المساعد الشخصي الرقمي

مشاهدة النسخة كاملة : مواصفات المرجعيه الصالحه


تراب البقيع
03-12-2008, 10:41 PM
السيد محمد باقر الحكيم

ا لمرجعية ا لصالحة







الفهـــرست
الصفحة
المـــوضـــوع
*
المقدمـــة (http://www.almejlis.org/shaheed/sh/KUTUB/almerge3ah.HTM#L1) .................................................. ..................
*
المرجعية تفرض نفسها (http://www.almejlis.org/shaheed/sh/KUTUB/almerge3ah.HTM#L2)................................ .................. .............


الفصل الأول: (http://www.almejlis.org/shaheed/sh/KUTUB/almerge3ah.HTM#L3) المرجعية موقعها.. مهماتها.. إنجازاتها (http://www.almejlis.org/shaheed/sh/KUTUB/almerge3ah.HTM#L4)
*
ـ موقع المرجعية (http://www.almejlis.org/shaheed/sh/KUTUB/almerge3ah.HTM#L3)................................ ...............
*
ـ الثقافة الشيعية (http://www.almejlis.org/shaheed/sh/KUTUB/almerge3ah.HTM#L4)................................ ...
*
الفصل الثاني : مواصفات المرجعية الفاعلة (http://www.almejlis.org/shaheed/sh/KUTUB/almerge3ah.HTM#L4)
*
ـ (http://www.almejlis.org/shaheed/sh/KUTUB/almerge3ah.HTM#L4)دور المواصفات في المرجعية (http://www.almejlis.org/shaheed/sh/KUTUB/almerge3ah.HTM#L5) ...........................................
*
ـ الصفات المطلوبة في المرجع (http://www.almejlis.org/shaheed/sh/KUTUB/almerge3ah.HTM#L6)................................ ..........


الفصل الثالث : الوجود الواقعي للمرجعية الصالحة (http://www.almejlis.org/shaheed/sh/KUTUB/almerge3ah.HTM#L4)


ـ نماذج للمرجعية الصالحة (http://www.almejlis.org/shaheed/sh/KUTUB/almerge3ah.HTM#L4)................................ .......
*
الفصل الرابع : المرجعية والتحولات المعاصرة (http://www.almejlis.org/shaheed/sh/KUTUB/almerge3ah.HTM#L4)
*
ـ الحوادث الجديدة. (http://www.almejlis.org/shaheed/sh/KUTUB/almerge3ah.HTM#L8)................................ .................. ..........
*
ـ (http://www.almejlis.org/shaheed/sh/KUTUB/almerge3ah.HTM#L4) مسؤوليات المرجع (http://www.almejlis.org/shaheed/sh/KUTUB/almerge3ah.HTM#L8)ية والعصر الحاضر (http://www.almejlis.org/shaheed/sh/KUTUB/almerge3ah.HTM#L9)................................ .......
*
ـ (http://www.almejlis.org/shaheed/sh/KUTUB/almerge3ah.HTM#L4) ثورة الاتصالات (http://www.almejlis.org/shaheed/sh/KUTUB/almerge3ah.HTM#L10) .............
*
ـ (http://www.almejlis.org/shaheed/sh/KUTUB/almerge3ah.HTM#L4) التطور في الاداء (http://www.almejlis.org/shaheed/sh/KUTUB/almerge3ah.HTM#L4)............
*
ـ (http://www.almejlis.org/shaheed/sh/KUTUB/almerge3ah.HTM#L4) التطور في الاوضاع الاقليمية (http://www.almejlis.org/shaheed/sh/KUTUB/almerge3ah.HTM#L12)............................... ..
*
الفصل الخامس : المرجعية الدينية والخيارات (http://www.almejlis.org/shaheed/sh/KUTUB/almerge3ah.HTM#L4)
* (http://www.almejlis.org/shaheed/sh/KUTUB/almerge3ah.HTM#L4)
ـ (http://www.almejlis.org/shaheed/sh/KUTUB/almerge3ah.HTM#L4) النتائج الخطيرة للخيارات الصعبة (http://www.almejlis.org/shaheed/sh/KUTUB/almerge3ah.HTM#L13)........................... (http://www.almejlis.org/shaheed/sh/KUTUB/almerge3ah.HTM#L4)
*
ـ (http://www.almejlis.org/shaheed/sh/KUTUB/almerge3ah.HTM#L4) البديل غير الاسلامي (http://www.almejlis.org/shaheed/sh/KUTUB/almerge3ah.HTM#L4)................................ ...............
*
ـ (http://www.almejlis.org/shaheed/sh/KUTUB/almerge3ah.HTM#L4)البديل الاسلامي وآثاره (http://www.almejlis.org/shaheed/sh/KUTUB/almerge3ah.HTM#L15)..........................
*
ـ (http://www.almejlis.org/shaheed/sh/KUTUB/almerge3ah.HTM#L4) ا (http://www.almejlis.org/shaheed/sh/KUTUB/almerge3ah.HTM#L16)لاثار الخطيرة للبديل الاسلامي (http://www.almejlis.org/shaheed/sh/KUTUB/almerge3ah.HTM#L16)............................... ..


ـ البديل المزيف (http://www.almejlis.org/shaheed/sh/KUTUB/almerge3ah.HTM#L4) .........................................
*
الفصل السادس: المرجعية والتخصص وتقسيم الوظائف
*
ـ (http://www.almejlis.org/shaheed/sh/KUTUB/almerge3ah.HTM#L4)تقسيم الوظائف والحقوق (http://www.almejlis.org/shaheed/sh/KUTUB/almerge3ah.HTM#L18)............................... .........
*
ـ (http://www.almejlis.org/shaheed/sh/KUTUB/almerge3ah.HTM#L4)وظائف المرجعية الفكرية (http://www.almejlis.org/shaheed/sh/KUTUB/almerge3ah.HTM#L19)....................
*
ـ (http://www.almejlis.org/shaheed/sh/KUTUB/almerge3ah.HTM#L4) وظائف المرجعية السياسية.......................................... ......
*
ـ (http://www.almejlis.org/shaheed/sh/KUTUB/almerge3ah.HTM#L4)حقوق المرجعية (http://www.almejlis.org/shaheed/sh/KUTUB/almerge3ah.HTM#L20)............................... ................... ............
*
الفصل السابع : شروط المرجعية السياسية الدينية


*
ـ (http://www.almejlis.org/shaheed/sh/KUTUB/almerge3ah.HTM#L4)مصادر المعلومات السياسية (http://www.almejlis.org/shaheed/sh/KUTUB/almerge3ah.HTM#L21)............................... ..........


بسم الله الرحمن الرحيم

المقـدمـة:


الحمد لله ربِّ العالمين والصلاة والسلام على محمد وآله الطاهرين.
وبعد..
فهذه مجموعة من الملاحظات كنت قد ألقيتها في المجلس الاسبوعي في قم حول المرجعية، تناولت فيها بعض أطراف الحديث عنها، مثل (موقع المرجعية ومهماتها وإنجازاتها، ومواصفات المرجعية الفاعلة، وكذلك الوجود الواقعي للمرجعية الصالحة الذي يتضمن نظرة عامة لتاريخ المرجعية ونماذج منها، كما تناولت الخيارات الصعبة التي تقف أمام المرجعية في مواجهة التحديات المعاصرة، وكذلك موضوع تخصص المرجعية وتقسيم وظائفها، والاشارة إلى شروط المرجعية السياسية الدينية في العدالة والتصدي والخبرة وغيرها).
وحاولت الاشارة فيه إلى بعض الشواهد والتأكيد فيه لبعض المتبنيات لدى مراجعنا العظام، وتقديم تصور جديد لمعالجة المشكلات والتطورات التي واجهتها المرجعية وجماعة أهل البيت(عليهم السلام) إنطلاقاً من التجارب والسيرة الصالحة لعلمائنا الاعلام ومراجعنا العظام.
وقد راجعت هذه الملاحظات لاصلاحها في العرض وتوضيحها في الشرح، وهذا القدر من العرض والبحث، وإن كان لايزال ناقصاً، لانَّه بحاجة إلى مزيد من الاستدلال والتحقيق، ولكن حاولتُ الارجاع في ذلك إلى بعض المصادر، كما يحتاج إلى توضيح بعض الابعاد الاُخرى مثل تاريخ المرجعية والادوار التي مرت بها، وكذلك الحديث عن المرجعية الموضوعية والمرجعية الذاتية وشروطها ـ وأيضاً ـ الحديث عن الاجهزة والتشكيلات المقترحة للمرجعية الدينية السياسية، ولكن وجدت أنَّ نشره ولو بصورة محدودة مفيد أيضاً، ولعلي أُوفق لاكماله، ليصبح كتاباً في سلسلة موسوعة دور أهل البيت(عليهم السلام) في الحياة الاسلامية.
وأسأل الله تعالى أن يجعله خالصاً لوجه الكريم، وأن ينفع به إخواننا المؤمنين في هذه الحياة الدنيا، وفي توضيح دور هذه المؤسسة الاسلامية وأهميتها والموقف الصحيح منها، وأن ينفعنا جميعاً به، لقوله تعالى : ( يَوْمَ لاَ يَنفَعُ مَالٌ وَلاَ بَنُونَ * إِلاَّ مَنْ أَتَى اللهَ بِقَلْب سَلِيم )، والله سبحانه ولي القبول والتوفيق والسداد وهو نعم المولى ونعم النصير.
محر م ا لحرا م محمد باقر الحكيم
1421 هـ







المرجعية تفرض نفسها




تمهيد:


(المرجعية الدينية) عنوان مهم، طرح ويطرح للبحث والتداول في ساحتنا الاسلامية، بل أصبحت المرجعية الدينية ـ بعد انتصار الثورة الاسلامية، ولاسيما بعد تحقق هذا الامل الكبير بإقامة الحكم الاسلامي على يد المرجع العظيم العالم الرباني آية الله العظمى الامام الخميني(قدس سره) ـ من القضايا العالمية التي توجهت لها أنظار جميع الاوساط الثقافية والسياسية العالمية، باعتبار أنَّ تفجير الثورة الاسلامية في إيران بمالها من آثار وانعكاسات، ووجود الصحوة الاسلامية العامة في العالم الاسلامي، كان على يد هذه المرجعية الدينية الاسلامية.
وازدادت أهمية هذا الموضوع بارتباطه بموضوع آخر مهم، وهو موضوع (ولاية الفقيه) التي اعتبرت الاساس والقاعدة للحكم الاسلامي المعاصر، وأصبح البحث حول تعدد المرجعية أو وحدتها واتحادها مع الولاية من جهة، والعلاقة النظرية بينهما في حالة التعدد من جهة أُخرى، من الابحاث الهامة المتداولة، مضافاً إلى البحث عن معالجة وتحديد العلاقة بينهما واقعياً وخارجياً.
ومن جانب آخر وفي الوقت نفسه، نجد أنّ الاعداء يخططون لاجل ضرب هذه المرجعية ومحاصرتها وإضعافها أو السيطرة عليها، وتشويه سمعتها والنيل منها، بل تصفيتها تصفية جسدية ومعنوية، وهناك مخطط رهيب رسمه الاعداء في هذا السبيل.
فقد وجدنا في بداية انتصار الثورة الاسلامية في إيران كيف صفيت مرجعية الشهيد الصدر(قدس سره) في العراق; بقتله، ثم الوسائل الكثيرة التي استخدمها الاستكبار العالمي والقوى المضادة الحاقدة، لتشويه صورة الامام الخميني(قدس سره) ومرجعيته، وما صدر من كتب كثيرة ضد الثورة الاسلامية، وقائدها الامام الراحل(قدس سره) ، منها الكتاب الحاقد (وجاء دور المجوس)، الذي يتحدث ـ باسلوب الافتراء والبهتان والكذب الغارق في الحقد والنصب ـ عن عودة الاسلام في إيران على يد الشعب الايراني المسلم، والهدف منه واضح من خلال اسمه وهو رمي الثورة وقادتها بالمجوسية، وكأنَّ عودة الاسلام في إيران قضية ذات بُعد يرتبط بسيطرة الكفار على المسلمين.
ونجد بعد ذلك الحرب العدوانية التي شنها نظام الكفر والالحاد، (نظام صدام المجرم) على الجمهورية الاسلامية الفتية، تحت عنوان (الدفاع عن البوابة الشرقية للعالم العربي) لتصب في الاتجاه نفسه، حيث جاءت لترفع شعار (حرب القادسية، وكأنَّ هذه الحرب العدوانية ضد الاسلام والثورة الاسلامية، هي حرب بين الاسلام الذي يمثله صدام، والمجوس التي تمثله ايران!!، وكان يراد لشعار (القادسية) الذي سميت به هذه الحرب، أن يجعلها حرباً بين الفرس والعرب، إلى غير ذلك من الشعارات والعناوين التي طرحت لمواجهة هذه الحركة والصحوة التي كانت ولا زالت تقودها المرجعية الدينية.
ثم بعد وفاة الطبقة الاولى من المراجع في عصر الثورة، أمثال الامام الخميني، وآية الله العظمى السيد الخوئي، وآية الله العظمى السيد الكلبايكاني(قدس سرهم) ، أصبحت هذه القضية ـ مرة أُخرى ـ من القضايا المطروحة في الابحاث، وفي وسائل الاعلام، وفي المخططات الدولية والاقليمية والمحلية، بهدف التأثير على أوساط أتباع أهل البيت(عليهم السلام) من ناحية، والتشويش عليهم وعلى المرجعية الدينية من ناحية أُخرى.
ووجدنا في الايام القريبة الماضية ـ أيضاً ـ كيف أقدم النظام الحاقد الحاكم في بغداد على الاعمال الوحشية في تصفية مراجع الاسلام في النجف الاشرف، ومحاصرة المراجع الاخرين، من خلال جريمة قتل وشهادة آية الله الشيخ مرتضى البروجردي، وآية الله العظمى الميرزا علي الغروي، والعدوان على آية الله العظمى السيد السيستاني، ثم محاصرته وبقية العلماء الذين لازالوا يعيشون حالة الحصار في النجف الاشرف .
إلى جانب ذلك كله، نجد في وسائل الاعلام العالمي بين الحين والاخر حديثاً عن المرجعية الشيعية ودورها، وكذلك شيوع أحاديث ـ مضللة ومغرضة ـ عن الصراع داخل هذه المرجعية بين النجف الاشرف وقم، وأحياناً بين هذا المرجع وذاك، ثم أحاديث أُخرى تجري في بعض الاوساط الاجتماعية والثقافية حول بعض مدعي المرجعية، فهنا تدعي مرجعية، وهناك تدعي مرجعية أُخرى وهكذا، مما يزيد الصورة تشويشاً وغموضاً، وتصبح الحاجة ملحة للحديث عن المرجعية بصورة موضوعية وعلمية، تعتمد على الاصول والضوابط والمعلومات الصحيحة.


ردم الفراغ الثقافي
ثم إذا أخذنا بنظر الاعتبار في هذا الحديث التحولات والتطورات الكبيرة التي حصلت في عالمنا اليوم، وفي أوضاع جماعة أهل البيت(عليهم السلام)، نلاحظ من ناحية التقارب الشديد والارتباط القوي القائم بين أطراف هذا العالم بسسب ثورة الاتصالات، ومن ناحية أُخرى الانتشار الواسع لجماعة أهل البيت(عليهم السلام) في إنحاء كثيرة من الارض، ففي السابق كانت (الجماعة الصالحة) تتمركز في مناطق معينة تضم الكثير من العلماء والمثقفين والمتفقهين الذين يمكنهم أن يوضّحوا للناس معالم وأبعاد المرجعية الدينية وشروطها ومواصفاتها، وكل ما يتعلق بها، وأما في مثل هذه الحالة من الانتشار الواسع لجماعة أهل البيت(عليهم السلام) في العالم، شرقه وغربه، ووجود وسائل الاعلام المُضللة العامة التي تعكس آثارها على الجميع بسرعة، والمصالح الدولية والاغراض الفاسدة، فنحتاج إلى أن يكون هناك وضوح عام يتسم بالشفافية، تجاه موضوع المرجعية وثقافة عامة في هذه الاوساط الكبيرة المنتشرة.
كما نلاحظ في الوقت نفسه ـ أيضاً ـ وجود عمليات قمع واسعة جرت لجماعة أهل البيت(عليهم السلام) وشيعتهم، بحيث أوجدت فراغاً في هذه المناطق، بما يتعلق بجانبي الوعي والثقافة الخاصين بمعرفة المرجعية الدينية، وشروطها ودورها ومسؤولياتها وواجباتها، ويتمثل ذلك جلياً في عراقنا الجريح، بعد أن قام النظام المجرم الحاكم طيلة المدة السابقة بعمليات مُطاردة وقَمع واسعة للحالة الاسلامية بصورة عامة، ولمؤسسات ومواقع المرجعية الشيعية بصورة خاصة، مما أوجد فراغاً ثقافياً كبيراً في معرفة تفاصيل هذا الموضوع.
وإلى جانب هذا الفراغ الثقافي، توجد الصحوة الاسلامية الواسعة التى يشهدها عالمنا الاسلامي الذي يتطلع إلى المستقبل الافضل وعودة الاسلام إلى الحياة، ولاسيما في العراق، والمشاعر الفياضة والاندفاع والشوق الشديد لدى شبابنا في العراق لمعرفة الاسلام، رغم وجود ذلك الفراغ في المجال الثقافي الشفاف، ولذلك نحتاج إلى عمل وجهد كبير للتثقيف على هذا الموضوع الهام.
ونحاول في هذا البحث العام، أن نلقي الضوء على مجموعة من الابعاد والمعالم ذات العلاقة بهذا الموضوع الهام، لرسم التصور النظري العام والمسار العلمي له، دون الدخول في البحث والاستدلال الفقهي الذي يحتاج إلى متابعة علمية شخصية من المهتمين به خاصة، وفرصة أُخرى أوسع، وإن كنت سوف أُشير إلى بعض المصادر المختصة بهذا البحث ـ أحياناً ـ عند الحاجة لاكمال هذه الصورة. (الفهرست) (http://www.almejlis.org/shaheed/sh/KUTUB/almerge3ah.HTM#L0)




يتبع

تراب البقيع
03-12-2008, 10:42 PM
أما المعالم العامة لهذه الثقافة فهي :


1ـ حب أهل البيت(عليهم السلام)، فهو الاطار العام الذي يجتمع المسلمين على الولاء لله والرسالة والنبي من خلال الحب، فلم يطرح أهل البيت(عليهم السلام) ـ مثلاً ـ لجمع كلمة الناس الالتزام بفقههم ـ بالرغم من أته يمثل المعرفة الاسلامية الاصيلة، وقد أرشد إليهم النبي(صلى الله عليه وآله) بذلك في نصوص عديدة، منها حديث الثقلين المتواترـ وإنَّما طرحوا موضوع حبّهم وولائهم كإطار يجمع المسلمين عموماً، وشيعتهم بصورة خاصة، وذلك انطلاقاً مـن القرآن الكريم الذي أكد هذا الاطار بقوله تعإلى : ( ... قُل لاَّ أَسْـَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِلاَّ الْمَوَدَّةَ فِى الْقُرْبَى ... ) .



كما وردت نصوص وأحاديث كثيرة صحيحة ومتواترة رواها علماء المسلمين في مختلف الادوار، تؤكد هذا الاطار من الحب والولاء.



ولذلك نلاحظ أنّ هذا الاطار مما يشترك فيه جميع المسلمين فعلا وواقعاً، وليس مجرد إطار نظري مشترك للمسلمين، بل هو واقع روحي وإلتزام عملي يشترك فيه المسلمون جميعاً على اختلاف مذاهبهم وفرقهم بصورة عامة.



وهذا الحب ليس مجرد عاطفة إنسانية وشعورية، بل الاعتقاد بالموقع الخاص المتميز لهم في الرسالة الاسلامية، المحفوف بالود والولاء والاحترام والتقديس والاتباع لهم في السلوك العام والرجوع إليهم في معرفة معالم الدين والشريعة.



وأهل البيت هم : النبي محمد(صلى الله عليه وآله) والزهراء البتول(عليها السلام)وعلي(عليه السلام)،والسبطان المنتجبان الحسن والحسين(عليهما السلام) والائمة التسعة المعصومين من ولد الامام الحسين(عليهم السلام) .



2ـ الايمان بالحرية الفكرية والبحث العلمي، وفتح باب الاجتهاد بالنظر في النصوص الدينية واستنباط الحكم الشرعي للحوادث المستجدة وتجديد النظر في القضايا السابقة، وذلك طبقاً للضوابط والاصول العامة الشرعية التي حددها الشارع للوصول إلى الحقيقة أو طبقاً للتجارب الانسانية في الوصول إليها، وهذه الضوابط والاصول هي التي يحددها علم الاصول.



وكذلك الايمان بالحرية السياسية في اتخاذ المواقف تجاه الاحداث ضمن المصالح العليا للاسلام والمحافظة على أمن النظام .



وحق الاُمة في انتخاب وتشخيص الحاكم الشرعي الذي لابد أن يكون متصفاً بمواصفات خاصة، حيث تتحمل الاُمة تشخيصه وتعيينه.



وكذلك حق الاُمة في اختيار النهج الصالح لادارة الحكم ومعالجة القضايا الاجتماعية، وفي التعبير عن الرأي والمواقف.



وحق الاُمة في الوعي السياسي ومعرفة الاحداث ومتابعتها والمشاركة فيها والرقابة عليها وعلى إدارة الحكم.



وهذا الخط الثقافي يلتزم به أتباع أهل البيت(عليهم السلام) في مختلف أدوار تاريخهم وشؤون حياتهم.



3ـ الايمان بالعزة والكرامة الانسانية والحرية الشخصية في إطار الحكم الشرعي، وتعتبر الكرامة الانسانية من المحاور الرئيسية في ثقافة أهل البيت(عليهم السلام)، وهي مضمون إسلامي مأخوذ من القرآن الكريم والرسالة الاسلامية.



فقد قال تعالى : ( وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِى ءَادَمَ وَحَمَلْنَـهُمْ فِى الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَـهُم مِّنَ الطَّيِّبَـتِ وَفَضَّلْنَـهُمْ عَلَى كَثِير مِّمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلاً )، وهي صفة إنسانية لا يمكن أن تسلخ من الانسان.



ولذا كان أحد وجوه الاهتمام البالغ بقضية الامام الحسين(عليه السلام) لدى جماعة أهل البيت(عليهم السلام) هو وجود هذا المدلول الاخلاقي الخاص فيها، مدلول العزة والكرامة والاباء الذي تحدث عنه الامام الحسين(عليه السلام)، وأطلق فيه الشعار المعروف :



(( هيهات منّـا الذلة )).



وهذا المدلول الاخلاقي نراه يتحرك فعلياً وواقعياً في مختلف الفعاليات الثقافية لجماعة أهل البيت(عليهم السلام) في الزيارة والخـطابة والشعر والمجالس ومواكب العزاء والمواقف السياسية والمشاعر والعواطف الانسانية.



4ـ الايمان والشعور بالمسؤولية تجاه قضايا المجتمع الانساني من إقامة الحق والعدل بين الناس ومقاومة الظلم والطغيان والجور والاستبداد، وتحمل الالام والمحن والمصائب في سبيل ذلك وتقديم التضحيات الكبيرة لتحقيق هذا الهدف.



وقد أصبحت قضية الامام الحسين(عليه السلام) الرمز الكبير والواضح، لابعاد هذه الثقافة الاجتماعية في هذا المجال، وكانت ولا زالت تمد جمهور أتباع أهل البيت(عليهم السلام) والمسلمين عموماً بهذا الزخم الروحي والمعنوي.



5ـ الايمان بواجب الدفاع عن المظلومين والمستضعفين ونصرتهم ومسؤولية رفع الظلم عنهم، انطلاقاً من القرآن الكريم الذي يدعو المسلمين إلى ذلك : ( وَمَا لَكُمْ لاَ تُقَـتِلُونَ فِى سَبِيلِ اللهِ وَالْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَآءِ وَالْوِلْدَ نِ الَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَآ أَخْرِجْنَا مِنْ هَذِهِ الْقَرْيَةِ الظَّالِمِ أَهْلُهَا وَاجْعَل لَّنَا مِن لَّدُنْكَ وَلِيًّا وَاجْعَل لَّنَا مِن لَّدُنكَ نَصِيرًا ) .



