: إن الشهوة الجنسية هي التي تظهر بمظهر الأخلاق تارة وفي صور العقائد والأديان تارة أخرى وهي نفسها التي تتشكل أحياناً بحنان الأم وعطف الأخ، فهي الكل في الكل في هذه الحياة!!.

فمظاهر الحياة عند فرويد من أخلاقية وفنية ودينية وسياسية واقتصادية واجتماعية، كلها وليدة الحب والجنس واللذة لا أكثر، فالمظاهر وإن اختلفت إلا أنها متحدة في جوهرها ومآلها. واستمع إليه يقول:

"إن حنان الأم، الحب الأبوي والأخوي، الصداقة والصحبة مشتقة من الجنس عند فرويد. وجميع الروابط الاجتماعية بين الأشخاص كالعلاقة بين المعلم والتلميذ، والعلاقة بين الأم والطفل وما شاكل ذلك إما أن تمتاز بطابع جنسي من ذاتها أو ترجع إلى أصل جنسي في النتيجة"8.

ومع أن فرويد يقسم الغرائز الأولى عند الانسان إلى قسمين: الغرائز التي تتعلق بصيانة الذات، والغريزة الجنسية، نجده في المقام يغرق في الشهوة الجنسية حتى أنها تنسيه غريزة حب الذات التي اعترف بها في بادىء الأمر وكشاهد على ما نقول، إليك العبارة الآتية:

"إن فرويد يثبت بمعونة بعض الأمثلة كيف أن الغريزة الجنسية التي هي أقوى وأعمق القوى الروحية عند الانسان قد تكيفت بصورة مجهولة عبر الزمن، وظهرت بمظاهر الميول المختلفة والأشكال المتباينة، بحيث إذا واجه طبيب اختلالاً روحياً مهما كان جزئياً يتمكن من أن يحكم بصورة قطعية على أن حادثة غير طبيعية قد طرأت على الجهاز الجنسي والرغبات الجنسية للمريض وعليه فإنه يرجعه إلى حالته الأولى بصورة تدريجية حسب التعاليم النفسية الدقيقة، ويقلص من إطار مسؤوليته شيئاً فشيئاً حتى يصل إلى نقطة الاختلال الباعثة على الانحراف في جهازه الجنسي، هذه هي خلاصة نظرية (فرويد) في العلاج النفسي... "9.

هذا هو موجز الاكتشاف العظيم الذي راه فرويد والفرويديون منشأ التحول في العلاج النفسي الحديث. أما كيف استدل فرويد على أن أي اختلال روحي يستند إلى حدوث شيء في الغريزة الجنسية؟! أما كيف لا يكون التطور الحادث في الغريزة الجنسية هو المسبب عن حدوث الاختلال الروحي؟... فذلك ما لا يريد أن يفهمه فرويد واتباعه، نعم ! إن كان فرويد يدعي أن أكثر الاختلالات الروحية تستند إلى الغريزة الجنسية فلربما كان يلاقي كلامه هذا قبولاً من القارىء، وكان يؤدي به إلى أن يفكر في نفسه أن فرويد كان باحثاً عميقاً وأنه استند إلى الاحصاءات الدقيقة للأمراض الروحية ووصل إلى هذه النتيجة، أما حين يسمعه يقول:

"إذا واجه طبيب اختلالاً روحياً مهما كان جزئياً يمكن أن يحكم بصورة قطعية على أن حادثة غير طبيعية قد طرأت على الجهاز الجنسي والرغبات الجنسية للمريض..."

هنا يقطع الانسان بأن القائل قد وقع تحت تأثير الغريزة الجنسية إلى درجة أنه لا يتمالك على نفسه من الهذيان والتطاول بالباطل.

لنفرض عاملاً فنياً قد قضى أربعين سنة في عمل ما، أصيبت عينه في أثناء العمل فدخل المستشفى، وصرف جميع ما يملك في هذا السبيل وفقد بصره في النهاية. إن التفكير في العمى والبطالة والفقر والبؤس يقض عليه مضجعه، وأخيراً يؤدي به إلى الاختلال الروحي، وحين يفحصه الطبيب النفساني يتوصل إلى أن العلة الأصلية في ذلك الاختلال هو فقدان البصر وفقره...

وهكذا فإن إنساساً محترماً قد أشرف على الشيخوخة يتهم بالسرقة أو الارتشاء من قبل أناس مغرضين، فيذهب ماء وجهه وذلك يؤدي به إلى الاختلالات الروحية، فلا يمكن أن يوجد في العلاج النفساني أصل لهذا الاختلال غير الاتهام بالسرقة... وهكذا فإن أمثال هذه القضايا كثيرة في المجتمع، ولا ربط لها أصلاً بالأمور الجنسية كما يدعي فرويد.