وقد مارس أهل البيت(عليهم السلام) وشيعتهم هذا الدور، والتزموا بهذه الثقافة في مختلف الازمنة، ونذكر شاهداً معاصراً على هذه الحقيقة، الموقف الرائد المعروف للمرجعية الدينية في النجف الاشرف، تجاه الشعب الكردي في العراق عندما تعرض ـ في عقد الثمانينات الهجرية ـ للاضطهاد والظلم، حيث وقفت المرجعية الدينية أيام الامام الحكيم(قدس سره) تدافع عنهم وتحرم سفك دمائهم وتطالب بمنحهم حقوقهم الشرعية، في وقت وقف فيه النظام العراقي وعلماء السلطة إلى جانب الظلم والعدوان.



وكذلك موقف المرجعية الدينية في الدفاع عن الشعب الفلسطيني المضطهد والمظلوم، وإسنادها للعمل الفدائي بالمواقف والفتاوى.



كما أنّ الروح العامة التي طبعت المواقف السياسية للجمهورية الاسلامية في قضايا الشعب الفلسطيني، والبوسنة والهرسك، والعراق، وكشمير وغيرها، تنطلق من هذه الرؤية الثقافية.



6ـ الرفض لجميع ألوان الهيمنة الاجنبية والتسلط الخارجي أو العنصري أو التعصب الطائفي أو الغزو الثقافي والاقتصادي والتبعية السياسية، والحرص على استقلال البلاد، وإرادة القرار ومقاومة الاستعمار بكل ألوانه.



وقد ظهر ذلك واضحاً في السلوك العام لاتباع أهل البيت(عليهم السلام)، ولاسيما الحوزات العلمية في استقلالها واعتمادها على الله تعالى والذات، وإمكانات المؤمنين، وفي المحافظة على أصالتها الفكرية والثقافية، وعدم السماح بأي لون من ألوان الاندساس والتغلغل الثقافي الاجنبي، والالتزام بالمناهج العلمية الاصيلة والمضمون الثقافي النقي، مما جعلها تمتاز ـ بصورة بيّنة ـ عن جميع المؤسسات المماثلة الاُخرى.



وكذلك في تصديها لعمليات الغزو الاجنبي لبلاد المسلمين، وإسنادها لحركات التحرر والاستقلال، حتى أصبح شعار لا شرقية ولا غربية خطاً ثقافياً سياسياً يتحكم في المسار الثقافي السياسي لهم.



7ـ الايمان العملي بالمساواة بين الاقوام والشعوب والطبقات الاجتماعية في القيمة الانسانية والحقوق العامة والانفتاح العلمي والثقافي عليها وتكافؤ الفرص الممنوحة، ولاسيما الاقليات الدينية والعرقية غير العربية.



ولعل من أفضل الشواهد على هذه الحقيقة، الاثر الذي تركته هذه الثقافة في أوساط هذه الشعوب من علاقاتهم الخاصة بأهل البيت(عليهم السلام) وارتباطهم بمذهبهم، والشعور بعدم وجود هذه الامتيازات الخاصة للعرب من الناحية العرقية والقومية، وعمق الشعور بفكرة الاستبدال لهم ـ التي ذكرها القرآن الكريم ـ عند التخلف عـن القيام بأداء الرسالة، وضعف التعصب القومي لدى أوساط أتباع أهل البيت(عليهم السلام).



كما أن من الشواهد على ذلك طبيعة تركيبة الحوزات العلمية المتعددة الجنسيات، وطبيعة العلاقات التي تربط بين أبناء الجماعة في قضايا التقليد والدرس والزواج وغيرها، حيث لا توجد مشاعر التعصب والتمييز، فهم يقلدون (المراجع) مهما اختلفت انتماءاتهم الجغرافية والعرقية على أساس الموازين العلمية والروحية، كما يحضرون دروس العلماء والفقهاء بدون تمييز، ويستفيدون من كتبهم وعلومهم، ويرتبطون اجتماعياً بالزواج وغيره كذلك.



8ـ الاهتمام العالي بالعلم وتدوينه وتطويره وتقديسه وإيجاد المؤسسات العلمية، كالمدارس والمكتبات العامة والخاصة، والمحافظة على التراث وتنوع الثقافات والانفتاح على الحضارات، والحوار الحضاري والتأليف في مختلف العلوم، والنشر، والبحث العلمي.



فقد كان التدوين للسُنة الشريفة، والتأليف في العلوم الاسلامية، وإيجاد الحوزات، والمدارس العلمية، مما سبق إليه أتباع أهل البيت(عليهم السلام)، وكان لهم دور التأسيس فيه .



ثم نجد أنَّ الكتابة والتأليف في العلوم المتنوعة والانفتاح فيها على الاخرين من داخل الاطار الاسلامي أو خارجه، مما أمتاز به أتباع أهل البيت(عليهم السلام)، ولذلك لا تكاد تجد مكتبة خاصة أو عامة لديهم لا تضم مختلف الكتب ذات الانتماءات المتعددة مذهبياً وثقافياً، كما لا تكاد تجد مثقفاً واحداً منهم لا يملك مكتبة خاصة، بل نجد بعض هذه المكتبات الخاصة تفوق في حجمها وتنوعها وأهميتها الكثير من المكتبات العامة.



كما أنَّ نسبة التأليف في العلوم الاسلامية ـ بالرغم من قلّة العدد وظروف المحنة والمحاصرة التي مرت بها جماعة أهل البيت(عليهم السلام) وقلّة الامكانات ـ نسبة عالية تقارب الربع أو الخمس من مجموع المؤلفات الاسلامية العامة.



9ـ تقديم المصلحة الاسلامية العليا للاسلام والاُمة الاسلامية وجماعة المسلمين عموماً على المصالح الطائفية الخاصة وجماعتهم المخصوصة.



وهناك شواهد كثيرة في هذا المجال عامة وخاصة، منها الموقف الاسلامي في الدفاع عن الخلافة والدولة الاسلامية العثمانية في النصف الاول من القرن الماضي الهجري ـ بالرغم من أنَّ هذه الدولة كانت حنفية المذهب، وكانت تضطهد أتباع أهل البيت(عليهم السلام) بصـورة عامة، وفي صراع مع الدولة الشيعية في ايران ـ حيث أفتى جميع علماء الشيعة في النجف الاشرف بوجوب الجهاد دفاعاً عن هذه الدولة في مقابل الغزو الانكليزي، وشاركوا مع أتباعهم فعلياً في القتال.



ومنها موقفهم تجاه قضية فلسطين، وبـذل التضحيات الغالية، وإتخاذ المواقف الصلبة والقوية في الدفاع عنها، وما جرى ويجري في لبنان الان أفضل شاهد على ذلك.



ومنها الموقف العظيم للامام الحكيم(قدس سره) في الدفاع عن الاسلام وجماعة المؤمنين عندما تعرض العراق إلى خطر هيمنة التيار الماركسي، وتعرض العلماء وأكثرهم من أهل السنة إلى الاضطهاد على يد هذا التيار، وكان موقف الامام الحكيم بفتواه : (الانتماء إلى الحزب الشيوعي كفر وإلحاد أو ترويج للكفر والالحاد) أعظم الاثر في درء هذا الخطر الماحق.



وكل هذه المواقف وغيرها تستلهم هذه الثقافة من موقف الامام علي(عليه السلام) في صدر الاسلام بعد وفاة رسول الله(صلى الله عليه وآله) الذي يعبر فيه عن هذا المبدأ السياسي الثقافي، حيث كان يؤمن أن الخلافة هي حقه الطبيعي والشرعي، ولكن عندما وجد أنَّ المطالبة بها، والصراع مـن أجلها، يؤدي إلى تعرض الاسلام والاُمة الاسلامية إلى خطر الضعف أو الانهيار، سلّم الامر لغيره، دون مقاومة، واكتفى بتسجيل موقفه برفض البيعة في البداية، حرصاً على تثبيت الحق، وهو يعبر عن ذلك بقوله : (( ... فأمسكت يدي حتى رأيت راجعة الناس قد رجعت عن الاسلام يدعون إلى محق دين محـمد ((صلى الله عليه وآله))، فخشيت إن لم أنصر الاسلام وأهله أن أرى فيه ثلماً أو هدماً ... )) .



10ـ الوحدة من خلال التعايش والتقارب بين المسلمين في العلاقات الثقافية والاجتماعية والاقتصادية وحتى في الشعائر الدينية، والاتحاد مع جماعتهم في المواقف السياسية العامة تجاه أعدائهم، وفي التعاون على البر والتقوى وبناء المجتمع الاسلامي الصالح، وفي تسديد الحكام والسلاطين بالرأي والنصيحة والمشورة.



والشواهد على هذه الحقيقة عملياً كثيرة لا يسعها هذا الكتاب، وقد تناولناها بالبحث في كتابنا الخاص بموضوع الوحدة الاسلامية من منظور الثقلين.



إنّ هذه الخطوط الثقافية العامة، كانت توجه وتشخص حركة المرجعية الصالحة في مختلف الادوار من ناحية، كما كان للمرجعية الصالحة الدور الاساس في تثبيتها وترسيخها في أوساط أتباع أهل البيت(عليهم السلام) وغيرهم من ناحية أُخرى، بحيث كانت تمثل أحد الانجازات الكبرى لهذه المرجعية. ( الفهرست ) (http://www.almejlis.org/shaheed/sh/KUTUB/almerge3ah.HTM#L0)

تراب البقيع
03-12-2008, 10:43 PM
الفصل الثاني




مواصفات المرجعية الفاعل




دور المواصفات في المرجعية



الانجازات الكبيرة التي قدمتها المرجعية للاُمة، إنَّما حصلت بادىء بدء بفضل وعناية الله تعالى، وجهاد وتضحيات المخلصين من أبناء الاُمة والجماعة الصالحة ـ ولكن لاشك أنَّ للمواصفات والكمالات التي اتصفت بها المرجعية، والتي مثلت هذه الصفات امتداداً في حقيقتها ومضمونها لمواصفات الرسل والائمة المعصومين(عليهم السلام) ـ الاثر البالغ في ذلك، وقد شاء الله تعالى بموجب حكمته والسنن التي أودعها في حركة هذا الكون والمجتمع الانساني، أن تكون مثل هذه الانجازات معلولة لوجود المواصفات المعينة التي أتصف بها المخلصون من عباده، ومنهم المراجع العظام، وبذلك يكونون قادرين على مواصلة المسيرة وبلوغ الهدف والتأثير في هداية الناس ـ ولذلك وجد قانون الاصطفاء والاجتباء ـ كما ذكر تعالى ذلك : ( إِنَّ اللهَ اصْطَفَى ءَادَمَ وَنُوحًا وَءَالَ إِبْرَ هِيمَ وَءَالَ عِمْرَ نَ عَلَى الْعَـلَمِينَ * ذُرِّيَّةً بَعْضُهَا مِن بَعْض وَاللهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ )، وقال تعإلى : ( وَتِلْكَ حُجَّتُنَا ءَاتَيْنَـهَآ إِبْرَ هِيمَ عَلَى قَوْمِهِ نَرْفَعُ دَرَجَـت مَّن نَّشَآءُ إِنَّ رَبَّكَ حَكِيمٌ عَلِيمٌ * وَوَهَبْنَا لَهُ إِسْحَـقَ وَيَعْقُوبَ كُلاًّ هَدَيْنَا وَنُوحًا هَدَيْنَا مِن قَبْلُ وَمِن ذُرِّيَّتِهِ دَاوُدَ وَسُلَيْمَـنَ وَأَيُّوبَ وَيُوسُفَ وَمُوسَى وَهَـرُونَ وَكَذلِكَ نَجْزِى الْمُـحْسِنِينَ * وَزَكَرِيَّا وَيَحْيَى وَعِيسَى وَإِلْيَاسَ كُلٌّ مِّنَ الصَّـلِحِينَ * وَإِسْمَـعِيلَ وَالْيَسَعَ وَيُونُسَ وَلُوطًا وَكُلاًّ فَضَّلْنَا عَلَى الْعَـلَمِينَ * وَمِنْ ءَابَآئِهِمْ وَذُرِّيَّـتِهِمْ وَإِخْوَ نِهِمْ وَاجْتَبَيْنَـهُمْ وَهَدَيْنَـهُمْ إِلَى صِرَ ط مُسْتَقِيم * ذلِكَ هُدَى اللهِ يَهْدِى بِهِ مَن يَشَآءُ مِنْ عِبَادِهِ وَلَوْ أَشْرَكُوا لَحَبِطَ عَنْهُم مَّاكانُوا يَعْمَلُونَ * أُوْلئِكَ الَّذِينَ ءَاتَيْنَـهُمُ الْكِتَـبَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ فَإِن يَكْفُرْ بِهَا هؤُلاَءِ فَقَدْ وَكَّلْنَا بِهَا قَوْمًا لَّيْسُوا بِهَا بِكَـفِرِينَ * أُولئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللهُ فَبِهُدَ هُمُ اقْتَدِهْ قُل لاَّ أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِنْ هُوَ إِلاَّ ذِكْرَى لِلْعَـلَمِينَ ) .



ومن هذا المنطلق نعرف مواصفات وشروط المرجعية تمثل المحور الاساس في هذا الموقع والدور الذي يقوم به، لان المرجع قد تم تعيينه مـن الله تعالى بالمواصفات، لا بالشخص، على خلاف التعيين في الانبياء والائمة(عليهم السلام)، فأنَّ التعيين فيهم بالشخص بعد إحراز الصفات فيهم من قبله تعالى، كما أنَّ الصفات ـ في الوقت نفسه ـ تمثل إحدى الضمانات المهمة، لتحقيق الاهداف وسلامة المسيرة.



( الفهرست ) (http://www.almejlis.org/shaheed/sh/KUTUB/almerge3ah.HTM#L0)




الصفات المطلوبة في المرجع




فما هي هذه الشروط والمواصفات؟



نقرأ في الرسائل العملية لمراجع الدين، الشروط والصفات العامة التي يذكرها الفقهاء بخصوص مواصفات المرجع، وهي مواصفات صحيحة وواقعية، ولكن من خلال إطلاعي على الاوضاع الموجودة في الحوزات العلمية، ومن خلال معرفتي السابقة والفعلية بهذا الامر.



أقول : إنَّ هذه الشروط ـ مع الاسف ـ لا تشرح في الدروس التعليمية، ولا توضح في الابحاث والثقافة العامة الحوزوية، بطريقة تتناسب فيها المواصفات مع أهمية وخصائص موقع المرجعية.



فعلى سبيل المثال، تذكر مواصفات من قبيل أن يكون المرجع بالغاً وذكراً وعاقلاً وعالماً وعادلاً، لكن لا يتم شرح هذه المواصفات والشروط بالطريقة التي تتناسب وأهميتها أو أهمية موقع المرجعية، فعندما نأتي إلى شرط (العقل) ـ مثلاً ـ وهو صفة يشترطها الفقهاء، حتى في ولي الطفل الصغير، وكذلك في الانسان الذي يحق له التصرف في ماله، إذ يشترط في صحة تصرف الانسان بالمال (العقل)، ولا تصح تصرفات المجنون والسفيه، وكذلك في الشخص الذي يريد أن يتزوج، وفي معاملات البيع والشراء وغيرها من الامور الكثيرة.



ولكن هنا يثار هذا السؤال المهم : هل أنَّ العقل الذي نشترطه في المرجع، هو نفس العقل الذي نشترطه في مثل هذه الموارد الاُخرى ؟ أم أنه لابد من مستوى عال من العقل الذي نشترطه في المرجع، بحيث يتناسب ومهمات هذه المرجعية ؟



وهكذا في صفة (العدالة) الذي يذكرها الفقهاء، كشرط في كثير من الامور، كما في إمام الجماعة والشهود ـ شاهدي الطلاق مثلاً ـ أو شاهدي البينة لدى القاضي، فهل أنَّ مستوى العدالة المشترطة في المرجع هي عينها المشترطة في إمام الجماعة وفي الشاهد ؟



لقد كان الامر ـ وهو الفرق بينهما في المستوى ـ واضحاً في السابق لدى الاوساط العامة (السالفة) باعتبارها أوساط متفقهة وقريبة من العلماء والمراجع، تتعايش معهم ـ يومياً ـ وتدركه من خلال الممارسة والتطبيق، فيتناولون هذا الموضوع عن هؤلاء الحواريين والمتفقهين يداً عن يد، وفماً عن فم، وصدراً عن صدر.



أما الان وبعد هذه التحولات الكبيرة التي سوف أشير إليها في عالم اليوم، فنحتاج إلى أن نقف طويلاً عند هذه الشروط، لاجل أن تصبح المواصفات واضحة ومتناسبة في رؤانا، وهذا الموقع من ناحية، ومع قدرة هذه المرجعية على تحقيق الانجازات الكبيرة والاهداف المقدسة والاستمرار بالمسيرة من ناحية أُخرى.



هناك بعض العناوين البارزة في هذه الشروط والمواصفات، تحتاج إلى هذه الوقفة والشرح، بخلاف بعض المواصفات الاُخرى التي قد لا تحتاج إلى كثير من الدقة والشرح، كما هو الحال مع صفة الذكورية والبلوغ الواضحتين، وهنا أشير إلى ثلاثة عناوين مهمة :




أولا : العدالة



من المواصفات التي تستحق النظر طويلاً هي صفة العدالة، وهي كما يعرفها بعض الفقهاء : بالمَلَكَة والصفة النفسية الروحية الثابتة في نفس الانسان من خلال الممارسة المستمرة والتربية الطويلة، بحيث تمنع صاحبها من الوقوع في المحرمات أو ترك الواجبات، وهي حسب تعريف بعض الفقهاء الاخرين : الالتزام بجادة الصواب، والاستقامة فيه والتمسك بالواجبات وترك المحرمات، ولكن في المرجع لابد أن نشترط درجة عالية من العدالة، تتناسب مع هذا الموقع الهام، وهي عدالة تمثل بمستواها امتداداً وانعكاساً لشرط العصمة الذي نلتزم به في الائـمة الاطهار(عليهم السلام)، حيث إننا كما نشترط ـ عقلاً وشرعاً ـ في الامام العصمة، فلابد في المرجع الذي يمثل وينوب عن الامام في المسؤوليات أن يكون بمستوى من العدالة يتناسب مع هذا التمثيل للمعصوم وموقع النيابة عنه.



وسأتناول في توضيح هذا الموضوع مجموعة من الاختبارات وتجسيدات السلوك، تتميز من خلالها عدالة المرجع بمستواها المطلوب عن العدالة العامة في الموارد الاُخرى، فإن العدالة ـ بمعنى حسن الظاهر ـ المطلوبة في إمام الجماعة والشاهد تعني الالتزام والاستقامة الظاهرية، بأن يصلّي الشاهد ويصوم ويحج عند الاستطاعة ويخمس ويزكي ماله المتعلق به; الخمس والزكاة، وغير ذلك من الواجبات أو ترك المحرمات.



إن هذا الالتزام هو من الامور الواضحة مصداقاً عند المراجع، فلا يمكن أن يكون ذلك أساساً في اختبارات السلوك والاستقامة، إذ لا نتوقع أن نرى أحد المراجع لا يصلّي، أو لا يصوم وهو صحيح البدن، ولا نتوقع أن يشك بذلك أحد من الناس، بل لا نجد هذا النوع من الانحراف حتى عند المدعين (زوراً) للمرجعية، أو غير المؤهلين لها في العدالة المطلوبة في المرجعية، بل لابد من اختبارها في عدة قضايا أخلاقية وسلوكية أُخرى، ترتبط بطبيعة المرجعية ومهماتها.



هنا أشير إلى بعضها :




أ ـ العدالة وحب الرئاسة



أحد الاختبارات الذي يجب أن يفحص عنها المؤمنون والخبراء والمتفقهون لمعرفة تحقق شرط العدالة في المرجع والذي يمكن أن نستلهمها من أحاديث أهل البيت(عليهم السلام)، هو الفحص عن مقدار حب هذا المرجع للدنيا وزهده فيها.



فعن الامام الصادق(عليه السلام) : (( إذا رأيتم العالم محبّاً للدنيا فاتّهموه على دينكم فإنَّ كلَّ محبّ يحوط ما أحبّ ))، من خلال حبه للرئاسة والشهرة وزهده فيهما، وما هو مقدار حبه للفعاليات التي يبذلها في الدعوة والدعاية إلى نفسه أو الاعراض عن ذلك ؟



لقد ورد عن أئمة أهل البيت(عليهم السلام) تأكيدهم الشديد على حرمة حب الرئاسة ولعنهم لها، أو الاهتمام بالمناصب وبالشهرة.



عن عبد الله بن مسكان، قال : سمعت أبا عبدالله(عليه السلام) يقول : (( إيّاكم وهؤلاء الرؤساء الذين يترأسون فوالله ما خفقت النعال خَلْفَ رجُل إلا هلك وأهْلَكَ )).



وعن أبي حمزة الثمالي، قال : قال لي أبو عبدالله(عليه السلام) : (( إياك والرئاسة وإيّاك أن تطأ أعقاب الرجال، قال : قلت جُعلت فداك أما الرّئاسة فقد عرفتُها، وأما أن أطأ أعقاب الرجال فما ثلثا ما في يدي إلاّ ممّا وطئتُ في أعقاب الرجال ؟ فقال لي : ليس حيثُ تذهب، إيّاك أن تنصبَ رجلاً دون الحجة، فتُصدّقه في كلِّ ما قال )).



وعن محمد بن مسلم، قال سمعت أبا عبد الله(عليه السلام) يقول : (( أترى لا أعرف خياركم من شراركم ؟ بلى والله وإنَّ شراركم من أحبَّ أن يوطأ عقبه، إنَّه لابد من كذَّاب أو عاجز الرأي )) .



فأمير المؤمنين(عليه السلام) الذي هو أحق الناس بالولاية والمنصب والحكم من بعد الرسول الاكرم(صلى الله عليه وآله) كان يؤكد هذا المفهوم، كما جاء في نهج البلاغة تأكيده(عليه السلام) لاعراضه وبُعدِه عن طلب الرئاسة والمنصب، ورفضه للتصدي لذلك، إن لم يكن فيه المصلحة العامة ومصلحة المسلمين بالذات، فقال(عليه السلام) : (( .. فوالذي فلق الحبة وبرأ النسمة لو لا حضور الحاضر وقيام الحجة بوجود الناصر وما أخذ الله على العلماء أن لا يقاروا على كضة ظالم ولا سغب مظلوم لالقيت حبلها على غاربها ولسقيت آخرها بكأس أولها ولالفيتم دنياكم هذه عندي أزهد من عفطة عنز ))، يريد(عليه السلام) أن ينبهنا إلى هذا الامر الهام في اختيار السلوك والعدالة.



ولذلك نرى في الاوساط الدينية أن إحدى الانتقادات المهمة التي سجلت على بعض الاشخاص الذين ادعوا المرجعية بعد وفاة الامام الحكيم(قدس سره) هو ملاحظة الاندفاع الكبير في بذل الاموال لطبع الصور ونشر (الروبرتاجات) ـ كما يعبرون ـ في المجلات وفي الدعاية لهذه المرجعية أو تلك، وهي مسألة غير سليمة، إذ لا ينبغي أن يكون الترويج للمرجعية بهذه الطرق التي تشبه إلى حد بعيد طرق الدعايات التي تستخدمها الشركات التجارية لترويج بضائعها والابتعاد عن معرفة الشروط الواقعية الاسلامية المطلوبة في المرجعية.



المرجعية لها قدسية كبيرة، ولها موقع معين، وأنا لا أريد ـ هنا ـ أن أنكر على أحد طبع صور هذا العالم أو ذاك، فذلك أمر طبيعي في أن يحتفظ المرء المؤمن بصورة المرجع أو العالم الذي يرتبط به في بيته، تعبيراً عن حبه وتقديره له، كما أنَّ من الطبيعي ـ أيضاً ـ أن يعبّر المؤمن عن حبه وولائه السياسي للمرجعية، عندما يرفع صورة المرجع في المناسبات وإحياء الشعائر والتظاهرات، ولكن من غير الطبيعي أن يكون الترويج للمرجعية بهذا الاسلوب والتعريف بها من خلال الاعلام العام، بعيداً عن الموازين الواقعية وعن ضوابط هذه الموازين التي لابد من تثقيف الناس عليها، فهذا الشيء مرفوض، لانه يعبر عن حب الزعامة والمنصب والرئاسة والشهرة بأي طريق جاءت.