ولولا أن فرويد نفسه قد اعتبر غريزة حب الذات مغايرة للغرائز الأخرى كحنان الأم وغيره من الميول الطبيعية المتفرعة عن الغريزة الجنسية لكان يصح كلامه هذا وكان قابلاً للتصديق، أما وأنه ينسب جميع الاختلالات الروحية إلى حدوث تغيرات في الغريزة الجنسية فليس معنى ذلك إلا اعتبار غريزة حب الذات فرعاً من فروع الغريزة الجنسية وهذا ينافي تقسيمه للغرائز إلى قسمين: حب الذات، والجنس. فإن كنت تعتبر غريزة حب الذات مستقلة عن غيرها من الغرائز الجنسية يا أستاذ فرويد !! فلماذا لا تنسب بعض تلك الاختلالات الروحية التي ذكرتها إليها؟

إنه لا ريب في أن الغريزة الجنسية تعتبر إحدى الغرائز القوية التي أودعها الله في النفس الانسانية إلا أن فرويد يفرط في هذا الموضوع ويغالي في حقها كثيراً.

ومن يطالع عقائد فرويد في الكتب المختلفة بدقة، يصل إلى هذه النتيجة في نهاية المطاف، وهي: إن الانسان مجموعة من اللحم الحي الذي يملك غريزتين إحداهما حب الذات والدفاع عنها، والأخرى الشهوة الجنسية، لكن جميع أوجه النشاط البشري في جميع المظاهر الحياتية ترتبط بالأخيرة وهي الغريزة الجنسية فقط.

إنه لم يوجد في تاريخ العلوم البشرية أحد قد تأثر بالغريزة الجنسية واهتم بها بقدر تأثر فرويد بها واهتمامه لها، ولا يوجد أحد ينظر إلى الانسان هذه النظرة الطفيفة الخسيسة. والعلماء اليوم بالرغم من اعتمادهم على طريقة فرويد في معالجة الأمراض الروحية، واتخاذهم أساليبه في التحليل النفسي... يصرحون بأن هذه الطريقة وحدها ليست مجدية. ويجب ألا تنحصر معالجة الأمراض النفسية فيها...

"إن كثيراً من العلاجات النفسية تكون ذات منظار ضيق، وحتى التحليل النفساني الذي يؤدي إلى نتائج مرضية في كثير من الأحيان نجده يحصر بحثه على الغرائز فقط. هذه الطريقة توجه همها إلى أن ترضي الغرائز بصورة اتباع مبدأ اللذة. وهذا المبدأ لا يعنى بالجانب الأخلاقي ولا يتحدث عن الهدف الأصلي للشخصية وعلاقاتها الخيرة والشريرة عند تفاعلها بالتكافؤ الاجتماعي ولهذا السبب فلو غضضنا الطرف عن الفشل الذي يلاقيه التحليل النفساني بالنسبة إلى حرية بعض الرغبات والميول المتطرفة، فإن العلاج النفسي الصحيح يجب أن يكون له هدف أسمى هو رفع شخصية الفرد بعد ملاحظة أسس الشخصية وتحقيق الرفاه للفرد والمجتمع على السواء... "10.

وبالرغم من أن نظرية فرويد لم تحصل على تأييد كثيرين من العلماء في العصر الحديث، لافراطها بشأن الغريزة... فإن الكثير من الغربيين يقرون (مبدأ اللذة) بالنسبة إلى تحقيق السعادة البشرية. إن أساس البحث حول تحقيق السعادة في الدول الأوروبية والأمريكية يدور على العمل لحياة أفضل وعيشة ترفل بالاستفادة من اللذائذ... ولهذا فإن قسماً كبيراً من الجهود البشرية في العالم المتمدن قد خصص لجلب اللذائذ، وإن الفضائل المعنوية والمثل العليا قد فقدت أهميتها بالنسبة إلى أكثر الناس حتى يذهب بعضهم إلى أنهم في غنى عنها:

"ومنذ حل الخلق النفعي مكان الخلق الديني والنفسي، فإن الفضيلة لا تعتبر أمراً ضرورياً في نظر المتمدنين، بحيث يرى رومن أنه لا داعي لنا أصلاً لأن نكون أتقياء، وإن اختيار الفضيلة سينحصر في علاقتها بالنفع واللذة الفرديين فقط... "11.

هذا الأسلوب من التفكير يعد خطأ فظيعاً من المدنية الحديثة، وهو أعدى أعداء الانسانية وقيمها ومثلها الرفيعة... وعلى أثر اللامبالاة تجاه الإيمان والفضائل المعنوية، فإن عالم الغرب تنتشر فيه الجرائم يوماً فيوماً والشبان ينجرفون إلى هوة سحيقة من التردي والتحلل والفساد وإن الاحصائيات السنوية في الدول الأوروبية والأمريكية لتدل على ازدياد السرقة والخيانة، والاغتيال والانتحار إلى غير ذلك من أنواع الجرائم. وإن من المؤسف أن لا تكون بلادنا معدومة النصيب في هذه المشاكل والجرائم. وهنا يستطيع كل فرد أن يدرك أن المجتمع الذي يتمثل الهدف الأسمى من حياة أفراده في اللذائذ المادية ولا تزيد الفضائل فيه على أنها تعتبر في عداد الأوهام والخيالات، فإن الفساد والتفسخ يسرعان كالسيل الجارف إلى غزو أولئك الأفراد ويهددان حياتهم المادية والمعنوية بالفناء والدمار.