هذا الحب للدنيا والرئاسة هو من الابتلاءات الكبيرة التي يبتلى ويمتحن بها العلماء المتصدون، لان غيرهم من الاصناف قد يمتحن، ولكن بشيء آخر، التاجر ـ مثلاً ـ عندما يبتلى ويمتحن بدينه لا يبتلى بالصلاة والصوم، وإنَّما بمعاملاته في السوق، ومدى اهتمامه بمطابقة عقوده التجارية التي يجريها مع الاحكام الشرعية، والشاب عندما يمتحن في دينه يبتلى في السيطرة على شهواته الجنسية والعاطفية وسلوكه العام، وهكذا الحال بالنسبة للمزارع والعامل والمرأة والطالب، بل وجميع الناس، فإن قانون الامتحان عام، ولكن يختبر الانسان فيه بما يتناسب مع طبيعة مواصفاته الذاتية أو طبيعة أعماله الاجتماعية.



أما المرجع فإنَّ من أهم ما يبتلى به من أمور خطيرة هو الامتحان بحب الرئاسة والزعامة والموقع.



وقانون الابتلاء والامتحان، قانون عام وشامل، لا يفرق فيه زمان أو مكان عن زمان ومكان آخر بالنسبة لبني الانسان، حتى الانبياء(عليهم السلام) تعرضوا للامتحان والابتلاء، والمرجع يتعرض ـ أيضاً ـ إلى أنواع خاصة من هذه الامتحانات والابتلاءات، وإحداها : هي قضية حب الرئاسة وحب الشهرة، فلابد أن يراقب الانسان المتصدي والمرجع العام من خلال موقعه وبشكل دقيق هذا الامر في نفسه، ويرى مدى حبه لهذه الرئاسة والشهرة والموقع الخطير.



كما يجب على الاُمة أن تراقب ذلك بدقة ـ أيضاً ـ لتشخيص المرجع ذي المواصفات المطلوبة.



وقد عشنا فترة طويلة، عاشرنا فيها علماء وأفاضل كرام، ومراجع عظام، كانوا يراقبون في أنفسهم هذا الجانب مراقبة شديدة، ويتورعون عن كل ما يمت إلى هذا الحب بصلة. ( الفهرست ) (http://www.almejlis.org/shaheed/sh/KUTUB/almerge3ah.HTM#L0)

تراب البقيع
03-12-2008, 10:43 PM
ب ـ العدالة ومهادنة الظلم



لقد ابتلي مراجع الاسلام في مختلف العصور، بظاهرة حكام الجور والظلمة، وكانت هذه الظاهرة هي أحد الاختبارات الاُخرى لعدالة المرجع، فما هو الموقف من حكام الظلم والجور، ومن ظاهرة الظلم والطغيان والاستبداد ؟



وتفرض هذه الظاهرة موقفاً معيناً على المرجع باعتباره المتصدي لامور الاُمة وإدارة شؤون المؤمنين، فلابد له من أن يقف الموقف المناسب من قضيتي الظلم والعدل، ومن خلال تاريخ أهل البيت(عليهم السلام) وسيرة مراجعنا الصالحين العظام، نلاحظ أنهم كانوا يقفون دائماً في مواجهة الظالمين موقف الانكار لهذا الظلم، بدرجة تتناسب والظروف المحيطة بهم والاوضاع السياسية والاجتماعية القائمة في المجتمع، إلا أنَّ أصل (الرفض) كان أصلاً ثابتاً في مواقف أهل البيت(عليهم السلام) والمراجع(قدس سرهم).



كما أنَّ مسألة التعاون مع الظالمين أو مهادنة الظالمين تعد من القضايا المهمة المرفوضة والمحرمة، التي تقف حائلاً ضد ما يفرضه الواجب الالهي، من السعي لتحقيق العدل والدفاع عنه وإقامته بين الناس.



فقد ورد في الحديث عن أبي حمزة، عن علي بن الحسين(عليه السلام) قال : (( إيّاكم وصحبة العاصين ومعونة الظالمين )).



وعن أبي بصير، قال : سألت أبا جعفر(عليه السلام) عن أعمالهم، فقال لي : (( يا أبا محمد لا ولا مدّة قلم إن أحدهم لا يصيب من دنياهم شيئاً إلاّ أصابوا من دينه مثله )).



وعن ابن أبي يعفور، قال : كنت عند أبي عبدالله(عليه السلام) إذ دخل عليه رجل من أصحابنا فقال له : جعلت فداك أنّه ربما أصاب الرّجل منّا الضّيق أو الشدّة فيدعى إلى البناء يبنيه، أو النّهر يكريه، أو المسنّاة يصلحها، فما تقول في ذلك ؟ فقال أبو عبدالله(عليه السلام) : (( ما أحبّ أنّي عقدت لهم عقدة، أو وكيت لهم وكاء، وان لي ما بين لابتيها، لا ولا مدّة بقلم إنّ أعوان الظلمة يوم القيامة في سرادق من نار حتّى يحكم الله بين العباد )).



وعن يونس بن يعقوب قال : قال لي أبو عبدالله(عليه السلام) : (( لا تعنهم على بناء مسجد )).



وفي (عقاب الاعمال) عن السكوني، عن جعفر بن محمد عن آبائه(عليهم السلام) (( قال : قال رسول الله(صلى الله عليه وآله) إذا كان يوم القيامة نادى مناد أين أعوان الظلمة ومن لاق لهم دواتا، أو ربط كيسا، أو مدّ لهم مدّة قلم، فاحشروهم معهم )) .



ولذلك نجد أنّ أئمة أهل البيت(عليهم السلام) على اختلاف ظروفهم وأوضاعهم السياسية، كانوا يشتركون جميعاً في موقف واحد، تجاه مقارعة الظلم وأقامة العدل بين الناس، وكان أحد المصاديق الواضحة هو موقفهم من مقاومة الظالمين وعدم التعاون معهم.



فمثلاً نلاحظ أن أمير المؤمنين(عليه السلام) كان له ظرف معين، ويعيش في أوضاع سياسية خاصة، والامام الحسن(عليه السلام) كان له ظرف آخر، وهكذا الحال بالنسبة للامام الحسين(عليه السلام) الذى عاش ظرفاً ثالثاً، كذلك بالنسبة لبقية الائمة الاطهار(عليهم السلام) حتى غيبة الامام الحجة المنتظر (عج)، ولكن مع اختلاف ظـروف أئمة أهل البيت(عليهم السلام)، نجدهم جميعاً اشتركوا بموقف واحد ثابت ضد الظلم والظالمين والطغيان والاستبداد، وإن كان يختلف في مستواه و درجـته، وكان هذا الموقف واضحاً في أوساط الاُمة، مهما اختلفت درجة هذا الموقف تبعاً للظروف التي عاشها كل إمام منهم.



فمن درجة موقف الامام الحسين(عليه السلام) وهي درجة المواجهة والتضحية المطلقة، إلى درجة الامام الرضا(عليه السلام) الذي بلغ به الحال أن يكون ولي العهد للمأمون العباسي، ولكن عند قبوله(عليه السلام) الظاهري بولاية العهد، نجد أن له نفس الموقف الرافض للظلم، وتمثل ذلك برفضه لهذه الولاية حتى ألجأه المأمون لها بالتهديد بصورة واضحة عرفها الناس، ثم بوضعه(عليه السلام) شروطاً لقبول تلك الولاية توضح موقف الرفض، مثل شرط عدم التدخل في أي أمر من الامور التنفيذية للخلافة، مما يوضح للناس الموقف تجاه الظلم والطغيان.



وهذه المواقف هي التي تفسر وتبين لنا ردة الفعل التي وقفها الظالمون المستبدون تجاه موقف الائمة الاطهار(عليهم السلام)، فكانت تتمثل هذه الردة في العدوان والمطاردة والمحاصرة والقتل والاغتيال التي تعرض لها أئمة أهل البيت(عليهم السلام)، منذ زمن الامام علي(عليه السلام) إلى زمن غيبة الامام الحجة المنتظر(عج).



ولابد أن يكون الموقف من الظالمين دائماً موقف الرفض مسجلاً بدرجة ما، مهما كانت الضغوط التي يمارسها الظالمون ثقيلة وقاسية ضد المرجع الديني، ولنا فـي أئمة أهل البيت(عليهم السلام) أسوة وقدوة، فقد مورست ضدهم ضغوط كبيرة جداً، باعتبار موقعهم الاجتماعي ودورهم في الاُمة، حتى بلغت هذه الضغوط حد التهديد والحصار، ودرجة الخطورة والانذار بالقتل، وتنفيذ ذلك فيهم(عليهم السلام). ( الفهرست ) (http://www.almejlis.org/shaheed/sh/KUTUB/almerge3ah.HTM#L0)




ج ـ (العدالة) ومصالح الاُمة الاسلامية



إنَّ تقديم المرجع لصالح الاُمة على المصالح الخاصة له، وكذلك رعاية المرجع لمصالح الاُمة وحرصه عليها في حركته ونشاطه من الامور الهامة جداً، في اختبارات العدالة وشرط من شروط المرجعية الصالحة، وذلك لانَّ المرجع هو ولي أمر هذه الاُمة، وكما هو الحال في ولي اليتيم الذي لابد له من رعاية مصالح اليتيم ليكون ولياً شرعياً صالحاً، وكما هو الحال في ولي الوقف الذي لابد له من رعاية مصالح الوقف، ليكون ولياً صالحاً، فإن قصّر أحد منهما في رعاية شؤون هذه المصالح، يعتبر خارجاً عن العدالة وتسقط ولايته، لامور اليتيم والوقف، كذلك الامر في ولي الاُمة، بل الامر فيه أولى، إذ لابد له من رعاية مصالحها، ليكون ولياً صالحاً وعادلاً في ولايته.



ثم أنَّ موضع الاختبار الحقيقي في هذا المجال ليس مجرد الاهتمام بمصالح الاُمة بصورة عامة فحسب، بل عندما يحدث التزاحم والتضاد بين مصالحه ومصالح الاُمة، فهل يقدم المرجع مصالح الاُمة وقضاياها على مصالحه الخاصة وشؤونه الخاصة ؟



أو يقدم مصالحه الخاصة على مصالح الاُمة، بحيث يرى المرجع نفسه أنه أصبح هو الاُمة كلها بمصالحها وشخصيتها وشؤونها!!.




المصالح العامة للاُمة



وإذا تحدثنا عن مصالح الاُمة، فلابد أن نقف قليلا لمعرفتها وتشخيصها، فهناك مفردات كثيرة للمصالح العامة، نشير إلى بعضها المهم :



الاولى : مفردة العقيدة الاسلامية السليمة، ومقاومة الضلال والانحراف والابتداع، والمحافظة على القواعد والضوابط الاصيلة في العلم والمعرفة، والاستنباط للفكر الاسلامي والحكم الشرعي وخط (الاجتهاد) الصحيح في الدين، لمواكبة تطور المجتمع الانساني.



الثانية : الدفاع عن بيضة الاسلام، والمحافظة على الوجود والكيان الاسلامي الذي يحافظ على هذه البيضة، وعلوّ الكلمة الالهية في الارض، لتصبح كلمة الله هي العليا وكلمة الباطل هي السفلى.



إنَّ اختبار اهتمام المرجعية بمثل هذه المفردات والقضايا في موازنة الاهتمامات العامة، مثل بارز في معرفة توفر هذا الشرط في المرجعية الصالحة.



الثالثة : مفردة إبلاغ الرسالة الاسلامية والدعوة الالهية، لهداية الناس وإخراجهم من الظلمات إلى النور، والتخطيط لايصالها وتعميمها وبذل الجهود من أجلها، وتحمل المصاعب والالام والمحن في سبيل ذلك.



الرابعة : مفردة الشعائر الاسلامية العامة، والمحافظة على البنية الاجتماعية الاسلامية في الاُمة مثل إقامة الصلاة، والانفاق في سبيل الله، وإحياء مواسم العبادة كشهر رمضان، والزيارة كحج بيت الله الحرام والعتبات والاماكن المقدسة، والشعائر والمجالس الحسينية، وغيرها من المصاديق التي لها دور الحصن والسور الذي يحمي المجتمع الاسلامي، ويقوي فيه روح المناعة والمقاومة.



الخامسة : مفردة التزكية والتطهير في السلوك العام لابناء الاُمة، وتربيتهم تربية صالحة، ولاسيما الاوساط المهمة التي تتعرض بشكل أكثر إلى الاضرار الروحية والمعنوية، كالقوى العاملة والشباب والفتيان والنساء.



السادسة : مفردة الحوزة العلمية التي تعتبر من أهم المؤسسات الاسلامية والمصالح العامة التي عرفتها الاُمة طوال تاريخها، فما هو مدى اهتمام المرجع بها وتطويرها في جانبها الكمي والعلمي، وفي مضمونها الروحي والمعنوي، وفي أدائها وقيامها بمسؤولياتها الدينية والاسلامية، وفي الدفاع عنها والمحافظة على وجودها وقدسيتها واستقلاليتها؟



السابعة : مفردة وحدة كلمة الاُمة، والانسجام بين صفوفها، وعلاقة الولاء والحب والتعاون والتناصر بينها، واحترام مشاعرها وخياراتها المشروعة، وإعطائها حقها من الرقابة والنصيحة والمشورة والرعاية.



الثامنة : مفردة القضايا المصيرية التي تواجهها الاُمة في حركتها ذات العلاقة بالعزة والكرامة أو الاستقلال والحرية والعيش الكريم، مثل قضية فلسطين، وقضايا الاستبداد والطغيان، وقضية الهيمنة الاجنبية، أو قضية التبعية السياسية والثقافية، والغزو الفكري والثقافي، أو قضية الفساد الاخلاقي والاجتماعي، أو قضية الفقر والجهل والمرض. ( الفهرست ) (http://www.almejlis.org/shaheed/sh/KUTUB/almerge3ah.HTM#L0)




د ـ العدالة واختيار الحاشية



لاشك أن المرجع باعتباره يمثل هذا الموقع الممتاز في الاُمة، ويتحمل المسؤوليات الكبيرة في العمل، لا يمكن أن يدير أعماله ونشاطه بدون جهاز إداري واستشاري، ووجود حاشية من مستشارين ومساعدين، ولابد أن يتناسب ذلك مع حجم وطبيعة العمل الواسع الكبير الذي يؤديه المرجع، لذا فإنَّ وجود الحاشية بهذا المعنى في أوساط المراجع أمر ضروري، وليس أمراً زائداً وفضـولاً، كما قد يتصوره بعض البسطاء أو الجهلاء، أو يثيره بعض المغرضين، بل وجودها قضية أساسية لا يمكن الاستغناء عنها، لانجاز المهمات الملقاة على عاتق المرجع، ومن هنا يصبح اختيار وتشكيل هذا الجهاز الاداري والاستشاري من موارد الاختبارات لعدالة المرجع المطلوبة، حيث يمتحن المرجع في هذه الحاشية، في مواصفاتها وخصوصياتها وسلوكها، وفي أن تكون هذه الحاشية صالحة، ولديها الشعور العالي بالمسؤولية تجاه موقع المرجعية ومهماتها، وتتعامل بإخلاص وموضوعية مع قضايا المرجعية وتحت رقابة المرجع، أو أن تكون مهمتها وظيفية تتعامل تعامل الموظفين إدارياً، وتنظر للقضايا من خلال هذه المهنة والحرفة، هذا من جانب.



ومن جانب آخر، يجب أن تتصف الحاشية بالعقل والتقوى، إذ لابد للمستشار أن يكون من أهل العقل والدين والتقوى والورع، لا مجرد أن يكون ملتزماً بالاسلام فقط، بل لابد للحاشية ـ أيضاً ـ أن تكون من أهل المعرفة والخبرة في قضايا المجتمع، وحسن التدبير والادراك فيها، لتقوم بدورها المناسب لموقع المرجعية، إلى غير ذلك من المواصفات الضرورية، التي لابد أن تشترط في هذه الحاشية.



وبصورة إجمالية، فإنَّ إحدى الابتلاءات والاختبارات التي يتعرض لها المرجع كامتحان قاس، هو موضوع اختيار (الجماعة) التي تحيط بالمرجع، والتي يعتمد عليها في حركته، ويدير من خلالها أعماله ونشاطاته في الاُمة، ومدى انسجامها مع سلوك وأهداف المرجعية الصالحة، واختيار المرجع للمستشارين والمساعدين الجيدين، ورقابته على أعمالهم وحركتهم من أهم معالم الاختيار.



وهنا ينفتح أمامنا باب للبحث عن المنهج الصحيح للادارة في المرجعية الصالحة، وهل هو المنهج الموضوعي أو الذاتي، كما ينفتح أمامنا بحث آخر عن أجهزة وتنظيم المرجعية الموضوعية أو الذاتية، وهو ما نحاول أن نتناوله في بقية فصول هذا البحث.

تراب البقيع
03-12-2008, 10:44 PM
هـ ـ العدالة والحرص على بيت المال



قضية المال والاموال والتصرف فيها، تبقى هي القضية المهمة والبارزة للاختبار في كل التاريخ الانساني، وقد أكد القرآن الكريم عليها، باعتبارها من أكثر القضايا الاجتماعية والانسانية حساسية، فلقد جعل القرآن الكريم المال، في قوله تعالى : ( فتنة ) ، ثم تعرض لدور الاموال في حركة المجتمع الانساني سلباً في إفساده، وإيجاباً في إصلاحه وتطوره وتزكيته.



ثم في موضوع الانفاق للمال، وإخراج الحقوق الشرعية منه، ودفع الصدقات ودورها في الحياة الانسانية، سواء في تحقيق التكامل الانساني، أو في تحقيق العدالة الاجتماعية، أو في تحقيق النمو والتطور والتطهير، أو في تحقيق القوة والمنعة، أو في تحقيق الانسجام، كما يفهم ذلك من الهدف من أخذ الزكاة وموارد الصرف فيها، قوله تعالى : ( خُذْ مِنْ أَمْوَلِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِم بِهَا ... ).



وقال تعالى : ( إِنَّمَا الصَّدَقَـتُ لِلْفُقَرَآءِ وَالْمَسَـكِينِ وَالْعَـمِلِينَ عَلَيْهَا وَالْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ وَفِى الرِّقَابِ وَالْغَـرِمِينَ وَفِى سَبِيلِ اللهِ وَابْنِ السَّبِيلِ فَرِيضَةً مِّنَ اللهِ وَاللهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ ).



ولذلك تكون طريقة التعامل مع الاموال من القضايا المهمة جداً في إمتحان العدالة بالنسبة للمرجعية الصالحة.



وفيما عاصرناه من المراجع، وجدنا في كيفية التعامل مع هذه الاموال وإنفاقها في مصالح الاُمة بطريقة عادلة، بعيدة عن القضايا الذاتية والمصالح الشخصية، إحدى المواصفات المهمة في التمييز، ووجدنا ـ مثلاً ـ بعض المراجع يوزع المال على جميع الطلبة سواءً كانوا ينتمون إليه انتماءاً جغرافياً ـ أي من بلده وقومه ـ أو لم يكن لهم هذا الانتماء، بل كانوا من بلدان أُخرى كإيران وأفغانستان وباكستان وغيرها، وبعض المراجع الاخرين كانوا يعطون جماعة معينة فقط من الطلبة، وإن زاد شيء من المال، انتقلوا في عطائهم إلى الجماعة الثانية، ثم الثالثة، وهكذا.



ورأينا بعضهم الاخر يخصص المال للطلبة وحدهم، ويترك المجالات الدينية الاُخرى والتي لا تقل أهمية في قضايا مصالح الاُمة عن مجال الطلبة.



كما أنَّ بعض المراجع رأيناهم يدققون في الصرف، ولاسيما على ذويهم وأصحابهم، وبعضهم كان يتسامح في ذلك.



وقد يكون لكل واحد منهم مبرراته الخاصة في هذا النوع من الانفاق أو ذاك، ولكن المهم أنَّ هذا الموضوع هو أحد الاختبارات المهمة للعدالة المطلوبة في المرجعية.