مبدأ الواقع
إن الاسلام يبني أساس السعادة البشرية على مبدأ الواقع أو الفطرة... إنه ينظر إلى الانسان نظرة السماء الدقيقة ويؤسس سعادته على فطرته الواقعية وجبلته التي جبل عليها... إنه ينظر إلى الانسان من جميع جوانبه المادية والمعنوية، الروحية والجسدية، ويحسب لكل جانب حسابه الخاص.

ومن هنا يظهر أن الذين كانوا يبحثون عن السعادة البشرية في الكمالات الروحية ومحق الغرائز الجسدية وكبتها، وقعوا في خطأ فادح فقد أهملوا حق نصف وجود الانسان.

وكذلك الذين يرون اليوم انحصار سعادة البشر في تقويم الاقتصاد أو اللذة والشهوة وإهمال الجانب المعنوي فيه. فإنهم خاطئون جداً.

إن الانسان يتكون من جسد وروح، وعليه فهناك نوعان من الرغبات في داخله: الرغبات المادية والميول المعنوية. فمن أخل برغبة من الرغبات الفطرية عند الانسان، فإنه يخل بالسعادة الانسانية بنسبة ما أهمل من رغباته. إن السعادة البشرية شأنها شأن شجرة باسقة تحمل آلاف الأغصان فبعضها يرتبط بالجانب المعنوي والروحي من الانسان، وبعضها يرتبط بالجانب المادي منه، والسعادة الحقيقية إنما تكون لمن تظله هذه الشجرة الطيبة بجميع غصونها وفروعها، وتحيا فيه جميع الرغبات الظاهرية والباطنية.

إن التعاليم الاسلامية تستند إلى الفطرة... الفطرة المودعة من قبل الله في خلق كل فرد، والتي لا تتغير ولا تتبدل أصلاً: ﴿فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا فِطْرَةَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ﴾(الروم:30).

فالاسلام هو الدين القيم... والمنهج الرصين الذي يماشي قانون الفطرة والخلقة. ولهذا فإن النجاح الأكيد سيكون للاسلام، وإنه سينتصر على المذاهب والمبادىء الأخرى بحكم الجبرية التاريخية شاء أعداؤه أم أبوا:

﴿هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ﴾(التوبة: 33).

حجر الأساس في السعادة
ولكي نثبت نظرة الاسلام الشاملة إلى الميول الفطرية عند الانسان ماديها ومعنويها في ما يخص السعادة البشرية نلفت أذهانكم إلى النقاط التالية:

الإيمان والأخلاق
إن الايمان بالله، وتزكية النفس وتطهيرها من الجرائم والآثام، والمواظبة على التحلي بالفضائل الانسانية تشكل حجر الأساس في بناء سعادة البشر، وتعد من المناهج المهمة التي يتخذها الاسلام في هذا المجال.

وقد وردت في ذلك مئات الآيات والأحاديث.

يقسم الله تعالى في سورة العصر. بأن جميع الناس من أي عنصر كانوا، وفي أي زمان عاشوا مبتلون بالخسران والبؤس، إلا الذين أحرزوا بعض الصفات، أولها الإيمان بالله:

﴿وَالْعَصْر * إِنَّ الْإِنسَانَ لَفِي خُسْرٍ * إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا...﴾(العصر:1-3) وفي سورة الشمس يقسم بالشمس والقمر، والليل والنهار، والسماء والذي بناها، والأرض والذي بسطها، والنفس الانسانية والله الذي وازن بين عناصرها. وألهمها الخير والشر...

﴿"... قَدْ أَفْلَحَ مَن زَكَّاهَا * وَقَدْ خَابَ مَن دَسَّاهَا"﴾(الشمس:9-10).

قسماً بكل هذه الآيات الآلهية على أن السعادة والفلاح إنما يكونان لمن طهر نفسه من الآثام ونزه روحه عن الجرائم. وإن الشقاء والخيبة إنما تكونان لمن تلوث بالآثام والجرائم.

يقول الامام علي عليه السلام: "عنوان صحيفة المؤمن، حسن خلقه"12.

إن الآيات الكثيرة الواردة في القرآن حول السماء والأرض والأشجار والحيوانات، والنطفة والجنين... إلى غير ذلك من مختلف جوانب الوجود، كلها تهدف إلى أن يوجه الانسان نظره إلى الخالق الكبير فيشتد إيمانه بالله العظيم. وإن الآيات الواردة بشأن الملكات الفاضلة والمثل العليا أو التي تذكر الصفات الرذيلة وتفصل القول في ذمها، إنما نزلت لدعوة الناس إلى اكتساب الفضائل واجتناب الرذائل، ولذلك فان الرسول الأعظم صلّى الله عليه وآله يبين الواجب الذي بعث من أجله فيقول: "بعثت لأتمم مكارم الأخلاق"13.

إن كل مسلم يعلم جيداً اهتمام الاسلام البالغ بالروح والكمال والأخلاق، لكن من الواضح لكل مسلم أيضاً أن الروح والكمال والأخلاق ليست هي الكل في الكل بالنسبة إلى سعادة الانسان في الاسلام، ان الاسلام لا يحصر اتباعه في حلقة من المعنويات فقط، بل انه حين يدعوهم إلى تكميل الجانب الروحي يعني تمام العناية بالجانب المادي فيهم ولذائذهم الطبيعية. ولأجل أن نتبين موقف الاسلام الصريح في هذا الموضوع علينا أن نتحدث عن رأي القرآن والحديث في المبدأ الاقتصادي ومبدأ اللذة وهما المبدءان المتداولان في العالم المتمدن اليوم.

لا شك في أن النشاط الاقتصادي واستغلال الجهود البشرية للانتفاع من الذخائر الطبيعية، لهو من أقوم الارشادات الدينية. وقد وردت بهذا الصدد نصوص كثيرة. ان النبي صلّى الله عليه وآله والأئمة عليهم السلام يقدرون النشاط الاقتصادي كثيراً، وهو يبلغ درجة قد يبدو الحث عليه فيها غريباً. ولأجل معرفة قيمة الاقتصاد في الاسلام نورد هنا بعض النصوص:

الجهد البشري
1- قال رسول الله صلّى الله عليه وآله: "طلب الحلال فريضة على كل مسلم ومسلمة "14.

فالسعي وراء المال الحلال لضمان المعيشة واستمرار الحياة واجب على كل فرد من المسلمين.

2- وقال أيضاً: "من أكل كد يده كان يوم القيامة في عداد الأنبياء، ويأخذ ثواب الأنبياء"15.

وفي هذا الحديث يقارن بين من يكد ليحصل على قوت يومه، والنبي الذي يكد لاحياء الناس.

3- وفي الحديث: "الكاد على عياله، كالمجاهد في سبيل الله"16.

فهذا يجاهد لدفع الضرر المادي عن المسلمين، وذاك يكافح لدفع الضرر المعنوي، ودفع الضررين كليهما مطلوب.

4- وسئل الرسول الأعظم صلّى الله عليه وآله: "أي كسب الرجل أطيب؟ فقال: عمل الرجل بيده"17.

5- كما ورد في الأسلوب الذي كان يعيشه الامام أمير المؤمنين عليه السلام: "كان لما يفرغ من الجهاد يتفرغ لتعليم الناس والقضاء بينهم، فإذا فرغ من ذلك اشتغل في حائط له يعمل فيه بيديه وهو مع ذلك ذاكر الله تعالى... "18.

6- عن عبد الله بن عباس: "كان رسول الله صلّى الله عليه وآله إذا نظر إلى الرجل فأعجبه، قال: هل له حرفة؟ فإن قالوا: لا، قال: سقط من عيني"19.

استغلال القوى الطبيعية
وبعد أن أوردنا بعض الأحاديث حول الحث على الجهد البشري والانتفاع منه في شتى المجالات، لنسرد بعض النصوص الواردة بشأن استغلال القوى الطبيعية والاستفادة منها:

1- في الحديث: "إن قامت الساعة، وفي يد أحدكم الفسيلة، فإن استطاع أن لا تقوم الساعة حتى يغرسها فليغرسها"20. فمن خلال هذا الحديث ندرك مدى اهتمام الاسلام بتشغيل القوى العاملة لاستغلال كنوز الأرض والاستفادة من خيراتها وعدم التماهل بشأنها، حتى أنه ليحث الانسان على أن يبادر إلى غرس الفسيلة (أو أي جهد إنتاجي آخر) وإن علم بأن القيامة ستقوم بعد لحظات.

2- قال الامام علي عليه السلام: "نعم المال النخل، من باعها فلم يخلف مكانها فإن ثمنها بمنزلة رماد على رأس شاهقة اشتدت به الريح في يوم عاصف". ولا يخفى أن ذكر النخل ليس محصوراً فيه، وإنما عبر به الامام لأن النخيل أكثر انتشاراً من غيرها من الأشجار في الجزيرة العربية، فتراه ينهى عن بيع النخل من دون أن يكون قد زرع نخلاً في مكان آخر يستفيد منها في المستقبل.

3- وفي حديث عن النبي صلّى الله عليه وآله: "ما من مسلم يغرس غرساً أو يزرع زرعاً، فيأكل منه إنسان أو طير أو بهيمة، إلا كانت له به صدقة".

4ـ يقول الامام أمير المؤمنين عليه السلام: "من وجد ماءاً وتراباً ثم افتقر، أبعده الله"21.