ثانياً : شرط العقل
الشرط الاخر الذي يذكره الفقهاء ـ عادة ـ في المرجعية هو شرط العقل، ونحن نعرف بأن العقل في فقهنا الاسلامي هو من شروط التكليف، والانسان لا يتوجه له تكليف بأمر أو نهي في الشريعة الاسلامية ما لم يكن متصفاً بالعقل، فلا تجب الصلاة ولا الصوم ولا الحج ولا الزكاة ولا أي تكليف آخر من التكاليف الشرعية إلا بتوفر هذا الشرط (العقل)، فهو شرط عام في كل التكاليف، لكن السؤال : ما هو هذا العقل الذي يشترط في هذه التكاليف ؟ وبعد ذلك : هل أنّ العقل الذي نشترطه في المرجع هو نفس هذا المستوى من العقل الذي يشترط في هذه التكاليف؟
(العقل)، هو : عبارة عن القوة التي أودعها الله في الانسان، ليدرك بها الاشياء ويميز بينها، وعندما يصل الانسان في رشده الادراكي وفهمه للقضايا والاشياء إلى حد يكون قادراً على التمييز بينها ـ ويعرف الاسود من الابيض، كما يمثلون، أو يعرف الجمرة من التمرة، كما يصطلح عليه في اللغة العامية ـ يسمى مميزاً، وتترتب عليه أحكام خاصة كأحكام الطفل المميز، أما عندما يكون الانسان لديه هذه القدرة، بدرجة أعلى يعرف بها الصالح من الفاسد أو الشر من الخير في حياته الشخصية، عندئذ يكون هذا الانسان إنساناً رشيداً عاقلاً، ويتوجه إليه التكليف العام من قبل الله سبحانه وتعالى، وهو ما نراه في عامة الناس، فإن عامة الناس يتصفون بالعقل ـ عادة ـ عند البلوغ، باستثناء من يبتليهم الله سبحانه وتعالى ببعض الابتلاءات المرضية أو النفسية، بحيث يفقدون هذه القدرة، الذين يعبر عنهم بالمجانين، وهذا الجنون تارةً يكون جنوناً ثابتاً في هذا الانسان، كحالة عامة، وأُخرى يكون جنوناً أدوارياً يصاب به الانسان في بعض الاوقات والحالات، بحيث يفقد هذه القدرة على التمييز العام المطلوب للاشياء في بعض الحالات، ويرجع إلى هذه القدرة في بعض الحالات الاُخرى.
هذا العقل الذي نعبر عنه بالشرط العام للتكليف، يبدو أنَّه من الامور الواضحة، ووضوحه ـ أيضاً ـ ناشئ من أنَّه صفة عامة قائمة وموجودة في عامة الناس، ومن ثمَّ تصبح قضية يدركها الناس كبقية الصفات التي تكون موجودة في الناس بصورة عامة، كبعض الغرائز والاعراض، ومع ذلك فقد وضع الشارع المقدَّس مقياساً في تشخيصه، لترتيب الاثار الشرعية عليه، وهو : (البلوغ).
يبقى السؤال الاخر المهم، وهو هل يشترط في المرجع هذا المستوى العام من العقل الذي يكون شرطاً في التكليف، ونكتفي في المرجع بعد عدالته، بأن يكون قادراً على تمييز الصالح من الفاسد من الاشياء بصورة عامة، كما يميزها عموم الناس في إدراكاتهم ومعرفتهم؟ أو نشترط في المرجع مستوى أعلى من ذلك؟
يبدو من خلال النصوص الواردة عن أهل البيت(عليهم السلام) ـ وهي كثيرة جداً، وتحتاج إلى بحث ومتابعة ـ ضرورة أن وجود مستوى أعلى من العقل، وأكتفي هنا بذكر هذا الموضوع على مستوى الاثارة، ويمكن للسادة الافاضل والاخوة الاعزاء الذين لديهم المستوى العلمي المناسب والاهتمام بهذا النوع من البحث، أن يتابعوا الموضوع في النصوص التي وردت عن النبي(صلى الله عليه وآله) وأهل البيت(عليهم السلام) فيما يتعلق بموضوع العقل.
في هذا الموضوع، نلاحظ أنَّه لابد في شرط العقل، من أن تتوفر فيه مجموعة من المواصفات تحدده وتشخصه، وبذلك يتحقق هذا الشرط في الانسان الذي يتحمل مثل هذه المسؤولية العظيمة، ويحتل مثل هذا الموقع، والمواصفات هي :
الاولى : الخبرة وحسن التدبير والادارة في القضايا التي يمارسها الانسان في عمله، بمعنى أن يكون خبيراً ومديراً ومدبراً، فقد ورد في تعريف العقل عندما سئل الامام الرضا(عليه السلام) : (( ما العقل؟ فقال : التجرُّع للغصّة، ومداهنة الاعداء، ومداراة الاصدقاء ))، أي أن يكون هذا الانسان لديه من حسن التدبير وإدارة الامور مع الناس، بحيث يكون قادراً على أن يسيطر على عواطفه ومشاعره، فيتحمل الضغوط والالام والمحن، وأن يداري الاصدقاء، فيكسبهم ويجعلهم يسيرون في الخط الصحيح المطلوب، وأن يداهن هؤلاء الاعداء بطريقة يتجنب شرهم وضررهم، ويحاول ـ أيضاً ـ أن يصل إلى هدفه من خلال التجرع للغصة، وهذه هي : المداراة والمداهنة.
كما جاء في بعض النصوص الاُخرى عن الامام علي(عليه السلام) قال : (( لا مال أعود من العقل، ولا وحدة أوحش من العُجب ولا عقل كالتدبير ... ))، يعني أنَّ الانسان إذا أراد أن يتصف بالعقل، فإنَّ أفضل صور هذا العقل وأفضل مصاديقه وتجسيداته، هو : أن يكون الانسان إنساناً مدبراً في عمله وسلوكه ومنهجه.
وهناك مجموعة أُخرى من النصوص، تعبر بطريقة ما عن هذا المضمون، وهو : أنَّ العقل يتجسد في كون هذا الانسان إنساناً لديه خبرة في الممارسة والعمل الاجتماعي، ولديه ـ أيضاً ـ حسن إدارة للعمل الاجتماعي.
وهذا الامر يتناسب ـ كما قلت ـ مع الموقع الذي تحتله المرجعية، باعتبارها قيادة للاُمة، وأنَّ لها القيمومة على مؤسسات عمل الاُمة وحركتها، لانَّها مرجعية للاُمة في حوادثها المستجدة، كما ورد ذلك في التوقيع المروي عن الامام المنتظر (عج) : (( وأما الحوادث الواقعة فارجعوا فيها إلى رواة حديثنا فانهم حجتي عليكم وأنا حجة الله ))، على الناس.
الثانية : أن يكون لدى الانسان الفهم الصحيح للواقع السياسي والاجتماعي الذي تعيش فيه الاُمة والجماعة، بحيث يعرف الواقع والعوامل المؤثرة فيه، ويكون لديه التحليل السياسي والاجتماعي الصحيح للاوضاع السياسية والاجتماعية، وهذا الامر ـ أيضاً ـ من الامور المهمة في موضوع العقل، وقد نفهم هذا الامر ـ أيضاً ـ من خلال بُعد (العلم)، ويكون مرتبطاً بمفهوم العلم، إذا أردنا أن نوسع دائرة مفهوم العلم، فيكون عالماً بالواقع السياسي والاجتماعي الذي تعيشه الاُمة.
لكن نلاحظ في نصوص العقل ـ عندما يكون الحديث عن العقل ـ إنَّ هذه النصوص تشير إلى هذا الموضوع في بُعد العقل، وكأنَّه يراد للانسان أن يكون متصفاً بدرجة من الادراك والتمييز للاشياء، بمستوى يكون عارفاً بما يجري حوله من أمور، ويميز الامور بين الصالح والطالح، والخير والشر، وما ينفع الناس وما يضرهم، إلى غير ذلك من الشؤون ذات العلاقة بحركة الاُمة وأوضاعها الخاصة، وفهم خطط الاعداء ومواقفهم، تلك المواقف الثابتة التي يعبر عنها بالاستراتيجية، والمواقف المتحركة التي يعبّر عنها بـ(التكتيكية)، يعني أن معرفة مثل هذه الامور في الواقع الاجتماعي من الخصائص العقلية التي يحتاجها الانسان، وهو ما يمكن أن يعبّر عنه بحسن المعرفة بالامور العامة، أما أن يكون المرجع إنساناً لا تكون لديه تلك القدرة على معرفة ما يجري حوله، فيتعامل مع القضايا بظواهرها الاولية والبدوية، ويتفاعل مع الظواهر الاولية والبدوية في مواقفه، انطلاقاً من فطرته وأحاسيسه وعواطفه النبيلة، بعيداً عن معرفة المصالح والمفاسد والاولويات، فهو لا يكون متصفاً بالعقل المطلوب في هذه المرجعية.
ومن أجل توضيح وتقريب الفكرة، نذكر مثالاً من علم الاصول، حيث نبحث فيه عن الظهور وحجيته، يذكر العلماء بأنَّ الظهور الذي يكون حجة، هو : الظهور الثابت المستقر، يعني الظهور الذي ينتهي إليه الانسان في فهـم الكلام بعد دراسة النص بكل ملابساته وقرائنه اللفظية المتصلة به، أو المنفصلة عنه، والقرائن والظروف الحالية التي تحيط بذلك النص وظروف صدوره.
وعندما يستقر الظهور بالنسبة إلى النص، يصبح الظهور حجةً، أما لو كان الظهور ظهوراً بدوياً، ظهوراً لاول وهلة، بدون الفحص عن القرائن، بحيث يتغير بالتأمل والمقارنة، فهذا الظهور البدوي لا يكون حجة، ولا يصح الاستناد إليه.
وكذلك الامر ينطبق على الفهم السياسي والاجتماعي للاحداث والقضايا، ولذلك فالفهم الاولي البدوي لها لا يكون حجة، ولا يصح ترتيب المواقف عليه، ولا يمكن أن يكون الموقف مرجعاً للناس، بل لابد للانسان الذي يريد أن يقود الاُمة، ويريد أن يوصلها إلى أهدافها ومصالحها ومنافعها، ويجنبها الاخطار التي تحيط بها، أن يكون لديه فهم وإدراك عقلي مستقر محيط بكل جوانبها المختلفة.
وهذا الموضوع هو ـ أيضاً ـ من الموضوعات المهمة، ولابد أن نشترطها في العقل، ولذلك لابد أن نشترط في المرجع العام : الذكاء، والخبرة، والفهم، والادراك العميق للاشياء، وحسن التدبير، من أجل أن نوفّر شرط العقل، الذي يقصد منه (الحكمة) في مقابل حالة الاسترسال للاشياء دون تأمل وتفكير وفهم لها.
من هذا المنطلق، نلاحظ ـ مثلاً ـ في الدستور والقانون الاساسي للجمهورية الاسلامية، إنَّها عندما وضعت شروطاً للقائد العام ـ الذي طرح في البداية بعنوان المرجع الديني العام للاُمة ـ وضعت هذا الشرط كأحد الشروط الرئيسية والاساسية في القائد والمرجع، باعتبار أنَّ هذا الشرط من الشروط الشرعية التي تستفاد من النصوص والروايات الواردة عن أهل البيت(عليهم السلام).
ففي بعض النصوص التي وردت عن الامام أمير المؤمنين(عليه السلام) : (( ... أيها الناس انّ أحق الناس بهذا الامر أقواهم عليه ..))
والاقوائية يراد منها : هذا المعنى من (العقل) والادراك والتمييز للاشياء.
وكذلك ماورد في قوله(عليه السلام) : ((والثاني أن يكون أعلم الناس بحلال الله وحرامه، وضروب أحكامه وأمره ونهيه، وجميع ما يحتاج إليه الناس، فيحتاج الناس إليه ويستغني عنهم)) .
وقول الصادق(عليه السلام) في صحيحة العيص بن القاسم : (( عليكم بتقوى الله وحده لا شريك له، وانظروا لانفسكم فوالله إنَّ الرَّجل ليكون له الغنم فيها الراعي، فإذا وجد رجلاً هو أعلم بغنمه من الّذي هو فيها، يخرجه ويجيء بذلك الّذي هو أعلم بغنمه من الذي كان فيها.
والله لو كانت لاَحدكم نفسان يقاتل بواحدة يجرِّب بها، ثمَّ كانت الاُخرى باقية فعمل على ما قد استبان لها، ولكن له نفس واحدة إذا ذهب فقد والله ذهبت التوبة، فأنتم أحقُّ أن تختاروا لاَنفسكم ... )) .
الثالثة : أن يكون هذا المرجع ممن يمتلك منهجاً واضحاً في التعامل مع القضايا والاحداث ومسيرتها، هذا المنهج الواضح فيه مفردات عديدة وكثيرة، ومن مفرداته ما نعبّر عنه (بالعقيدة السياسية) مثل فهم الولاية وموقعها في حركة الاُمة، وإنَّ المرجعية السياسية هي : امتداد للامامة والولاية الالهية، إلى غير ذلك من القضايا الاُخرى ذات العلاقة بعقيدة منهاج الحركة والعمل السياسي والاجتماعي الذي تسير عليه المرجعية السياسية.
وهناك مجموعة من العناوين أشير إلى بعضها، فيما يتعلق بموضوع (المنهج) الذي هو من القضايا المهمة جداً .
1 ـ من جملة العناوين التي يمكن أن نذكرها في مفردات هذا المنهج قضية (الحوزة العلمية) وموقعها ودورها في حركة الاُمة، ومن جملة هذه العناوين النظرية الاسلامية في الحركة السياسية، وكذلك موضوع (الدولة الاسلامية) وموقعها، والكيان السياسي الاسلامي في فهم هذا المنهج.
أما أن يكون المرجع في يوم من الايام مع وجود الكيان السياسي للاسلام، وفي يوم آخر لا يكون مع وجود الكيان السياسي الاسلامي، أو يكون المرجع في يوم مع فهم الولاية ودورها، وفي يوم آخر يفهم الولاية بمعنى خاص محدود، وفي يوم آخر لا يفهمها، كما نشاهد ـ أحياناً ـ بعض الناس من يفهم الولاية العامة للمسلمين، كما يفهم الولاية على يتيم، أو على وقف، أو يفهمها ولاية على مدرسة، أو على مؤسسة، مع أنَّ هناك فرقاً بين الولاية العامة وبين تلك الولايات.
2 ـ كذلك ومن جملة المفردات في المنهج، قضية (المصالح العليا) وترتيب الاولويات بين المصالح في الاهتمام، أو عندما تتزاحم المصالح في مرحلة التنفيذ، إذ لا شك أنَّ المصالح العامة أمام حركة الانسان تبدو كثيرة جداً و متعددة، ولكن هذه المصالح بعضها أهم من بعض، وبعضها أولى من بعض، فلابد للمرجع أن يشخّص الاهم والاولى منها، ليوليها الاهتمام الاكبر، وكذلك عندما تتزاحم المصالح الواجبة، ولا يتمكن الانسان من أن يجمع بين تحقيق كل هذه المصالح في آن واحد، فلابد له من أن يقدَّم بعضها على بعض، وحينئذ، إذا لم تكن لدى المرجع خبرة اجتماعية وعقل اجتماعي كامل، فقد ينتهي به الامر إلى أن يقدَّم المهم على الاهم .
وعندما تكون أمامنا مجموعة من المصالح والمفاسد، فهنا نحتاج إلى المنهج، وأن تكون لدى المرجع رؤية كاملة للاولويات في هذه المصالح، حتى يمكن أن يكون المنهج منهجاً صحيحاً يرتبط بموضوع العقل، ولعل هذا الشيء هو أحد أبعاد الحكمة، التي يشير إليها القرآن الكريم، في قوله تعالى : ( رَبَّنَا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولاً مِنْهُمْ يَتْلُواْ عَلَيْهِمْ ءَايَـتِكَ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَـبَ وَالْحِكْمَةَ وَيُزَكِّيهِمْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ ) .
كما أنَّ الحكمة قد تكون أمراً مرتبطاً بموضوع معرفة السنن والقوانين التي تتحكم في مسيرة المجتمع الانساني، والتي تكون معرفتها مـن مفردات المنهج الذي لابد للمرجعية الصالحة من الالتزام به.
أو تكون الحكمة معرفة معالم السلوك الانساني التي توصل إلى (الكمال الاخلاقي).
3 ـ ومن جملة مفردات هذا المنهج التمييز بين دور الاُمة ومسؤوليتها ودور القيادة ومسؤوليتها.
فنحن نلاحظ وقوع الكثير من الاحداث وأختلاف مواقف الناس تجاهها، فبعض الناس نجده يقول : أنه لو صنع الناس كذا، لكانت النتائج كذا، وتجد ـ في نفس الوقت أحياناً ـ آخرين يقولون تجاه الحدث نفسه : لو صنعت القيادة كذا، لكانت النتائج كذا، يعني أنَّ بعضهم يرمي بالمسؤولية في النتائج على عاتق القيادة، وبعضهم يرمي بالمسؤولية على عاتق الاُمة، وبعضهم ـ أيضاً ـ يخلط في المسؤولية، ولابد في هذا (المنهج) من تمييز مسؤولية القيادة ودورها ومسؤولية الاُمة ودورها.
4 ـ من جملة مفردات هذا المنهج تمييز وتشخيص الواجبات والوظائف والظروف المحيطة بحركة الاُمة والمجتمع والشروط المطلوبة والعوامل المؤثرة، فإنَّ لذلك تأثيراً بالغاً على طبيعة المواقف والقرارات، ولهذا السبب نجد الاختلاف في الادوار والمواقف لائمة أهل البيت(عليهم السلام)، مع أنَّ (الائمة(عليهم السلام)) هدفهم واحد، ومعرفتهم بالاشياء على مستوى واحد، وإرادتهم وقرارهم ينطلق من قاعدة واحدة.
ومع ذلك نرى أن إماماً من أئمة أهل البيت(عليهم السلام) ـ أحياناً ـ يقف موقفاً يختلف عن الموقف الذي وقفه الامام الاخر، بل نجد في بعض الاحيان الامام الواحد ـ كما في الامام علي(عليه السلام) والامام الحسن(عليه السلام) والامام الحسين(عليه السلام) ـ يتخذ موقفين مختلفين، وهذه المواقف إنَّما اختلفت باعتبار وجود هذا التمييز لديهم في دور الاُمة وموقها وحركتها، والظروف المحيطة بهذا الدور.
هذا المرجع الديني الذي يتعامل مع قضايا المسلمين ومصالحهم، ويتعامل مع الاُمة الاسلامية في حركتها، ومع الجماعة الصالحة، مهما كانت قدرته محدودة على بسط يده وفاعليته، ولكن تبقى مساحة حركته واسعة وكبيرة، وحينئذ، فلابد أن يكون قادراً على التمييز بين المصالح والمواقف والادوار التي يجب أن يقوم بها، حتى يتمكن أن يصل بالاُمة في حركتها إلى أهدافها ومصالحها.
إذن، فلابد في العقل الذي نشترطه في المرجع :
أولاً : أن يكون المرجع وافر الخبرة وحسن الادارة والتدبير.
وثانياً : أن يكون لديه فهم صحيح للواقع السياسي والاجتماعي الذي يعيشه المرجع، وتعيشه الاُمة التي يكون مسؤولا عنها.
وثالثاً : وأن يكون لديه منهج واضح في هذه الحركة الواسعة.

تراب البقيع
03-12-2008, 10:45 PM
ثالثاً : شرط العلم
المرجع الصالح لابد أن يكون عالماً، وفي موضوع العلم هذا تبرز عدة أبعاد :
البعد الاول : ما هو العلم المطلوب في المرجع الصالح ؟
البعد الثاني : ما هو مستوى العلم المطلوب ؟
البعد الثالث : كيف يمكن أن نحصل على توفر هذا الشرط، وكيف يمكننا معرفته في المرجع الصالح ؟



العلم المطلوب


أما ما يتعلق بالبعد الاول (العلم المطلوب)، فالعلماء يذكرون ـ عادة ـ في رسائلهم العملية، بأن المطلوب في المرجع، أن يكون مجتهداً في الفقه، وفي حال تعدد المجتهدين، والاختلاف بينهم في الفتوى، يتحتم الرجوع ـ عندئذ ـ إلى الاعلم منهم في موارد الاختلاف، أو إلتزام طريق الاحتياط في أخذ آراء هؤلاء العلماء.
أما في حال عدم اختلافهم في الفتوى فيكفي الرجوع إلى العالم المجتهد، هكذا يذكر الفقهاء في رسائلهم العملية.
ولكن لابد لنا ـ في هذا موضوع ـ أن نرجع إلى البحث السابق في خصوص موقع المرجعية ومسؤوليتها في الفتيا، فإنَّ القدرة على الفتيا تحتاج إلى درجة علمية، يعبر عنها بالاجتهاد، أو ملكة الاستنباط للحكم الشرعي.
ولاشك أن من يرجع إليه في معرفة الاحكام والفتاوى المستنبطة من القرآن الكريم والسنة النبوية المطهرة، لابد أن تتوفر لديه القدرة على معرفة الحكم الشرعي واستنباطه بالادلة التفصيلية، هذا مع غض النظر عن البحث في حركة الاجتهاد ومفهومه التي مرت بأدوار مختلفة ومتعددة في التاريخ الاسلامي.
أما إذا كانت المرجعية عامة، وليست مرجعية في الفتيا فقط، وإنَّما كانت مرجعية في الفتيا والامور الاجتماعية، وتشخيص مصالح المسلمين وشؤونهم الحياتية، كما هو الحال في مراجع الدين الذين عرفناهم ـ بصورة عامة ـ طوال تاريخنا الاسلامي منذ الغيبة الكبرى للامام الحجة المنتظر (عج)، ولاسيما في عصرنا الحاضر.
فإنّ المراجع الكرام، كانوا قد مارسوا دورين رئيسيين:
أحدهما : هو الفتيا، والاخر هو القضاء.
ولكن كان إلى جانب ذلك ـ أيضاً ـ دور ثالث يمارسه المرجع، هو : دور الولاية في إدارة بعض شؤون المسلمين، من قبيل الولاية للاوقاف التي لا ولي لها، وكذلك ولاية الايتام والقاصرين الذين لا ولي لهم، وولاية الشؤون العامة، كولاية التبليغ إلى الله والاسلام والهدي والارشاد إلى الله تعالى، وولاية الجهاد والمقاومة للطغاة والاستبداد، والامر بالمعروف والنهي عن المنكر، وكل ذلك مارسه العلماء والمراجع في أدوار مختلفة، ولم يقتصر دورهم على الفتيا وبيان الحكم الشرعي فقط.
هذا الدور الاخر للمرجعية الذي ذكرته يحتاج إلى علم آخر، ولا يكفي فيه مجرد الاجتهاد في الفقه، بمعنى القدرة على ممارسة عملية استنباط الحكم الشرعي من خلال الادلة التفصيلية، وإنَّما يحتاج أن تكون لدى (المرجـع) الخبرة بالواقع الموضوعي الخارجي القائم بين المسلمين.
فمثلاً موقف الجهاد في سبيل الله تعالى، يحتاج إلى المعرفة بقدرة المسلمين وبإمكاناتهم المادية والمعنوية من ناحية، والمعرفة بقدرة الكافرين والمنافقين والمهاجمين، وغيرهم من الاعداء الذين يقومون بأعمال عدوانية ضد الاسلام من ناحية أُخرى، وكذلك المصالح العامة التي تترتب على الجهاد.
فالجهاد فقهياً يشترط فيه شروط، من جملتها القدرة على القيام بهذا العمل، ولكن القرار بالجهاد وتقدير الموقف الذي هو شأن الولاية، يحتاج إلى معرفة بهذه الامكانات وإمكانات الاخرين، حتى يعطي المرجع القرار بالجهاد مثلا، كما أنَّ القدرة قد تكون موجودة، ولكن المصلحة العامة لا تقتضي الجهاد، كما كان ذلك في قضية صلح الحديبية.
فإذا كانت ولاية الوقف أو ولاية القاصر تحتاج إلى معرفة شؤون الوقف نفسه ومعرفة وضع القاصر ومصالح القاصر، بل ومعرفة المفاسد والمصالح الموجودة والتي تترتب على تلك الاوضاع، ثم معرفة القدرة على المقارنة بين المصالح والمفاسد، وتقديم الاهم على المهم، إلى غير ذلك من الشؤون المهمة ذات العلاقة بالوقف أو القاصر، فكذلك لابد أن نفترض أنَّ ولي إدارة الحوزة العلمية ـ مثلاً ـ يحتاج إلى المعرفة بشؤونها وبمصالحها وبأهدافها وبطرق تطويرها وسبل كمالها وإيصالها إلى المراحل العالية، للنهوض بمسؤولياتها وواجباتها، وهكذا الحال في جميع الامور العامة الاُخرى، وكذلك ولي الجهاد، لابد أن نفترض فيـه المعرفة بقوة المسلمين وقوة الاعداء والظروف المحيطة بالعمل الجهادي والمصالح المترتبة عليه، كما أشرنا إلى ذلك في شرط العقل.
وإذا كان يشترط في المرجع العلم بهذه الامور كلها، وبجميع تفاصيلها، فهنا قد يثار هذا الاعتراض : كيف يراد لهذا المرجع أن يكون عالماً بتفاصيل الامور العسكرية مثلاً؟! فإنّ إدارة عمليات الجهاد والمقاومة، تحتاج إلى العلم بالشؤون العسكرية، وكذلك الحال في علمه بالشؤون المالية، فإنَّ إدارة بعض القضايا تحتاج إلى علم بالشؤون المالية، وهكذا الحال في الامور الاُخرى التي تدفع الحاجة إليها إلى وجود العلم بها.
هنا لابد أن نلتفت إلى أن المقصود من العلم بهذه الامور، ليس في أنَ يكون الشخص المتصدي للمرجعية عالماً بكل هذه التفاصيل ودقائق أمورها، من أولها إلى آخرها، لان لا يدير هذه الامور بنفسه، وإنَّما يصنع ذلك من خلال الاجهزة والمساعدين والمستشارين، ولذا يكون المقصود من العلم هو أن يكون المرجع هو الذي يقود العملية، ومن ثمَّ فلابد له من القدرة على الاستفادة من المختصين وخبرتهم في تلك المجالات، وأن يكون قادراً على إعطاء رأيه وموقفه القيادي وقراره الحاسم بكل قضية من تلك القضايا بعد أن ينظر فيها.
ومع عدم وجود مثل هذه القدرة لديه في الاستفادة من المختصين وتمييز هذه الامور، ولو من خلال خبرات الاخرين واستشارتهم، فإنَّ القرار سوف لا يكون قراره، بل يكون قرار غيره، فلابد إذن من وجود مثل هذا العلم والخبرة والمعرفة وحسن الادارة، ليتمكن مـن إعطاء قراره الحاسم في القضية الاقتصادية، والمالية والعسكرية.
فمثلاً في القضية المالية، حين يريد القاضي أن يحكم بإنَّ هذا المال هو مال فلان من الناس، لابد له من أن يجري اختبارات وفحوص للوثائق والمستندات التي يرجع فيها ـ عادة ـ إلى أهل الخبرة والاختصاص، وكذا في القتل وتشخيص القاتل، فربما يحتاج إلى مختبرات لفحص الدم وبصمات الاصابع حتى يكتشف الحقيقة، وهكذا الحال في بقية الموارد.
ولكن يبقى القرار النهائي بيد القاضي الذي تكون لديه خبرة الاستفادة من الاختصاصات.
وعليه، فلابد من أن يكون العلم من حيث المضمون والسعة بصورة تتناسب مع الولاية، ومع القضاء، والدور الذي يضطلع به المرجع في العمل الاجتماعي والسياسي.