فهنا نجده عليه السلام يندد بالذي يملك المواد الأولية للزراعة وهي الماء والتربة. وتتوفر له الظروف الصالحة فلا يستغلها ويبقى فقيراً، فإنه يستحق غضب الله ولعنته.

وهكذا نجد الاسلام يهتم بأمر العمل والانتاج وتشغيل دولاب الاقتصاد الوطني إلى درجة لا تسمح بالتكاسل والتواني حتى في أحرج الظروف وأتعس الأوقات. فنجد الامام الصادق عليه السلام يقول لهشام: "يا هشام إن رأيت الصفين قد التقيا، فلا تدع طلب الرزق في ذلك اليوم"22.

وبالرغم من هذا الحث الشديد وهذا الاهتمام البالغ بشأن الاقتصاد والتأكيد على العمل لتقويمه وتقويته في الاسلام، فإنه لا يعتبر الكل في الكل بالنسبة إلى تحقيق السعادة الانسانية، ولا يعطى أكثر مما يستحقه.

إن النشاط الاقتصادي وتشغيل القوى والجهود البشرية لاستغلال الذخائر الطبيعية ليس إلا فرعاً من فروع شجرة السعادة في الاسلام... نعم لابد لنا أن نعترف بأنه فرع مهم وحيوي في تلك الشجرة. إلا أن الذين يعتبرون الاقتصاد هو الأساس في السعادة، فإن اعتبارهم هذا يكشف عن عدم معرفتهم بحقيقة الانسان. ولذلك فهم ينزلونه بنظرتهم هذه عن مقامه الرفيع إلى مستوى آلة صماء أو حيوان فاقد الشعور.

الرهبانية
كان يظن كثير من الناس والفلاسفة في الماضي ولا يزال الكثير منهم يظن بأن الطريق إلى السعادة البشرية ينحصر في كبت الغرائز الحيوانية، وإطفاء الميول الجنسية. وكانت هذه العقيدة حتى زمن قريب شائعة جداً في أوروبا وأمريكا. فقد وجد في العالم المسيحي نساء ورجال كثيرون يترهبون باسم الدين ويتركون الدنيا وملاذها، ويعرضون عن قانون الخلقة المتقن ومنهج الفطرة السليمة أي الزواج الصحيح. وكان وقع هذا الترهب حسناً جداً في نفوس المسيحيين... ظانين أنهم يتمكنون بهذا العمل أن يتخلصوا من قيود الحيوانية ويصلوا إلى الانسانية الحقيقية فيصبحوا كملائكة السماء في الطهارة والروحانية والتجرد:

"كان أكثر الفلاسفة وعلماء الأخلاق قبل فرويد ينبذون الغرائز، أي أنهم كانوا يصرحون أحياناً ويلمحون أحياناً أخرى بأنها عوامل تجر الانسان إلى الخصائص الحيوانية وكانوا يؤكدون على أن التمدن الصحيح لا يمكن أن يتحقق في المجتمع إلا بالصراع العنيف مع تلك الغرائز التي كانوا يعتبرونها (أرواحاً حيوانية). وبعبارة أخرى فان هؤلاء المفكرين كانوا يقولون بأن هذه الغرائز تمنع البشرية من التكامل، ولو كان يمكن أن تفقد من المجتمع بالمرة، كان من السهل إيجاد حياة اجتماعية متكافئة ومتزنة ".23

إن الغرائز الحيوانية والميول الجنسية تلعب دوراً مهماً في كيان الانسان ووجوده. فإن الله خلق البشر، مع هذه الغرائز. وكل ما أودعه الله الحكيم في خلق الانسان فلا بد وأن يكون لمصلحة معينة.

الاستجابة للغريزة الجنسية
إن الاسلام العظيم الذي لم يغفل جانباً من جوانب الحياة، ولم يغمط الحقائق الفطرية المؤثرة في سعادة البشر حقها... ليوصي المسلمين بالاستجابة للغريزة الجنسية وممارسة ميولهم الغريزية حسب منهج سليم، ولذلك فانه يعتبر الامتناع عن الزواج عملاً غير مرغوب فيه. ويرى أن العزاب يشكلون خطراً مهماً على سلامة المجتمع، فالرسول الأعظم صلّى الله عليه وآله يقول: "شرار أمتي عزابها"24.

ومن خلال سيرة النبي صلّى الله عليه وآله تجاه العازفين عن الزواج في المدينة ندرك مدى اهتمام الاسلام بهذه الناحية. فقد كان هناك رجل يسمى (عكاف) قد أعرض عن الزواج، وقد حضر مجلس الرسول صلّى الله عليه وآله مرة فسأله النبي عن إمكانياته وظروفه المالية والبدنية، فأجاب بالايجاب فقال له النبي صلّى الله عليه وآله حينذاك بكل صراحة: "تزوج وإلا فأنت من المذنبين"25.

إن الترهب والاعراض عن الدنيا يعتبر عملاً حسناً ومرغوباً فيه من الوجهة الدينية في عالم الغرب، بينما القضية على عكس ذلك تماماً في الاسلام فالاعراض عن الزواج في نظره لا يعد سيئة فحسب، بل يعتبر إعراضاً عن طريق الفطرة المستقيم وانحرافاً عن سنة الرسول الأعظم صلّى الله عليه وآله فهو يقول: "النكاح سنتي فمن رغب عن سنتي فليس مني".

ومع أن الحث على الزواج والتأكيد على إرضاء النوازع الفطرية قد ورد بصورة كثيرة في القرآن الكريم والرويات العديدة، فإن الشهوة لم تعرف أصلاً ثابتاً للسعادة، بل يعتبرها الاسلام فرعاً من فروع شجرة السعادة لا غير.

السعي وراء اللذة
يدعي فرويد أن الشهوة الجنسية تظهر في الانسان بصور مختلفة واللذة عبارة عن الاستجابة للميول الجنسية في مظاهرها المختلفة وصورها المتباينة. ويدعي آخرون: أن هناك ميولاً مستقلة، وغرائز أخرى غير الغريزة الجنسية. وعليه فيجب الاستجابة لجميع تلك النوازع والغرائز... وعلى أية حال فالأمر الذي لا خلاف فيه، هو أن الانسان يشعر بارتياح شديد عندما يستجيب لميوله. وهذا الشعور بالارتياح هو الذي يعبر عنه باللذة، والذي يبعث الحرارة والحيوية في المجتمعات البشرية ويهيج فيهم عواطفهم. ولذلك فإن المجتمعات الحديثة تعتبر جلب اللذة أسمى الأهداف التي تهضم في نفسها قسطاً كبيراً من نشاط العالم المتمدن حتى ظن البعض أنهم لم يخلقوا إلا لممارسة نشاطهم الجنسي وتحقيق اللذة.

ومن المؤسف أن الطبيعة قد ركبت بصورة نجد فيها امتزاجاً تاماً بين الآمال والآلام، واللذة والألم. وهذا ما يوجب محدودية البشر في سلوكهم:

"إنه لا ينكر أن الاستجابة للميول الغريزية توجب الشعور باللذة عند الانسان، ولكن في الغالب تصطدم هذه الاستجابة بآلام وليدة ظلم الطبيعة. إذن فالحياة حتى لو شابهت حياة الحيوانات في الحرية فإنها لا توجب السعادة، ولهذا فإن الفلاسفة وعلماء الأخلاق يرجحون أن يصرفوا بحوثهم في إيجاد الأساليب التي تهدىء الآلام وترفع المصاعب عن طريق الحياة، فنراهم قد وصلوا إلى هذه النتيجة، وهي: أن كل ألم معلول لا دراك معين، وعليه فيجب السعي لا زالة أو تخفيف العلل الروحية والبدنية التي تؤدي إلى ذلك الادراك ولذلك فإن أول علاج يجده الانسان في هذا السبيل هو استعمال المواد الكحولية والمخدرة الأخرى "(مذكرات فرويد. وقد ترجمت إلى الفارسية تحت عنوان 26.

وبالرغم من وجود المشاكل العديدة في طريق تحقيق اللذة... فإن البشر لا يقتنع ولا يقف عند حد في السعي وراء رغباته الغريزية.

إن الاسلام لا يكتفي بالموافقة على الاستجابة للرغبات الفطرية فحسب، بل يعتبر ذلك من شؤون تحصيل السعادة البشرية. إلا أنه يحسب حساباً دقيقاً لذلك. فإن إرضاء الغرائز والاستجابة لها مسموح في نظره إلى حيث لا يؤدي إلى الشقاء والفساد، ولا يهوي بالمجتمع إلى هوة سحيقة من الاجرام والدنس.

إن من المستحيل أن يحصل الفرد في أي مجتمع كان على حريته المطلقة في الاستجابة لميوله وغزائزه... إذ بعد الفراغ من وجود الحواجز الطبيعية أمام ذلك، فإن الاخلال بالنظام والأمن أو الحرية الاجتماعية عامل قوي في إيقافه عند حده. ومن هنا نجد الاسلام لا يكتفي بالمنع من بعض اللذات التي يمنع منها العالم المتحضر في القرن العشرين، بل يستنكر أشد الاستنكار اللذات التي تهدم صرح الإيمان والتقوى، وتخالف الأسس الاخلاقية والانسانية. أما اللذات التي لا تؤدي إلى ضرر مادي أو معنوي كالزوجة الجميلة، والطعام اللذيذ، والملابس الأنيقة، والدار الواسعة، والمركب الحسن، والرفاه في المال والمناظر الطبيعية الخلابة... وعشرات غيرها من الأمور التي تعد إرضاء للميول الغريزية بشكله المعقول فإن الاسلام يعتبر ذلك جزء من منهجه القويم في تحقيق السعادة البشرية.