المستوى المطلوب من العلم


أما البعد الثاني فيما يتعلق بموضوع مستوى العلم، فقد ذكرنا أنَّ المستوى لابد أن يكون هو الاجتهاد، في فرض عدم الاختلاف بين المجتهدين في الفتوى، وأما في موارد الاختلاف بينهم فيتطلب أن يكون مستوى العالم المجتهد هو الاعلم (أعلم المجتهدين).
ولكن يبقى السؤال عن المستوى المطلوب من الاجتهاد ؟
الاجتهاد له مستويات ثلاثة، كلها مطلوبة في هذا المرجع :
المستوى الاول : ما يعبر عنه بالاجتهاد المتجزىء، وتعريفه قد يحتاج إلى بحث طويل يتناول إمكانه أو عدم إمكانه، ولكن ـ بناء على ما هو معروف من إمكان وجود الاجتهاد ـ الفكرة العامة الموجودة عنه لدى فقهائنا هو : أن تكون للعالم القدرة في أن يبحث بعض الابواب الفقهية، باب أو بابين أو ثلاثة أو أكثر، وبذلك يمكن أن يعطي هذا المجتهد رأيه في العبادات دون المعاملات مثلاً، أو بالعكس في المعاملات دون العبادات، فمثل هذا الشخص يطلق عليه (مجتهد متجزئ) وليس مجتهداً مطلقاً، إذ أنَّه لا يمكنه أن يرد في كل الابواب الفقهية، فضلاً عن استنباطه لكل الاحكام فعلاً.
وهذا المستوى من العلم والاجتهاد لا يُسمح للمقلدين بالرجوع إليه، ولا أن يصبح المتصف به مرجعاً دينياً، بل لابد أن يكون مستواه العلمي أعلى من ذلك.
نعم، يمكن لهذا المجتهد أن يعتمد على رأيه في المسائل الخاصة التي استنبطها، أو أن يطرح أفكاراً إسلامية وفقهية ناجزة من خلال عمله العلمي.
المستوى الثاني : أن يكون مجتهداً مطلقاً لا بالفعل، وإنَّما بالقوة، بمعنى أن لديه الملكة والقدرة على أن يرد في كل مسألة من المسائل الفقهية ويصل إلى استنباط حكمها الشرعي، ويمتلك معلومات في علم الاصول والحديث والرجال كافية لتحقيق ذلك، لكن نفترض فيه أنه لم يدخل فعلاً في بعض أبواب الفقه، مثلا باب القضاء، ولم يستنبط شيئاً منه، غير أنَّ لديه القدرة أن يدخل في بحث هذا الباب أيضاً، وهكذا باب الديات والحدود، وغيرها، ولكنه يستطيع استنباط الاحكام الشرعية فيها، فمثل هذا الاجتهاد يسمى بالاجتهاد المطلق، لوجود القدرة على ممارسة هذه العملية بصورة مطلقة، وفي كل الابواب الفقهية، واستنباط الاحكام الشرعية لكل منها، وهذه هي الدرجة الثانية.
المستوى الثالث : الاجتهاد المطلق الفعلي، فالاجتهاد المطلق ـ كما عرفنا ـ هو أن يكون الانسان قادراً على أن يرد في كل مسألة من مسائل الشريعة، وفي مختلف الكتب الفقهية ـ كتاب الطهارة، الصلاة، الزكاة، الحج، الخمس، إلى كتاب المعاملات، والاطعمة والاشربة، وكتاب الديّات وغيرها ـ مما تناولته الكتب الفقهية، ولكنه لم يرد فعلاً في بعضها، أما الاجتهاد المطلق الفعلي، فهو أن يكون لدى هذا الانسان ـ مضافاً إلى ما ذكرنا من هذه القدرة ـ الممارسة الفعلية لبحث كل هذه المسائل، وأن يتوصل إلى الاستنباط فيها وبيان حكمها، وهو ما يعبر عنه ـ عادة ـ بالرسالة العملية، أي أن تكون لديه رسالة عملية شاملة لكل هذه الابواب الفقهية، وهذا المستوى، هو المستوى المطلوب في مرجع التقليد في الفتيا.
إذن، فمرجع التقليد هو شخص اجتهد بالفعل وتوصل إلى هذه المسائل وأعطى رأياً فيها، وهذه هي الدرجة العليا للاجتهاد.
إذن، العلم المطلوب في المرجع الديني علم واسع، يتناول جميع أبواب الفقه والاصول، ويشمل في الوقت نفسه ـ كما عرفنا سابقاً ـ المعرفة ذات العلاقة بالمسؤوليات الكبيرة التي تتحملها المرجعية.


الخلاصة :
إنَّ مستوى هذا العلم، لابد أن يكون على مستوى الاجتهاد المطلق الفعلي، للوصول إلى الاحكام الشرعية والمواقف العملية التي حددها الشارع المقدس، وأيضاً يكون على مستوى العلم الفعلي الذي يوصله إلى التصورات الاجتماعية والسياسية، فيما يتعلق بالمسؤوليات الاُخرى.


إحراز العلم المطلوب في المرجع


بعد أن فرضنا أنَّ هذا العلم لابد أن يكون بهذا المستوى، هنا يبرز السؤال التالي : كيف نصل إلى التحقق من وجود هذا الشرط في المرجع الصالح، الذي لابد من الرجوع إليه في الحوادث، كما أمرنا بذلك سيدنا ومولانا الامام الحجة المنتظر (عج) في ما روي عنه من التوقيع المعروف؟
في هذا الموضوع يذكر الفقهاء في رسائلهم العلمية ـ عادة ـ أنَّ الطريق لمعرفة هذا العلم، إما أن يكون الشياع الذي يبلغ حد التواتر والعلم بوجود هذا العلم، أو أن تقوم البينة الشرعية على وجود هذا العلم في هذا المرجع الصالح، والبيّنة ـ عادة ـ يحددها الفقهاء بشهادة عدلين خبيرين بوجود هذا العلم في هذا المرجع الصالح.
ويكتفي بعض العلماء بالوثوق الذي هو درجة أقل من درجة العلم، بحيث تتحقق حالة من الركون والوثوق والاطمئنان النفسي بوجود هذا المستوى من العلم لدى هذا العالم المرجع، وبناءاً على هذا الرأي يكون الاطمئنان والوثوق حجة شرعية، فيكتفي هؤلاء بهذا المستوى من المعرفة أيضاً.
هذا هو ما يذكره الفقهاء في رسائلهم العملية ـ عادة ـ ولكن نواجه (مشكلة) فيما يتعلق بهذين الطريقين الذين يحددهما العلماء في رسائلهم العملية في ظروف أوضاعنا العملية، وأوضاع الحوزات العلمية، هذه المشكلة ليست دائمة، وإنَّما تحدث في كثير من الاحيان، وهي مشكلة تعدد المراجع الذين يطرحون أنفسهم لهذا الموقع الهام، مع وجـود شهادات متعددة بحد البينّة في الاوساط العلمية لهؤلاء المراجع، بحيث يمكن أن نقول أنَّ التواتر الذي يؤدي إلى حصول العلم الشخصي واليقين والاطمئنان لا يتحقق بخصوص هذا المرجع أو ذلك الـمرجع، لوجود شهادات متعددة من قبيل وجود اثنين أو ثلاثة أو أربعة يشهدون لمرجع في مكان، وفي مكان آخر يشهد ثلاثة أو أربعة أو أكثر لمرجع آخر، وهكذا.

تراب البقيع
03-12-2008, 10:46 PM
صحيح أن كل واحدة من هذه الشهادات لو أردنا أن نقوّمها في نفسها بدقة تكون ـ أحياناً ـ شهادة كاملة، ويمكن أن تكون بينة شرعية ـ أيضاً ـ يعتمد عليها في مقام الرجوع والاستناد إليها في معرفة هذا العلم، ولكن مع وجود البينة الاُخرى التي تشهد في الجانب الاخر، أي لمرجع آخر، هنا تحصل عندنا ظاهرة يعبر عنها علم الاصول بظاهرة التعارض بين البينّات، ومع وجود التعارض بين البينات لا يمكن عندئذ الاستناد إلى هذه البينّة ولا إلى تلك البينّة، إذ لو كانت هذه البينة وحدها دون غيرها، كان يكفي وجودها في إحراز العلم المطلوب، ولكن مع وجود ظاهرة تعدد المراجع والشهادات المتعددة لهم التي هي من الظواهر المعروفة في كثير من ظروفنا الاجتماعية والحوزوية، فما هو الموقف تجاه هذا الموضوع ؟
وهذا الامر يحتاج إلى المزيد من التوضيح، لاجل أن تصبح هذه القضية المهمة واضحة، وهي معرفة وجود هذه الصفة وهذا الشرط الهام في المرجع، بحيث يمكن أن يصل الانسان المؤمن المتدين إلى الحقيقة في هذا الموضوع.
العلماء والسلف الصالح والمحققون كانوا ينظرون إلى عدة أمور وقضايا مهمة، تعبر عن مؤشر لهذه الحقيقة، بحيث تؤدي إلى تلك النتائج التي أشار لها الفقهاء في رسائلهم العملية بصيغ محددة.
الامر الاول : وهو يرتبط بأصل وجود هذا المستوى من العلم، وهو (الاجتهاد المطلق الفعلي) بالنسبة لهذا المرجع، حيث نلاحظ أنَّ هذا المرجع لابد أن يكون مرجعاً معترفاً به في المؤسسة العلمية المختصة، وهي الحوزة العلمية، بأن يكون ـ في هذه المؤسسة بعلمائها ومدرسيها وفضلائها وطلابها ـ إجماع أو رأي عام بقبول إجتهاده المطلق الفعلي، وهذا الرأي العام يحقق الامر الذي ذكرناه في موضوع الشياع والتواتر، إذ يتحقق العلم أو الاطمئنان بأنَّ هذا الانسان هو بمستوى من العلم، يصل إلى هذه الدرجة العلمية والفضيلة الفقهية، وهي درجة الاجتهاد المطلق الفعلي الذي يتمكن من خلاله أن يكون إنساناً صالحاً للمرجعية.
إذن، فلابد من الاهتمام بهذه القرينة العلمية في استكشاف هذه الحقيقة، كما هو الحال في كل الشؤون المماثلة التي نشاهدها في عصرنا الحاضر، والعصور السابقة، أي أنّ أية درجة علمية عالية لا يمكن القبول بها ما لم نرجع إلى المؤسسة التي تربي مثل هؤلاء العلماء، فالاطباء مثلا لا يمكن القبول بادعائهم لمستوى عال من الطب ما لم يكن هناك اعتراف من قبل المؤسسات الطبية والجامعات العلمية التي تخرج الاطباء في هذا الوقت، وبدون هذا الاعتراف لا يمكن قبول مثل هذا الطبيب بهذا المستوى العالي، وهكذا الحال في المهندس، وكل المجالات الاُخرى ذات البعد العلمي المناسب، وحتى في القضايا الحرفية والمهنية نلاحظ ضرورة ذلك.
فعلى سبيل الفرض، صفة الدقة في مهنة صياغة الذهب والمجوهرات ذات الطبيعة الفنية الدقيقة، فإننا نجد أنّ أول مدخل لمعرفة اتصاف الانسان بهذه الصفة الفنية، هو الرجوع إلى المؤسسة التي يتخرج منها مثل هؤلاء الاشخاص.
وفي المرجع أحياناً يكون الموقف إجماعي للمؤسسة والحوزة العلمية تجاهه، وأُخرى يكون على شكل رأي عام في هذه المؤسسة، بحيث يحصل الاطمئنان بوجود هذه الدرجة من العلم عند هذا المرجع.
وهذا في الواقع يمثل إحدى الضمانات المهمة التي وضعها أهل البيت(عليهم السلام) في تخطيطهم لمؤسسة الحوزة العلمية، وهذه الضمانة تشبه ضمانة المعجزة التي وضعت من قبل الله سبحانه وتعالى، لمعرفة صحة دعوى النبي، وسد الطريق أمام أدعياء النبوة.
اعتراف هذه المؤسسة بهذا المرجع هو الضمان الذي يمكن أن نحرز من خلاله في المرجع هذه الدرجة العلمية، ونسد الطريق بذلك على أدعياء المرجعية.
الامر الثاني : الذي يمكن أن نأخذه بنظر الاعتبار هو وجود الكتب والمؤلفات العلمية التي تصدر عن هذا العالم، وهذه المؤلفات لا يمكن للشخص العادي أن يشخّصها ويقيَّم محتواها، بل تبقى المؤسسة العلمية هي المصدر الذي يمكن أن يمحَّص هذا التأليف وهي التي تميِّز وتقيِّم محتواه من خلال ذلك، ويمكن معرفة هذا العالم والمستوى العلمي الـذي يتميز به.
والكثير من علمائنا الاعلام ومراجعنا الكرام عُرفوا في الاوساط العلمية من خلال مؤلفاتهم قبل أن يُعرفوا من طريق آخر، فبعض هؤلاء المراجع لم تكن لديه فرصة للاحتكاك الواسع بالاوساط العلمية أو بالحوزة ـ مثلا ـ أو أن يتحرك عليها، بل كان منصرفاً إلى حد كبير إلى العلم وطلبه والتدريس، ومـن خلال التأليف عرفت الحوزة العلمية مستواه في علمه وفهمه، وهي التي يمكنها أن تميز أنَّ هذا المؤلف هو مجرد ناقل للعلم، أو انه مجتهد حقاً في علمه. فقضية المؤلفات العلمية تعتبر من المؤشرات المهمة في الاوساط العلمية، لمعرفة مستوى العلم الذي يمتاز به هذا المرجع أو ذاك .
الامر الثالث : الذي يمكن أن يوصل الانسان إلى هذه الحقيقة والتحقق من وجود هذا المستوى من العلم، هو وجود التلاميذ والطلاب، فالحوزات العلمية بحسب طبيعة عملها حوزات ولودة، والولادة فيها ذات طبيعة ذاتية، أي ديناميكية ـ كما يعبرون ـ يعني تمتلك صفة التوالد الذاتي، فالانسان فيها يدرس في الحوزة وفي الوقت نفسه يدَّرس أيضاً، ويعتبر هذا العمل جزءاً مهماً من ممارساته العلمية، أما أن يكون معزولاً عن المجتمع وليس له طلاب أو أفراد يربيهم، فهذه قضية نادرة جداً في أوضاع الحوزات العلمية، ولا أقول ليس لها وجود مطلقاً، ولذلك نجد أن العلماء المتميزين يكونوا عادة لديهم طلاب يتصفون ـ أيضاً ـ بالعلم والفضل، كما هو معروف في الحوزات العلمية فإنَّ قضية العلم تأتي بالدرجة الاولى في الاهتمام، وإنتاج هذا العالم لطلابه وتميزهم بالعلم هو بنفسه مؤشر على المستوى العلمي العالي الذي يتصف به هذا العالم.
إذن فهناك عدة مؤشرات :
أولها : اعتراف الحوزة العلمية، ووجود الرأي العام بقبول هذا العالم المجتهد فيها.
وثانيها : موضوع المؤلفات العلمية المتميزة المعروفة في هذه الاوساط.
وثالثها : الطلاب المعروفين بالفضل ومستواهم العلمي.
هذه المؤشرات الثلاثة، يمكن أن تخدم قضية الشياع وحصول درجة الاطمئنان والوثوق، إن لم تكن درجة اليقين في بعض الاحيان.
ومع كل ذلك، فقد توجد حالة رابعة ليس لها قاعدة مضبوطة، بل هي قضية ذات طبيعة إنسانية ذاتية ترتبط بالانسان وثقته من خلال المعاشرة والممارسة الميدانية لهذا المرجع أو ذاك المرجع، فقد تتحقق لدى الانسان من خلال معاشرته الميدانية لهذا المرجع قناعة ذاتية، فيرى فيه شخصاً فاضلاً عالماً يتميز بالدقة والشمول والاحتياط والتورع والانتباه إلى الخصوصيات، وذلك من خلال ممارسة شخصية عالية جداً، بحيث تكون الممارسة من قبل هذا الشخص محققة، لدرجة الاطمئنان والوثوق والتسليم بالحقيقة.
ولكن هذه القضية، لا يمكن أن نضعها ضمن ضابطة عامة أو ضمن قانون عام، وإنَّما هي قضية ذاتية ـ كما قلت ـ تبرز من خلال ممارسة شخصية وعلاقات خاصة، تؤدي إلى هذا النوع من الاطمئنان والوثوق، ولكن لابد من الحذر فيها من تأثير الميول النفسية أو الهوى والرغبة الخاصة في ذلك.
ولكن هذا الاطمئنان الناشئ من الدقة والورع والفحص في الوصول إلى النتائج يكون حجة شرعية لدى بعض المجتهدين، لكنها حجة شرعية ذات طبيعة ذاتية خاصة ـ كما قلت ـ وليست كضابطة عامة أو قانون عام، يمكن طرحه كمؤشر للوصول إلى هذه الحقيقة.
أما الامور الثلاثة الاولى التي ذكرتها، فهي تشكل ضابطة وقانون يعتمد عليها في الوصول إلى الحقيقة.
وأؤكد وأنبّه في هذا المجال، على أن لا يكون لعامل الهوى ـ الميول الخاصة ـ بمعناه الواسع تأثيره على النتيجة، فربما يرغب إنسان في عالم بسبب قربه منه، أو صداقته له، أو لانه من أهل بلده، أو لكونه جاره، أو لانه يتحدث بطريقة جيدة مفيدة، أو انه على مستوى عال من المجاملات الاجتماعية، وهكذا، ولاسباب عديدة ذاتية تنمي فيه حالة الركون والوثوق بهذا المرجع، فإنَّه يجب الانتباه إلى ضرورة تحري الدقة في الوصول إلى الحق، وأن لا نقع تحت تأثير هذه العوامل الذاتية والميول والرغبات. ( الفهرست ) (http://www.almejlis.org/shaheed/sh/KUTUB/almerge3ah.HTM#L0)



الفصل الثالث





الوجود الواقعي للمرجعية الصالحة


بعد هذا الحديث عن شروط المرجعية الصالحة وخصائصها قد يثار سؤال عن مدى واقعية هذه الشروط، وهل هناك وجود واقعي لمثل هذه المرجعية؟!، أم أنَّ المرجعية بمثل هذه المواصفات تصبح قضية مثالية ذات طابع نظري وتصوري، دون أن يكون لها مصداق خارجي في الواقع الفعلي للمسلمين؟!
للاجابة على هذا السؤال، أشير إلى نقطتين ذات قيمة هامة في توضيح الاجابة :



نظرة عامة لتاريخ المرجعية


النقطة الاولى : لقد ذكر الشهيد الصدر(قدس سره)، إنَّ المرجعية الدينية لجماعة أهل البيت(عليهم السلام) مرّت بعدة أدوار، يمكن تلخيصها بأربع مراحل، كانت المرحلة الاخيرة منها وصول المرجعية إلى موقع (قيادة الاُمة)، وإنَّ هذه المرحلة تمثل مرحلة التكامل في حركة المرجعية، حيث أصبحت القاعدة والاطار العام للتحرك الاسلامي، وعلى هذا الاساس لابد للمرجعية أن تكون بمواصفات خاصة تتناسب مع هذا الموقع والمرحلة.
وفي حديثه هذا يشير الشهيد الصدر(قدس سره) إلى أنَّ المرجعية في بدايتها كانت مرجعية في الرواية والفتيا، كما يذكر ذلك التوقيع المعروف عن الامام الحجة (عج) : ((وأما الحوادث الواقعة، فارجعوا فيها إلى رواة حديثنا ... ))، وكانت متوزعة متفرقة على مختلف مناطق العـالم الاسلامي التي يتواجـد فيها أتباع أهل البيت(عليهم السلام)، ثم تحولت بعد ذلك إلى التمركز في مرحلة متأخرة من مسيرتها، وعليه فإنَّ معرفة مجريات الامور حول هذه المرجعية وتطورها من الناحية التاريخة يحتاج إلى حديث واسع جداً، يستند إلى الارقام والشواهد والوثائق التاريخية، وندعو ذوي الاهتمام والاختصاص إلى بذل جهودهم لتناول مثل هذه البحوث، ولعلنا نوفق إلى بحث ذلك إن شاء الله تعالى.
ولكن إذا انطلقنا في رؤيتنا للمرجعية من هذا الفهم، عندئذ يمكن أن نتصور أنَّ المرجعية في (المرحلة القيادية) تمكنت من الاتصاف بهذه المواصفات، وإنَّ هذه الشروط هي شروط واقعية.
والشهيد الصدر(قدس سره) تناول هذا الموضوع بصورة إجمالية، دون أن يخوض في التفاصيل وذكر الشواهد والادلة، ولكنه(قدس سره) حدد بداية المرحلة الرابعة للمرجعية، بمرجعية المرحوم الميرزا حسن الشيرازي الكبير(قدس سره)، المعروف بموقفه السياسي العظيم في موضوع تحريم (التنباك) أي التبغ، إذ وقعَّت الدولة القاجارية المعاصرة للسيد الشيرازي الكبير معاهدة تسلم فيها استثمار التنباك في إيران إلى الحكومات الاجنبية الكافرة، وكان السيد الشيرازي يرى أنَّ هذه المعاهدة فيها ضرر كبير على المسلمين في إيران، وتفسح المجال للهيمنة الاستعمارية على البلاد، إذ كان هذا هو الاسلوب المتبع للدول الاستعمارية في فرض الهيمنة على (البلاد الاسلامية)، فطالب بابطال هذه المعاهدة، وأصدر حكماً (ولائياً) وأصدر (فتيا) بحرمة تناول التنباك من أجل الضغط على حكومة الشاه لابطال هذه المعاهدة ومحاصرتها، ونجح السيد ميرزا حسن الشيرازي(قدس سره) في إحباط هذه المعاهدة التي كانت بمثابة مؤامرة تحاك ضد الشعب الايراني المسلم.
من هنا، كان يرى الشهيد الصدر(قدس سره) هذا الموقف بداية المرحلة الرابعة للمرجعية والتي استمرت إلى يومنا الحاضر، كما كان يراها(قدس سره) ـ أيضاً من خلال حديثه هذا ـ متمثلة في مرجعية الامام الحكيم(قدس سره) في عصره.
وانطلاقاً من هذه الرؤية في هذا الحديث ـ وهي رؤية واقعية ـ نجد أمامنا مصاديق حقيقة وخارجية قائمة في تاريخنا الاسلامي المعاصر، متمثلة بهؤلاء العظماء الذين قادوا التحرك الاسلامي في هذه الفترة العسيرة والحرجة التي مرت بها الاُمة الاسلامية، وهي فترة مقدمات وقوع الحرب العالمية الاولى التي قام فيها الغرب المستعمر بغزو العالم الاسلامي اقتصادياً و ثقافياً وسياسياً، وذلك تمهيداً للغزو العسكري الواسع الذي شنه على البلاد الاسلامية.
وقد تمكن الغرب بعد فترة عقدين من الزمن ـ تقريباً ـ على رحيل المرحوم السيد الشيرازي الكبير(قدس سره) من الهيمنة العسكرية على البلاد الاسلامية، حيث شنت الحرب العالمية الاولى والتي كان يجري التمهيد لها من خلال المعاهدات الامنية، والاتفاقات الاقتصادية التي جرت مع الدول المستعمرة في العالم الاسلامي.
ففي شبه القارة الهندية أحكم الغرب غزوه الاقتصادي والعسكري لها في أواسط القرن التاسع عشر الميلادي، وتمكن البريطانيون من خلال شركة الهند الشرقية، أن يسيطروا سيطرة كاملة على شبه القارة الهندية.
وهكذا الحال في الجزائر في الفترة الزمنية نفسها، حيث تمكن الفرنسيون من السيطرة عليها سيطرة كاملة، ثمَّ أخذوا بالزحف على البلدان الاسلامية الاُخرى، وهكذا حتى أسقطوا الدولة الاسلامية.
ثمَّ استمرت سيطرة الغربين عسكرياً على العالم الاسلامي إلى الحرب العالمية الثانية، وبدأت حركة ما يسمى بـ(الاستقلال والتحرر) في العالم الاسلامي من هذه السيطرة العسكرية منذ بداية الامر، فبدأت الحركة في العراق قبل غيره من البلاد الاسلامية بقيادة المرجعية الدينية، وبعد ذلك في سورية ومصر واندونسيا وماليزيا وشمال أفريقيا وفي مناطق المغرب العربي، وغيرها.
ولذلك كانت هذه الفترة من أهم الازمنة التي عاشتها الاُمة الاسلامية في تاريخها، وكان للمرجعية الدينية فيها هذا الدور القيادي، والتأثير الكبير في حركة الاُمة.
( الفهرست ) (http://www.almejlis.org/shaheed/sh/KUTUB/almerge3ah.HTM#L0)