إرضاء الميول الغريزية
وعلى سبيل المثال نستعرض بعض الشواهد من النصوص على ما ذهبنا إليه:

1- قوله تعالى:﴿يَا بَنِي آدَمَ خُذُواْ زِينَتَكُمْ عِندَ كُلِّ مَسْجِدٍ وكُلُواْ وَاشْرَبُواْ وَلاَ تُسْرِفُواْ إِنَّهُ لاَ يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ﴾(الأعراف:31).

2- قوله تعالى: ﴿قل: مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللّهِ الَّتِيَ أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالْطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ﴾(الأعراف:32).

3- عن النبي صلّى الله عليه وآله: "أفضل نساء أمتي أصبحهن وجهاً وأقلهن مهراً"27.

4- عن النبي صلّى الله عليه وآله أيضاً: "إن من سعادة المرء المسلم أن يشبهه ولده، والمرأة الجملاء ذات دين، والمركب الهني، والمسكن الواسع"28.

5- وعنه صلّى الله عليه وآله أيضاً: "أربع من سعادة المرء: الخلفاء الصالحون، والولد البار، والمرأة المواتية، وأن تكون معيشته في بلده"29. ومعنى (أن تكون معيشته في بلده) أن يكون في رفاه اقتصادي فلا يضطر للخروج إلى غير بلده للتكسب وطلب العيش).

6- عن الامام الصادق عليه السلام: "ثلاثة هي من السعادة: الزوجة المواتية، والولد البار، والرزق.... "30

7- وفي الحديث الشريف: "من سعادة المرء دابة يركبها في حوائجه ويقضي عليها حوائج إخوانه"31. والدابة إذا توسعنا في معناها وقسنا الظروف أمكن شمولها للسيارة مثلاً في عصرنا الحاضر).

8- وعن الامام الصادق عليه السلام: "من السعادة سعة المنزل"32.

9- عن النبي صلّى الله عليه وآله: "من سعادة المرء: المرأة الصالحة، والمسكن الواسع، والمركب البهي، والولد الصالح"33. وفي هذا الحديث (المركب البهي) بينما كان في الحديث رقم (4): (المركب الهني). والظاهر تقارب معنييهما. إذ الأول يدل على المركب الوقر اللائق بالراكب. والثاني يكتفي بذكر الارتياح به في ركوبه).

تجاوز حدود الفطرة
وهكذا يتبين لنا أن الاسلام يعتبر إرضاء الميول الغريزية للبشر أمراً محبذاً، ويهتم بذلك على أنه من فروع السعادة البشرية، أما أن يعتبرها أصلاً في ذلك فلا !. إذ ان الذي يغرق في الملاذ؟ ويحصر نفسه في سجن الشهوة والغرائز فقط يكون قد حاد عن الفطرة الانسانية السليمة التي تأبى هذا النوع من الحياة... حياة البهائم... حياة الميوعة.

من هنا تأتي الكلمة القاطعة الصريحة للنبي صلّى الله عليه وآله: "من لم ير لله عز وجل عليه نعمةً إلا في مطعمٍ أو مشربٍ أو ملبسٍ، فقد قصر عمله ودنى عذابه"34.

فالسعادة الحقة للبشر في نظر المشرع الأعظم هي في اكتمال جميع الجوانب المادية والمعنوية وإرضاء كل الميول الانسانية المشروعة وهكذا فمن يتخلى عن ميوله المادية بحجة الالتفات إلى الجهات المعنوية فهو مخطىء في نظر الاسلام، وكذلك من يتخلى عن كمالاته الروحية سعياً وراء إرواء ظمأ شهواته وغرائزه. يقول الامام الباقر عليه السلام: "ليس منا من ترك دنياه لآخرته، ولا آخرته لدنياه"35.

تعادل الروح والجسد
إن حفظ التوازن بين الروح والجسد أهم عوامل النجاح والسعادة وإن أئمة الاسلام علهيم السلام كانوا إذا لا حظوا إفراطاً أو تفريطاً في سلوك أصحابهم في جانب مادي أو معنوي، إهتموا بتعديل ذلك الانحراف وتسوية ذلك الخطأ.

كان في البصرة أخوان، أحدهما: علاء بن زياد الحارثي، والآخر عاصم. وكانا كلاهما من المخلصين لعلي عليه السلام، وكانا مختلفين في السلوك، فعلاء مفرط في حبه للدنيا وجمعه للمال... أما عاصم فكان على العكس منه مدبراً ظهره للدنيا، صارفاً جل وقته في العبادة وتحصيل الكمالات الروحية. وفي الواقع كانا كلاهما قد تجاوزا الطريق المستقيم، وانحرفا عن الصراط السوي...