تراب البقيع
03-12-2008, 10:47 PM
نماذج للمرجعية الصالحة


النقطة الثانية : من خلال أحداث تاريخية، نشاهد مجموعة من المرجعيات من بعد السيد الشيرازي الكبير(قدس سره)، تمكنت أن تقوم بالدور القيادي بكل المواصفات ـ التي شرحناها سابقاً، من قبيل مرجعية الامام الحكيم(قدس سره) ـ وقد ذكرت مواصفاته وأعماله وحركته العامة، في محاضرات ومقابلات كثيرة، وأبحاث فيها الكثير من الشواهد والوثائق والارقام المحددة، بخطوط ثابتة في العمل والتخطيط إلى جانب مواصفات العلم والمعرفة والعدالة والتقوى والورع .
ثمَّ نجد هذا الامر واضحاً ـ كذلك ـ في مرجعية الامام الخميني(قدس سره) وهي من المرجعيات الفريدة، بما حققت من إنجازات في هذا العصر، وتمكنت أن تعيد الاسلام إلى الحياة السياسية، من خلال إقامته الدولة الاسلامية المباركة، التي كانت المنطلق للنهضة الاسلامية التي يشهدها العالم الاسلامي حالياً، وهذه المرجعية شاهد آخر واضح على هذه الحقيقة ـ مستوى الثبوت والاثبات معاً، وليس على مستوى الثبوت والواقع وحده ـ لانَّ الامام الخميني(قدس سره)، وبشهادة الجميع ـ الحوزة وجماعة أهل البيت(عليهم السلام)والمسلمين عامة، بل والعالم كله ـ كان له هذا الموقع المرجعي القيادي.
وكذلك يمكن أن نجد هذا الامر جلياً في مرجعية الشهيد الصدر(قدس سره)، فأنَّه وإن لم يصل إلى مستوى المرجعية العامة للمسلمين، لان الله تبارك وتعالى اختار له دار الاخرة والشهادة قبل بلوغه هذا الموقع الفعلي الخارجي، ( ... اللَّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالَتَهُ ... )، ويهيئ له الفرص في الواقع الخارجي، ولكنه كان متصفاً بالمواصفات المطلوبة في المرجعية الصالحة الكاملة، وعلى مستوى مشروع المرجعية، سواء في الافاق أو الخطوات أو الحركة أو الهموم أو الرؤيا أو غيرها من المواصفات، وكانت متواجدة فيه وحقيقة قائمة في شخص الشهيد الصدر(قدس سره).
كما يمكن أن نجدها في مراجع آخرين سابقين أمثال آية الله الشيخ محمد كاظم الخرساني(قدس سره) قائد حركة المشروطة في إيران، وآية الله الميرزا محمد تقي الشيرازي(قدس سره) قائد حركة الاستقلال في العراق، والميرزا حسين النائيني(قدس سره) وغيرهم كذلك.
فهذا الامر، نجد له مصاديق ونماذج وشواهد قائمة، منذ بداية المرحلة الرابعة لتاريخ المرجعية وحتى الان.
ولكن بالرغم من كل ذلك، وبالرغم من التحولات الكبيرة التي نشهدها في عالمنا اليوم بصورة عامة، وفي العالم الاسلامي بصورة خاصة، ربما تصبح قدرة المرجع ـ لا مواصفاته التي ذكرناها من علم وعدل وعقل ـ على أداء المهمة بكل أبعادها بصورة منفردة، قد تصبح قدرته عليها أمراً عسيراً، ولا أقول أمراً غير ممكن أو مستحيل، وهو أمر يحتاج إلى شرح وتوضيح.
ولكن على هذا الفرض لابد من التفكير الجدي في معالجة هذا العسر، وفي تشخيص الموقف تجاه هذه التطورات في عالمنا الاسلامي، والتي تلقي بثقلها وظلالها وعسرها على الاوضاع السياسية والاجتماعية والعلمية ذات العلاقة بالشروط الثلاثة التي ذكرتها، بحيث نحتاج إلى فرضية (التخصص) في المرجعية الدينية، لمعالجة هذا العسر وحل هذا الاشكال، وسوف يتضح جانب من هذا العسر وضرورة حل هذا الاشكال في الفصل الاتي إن شاء الله.
( الفهرست ) (http://www.almejlis.org/shaheed/sh/KUTUB/almerge3ah.HTM#L0)








الفصل الرابع





المرجعية والتحولات المعاصرة



إنّ أبرز التطورات التي يمكن أن نلاحظها في عالمنا المعاصر والتي تلقي بظلالها الثقيلة على المرجعية الدينية الامور التالية :



الحوادث الجديدة


الاول : التطورات على مستوى الحوادث الجديدة، والتي تحتاج إلى معالجة فقهية ومتابعة وتحليل من الناحية الفقهية والشرعية، والرجوع فيها إلى المصادر الدينية ـ القرآن والسنة ـ لمعرفة الحكم الشرعي تجاهها.
ففي كل يوم نواجه قضية جديدة ترتبط بأوضاعنا الحياتية التي نحتاج فيها إلى رأي جديد، وهو ما يعبر عنه بـ(المسائل المستحدثة) وهذا يفرض وجود عمل تخصصي علمي، لابد من القيام به في المحافل الفقهية، لاجل دراستها.
وكما هو معروف فإنَّ انتشار المسلمين في مختلف أنحاء الارض، وتطورات العلم والحياة المدنية، أدى إلى تطور حالة الانسان الاجتماعية، وكذلك كثرة العناوين الثانوية التي أدت إلى نشوء الحرج والعسر المتكاثر يومياً.
كما نجد في كل يوم مسألة وقضية تطرح ذات علاقة بالمعاملات التي كانت في السابق محدودة بعناوين معينة.
فالبيع مثلاً كان له في السابق أقسام معينة ومحدودة، وكذلك الاجارة والمضاربة والشركة، وغيرها من العناوين الفقهية الاُخرى.
أما اليوم، فنجد عشرات العناوين الجديدة للعقود والمعاملات التي تحتاج إلى بحث فقهي دقيق، لاجل معرفة حكمها الشرعي.
وكذلك في العلاقات الاجتماعية ـ أيضاً ـ تتواجد بشكل واسع تطورات كبيرة جداً، تحتاج إلى متابعات في غاية الدقة من الناحية الفقهية والشرعية لاعطاء الموقف فيها.
وعلى سبيل المثال، يمكن لذوي الاهتمام والمتابعة أن يدركوا هذه الحقيقة، من خلال مراجعة قائمة هذا العام التي أعدها المجمع الفقهي الاسلامي، التابع لمنظمة المؤتمر الاسلامي، الذي ينعقد في مدينة جدة أو غيرها كل عام، لاجل بحث القضايا المستجدة، والذي يحضره علماء من مختلف المذاهب الاسلامية، بما فيهم علماء من الجمهورية الاسلامية، فعند مراجعة هذه القائمة نجد عشرات العناوين المعقدة الجديدة، التي تحتاج إلى معالجة فقهية في مختلف تفاصيلها.
ومضافاً إلى ذلك كله، نواجه القضايا والاثارات والشبهات الجديدة حول الفكر والعقيدة والثقافة الاسلامية والحياة الاجتماعية وكيفية صياغتها ومعالجة مشاكلها، الامر الذي يحتاج إلى مواكبة دائمة ومستمرة، لتقديم الحل والتصور الاسلامي ومعالجة الشبهات والاثارات حول الاسلام وأحكامه ومنهجه في الحياة. ( الفهرست ) (http://www.almejlis.org/shaheed/sh/KUTUB/almerge3ah.HTM#L0)



مسؤوليات المرجعية والعصر الحاضر


وإذا أخذنا بنظر الاعتبار ـ كما ذكرنا سابقاً ـ إنَّ المرجعية الدينية تتحمل بالاساس مسؤوليات ثلاثة :
المسؤولية الاولى : (المسؤولية الثقافية)، وهي : تشخيص معالم العقيدة الاسلامية بكل تفاصيلها، ومنها الثقافة الاسلامية ومفاهيمها الاخلاقية والاجتماعية التي ينبغي أن تطرح كنتاج للعقيدة الاسلامية والفكر الاسلامي وتستنبط ـ أيضاً ـ من القرآن والسنة، مضافاً إلى الفتيا وبيان تفاصيل الاحكام الالهية والمواقف الشرعية تجاه الحوادث المختلفة، إذ لا تخلو واقعة من حكم شرعي.
ومضافاً إلى العقيدة والفتيا، هناك عملية (الهداية) ـ هداية الناس وإرشادهم ـ وهي عملية معقدة، تحتاج غالباً إلى تخطيط وعمل متواصل للقيام بهذا الدور، ويعتمد بصورة أساسية على تشخيص العقيدة بتفاصيلها وتشخيص الثقافة الاسلامية للاُمة، ومن ثم بيان الاحكام الشرعية لابناء الاُمة.
المسؤولية الثانية : إدارة شؤون المسلمين وقيادة الحالة الاجتماعية، والتي يمكن أن نعبّر عنها (بالولاية)، أي ولاية أمور المسلمين في إقامة الدولة الاسلامية، وإقامة الحكم الاسلامي، وقيادة عملية التغيير في المجتمع الاسلامي، وهي عملية تغيير وبناء وتزكية وتطهير، وإقامة لاركان العدل والقسط بين الناس على أساس الحق والمصالح الحقيقية.
ففي مرحلة ما قبل قيام الدولة توجد (ولاية) (مرجعية سياسية) يكمن دورها في إدارة عملية التغيير في المجتمع، باتجاه الهدف الرئيس، وهو : إقامة الحق والعدل بين الناس، والمتمثل بإقامة الدولة والحكم الاسلامي، فيها الكثير من التفاصيل : مثل المعرفة وتحليل الاوضاع السياسية القائمة في الواقع الاجتماعي، ومعرفة مواقف الاعداء والاصدقاء، ومعرفة الامكانات والقدرات التي تتمتع بها الاُمة، ثم بعد ذلك يأتي تشخيص الموقف السياسي بناءاً على هذا التحليل وهذه المعرفة، ثم العمل على تفعيل وتنفيذ الموقف، وإجراء العملية التغييرية، وهي عملية معقدة جداً ـ أيضاً ـ وتحتاج إلى تفرغ واهتمام خاص، ولاسيما في العصر الحاضر الذي تحولت فيه الدنيا كلّها إلى بلد واحد، وتشابكت فيها المصالح والنتائج، وكثرت فيها مؤامرات الاعداء وأساليبهم في الهيمنة والتسلط، ووسائلهم في النفوذ والتأثير.
المسؤولية الثالثة : مسؤولية القضاء وفصل الخصومات والحكم بين الناس، ومن الواضح أنَّ مشاكل الناس ومواضع الاختلاف بينهم، قد توسعت بسبب تعقيد الحياة الاجتماعية وتوسع القضاء يوماً بعد آخر، إلى جانب ذلك توسعت القوانين والتعليمات حتى أصبحت لدائرة القضاء مؤسسات كثيرة مستقلة في مقابل دائرة الفتيا، ودائرة الولاية، بحيث يقال : أنَّ السلطة التشريعية تمثل المسؤولية الاولى، والسلطة التنفذية تمثل المسؤولية الثانية، والسلطة القضائية تمثل المسؤولية الثالثة.
وقد كان المجتهد الواحد ـ في الماضي ـ هو الذي يعطي الفتوى ويقدم الفكر والعقيدة، وفي الوقت نفسه كان يشخص الموقف السياسي والتغييري في الاُمة، ويفصل الموقف في نزاعات الناس، فمثلاً الامام أمير المؤمنين(عليه السلام) كان يمارس كل ذلك شخصياً، باعتبار أنَّ القضية لم تكن معقدة بهذا الشكل وهذه السعة الموجودة الان، ولتوسع مجال القضاء وتعقيداته، فصل ـ القضاء ـ عن الولاية بعد ذلك، بحيث أصبح القاضي غير الوالي في الدولة الاسلامية، كما فصل ـ أيضاً ـ مقام الفتيا عن الولاية، ولكنهما يعملان تحت إشرافه ومؤسسة من مؤسساته، بحيث أصبـح الوالي يدير العملية الاجتماعية والسياسية في الوقت الذي يكون هناك شخص آخر يتولى الفتيا وإعطاء المحصل الفكري، وشخص ثالث يتولى القضاء.
وفي زمن الصفويين ـ على سبيل المثال ـ كان المحقق (الكركي(قدس سره)) هو الولي الفقيه في الدولة، لكن دوره كان ينحصر بتشخيص القضايا الشرعية ـ الفكر والعقيدة وإعطاء الفتيا ـ والادارة كانت بيد السلطان الحاكم، لكن بتفويض منه للقيام بهذه المهمة.
ثم توسع الامر إلى درجة كبيرة، حتى أصبحت هذه القضايا مؤسسات ثلاثة يستقل بعضها عن الاخر.
فهناك ثلاث مؤسسات مستقلة، هي : المؤسسة التنفيذية التي يديرها رئيس الجمهورية وجهازه (الوزراء)، والمؤسسة التشريعية التي يديرها مجلس الشورى الاسلامي، والمؤسسة القضائية التي يديرها رئيس القوة القضائية وجهازه الخاص، ومن أجل إعطاء الشرعية الاسلامية لهذه المؤسسات، أصبح الولي الفقيه هو المشرف على هذه المؤسسات، ويمنح الشرعية لها بالتفويض والامضاء أو الاشراف المباشر.
والان نجد هذا التنظيم للحكم والتقسيم للواجبات في الجمهورية الاسلامية، باعتبار أنَّ المرجع الولي لا يمكنه حالياً ممارسة جميع العمليات الاجرائية والقضائية والادارية وغيرها إلى جانب الفتيا. ( الفهرست ) (http://www.almejlis.org/shaheed/sh/KUTUB/almerge3ah.HTM#L0)

تراب البقيع
03-12-2008, 10:48 PM
القضية السياسية


الثانى : تطورات القضية السياسية في عالم اليوم، إذ كانت المسألة السياسية محدودة، لانقسام العالم إلى عدة دوائر ومجتمعات منفصلة بعضها عن بعض، وكانت العلاقات بينها محدودة جداً والمداخلات كذلك، والارتباط بينها إما بالحرب أو الهدنة الموقتة.
أما إليوم فقد تحول المجتمع الانساني إلى عالم جديد متداخل في شؤونه السياسية والاقتصادية والثقافية، يعتمد بعضه على بعض ولا يستغني بعضه عن بعض، عالم الاُمم المتحدة والتعاون الدولي في مختلف المجالات، والعهود والمواثيق والقوانين الدولية الثنائية أو الجماعية، والتكتلات الاقليمية والدولية، والمداخلات والمؤامرات والنفوذ الدولي الواسع، بسبب وجود هذا التشابك في العلاقات. ( الفهرست) (http://www.almejlis.org/shaheed/sh/KUTUB/almerge3ah.HTM#L0)



ثورة الاتصالات


الثالث : تطور العلاقات والصلات الذي حول العالم إلى عالم جديد وهو عالم الاتصالات والمعلومات، من خلال القنوات الفضائية وشبكات الاتصال الدولية، السلكية واللاسلكية والكمبيوتر و(الانترنيت) وسهولة التنقل والسفر، وملكية الاسهم، والشركات المتعددة الجنسيات، والتجارة الدولية، ونقل الاموال والبنوك العالمية، وتبادل الثقافات عن طريق الدراسة أو الكتب والمجلات والصحافة، والموسوعات والمعاجم، والترجمة وتعدد اللغات وما شابه ذلك، حتى صار العالم بأكمله يشبه المدينة الواحدة المكتظة بالسكان والمشكلات والمداخلات والتأثيرات المتبادلة، من خلال هذه الارتباطات وتطوراتها الواسعة التي ألقت بظلالها الثقيلة على القضية السياسية والاقتصادية ـ أيضاً ـ وتشعباتها.
فمثلا في السابق لم يكن هناك تدخل من القوى الكبرى في شؤون بلادنا، إلا بشكل محدود، مثل : الهيمنة على الثروات الرئيسية، أو الممرات الاستراتيجية، أو المناطق الحساسة، وعن طريق الحرب والقوة العسكرية المتوازنة نسبياً.
أما الان فإنَّ التدخل يحصل بصورة يومية، وبجميع تفاصيل حياتنا الاجتماعية وبمختلف الاساليب، حتى بلغ الحال إلى أن تدخل هذه القوى إلى بيوتنا وغرف نومنا، وتتحدث إلى أولادنا ونسائنا وأوساطنا السياسية والاجتماعية والثقافية، في كل وقت وساعة، وذلك لايجاد تحولات ثقافية وحضارية وسياسية واقتصادية.
ولذلك أصبحت القضية السياسية لها وضع جديد، لتمكن الحضارة الغربية من غزو الانسان في عقر داره، بل حتى تنوعت في خطابها لبني الانسان، فلو كان في البيت أسرة من خمسة أفراد فهناك خمسة خطابات في آن واحد، للطفل خطاب تتحدث معه الحضارة الغربية، وللمرأة خطاب، لرب البيت خطاب، وللشاب خطاب، وللفتاة خطـاب، وربما تتحدث مع جميع هؤلاء في كل يوم بخطابات متعددة، وهذه العملية هي ما يعبر عنها بالغزو الثقافي في محاولة للهيمنة على عقائدنا وثقافتنا وسلوكنا واقتصادنا وجميع شؤوننا، من خلال معركة حضارية يديرها الغرب المادي ضد حضارتنا الالهية المعنوية.
إذن، فنحتاج إلى (قيادة مرجعية متفرغة)، وإلى مراجع متخصصين في إدارة هذه المعركة ومواجهة هذا الغزو، وإلى مراجع متخصصين في فهم العقيدة والفكر الاسلامي، وتقديم الحلول والاجوبة لكل المشاكل والاسئلة، وإلى مراجع متخصصين في إدارة عملية المواجهة التي هي أكثر تعقيداً من المواجهة العسكرية التي تشتمل على الهجوم والانسحاب والمناورة والالتفاف وإلى مراجع متخصصين في فهم المجتمعات وظروفها وكل هذه المفردات.
في الهجوم الثقافي نحتاج إلى مثل هذه الادارة، بل قد نحتاج أحياناً إلى مراجع متخصصين في هذا البلد أو ذاك، للمسك بشؤون هذا البلد، أو ذاك، وإدارته لاختلاف خصوصيات ذلك البلد، عن هذا البلد.
ولعظم وأهمية المسؤولية السياسية المناطة (بالمرجع) أعطى أهل البيت(عليهم السلام) كل هذا الزخم والاهمية القصوى للولاية، حتى ربطوا(عليهم السلام) نتائج كل الامور العقائدية والعبادية وقبولها بالولاية لانها الحصن الواقي والسور الحصين لها والحافظ لهن .


التطور في الاداء


الرابع : التطور في إداء وتنفيذ الاعمال، فأن هذا التطور في القضية السياسية وتداعياتها في عالم الاتصالات والمعلومات، لازمه تطور آخر وهو حلول المؤسسة والتخطيط العام السنوي والمرحلي، محل العمل الفردي والممارسة إليومية، فأصبح الفرد في كثير من الاحيان غير قادر على تحقيق الاهداف وحل المشكلات بدون الاستعانة بالاجهزة والعاملين عليها، وبدون الارتباط بصورة مباشرة بالاخرين.
كما أصبح التخطيط للعمل القائم على حساب الامكانات الفعلية والفرص المتاحة والاهداف المستقبلية وتقدير وتخمين النشاطات والبرامج التي يمكن القيام بها، ضرورة من ضرورات العمل والوصول به إلى غاياته وأهدافه، ومواجهة النشاطات الاُخرى المضادة أو المنافسة.
ولذا نشاهد في عالمنا المعاصر هذا التطور الكبير في وجود المؤسسات والشركات ومراكز البحث والتخطيط والتخصص والرجوع إليها، أو الاعتماد عليها في مختلف النشاطات الكبيرة والصغيرة، حتى لا نكاد نجد نشاطاً مهما كان صغيراً أو موضوعاً مهما كان جزئياً إلاّ ووراءه خطة عمل وجماعة متخصصين. ( الفهرست ) (http://www.almejlis.org/shaheed/sh/KUTUB/almerge3ah.HTM#L0)



التطور في الاوضاع الاقليمية


الخامس : أنَّ العالم الاسلامي قبل سقوط الدولة الاسلامية كان محكوماً بقوانين النظام الاسلامي بصورة عامة ـ رغم أنه نظام لم يكن في قوانينه يمثل الحق الاسلامي الكامل، إذ كانت الدولة تشكو الكثير من الانحرافات والاخطاء والتخلف في جوانب عديدة ـ ولكن الحكم فيها ـ على أي حال ـ كان باسم الله، والاسلام، والخلافة الاسلامية، وباسم الخلافة لرسول الله(صلى الله عليه وآله) وتطبيق الحكم الاسلامي، لذلك نجد أنَّ علماءنا ومراجعنا العظام، عندما واجه هذا الحكم تهديداً حقيقياً وتعرضت بيضة الاسلام فيه إلى الخطر، أفتى جميع هؤلاء المراجع ـ وعلى اختلاف مشاربهم ومواقفـهم السياسية والاجتماعية ـ بالجهاد لمواجهة هذا الخطر، باعتبار أنَّ النظام الاسلامي يشكل الاطار والحصن والسور للمحافظة على أصل الدين والشعائر الدينية والثقافة الاسلامية.
وبعد سقوط النظام الاسلامي، وقيام الانظمة الوضعية بصورها المختلفة التي شهدها عالمنا الاسلامي بعد الحرب العالمية الاولى والثانية، برز العداء جلياً للاسلام وشعائره المقدسة، ولعل أوضح صورة من صور العداء للاسلام، هي : محاولة (فصل الدين الاسلامي عن مسرح الحياة السياسية)، ومن ثم محاصرة الاسلام والدين في زاوية، وحاولوا حصر الاسلام في شؤون الاحوال الشخصية، والممارسات الرسمية كالاعياد والشعائر العامة للمسلمين، بل أشد مـن ذلك محاصرة الحكام الاسلام في المسجد وأماكن العبادة، ثم تطور ذلك في بعض بلادنا الاسلامية إلى عملية واسعة لقمع الاسلام والدين والمتدينين، بعد أن وجدوا بأنَّ الاسلام والمسلمين لا يمكن أن يقبلوا محاولة العزل والحصار هذه.
هذا الواقع المرزي شاهدناه في حياتنا، ووجدنا كيف قامت هذه الانظمة الوضعية بعمليات قمع تجاه الحوزة العلمية والمرجعية الدينية نفسها، باعتبارها المؤسسة المهمة المسؤولة عن الحفاظ على بيضة الاسلام ومبادئ الدين والتصدي لمقاومة الظلم والطغيان، وإلى العمل السياسي والاجتماعي، بالرغم من مواقفها المشرفة والعظيمة في الدفاع عن استقلال البلاد وتحريرها من هيمنة الاستكبار والاجانب، وجهودها في المحافظة على المجتمع والاُمة.
لقد ورثنا أوضاعاً عاصرها آباؤنا في هذا القرن الذي نشرف على نهايته، حيث كان المستعمر البريطاني هو المسيطر على العراق بعد سقوط الدولة الاسلامية، فنهض علماء الاسلام يدعون إلى النهضة والتحرر من سيطرة الاستعمار البريطاني بعد ثلاث سنوات من سقوط بغداد بيده، وذلك في الثورة المعروفة بثورة (العشرين) التي قادها المراجع، فتصدى المرحوم الميرزا محمد تقي الشيرازي ومن بعده المرحوم (شيخ الشريعة الاصفهاني(قدس سرهما))، ونتيجة لهذه المواجهة الجهادية يضطر المستعمر الانكليزي أن يستجيب ـ ولاول مرة بعد الحرب العالمية الاولى ـ ويوافق على قيام حكومة وطنية ـ حسب المصطلح السياسي المعروف ـ وعندما قامت هذه الحكومة في العراق، كان رأي العلماء أن تكون حكومة إسلامية، لكن الاستعمار البريطاني فرضها حكومة وضعية غير إسلامية، وكان أول موقف اتخذته هذه الحكومة هو الموقف ضد المرجعية الدينية التي قادت الشعب إلى الاستقلال، فقام بنفيها وإخراج العلماء (الايرانيين) من النجف الاشرف إلى إيران، أما العلماء غير الايرانيين، فنفوا إلى مناطق أُخرى بعضهم إلى الجزر المستعمرة من قبل بريطانيا في المحيط الهندي، وبعضهم إلى مناطق أُخرى، وهو عمل لم يجرأ الاستعمار البريطاني نفسه على القيام به، ولكن قام به هؤلاء (الوطنيون) الذين حكموا العراق برعاية بريطانية.
والشيء نفسه نراه في إيران، فقد قامت حركة واسعة في إيران باسم الحركة (المشروطة) بقيادة العلماء، التي أرادت أن يكون الحاكم فيها مقيداً بالقوانين الاسلامية، وأن لا يعمل بحسب رغباته وميوله ومصالحه الخاصة، بل يكون مقيداً ومشروطاً بقوانين الاسلام ومصالح الشعب والمؤسسات الدستورية، وهي حركة واسعة جداً قادها العلماء ـ أيضاً ـ وفي مقدمتهم آية الله (الشيخ محمد كاظم الخراساني) وآية الله (الشيخ فضل الله النوري).
ثم لما انتصرت هذه الحركة والتزم الشاه في البداية بها صورياً، ثمَّ أطيح به بانقلاب عسكري، كان شعاره تنفيذ الدستور، تحولت الحكومة إلى حكومة وضعية، وجاء إلى السلطة (رضا خان بهلوي)، وكان أول أعمال هذا الحاكم هو قيامه بعملية قمع واسعة للاسلام ولعلمائه معاً، في عملية أشد واقسى مما جرى في العراق نفسه، ففي العراق تركزت القضية في فصل الدين عن السياسة والحكم، وأما في إيران فإنَّه مضافاً إلى ذلك تدخل الحاكم في تفاصيل حياة الناس، ومنع اقامة الشعائر الدينية والمجالس الحسينية، وحارب الحوزة العلمية، وتدخل في السلوك الاجتماعي العام للافراد، وفرض اللباس الموحد الغربي على الرجال والسفور على النساء، مستخدماً أساليب القمع الواسعة لتنفيذ هذه العملية.
وشهدت تركيا بقيادة الضابط (مصطفى كمال) أوضاعاً مماثلة قاسية، أعلن فيها الحاكم سقوط الدولة الاسلامية والتنكر للهوية الاسلامية، ومعاداتها بصورة رسمية، مضافاً إلى ذلك المناطق الاُخرى التي بقيت تحت السيطرة الغربية.
وبصورة إجمالية : وجدت أنظمة وضعية في عالمنا الاسلامي قامت بعملين رئيسيين :
الاول : محاصرة الاسلام وإبعاده عن الحياة.
الثاني : استخدام القمع لتنفيذ هذه السياسة على خلاف رغبة الاُمة.
ومن الطبيعي أن تفرض هذه التحولات وتلقي بظلالها الثقيلة والمعقدة على المرجعية وأوضاعها، الامر الذي يقتضي إعادة النظر والتجديد في صياغتها ومنهجها وأساليبها وطريقة أدائها، كما سوف نشير إلى ذلك.
( الفهرست ) (http://www.almejlis.org/shaheed/sh/KUTUB/almerge3ah.HTM#L0)