وذات يوم مرض (علاء) فذهب علي عليه السلام لعيادته، وما أن استقر به الجلوس حتى التفت الإمام إلى سعة عيشه وإفراطه في سعيه وراء المادة، فخاطبه قائلاً: وماذا تصنع يا علاء بهذه السعة المفرطة من العيش؟ إنك إلى تحصيل وسائل سعادتك المعنوية أحوج، فاسع في ذلك الجانب أيضا... ثم قال عليه السلام: اللهم الا أن تكون عملت ذلك كله لتمهيد طريق السعادة المعنوية، لتتمكن من استقبال أكبر عدد ممكن من الضيوف في بيتك، وتستطيع من صلة أرحامك وأداء حقوق إخوانك بأكمل وجه ملاحظة: لمعرفة نص الكلام يراجع نهج البلاغة.

لقد أثر هذا الدرس البليغ بأسلوبه الهادئ المتين في (علاء) كثيراً، وجاشت به العواطف للشكوى من تفريط أخيه فقال: "أشكو إليك عاصم أبن زياد قال: وما له؟ قال: لبس العباء وتخلى من الدنيا. قال: علي به !".

وبعد أن أحضر عاصم بين يدي الامام وبخه قائلاً: "يا عدي نفسه (عُديّ: تصغير عدو)، لقد استهام بك الخبيث، أما رحمت أهلك وولدك؟ أترى الله أحل لك الطيبات، وهو يكره أن تأخذها؟ أنت أهون على الله من ذلك...".

من خلال سرد هذه الحادثة التاريخية يتضح مدى استقامة المنهج الاسلامي الذي نطق به الامام أمير المؤمنين عليه السلام، وهو يعبر عن نظرة النبي صلّى الله عليه وآله وحكم الله عز وجل... لكن بقيت في نفس عاصم بن زياد مشكلة لم يجد لها حلاً، وهي كيفية التوفيق بين كلام الامام عليه السلام وعمله، حيث قد زهد في الدنيا وترك الملاذ، فجاشت عواطفه وما أسرع أن قال:

"... يا أمير المؤمنين: هذا أنت في خشونة ملبسك، وجشوبة مأكلك؟! قال: إني لست كأنت... إن الله فرض على أئمة الحق أن يقدروا أنفسهم بضعفة الناس، كي لا يتبيغ بالفقير فقره... "36. وقوله (يتبيغ) أي يهيج به. كما يقال: (تبيغ الدم بصاحبه) أي: هاج به).

هذه هي خلاصة سريعة لعرض الآراء المختلفة قديمها وحديثها حول تحقيق سعادة الانسان وقياسها بتعاليم الاسلام العظيمة وحلوله الشافية...

على أن من الضروري أن نعلم: أن الأسس الأولى لسعادة الانسان إنما تخطط في رحم الأم. وإن التحقيقات العلمية الدقيقة أثبتت: إن لعالم الرحم دوراً مهماً في تقرير سعادة الانسان أو شقائه....





"عاشقة النور"

بسمة الربيع
03-03-2011, 01:42 AM
طرحت فابدعت


دمت ودام عطائك

ودائما بأنتظار جديدك الشيق

لكـ خالص احترامي

محـب الحسين
03-03-2011, 03:34 AM
جزاكِ الله خير الجزاء

عاشقة النور
03-03-2011, 10:59 PM
كل الشكر لمروركم الطيب

لاخلا ولاعدم منكم


"عاشقة النور"

نور المستوحشين
04-03-2011, 02:00 AM
مشكووورة أختي على الطرح المميز
تحيـــااااتي لــك

عاشقة النور
04-03-2011, 11:48 PM
يسلموووو
ع المرور

"لاعدمناك

"عاشقة النور"

رسالة حق
18-03-2011, 04:18 PM
الاسلام هو السعاده لولا الاسلام لانتشر الحقد والكراهية والفجر بين الناس بذلك لا تكون هناك سعاده :52::52::34:

عاشقة النور
18-03-2011, 08:49 PM
مشكور ع المرور

لاعدمناك

"عاشقة النور"

جنة
18-04-2011, 10:45 PM
تشكري ع الطرح المميز ..

عاشقة النور
20-04-2011, 12:58 PM
يسلموووو
ع المرور

"لاعدمناك

"عاشقة النور"

عاشقة السيدة زينب ع
21-04-2011, 02:27 PM
.{بسم الله الرحمن الرحيم
اللهم صل على محمد آل محمد الطيبين الطاهربن}.
>.<مشكورة ~ أختي ~ الكريمة>.<
>~<{عاشقة النور}>~<
:.:*على هذا الموضوع الرائع*:.:
~،~تقبلي تحياتي~،~

عاشقة النور
21-04-2011, 05:50 PM
كل الشكر لمرورك الطيب


لاعدمناك

"عاشقة النور"

أنوار الولاية
22-04-2011, 05:48 AM
كل الشكر لـ طرحكـ القيم
يعطيكـ ـألف عافية

عاشقة النور
22-04-2011, 10:27 PM
مشكوره ع المرور
لاعدمناك


"عاشقة النور"