تراب البقيع
03-12-2008, 10:49 PM
الفصل الخامس





المرجعية الدينية والخيارات



وقد وضعت التطورات والتحولات، ولاسيما في العالم الاسلامي ـ التي أشرنا إليها في الفصل السابق ـ المرجعية بين خيارين رئيسين كل منهما صعب مستصعب ـ كما سوف نعرف ـ هُما :
الخيار الاول : أن تقوم المرجعية الدينية بممارسة دورها بالطريقة السابقة نفسها، بأن تجمع بين مهمات ومسؤوليات المرجعية الثلاث، وتمارس العمل السياسي والاجتماعي من خلال المرجع وحاشيته من مساعديه ومستشاريه، الامر الذي أدى ويؤدي إلى النتائج التالية :
أ ـ الدخول في مواجهة طبيعية مع حكام الجور والانظمة المستبدة، وهو ما يعرضها بصورة طبيعية إلى عمليات قمع واسعة، وكما حدث ذلك فعلاً، فقد ذكرت ما وقع في العراق، عندما قام النظام الوطني العراقي بإبعاد العلماء إلى إيران، حيث واجهوا فيها ـ أيضاً ـ وضعاً سياسياً أشد وأقسى بكثير مـن الذي واجهوه في العراق، مما أدى إلى أن يفضل العلماء ـ بعد ذلك ـ العودة إلى العراق والتنازل عن بعض مستويات ودرجات التصدي، ليحافظوا على البقية الباقية للاسلام.
وقد سبق لي أن ذكرت التصدي للعمل السياسي والاجتماعي ـ ولا سيما تجاه الظلم والعدوان ـ هـو أحد الواجبات الرئيسية للمرجعية، ومن الشروط المهمة التي يشترطها أتباع أهل البيت(عليهم السلام) في هذه المرجعية التي أخذوها من أهل البيت(عليهم السلام)أنفسهم، وبذلك تكون النتيجة أن يصبح التصدي للعمل السياسي على حساب العمل الثقافي العام.
ب ـ السكوت المؤقت والمداراة وظهور المرجعية بمظهر العجز عن أداء دورها والقيام بمسؤولياتها والوفاء بالحاجات العامة التي تتطلبها المواجهة السياسية والثقافية الواسعة، الامـر الذي يؤدي إلى تصورات خاطئة ولكنها خطيرة وهي :
1 ـ تصور عجز الاسلام نفسه وتخلفه عن الحياة، لانَّ المرجعية دينية إسلامية تمثل الاسلام في حركتها.
2 ـ تصور أنّ الاسلام نظام مرحلي يحتاج إلى التجديد والتطور والتغيير بما يناسب الحياة الفعلية لملا هذا الفراغ المهم.
3 ـ تصور أنَّ مؤسسة المرجعية هي مؤسسة متخلفة، لا تصلح لهذا العصر ولا تفي بمتطلبات العمل الاسلامي ـ كما تشير إلى ذلك أدبيات بعض التنظيمات الاسلامية في تبرير العمل الحزبي أو أدبيات بعض الخارجين عن الحوزة العلمية ـ وأن عملها فردي يذهب بموت المرجع، ولا يكون قادراً على إدارة كل هذا النشاط والاعمال.
ج ـ الانفصال التدريجي بين المرجعية الدينية وقواعدها الشعبية المؤمنة، بسبب الشعور بالحيرة والقلق وعدم الاستقرار وعدم وضوح الرؤية في الحركة السياسية والثقافية، لتأرجحها بين هاتين المسؤوليتين وعدم الوفاء بهما معاً بصورة كاملة والاحساس بالضرر والاحباط.
الخيار الثاني : أن تتخلى المرجعية عن العمل السياسي بصورة مطلقة، لتحافظ على الاوضاع الثقافية، كما أختار ذلك بعض المراجع في بعض الظروف التي اشرت إليها في إيران، ومنهم آية الله الشيخ عبد الكريم الحائري(قدس سره) مؤسس حوزة قم في العصر الحديث، أو ما تعهد به بعض العلماء والمراجع عند عودتهم إلى العراق بعد النفي إلى إيران.
وهذا الامر يسبب بطبيعة الحال حدوث ووجود الفراغ في القضيتين السياسية والاجتماعية، لعدم وجود المتصدي فيهما، ويؤدي ذلك ـ طبيعياً ـ إلى ركود فعاليات المرجعية ويرسخ تدريجياً فكرة فصل الدين عن السياسة، التي يؤكد عليها الفكر الغربي والعلمانيون، وبمرور الايام وتقادم الزمن ستنشأ الاُمة وتتربى على صورة محاصرة المرجعية وعزلتها، ومن ثم عزل الدين عن الحياة ووجود التصور الخاطىء عن الاسلام، وإنَّ الاسلام هو إسلام الشعائر والقضايا الروحية والاخلاقية فقط، ولا دخل له بالوضع الاجتماعي والسياسي، وهذا الامر هو ما وقع بالفعل في بعض الادوار، وله مصاديق كثيرة في العالم الاسلامي وليس في العراق فقط .
فقد شهد العراق هذه الحالة ما بين فترة رجوع العلماء الذين نفوا إلى إيران، مثل آية الله العظمى السيد أبو الحسن الاصفهاني، والمرحوم ميرزا حسين النائيني(قدس سرهما) الذي كان استاذ المجتهدين والعلماء، ومتقدماً من حيث الطبقة العلمية على المرحوم آية الله العظمى السيد أبي الحسن الاصفهاني، وكذلك آية الله (الشيخ ضياء الدين العراقي)(قدس سرهما)، المعروف بالمحقق العراقي، وغيرهم من العلماء الكبار الذين تعرضوا للنفي والابعاد، واضطروا عندما رجعوا للعراق إلى الكف عن الاعمال السياسية، بعد تعهدهم بعدم التدخل فيها.
ومن خلال طول المدة التي استمرت أكثر من عقدين من الزمن تقريباً، برز جيل من الناس يتصور بإنَّ الاسلام ليس له علاقة بالسياسة، وذلك لان الاُمة إنَّما تأخذ الاسلام من المراجع وسلوكهم ومواقفهم، فعندما ترى الاُمة أنَّ العلماء لا يتدخلون في الاعمال السياسية والاجتماعية العامة، تتصور أن الاسلام لا يرتضي التدخل في العمل السياسي، بل يأبى الدخول في الاعمال السياسية وله شأن آخر، ولولا بعض مواقف المراجع السابقة والفرصة الضيقة للتصدي من قبلهم، ووجود بعض العلماء الذين لم يكونوا مراجع عامين، وإن كان مستواهم العلمي والاجتماعي بمستوى المراجع العامين، أمثال آية الله (الشيخ محمد حسين آل كاشف الغطاء)، وآية الله (الشيخ عبد الكريم الجزائري)(قدس سرهما)، وغيرهما ممن كانت تسمح لهم ظروفهم الاجتماعية والسياسية التدخل في الشؤون السياسية، بحيث تحولوا إلى مراجع سياسيين، وكانوا في الوقت نفسه يحظون باحترام المراجع وتقديرهم والاعتراف بهم وبحركتهم، ولولا ذلك لترسخت هذه الفكرة بصورة مروعة وخطيرة، ولواجهنا فراغاً خطيراً في الحياة الاسلامية. ( الفهرست ) (http://www.almejlis.org/shaheed/sh/KUTUB/almerge3ah.HTM#L0)



النتائج الخطيرة للخيارات الصعبة


وبهذا الفهم للخيارات ونتائجها، تكون المحصلة هي أنَّ المرجعية الدينية في ضمن هذه الاوضاع السياسية الشاذة التي يعيشها عالمنا الاسلامي من ناحية، والضغوط التي تمارسها قوى الاستكبار العالمي الثقافية والسياسية من ناحية أخرى.
أما أن تختار التصدي للعمل السياسي; فتتعرض إلى القمع وتتعرض الاوضاع الثقافية، والاسلام، ومؤسسة المرجعية إلى الخطر والتشويه في رؤية الاُمة والانفصال عنها نسبياً بسبب ذلك، وهذا ماحدث بالفعل في بعض الادوار.
أو تختار التخلي عن العمل السياسي للمحافظة على العمل الثقافي الذي يراه المراجع العظام عادة أهم من العمل السياسي، لانه يمثل القاعدة الاسلامية وبيضة الدين.
وتترتب على ذلك النتائج التالية :
الاولى : إصابة العمل الاسلامي ـ كما ذكرنا ـ بالركود والانكماش والمحاصرة، لاقتصاره على الاعمال الثقافية المحدودة، بل سوف تتقلص هذه الاعمال الثقافية تدريجياً حتى تنحصر في المسجد والسلوك الفردي الخاص، وتضعف بذلك مقاومة الاُمة الاسلامية، وتفقد قدرتها على الاستقلال، وتتعرض إلى التمزق والاختلاف.
الثانية : حصول تصور خاطىء في فهم الاسلام ومدى ارتباطه بالحياة الانسانية والاجتماعية، وهو تصور انفصال الدين عن السياسة أو تخلف الاسلام عن الحياة الاجتماعية، ومن ثم الشك في فكرة الرسالة الخاتمة والخالدة، وهذا ما يؤكده الفكر الغربي، وتصبح بذلك العقيدة الاسلامية موضع الشك والريب.
الثالثة : وجود فراغ في العمل السياسي في أوساط الجماعة الصالحة، الامر الذي يفتح الطريق أمام ملا هذا الفراغ بصورة (غير صحيحة)، لان العمل السياسي عمل مهم ويومي، ويمس حياة الناس بكل أبعادها ولا يمكن حدوث الفراغ دون أن يملا من جهة أُخرى.
ولكل واحد من هذه النتائج الثلاث آثار خطيرة على أوضاع الاُمة الاسلامية، والجماعة الصالحة، لا تتسع هذه المقالة إلى تفصيلها، وحتى الالمام بها بصورة عامة.
ولكن في حدود هذا الكتاب ولتوضيح الهدف منه، أشير إلى بعض الاثار الخطيرة التي تنشأ من وجود الفراغ في العمل السياسي ومحاولات ملئه، بعد فرض ضرورة ملا هذا الفراغ :



البديل غير الاسلامي


الاول : قيام قوى الاستكبار والهيمنة والتسلط والطغيان والاستبداد بملا هذا الفراغ السياسي في العالم الاسلامي بإقامة الحكومات والتنظيمات التابعة الذليلة أو العميلة، وذلك بسبب تخلي المرجعية الدينية والعلماء المسلمين عن القيام بهذا الدور.
وهذا ما وقع بالفعل بعد الحرب العالمية الاولى، وتخلي العلماء لسبب وآخر ـ كما أشرت ـ عن العمل السياسي، وقد ترتب على ذلك آثار مروعة، في إهلاك الحرث والنسل والقتل والدمار والذل والهوان والفساد والضلال والانحراف.
الثاني : قيام القوى السياسية غير الاسلامية الديمقراطية أو الماركسية أو القومية أو الوطنية وغيرها، بملا هذا الفراغ، حيث شهد عالمنا الاسلامي حركات سياسية ذات أهداف تحررية أو إصلاحية، تتحرك في المجتمع الاسلامي، وتدعو إلى إقامة أنظمة ومجتمعات على أساس متبنياتها الفكرية والسياسية المستوردة من الفكر الغربي، أو المتأثرة به.
وقد شغلت واقعياً هذه الحركات مساحات واسعة من الاوساط الاجتماعية، ومن مختلف الاصناف والفئات وغيرها (الجماعات المنتجة والفاعلة وغيرها)، (الشباب والنساء وغيرهما)، (المدن والارياف)، بل امتدت هذه الحركات إلى أقرب الاوساط الاجتماعية للمرجعية الدينية والعلماء، وتمكنت أن تكسب بعض أولادهم وطلابهم والمصلين معهم في المساجد، والمقيمين للشعائر الدينية، والمستمعين إلى الخطباء الدينيين والمشاركين في المجالس الحسينية.
كل ذلك بسبب الفراغ الذي تركته المرجعية في المجال السياسي ـ كلياً وجزئياً ـ تحت تأثير القمع السياسي للانظمة الكافرة، وبلغ الحال أن نجد تأثيرات هذه الحركة السياسية حتى في الوسط الشيعي لاتباع أهل البيت(عليهم السلام)، الذين كانوا يتميزون على طول التاريخ بالتزامهم بمبادئ أهل البيت(عليهم السلام)، ويقدمون التضحيات الكبيرة، لاجل مبادئ الاسلام، إلى الدرجة التي نلاحظ فيها أنَّ هذا الوسط أصبح مجالا يتحرك وينمو فيه الحزب الشيوعي في العراق، الذي استغل ركود المرجعية، ووجود الفقراء وذوي الحاجة وتحسين أوضاعهم المعاشية، ومقاومة الظلم والاستبداد والهيمنة الخارجية، وتسلط الطغاة والمستبدين والمترفين وما أشبه ذلك، مما ينسجم مع بعض المبادئ والثقافة العامة لهذه الجماعة، وخاصة أنها جماعة محرومة ومطاردة، ويمارس ضدها القمع والاضطهاد.
والشيء نفسه نراه في نفوذ التيار القومي في بعض الاوساط الاُخرى على اختلاف بين المناطق التي كانت الغلبة فيها لهذا التيار أو ذاك، إذ كانت هناك مناطق الغلبة فيها لتيارات أُخرى غير الماركسية، كالديمقراطية والليبرالية والوطنية وغيرها. ( الفهرست ) (http://www.almejlis.org/shaheed/sh/KUTUB/almerge3ah.HTM#L0)


البديل الاسلامي وآثاره


الثالت : من الاثار التي شاهدناها في ملا الفراغ هو نشوء الحركات والاحزاب والتنظيمات الاسلامية، بحيث حاولت هذه التنظيمات أن تكون بديلا عن تصدي المرجعية للعمل السياسي، ولملا الفراغ في مقابل محاولة الاحزاب العلمانية، ذلك وهو ما حصل في حركة الاخوان المسلمين في مصر، إذ كانت بديلاً عن حركة علماء الازهر الشريف.
وفي عالمنا الشيعي ووسط أتباع أهل البيت(عليهم السلام) شاهدنا هذا الامر أيضاً، فمثلاً في زمن آية الله العظمى السيد البروجردي(قدس سره) الذي كان من أكابر مراجع الاسلام في هذا العصر، وكان مقره في مدينة قم المقدسة، وكانت حوزة قم قد تعرضت قبل مجيئه بفترة قصيرة إلى عملية قمع واسعة وكبيرة من قبل نظام (رضا بهلوي)، بحيث أدى هذا القمع بالعالم الكبير المعروف الشيخ عبد الكريم الحائري(قدس سره) ـ الذي أعاد إحياء هذه الحوزة في العصر الحديث ـ أن يتخلى عن العمل السياسي مكرهاً بدرجة خطيرة، يقول فيها : (لو طلب مني رضا خان أن أنزع عمامتي، فسأنزعها)، وذلك من أجل المحافظة على الوجود الثقافي للحوزة في مقابل ظروف الضغط والقمع.
هذه الاسباب أدت إلى بروز الحركة الاسلامية ـ الاحزاب الاسلامية ـ كحزب فدائيان إسلام، وغيره، بديلاً عن تصدي المرجعية، ونشط هذا الحزب في أوساط الحوزة العلمية، مما أدى إلى وقوع صِدَامٌ بصورة مباشرة بينه وبين المرجعية في مدينة قم، لاحساس السيد البروجردي(قدس سره) أن الحزب بدأ يطرح بديلاً عن المرجعية.
أما في العراق، فقد ولدت بعض الاحزاب الاسلامية، ولكن بصورة محدودة في البداية، لانَّ الفراغ السياسي لم يكن عميقاً، بسبب ما أشرت إليه، من تصدي بعض العلماء الكبار للعمل السياسي، ثم تطور هذا الامر من خلال التجربة الواعية لمرجعية الامام الحكيم(قدس سره) الذي حاول فيها أن يجعل هذه الاحزاب ذراعاً وسنداً للمرجعية وحركتها، لا بديلاً عنها.
كما أنّ تحوّل الظروف السياسية التي أطاحت بالحكم الملكي ومجيء الحكم الجمهوري، فتحت أمام (الامام السيد محسن الحكيم(قدس سره)) آفاقاً واسعة للتحرك السياسي، قبل أن تواجه بالقمع (العفلقي) الواسع.
وهنا أود أن أركز على نقطة هامة، وهي أنَّ الفراغ الذي تتركه المرجعية، لا يمكن أن يبقى منتظراً عودة الفرصة المواتية للظروف السياسية، لتعود المرجعية مجدداً إلى الساحة، فتملا هذا الفراغ، وإنَّما هذا الفراغ ـ بطبيعة الحال ـ يجب أن يملا، لانَّ العمل السياسي عمل يومي لا يقبل الانتظار، ولذا فلابد أن يملا هذا الفراغ، أما بالبديل الصالح أو بغيره من البدائل الاُخرى.
ولذا حاول الامام الحكيم(قدس سره) في العراق، أن يملا هذا الفراغ في البداية، عن طريق التوفيق بين عمل المرجعية، وإيجاد المؤسسات الخاصة السياسية، كجماعة العلماء، ورعاية الحركة الاسلامية المنظمة، ثمَّ التصدي بصورة مباشرة إلى العمل السياسي، ومحاولة ضم كل المفردات الاُخرى في إطار المرجعية الدينية، كما أنَّ الشهيد الصـدر(قدس سره) عندما كتب حول المرجعية الموضوعية، الذي أكد فيه أهمية تحول المرجعية إلى مؤسسة، كان ينظر إلى هذه العملية التوفيقية بين موقع المرجعية القيادي من ناحية، وبين موقع الحركات الاسلامية التي أعتبرها إحدى المؤسسات التي يجب أن تخضـع لقيمومة ورعاية المرجعية الدينية من ناحية أُخرى، وذلك لملا هذا الفراغ.
ولعل نشوء الحركات الاسلامية لملا هذا الفراغ هو أهون البدائل عند تخلي المرجعية عن العمل السياسي بالقياس إلى البديلين السابقين، ولاسيما إذا كانت الحركة الاسلامية بقيادة علماء الدين.
الاثار الخطيرة للبديل الاسلامي
ولكن نرى لهذا البديل آثاراً خطيرة ـ أيضاً ـ على الاسلام والعمل الاسلامي إذا كان خارج إطار المرجعية الدينية، وذلك لانه سوف يؤدي :
أولاً : إلى إيجاد التنازع والاختلاف واقعياً في داخل الساحة الاسلامية، وتضاد الارادة والقرار بين المرجعية الدينية والحزب الاسلامي، مهما بذلت محاولات للتنسيق.
وثانياً : إلى إضعاف روح التقديس والاحترام لموقع المرجعية الدينية، بعد أن يصبح دورها ثانوياً في الحياة الاجتماعية، وتأكيد نظرة التخلف والضعف إليها من داخل الوسط الاسلامي.
وثالثاً : فقدان العمل السياسي الاسلامي الحزبي للضمانات الروحية والمعنوية والاخلاقية التي يوفرها إطار المرجعية الدينية المقدس بجذوره المعنوية والروحية الخاصة، حيث قد يؤدي به ذلك إلى الانحراف.
ورابعاً : فقدان العمل السياسي الحزبي للكثير من قدرته على التعبئة والاعداد الجماهيري العام، لارتباط جمهور المؤمنين بفكرة النيابة عن الامام المعصوم(عليه السلام)، ورسوخها في الاوساط الدينية عبر التاريخ والتجارب. ( الفهرست ) (http://www.almejlis.org/shaheed/sh/KUTUB/almerge3ah.HTM#L0)

تراب البقيع
03-12-2008, 10:49 PM
البديل المزيف


الرابع : تصدي أدعياء المرجعية لملا هذا الفراغ، بأن يتصدى بأسم المرجعية ـ إدعاءاً وزوراً ـ أشخاص غير مؤهلين لهذه المهمة، كما حدث ذلك في زمن الائمة(عليهم السلام)، عندما تعرضوا إلى القمع وحوصروا وأنحسر تصديهم(عليهم السلام) للحالة الاجتماعية والسياسية، فقد برزت عناوين مختلفة وأشخاص كمحور لادارة الحالة السياسية، وفي بعض الاحيان كان يرتبط هذا المحور ارتباطاً كاملاً بنظام الحكم، ممن يسمون بوعاظ السلاطين.
لقد برز هذا الخطر في العراق ـ أيضا ـ وشاهدناه في العصر الحاضر عند قيام الحكم الوطني في العراق، ففرض شخصيات حينما نرجع إلى تاريخها وجذورها، نجدها شخصيات كانت موجودة بالاصل في الحوزة العلمية، ولكنها حاولت أن تملا الفراغ السياسي بالانسجام والتعايش مع الاوضاع الحاكمة الشاذة القائمة حينذاك، أو الدخول في تشكيلات وأجهزة النظام بشكل وآخر ممن سمي في العصر الحديث بعلماء السراي أو (الاوفيز) .
إذن، فالاثار الخطيرة لملا هذا الفراغ هو :
إما تسلط قوى الكفر والاستكبار والاستبداد.
أو نفوذ التيارات والاحزاب غير الاسلامية.
أو وجود الحركات الاسلامية المنفصلة عن إطار المرجعية.
أو وجود أدعياء المرجعية الدينية السياسية الذين يتعايشون مع الانظمة المستبدة، أو يدعون للتعايش معها تعبيراً عن خط سياسي يدعو للفصل بصورة نسبية بين الدين والسياسة، أو مهادنة الظلم والطغيان، تحت مبررات فكرية، أو سياسية واهية. ( الفهرست ) (http://www.almejlis.org/shaheed/sh/KUTUB/almerge3ah.HTM#L0)





الفصل السادس





المرجعية والتخصص وتقسيم الوظائف



لقد ظهر لنا أن تصدي المرجعية الدينية العامة للعمل السياسي قد يكون عسيراً، أو غير ممكن بسبب التحولات المدنية العالمية، أو بسبب التطورات الحاصلة في الاوضاع السياسية في العالم الاسلامي، أو بسبب القمع السياسي، وأنَّ ذلك سيؤدي إلى نتائج وآثار خطيرة في الحياة الاسلامية والمجتمع الاسلامي.
وهذا يستدعي طرح السؤال التالي :
ما هو العلاج وما هو الموقف مع وجود هذه التطورات والاخطار ؟
إنَّ العلاج الذي يبدو واضحاً هو الالتزام بفكرة (التخصص) في المرجعية الدينية، ووجود (المرجعية السياسية الدينية)، لانَّ المرجعية الدينية بالاساس، تتحمل مسؤوليات ثلاث كما ذكرنا :
الاولى : هي الفتيا وتشخيص العقائد والمفاهيم والافكار الاسلامية والاحكام الشرعية، وتعليم الناس.
الثانية : مسؤولية الولاية وإدارة شؤون المسلمين السياسية والاجتماعية والعمل التغييري، من أجل تحكيم الاسلام والامر بالمعروف والنهي عن المنكر العام، وإقامة الحق والعدل بين الناس.
الثالثة : مسؤولية القضاء، وحسم الخلافات، وحل النزاعات بين الناس، وتشخيص الموضوعات التي يقع الخلاف فيها بينهم.
وقد ذكرنا أنَّ الجمع بين هذه المسؤوليات، وإنّ كان أمراً ممكناً، وذكرنا مجموعة من المصاديق المهمة والواضحة لذلك في تاريخنا، أمثال الميرزا الشيرازي الكبير، والاخوند الشيخ محمد كاظم الخراساني، والميرزا الشيخ النائيني، وكذلك في تاريخنا المعاصر الحديث، فقد أشرت إلى مراجع عظام، أمثال الامام الحكيم، والشهيد الصدر، والامام الخميني، وغيرهم أعلى الله تعالى مقامهم الشريف.
هذه النماذج تتوفر فيهم المواصفات المطلوبة، وهي ليست مواصفات افتراضية أو خيالية، وإنَّما هي من صميم الواقع، ويمكن للانسان أن يلمسها في التاريخ المنظور والمشهود بالنسبة لنا، كما أنهم قد تحملوا ـ فعلاً ـ بصورة عامة هذه المسؤوليات، ومن ثمَّ فإنَّ وجود مرجعية واحدة قادرة على أن تجمع بين كل هذه الخصائص من ناحية، وأن تواجه كل هذه التطورات من ناحية أُخرى، ليست قضية مستحيلة.
نعم، قد تكون هذه الوحدة في المرجعية قضية صعبة وعسيرة، إذ قد يتوفر المرجع الذي يجمع هذه الشروط وتتوفر له ـ أحياناً ـ الفرص والظروف السياسية المناسبة التي تجعله قادراً على القيام بواجباته ومسؤولياته، ولكن قد يواجه المرجع ـ أحياناً أُخرى ـ صعوبات كبيرة من الناحية الواقعية في القيام بهذه المسؤوليات، ولاسيما مع الاخذ بنظر الاعتبار التحولات المدنية والتطورات السياسية الخارجية والداخلية.
ويمكن مشاهدة هذا الامر ـ الان ـ فيما يجري في عراقنا الجريح، بخصوص المرجعية التي اضطرت بسبب وآخر، أن تتخلى عن التصدي للعمل السياسي، وبسبب الظروف السياسية القائمة، وفي ظل هذه الظروف ـ التي شرحنا أسبابها وعواملها ـ يصبح من الضروري وجود تخصص على مستوى المسؤوليات، بحيث يختص بعض المراجع بجانب الفتيا وما يرتبط بها من عقائد وأفكار وثقافة عامة، كما سوف نشير إلى ذلك في مجموعة عناوين واضحة تتعلق بتشخيص الواجبات والحقوق.
ويختص بعضهم بجانب إدارة شؤون الناس الحياتية والصراع السياسي وما يرتبط به من قضايا اجتماعية، كما سوف نبين ذلك في النقاط ذات العلاقة بهذه المسؤولية.
وقسم آخر يختص بفصل الخصومات والنزاعات ذات الطابع الشخصي أو التي تهدد أمن الجماعة، وكل هذا التقسيم والتخصص، لاجل مواجهة هذه التطورات.
بل قد نفترض تطور فكرة التخصص ـ مستقبلاً ـ بحيث يكون التخصص في بعض القضايا مسؤولية واحدة من هذه المسؤوليات الثلاث، ففي موضوع الفتيا قد نحتاج في عصرنا الحالي ـ مثلاً ـ إلى تخصص مرجع ـ على سبيل الفرض ـ في جانب العبادات، وتخصص مرجع آخر في جانب المعاملات، وثالث في فقه الدولة والمجتمع، وهكذا في مختلف القضايا التي نواجه فيها تطورات واسعة.
وكذلك إلى مرجع يختص بالقضايا الفكرية والعقائدية والاجتماعية، أي مرجع يقدم للاُمة الفكر والمفهوم الاسلامي تجاه التطورات والعقائد والشبهات التي تطرح في عالمنا إليوم .
وهذا التخصص الذي نطرحه ليس أمراً جديداً وبدعاً في تاريخ المرجعية، فإن العودة إلى تاريخ المرجعية كفيلة بأن تفتح أمامنا هذا الفهم والتصور في التخصص، فقد كان التخصص قائماً عملياً في بعض الادوار، ولكنه ليس بهذا القدر من الوضوح الذي نطرحه، وليس بهذا القدر مـن الحجم الذي نحتاجه ـ أيضاً ـ في هذا العصر، وهذا التطور الكيفي والكمي في تصور التخصص، إنَّما هو باعتبار وجود التطورات الكبيرة في الاوضاع السياسية والاجتماعية التي أشرنا لها.
ففيما مضى كان بعض المراجع من طبقة واحدة، وفي مستوى واحد، نرى منهم من تخصص في جانب التدريس، كما ينقل ذلك عن المرحوم السيد بحر العلوم(قدس سره) وبعض معاصريه، حيث اختص السيد بحر العلوم بالدرس، كما اختص بصلاة الجماعة والالتقاء بالناس لمعالجة الامور الاجتماعية المرحوم الشيخ حسين نجف في عصر السيد بحر العلوم، كما كان هناك من يختص بالقضاء وفصل الخلافات.
فقد ذكر الشيخ محمد حرز الدين عن هذه القضية، فقال : ((تجد كلا منهم قد أفنى نفسه بشيء من أمور المسلمين، فالمترجم له ـ الشيخ حسين نجف ـ للصلاة جماعة، والسيد بحر العلوم للتدريس، وكاشف الغطاء للتقليد والفتيا، والشيخ ابن محي الدين للقضاء ورفع الخصومات ... )) .
كما ذكر السيد محسن الامين العاملي في سيرة السيد بحر العلوم ما لفظه : ((وبلغ من شدة تقواه وورعه وسمو أخلاقه وحبّه للاصلاح، تقسيم الوظائف الدينية على علماء بلده، فكان يرشد إلى تقليد الشيخ جعفر، ويأمر بالصلاة خلف الشيخ حسين نجف، وبالمرافعة إلى الشيخ شريف محي الدين، ويأمر صاحب مفتاح الكرامة بالتاليف، وكان ـ السيد بحر العلوم ـ يدرس الوافي ... )) .
وقد فصل ذلك السيد محمد صادق بحر العلوم، فقال : ((وحينما أُلقيت مقاليد الامور إليه ـ السيد محمد مهدي بحر العلوم ـ شاء أن يُسيَّر الوضع الاجتماعي والزعامة الدينية بنظام أكمل وسلوك أفضل وواقعية أنبل، فرصَّ الصفوف العلمية في النجف الاشرف، ونظم القضايا والاحكام.
وعيَّن المقـدس الحجة الزاهد الشيخ حسين نجف للامامة والمحراب، فكان يقيم الجماعة في (جامع الهندي) ويؤمه الناس ـ على اختلاف طبقاتهم ـ بإرشاد مـن السيد بحر العلوم، وكان يحترمه السيد كثيراً، لانَّه على جانب عظيم من القدسية والايمان.
وعيَّن الحجة الثبت الشيخ شريف محي الدين للقضاء والخصومات، وحسم الدعاوي بين الناس، فكان يرشد إليه في ذلك، علماً منه بمهارته في القضاء، وتثبته في الدين، وسعة صدره لتلقي الدعاوي والمخاصمات.
أمـا هو ((قدس سره)) فاضطلع بأعباء التدريس، والزعامة الكبرى وإدارة شؤونها العامة والخاصة، علماً منه بما تحتاجه المرجعية الواسعة من صلة تامة بواقع الحياة، وتوغل دقيق في شؤون المجتمع، وإلمام كبير بعامة الامور الدينية والدنوية.
وجرت الامور على ذلك التنظيم بأحسن مايرام..
وهكذا تكون نتيجة التنظيم الاجتماعي : الخصب، والثروة مزيداً من الانتاج، بفضل السقي الحكيم ... )) .
وتحضى هذه القضية في التنظيم بأهمية خاصة، إذا أخذنا بنظر الاعتبار ما كان يتمتع به (السيد بحر العلوم) من قدسية خاصة ترفع مقامه إلى مقام الاولياء الخاصين، ولاسيما ما ورد من تأكيد وجود الصلة بينه وبين الامام الحجة عجل الله فرجه الشريف، وكذلك ما كان يتصف به من اهتمام في تنظيم الامور وكشف الحقائق والاصلاح في كثير من القضايا، مما يتحدث به المترجمون لسيرته وإصلاحاته.
فمثل هذه الامور التخصصية كانت موجودة بصورة وأُخرى من الناحية العملية الواقعية في عصور سابقة، ولكنها ليست على درجة عالية من الوضوح.
وقد عاصرنا في زماننا هذا النوع من التخصص وسمعنا به، كما هو في حالتي المرحوم آية الله الشيخ محمد حسين كاشف الغطاء وآية الله الشيخ عبد الكريم الجزائري الذين اختصا واقعياً بالعمل السياسي والاجتماعي، وهذا التخصص منهما، وإن لم يكن ضمن اتفاق وعهد بين المراجع، ولكنه كان أمراً واقعياً في أوضاع المرجعية الدينية.

تراب البقيع
03-12-2008, 10:50 PM
وفي زمن الامام الحكيم(قدس سره) ـ في البداية ـ كان يتصدى بصورة عامة للقضايا الدينية، في حين أنَّ المرحوم آية الله الشيخ عبد الكريم الجزائري كان يتصدى للامور السياسية والاجتماعية، وبالتنسيق والتعاون مع الامام الحكيم(قدس سره)، وكذلك تصدى الحجة السيد علي بحر العلوم للامور الاجتماعية، وبرعاية من مرجعية الامام الحكيم، فإنَّه وإن لم يكن من المراجع، ولكن كان وجهاً علمياً بارزاً، ومن أسرة علمية معروفة تتصدى للقضايا السياسية والاجتماعية.

ولازلت أتذكر في الادوار التي كنا نبحث فيها هذا الموضوع ـ المرجعية الدينية ـ مع شهيدنا الغالي آية الله السيد محمد باقر الصدر(قدس سره) قبل تصديه للمرجعية، حيث انطلقت من هذه البحوث فكرة (المرجعية الموضوعية) والتي دوَّنها الشهيد الصدر(قدس سره) آنذاك.
وقد طرحت فكرة معالجة التصدي للجانب السياسي والاجتماعي، في إطار المرجعية عن طريق تبني (البرانيات) أو (الديوانيات) الملتزمة والمتعهدة، التي تقوم بواجباتها على أساس تصديها لهذا الجانب السياسي والاجتماعي، كجهاز ومؤسسة تساعد المرجعية في هذا المجال .
وأشير بهذا الصدد هنا إلى بعض الافكار التي وردت في القانون الاساسي للجمهورية الاسلامية ـ في نصه الاول قبل التغيير، وفي نصه الثاني بعد التغيير ـ والتي لها علاقة بهذا الموضوع :
الاولى : فكرة فرض الاتحاد بين المرجعية في الفتيا والولاية، بحيث يكون الولي القائد متحداً واقعياً مع المرجع العام في التقليد، ويكون المرجع العام في التقليد هو الولي القائد الفعلي للجمهورية الاسلامية، كما هو الحال في الامام الخميني(قدس سره).
الثانية : فكرة فرض تعدد المراجع العامين، وذلك عندما لا تتعين المرجعية في الفتيا في واحد من المراجع، وعلى هذا الفرض أقر الدستور إمكانية اختيار مرجع بعينه من هؤلاء المراجع، يقوم بشؤون الولاية، أو أن تشكل شورى للمراجع، وتكون الولاية بمسؤولية شورى المراجع، وهذا يعني أنَّ الولاية لا ترتبط بالمرجع في الفتيا إلا بمقدار ما يكون المرجع مؤهلا للولاية.
الثالثة : فكرة فصل الولاية عن المرجعية وجعلها تخصصية، بحيث يمكن للولي أن يكون شخصاً مختصاً بالولاية، ولا يكون مرجعاً في الفتيا، وقد أُقرت هذه الفكرة في التعديلات الدستورية في أواخر أيام الامام الخميني(قدس سره)، واستقر عليها نظام الجمهورية الاسلامية.
وتم ذلك بعد التجرية العملية لمدة عشر سنوات تقريباً، حيث كانت نتيجة التجربة : أنَّ ربط الولاية بالمرجعية في الفتيا يواجه صعوبة حقيقية من الناحية الواقعية الخارجية والعملية، وقد لا تستجيب الظروف الواقعية للحاجات المطلوبة، فوضعت مسؤولية الولاية (القيادة) كمسؤولية مستقلة عن موضوع المرجعية في الفتيا والتقليد، وأخذ بفكرة التخصص، بحيث يمكن أن يكون الولي شخصاً لا يرجع إليه الناس في التقليد، ولكن لا مانع من أن يكون الولي ـ أيضاً ـ مرجعاً للناس في التقليد.
وبهذا التوضيح، يمكن أن نقول بإن العلاج لهذا المشكلة هو وجود (التخصص) في المرجعية السياسية والاجتماعية، وفي المرجعية في الفتيا، وتقسيم الوظائف والواجبات بصورة دقيقة ومناسبة بينهما، ومن ثمَّ مواجهة التحولات والظروف السياسية بجانبها الايجابي والسلبي، دون تحمل النتائج والاثار الخطيرة السابقة، لانَّ كلاً من المرجعيتين تكون مكملة للاُخرى ومعيناً لها على أداء دورها، كما أن العمل الفكري والسياسي والاجتماعي والشرعي (الفتيا)، كله سوف يتم بأجمعه في إطار المرجعية الدينية نفسها، وبدون حاجة إلى إطار جديد كالاحزاب والمنظمات، بل تكون هذه الاحزاب والمنظمات مؤسسات عاملة في إطار المرجعية، لا إطاراً بديلاً عنها.
ومع كل ذلك، لابد أن نؤكد أنَّ الصيغة المطلوبة والافضل، هي وحدة المرجعية، اذا كانت الظروف السياسية والموضوعية الواقعية والمواصفات الذاتية مهيأة لذلك. ( الفهرست ) (http://www.almejlis.org/shaheed/sh/KUTUB/almerge3ah.HTM#L0)



تقسيم الوظائف والحقوق


وهنا يبرز السؤال التالي : ماهي حدود الوظائف والواجبات للمرجعية الدينية في الفتيا (الفكرية)، والمرجعية الدينية الاجتماعية (السياسية) في فرض التعدد؟
إذ بعد فرض التخصص، لابد من تشخيص حدود هذه الواجبات والوظائف والخطوط العامة لها، لان تشخيص الواجبات والوظائف يعتبر من أهم الضمانات التي تحقق التكامل بين هذه المرجعيات المتخصصة، وتمنع من حدوث الاختلاف بينها، مضافاً إلى الضمانات الاُخرى، ومنها عنصر الضمان الذاتي الاهم الذي تمثله المواصفات المطلوبة، التي يجب أن يتصف بها شخص المرجع.
وبهذا الصدد يمكن لنا أن نتصور عدة نقاط فيما يتعلق بهذه الواجبات لكل من هذين النوعين من المرجعية، بحيث لا يكون هناك تداخل بينها، بل يكون ذلك سبباً للتكامل بينها والتعاون على أداء المسؤولية والقيام بها. ( الفهرست ) (http://www.almejlis.org/shaheed/sh/KUTUB/almerge3ah.HTM#L0)



وظائف المرجعية الفكرية


أولاً : تقديم التصور الاسلامي، أو الرؤية الدينية في القضايا العقائدية والفكرية والثقافية، ذات العلاقة بتوضيح الفكر الاسلامي والنظرية الاسلامية الاصيلة في قضايا العقائد، مثل النظرة إلى الكون، والحياة الانسانية في الدنيا، وفي الدار الاخرة.
والنظرة العامة إلى المجتمع وأسسه ونظامه والعوامل العامة المؤثرة في تطوره.
وكذلك النظرة إلى السلوك الانساني والاخلاقي والمنهج في تقويمه، وكل ما يرتبط بالجانب العقائدي الذي يمثل الجانب الاساسي للدين والاخلاق والشريعة والفقه.
ثانياً : تقديم الحكم الشرعي الالهي في السلوك والاعمال الفردية والاجتماعية.
وكذلك تقديم هذا الحكم الشرعي، فيما يتعلق بالجماعات وسلوكها، حيث أنَّ للافراد فقههم، وكذلك للجماعة فقهها، وهو ما يعبر عنه بالفقه السياسي وفقه الدولة وفقه المجتمع، وهو يشمل علاقة الحاكم مع المحكوم، وعلاقات المذاهب بعضها مع البعض الاخر، علاقات الناس بعضهم مع بعض، وأيضاً علاقة الجماعة مع الجماعات في خارج الدائرة الاسلامية، الذي يعبر عنه في المصطلحات العصرية بالعلاقات الدولية (فيما بين المسلمين وغيرهم).
ومن هنا يمكن أن نفترض التخصص في هذه الوظائف والواجبات ـ أيضاً كما أشرنا ـ أي أن يتخصص واحد من المراجع في الواجب الاول، وآخر من المراجع في الواجب الثاني.
ثالثاً : مهمة التعليم والتثقيف العام والتربية وهي مهمة البلاغ ونشر الهدى والتطهير والتزكية واستنباط، ووضع المناهج العامة لكل هذه العملية ـ عملية التبليغ والارشاد والوعظ والتزكية.
رابعاً : إدارة الحوزات العلمية والمؤسسات الثقافية التابعة لها، كالمدارس، ومراكز البحوث العلمية، والمساجد، والحسينيات، والمكتبات، وإرسال المرشدين والمبلغين.
وهذه الواجبات من المهمات الرئيسية للمرجعية الدينية في الفتيا في الوقت الحاضر، ومن الواضح إننا عندما نقول المرجعية الدينية لا نقصد شخص المرجع، بل المرجعية كمؤسسة لها أجهزتها كالحوزة العلمية والمؤسسات التابعة لها، ولها إدارتها وتشكيلاتها الادارية .
( الفهرست ) (http://www.almejlis.org/shaheed/sh/KUTUB/almerge3ah.HTM#L0)




وظائف المرجعية السياسية


أما الوظائف والواجبات العامة التي تتحملها المرجعية الدينية السياسية ، فيمكن تلخيصها في الامور المهمة التالية :
أ ـ تشخيص الواقع الاجتماعي والسياسي القائم بين المسلمين، من خلال جمع المعلومات والاخبار وتحليلها، وذلك في إطار التصور الاسلامي في فهم حركة التاريخ وتفسير الاحداث، وكذلك تشخيص هذا الواقع في ساحة أعداء الاسلام والمسلمين، أو الدول والشعوب الصديقة أو الحليفة.
ب ـ تشخيص المصالح والمفاسد السياسية للاُمة، وتشخيص أولويات هذه المصالح والمفاسد السياسية، ومنها تشخيص الاهم وتقديمه على المهم في ضوء التصور الاسلامي للمصالح والمفاسد، وللاهم والمهم.
ج ـ إعطاء الموقف السياسي للاُمة في حركتها السياسية اليومية، وتنظيم المواقف في ضوء المصالح والمفاسد، وفي ضوء تشخيص القدرة والامكانات التي تمتلكها الاُمة والنتائج والاهداف التي تسعى إليها.
وتحقيق هذه الامور في غاية الصعوبة والدقة، وتحتاج إلى اجتهاد ومصادر معلومات كثيرة، للوصول إلى القدرة على تشخيص هذه المواقف.
د ـ التعبئة الروحية والسياسية في حركة الاُمة، بحيث تبقى هذه الاُمة، أُمة حية تتحمل مسؤولياتها والاستفادة من فرص الامر بالمعروف والنهي عن المنكر، والدعوة إلى الاسلام، ونشر المفاهيم الاسلامية، وتوجيهها باتجاه هذه التعبئة.
هـ ـ تهيئة الامكانات، وأسباب القدرة وتنظيمها، وإيجاد المؤسسات المطلوبة لذلك، لتجسيد المواقف عملياً في أرض الواقع، وتحقيق هذه التعبئة العامة، وهو ما يعبر عنه القرآن الكريم بقوله تعالى : ( وَأَعِدُّواْ لَهُم مَّا اسْتَطَعْتُم مِّن قُوَّة ... ) . ( الفهرست ) (http://www.almejlis.org/shaheed/sh/KUTUB/almerge3ah.HTM#L0)



حقوق المرجعية


إلى جانب هذه الوظائف، لابد من تشخيص الحقوق لكل من هاتين المرجعيتين المتخصصتين.
أما المرجعية الدينية الشرعية، فيمكن أن نتصور الحقوق فيها بصورة إجمالية في النقاط التالية :
أ ـ الرجوع إليها في أخذ الحكم الشرعي والفكر الاسلامي الصحيح، وهو ما يصطلح عليه بـ(التقليد).
ب ـ الالتزام بإرشاداتها وهديها في مهمة التعليم والتثقيف والتزكية، أي الرجوع إليها في قضية ما يسمى بـ(التبليغ).
ج ـ مساعدتها على أداء واجباتها، برفدها بالاموال والحقوق الشرعية، وبأفراد المدرسين والدارسين والمتعلمين في الحوزات العلمية (طلبة العلوم الدينية والاساتذة).
د ـ المحافظة على استقلالها ومؤسساتها الدينية عن التأثير عليها من خارج إطارها، وإسنادها في ذلك.
أما المرجعية الدينية السياسية، فيمكن أن نتصور الحقوق فيها بصورة إجمالية في النقاط التالية :
أ ـ الالتزام بالمواقف والطاعة للقرارات الالزامية التي تتخذها في شؤون الحركة السياسية، التي يمكن أن نسميها (بالمتابعة السياسية) للقيادة، وهي توازي (التقليد) في المرجعية الدينية الشرعية.
ب ـ المشاركة والمساهمة في التعبئة الروحية والمعنوية والسياسية التي تقوم بها، وفي تنظيم الحركة ومؤسساتها ونشاطاتها.
ج ـ تقديم الدعم بالامكانات المالية لهذه الحركة بتخصيص جانب من الحقوق الشرعية والهبات، وتوفير الموارد الاقتصادية لها، ولو على شكل مؤسسات اقتصادية.
د ـ إدامة الارتباط والعلاقة بها، عن طريق : الاتصال المباشر بـ(المرجعية السياسية)، وكذلك عن طريق الاتصال بالوكلاء والمكاتب والمراكز المعتمدة لهذه المرجعية.
ومن الواضح أنه قد تتداخل بعض هذه الواجبات والحقوق في بعض الساحات أو النتائج، ولكن هذا التشخيص يشكل ضمانة جيدة للتكامل بينهما، ويحول دون وقوع الاختلاف.
( الفهرست ) (http://www.almejlis.org/shaheed/sh/KUTUB/almerge3ah.HTM#L0)