روى الشيخ الصدوق بسنده عن ابن عباس ، فقال : ذكرت الخلافة عند أمير المؤمنين علي بن أبي طالب (عليه السلام) فقال : والله لقد تقمّصها أخو تيم ، الخطبة ونحن نوردها بما في نهج البلاغة :
قال علي (عليه السلام) : أما والله لقد تقمّصها فلان ، وإنّه ليعلم أنّ محلّي منها محلّ القطب من الرّحى ، ينحدر عنّي السّيل ولا يرقى إليّ الطّير ، فسدلت دونها ثوباً وطويت عنها كشحاً ، وطفقت أرتأي بين أن أصول بيدٍ جذّاء ، أو أصبر على طخية عمياء ، يهرم فيها الكبير ويشيب فيها الصغير ويكدح فيها مؤمن حتّى يلقى ربّه .
فرأيت أنّ الصبر على هاتا أحجى ، فصبرت وفي العين قذى ، وفي الحلق شجى ، أرى تراثي نهباً ، حتّى مضى الأوّل لسبيله ، فأدلى بها إلى فلان بعده (1) ، ثم تمثّل بقول الأعشى :
شتّان ما يومي على كورها = ويوم حيّان أخي جابرِ
ــــــــــــــــــ
(1) هكذا في النسختين من الكتاب لكن في نهج البلاغة المطبوع : إلى ابن الخطاب بعده .
________________________________________
فيا عجباً ، بينا هو يستقيلها في حياته ، إذ عقدها لآخر بعد وفاته ، لشدّ ما تشطّرا ضرعيها ، فصيّرها في حوزة خشناء ، يغلظ كلمها ويخشن مسّها ، ويكثر العثار فيها ، والاعتذار منها ، فصاحبها كراكب الصعبة ، إن أشنق لها خرم ، وإن أسلس لها تقحّم ، فمني الناس لعمر الله بخبط وشماس ، وتلوُّنٍ واعتراض ، فصبرت على طول المدّة ، وشدّة المحنة .
حتّى إذا مضى لسبيله ، جعلها في جماعةٍ زعم أنّي أحدهم ، فيا لله وللشورى ، متى اعترض الرّيب فيّ مع الأوّل منهم ، حتّى صرت أُقرن إلى هذه النظائر ، لكنّي أسففت إذ أسفّوا ، وطرت إذ طاروا ، فصغى رجل منهم لضغنه ، ومال الآخر لصهره ، مع هَنٍ وهَن .
إلى أن قام ثالث القوم نافجاً حضنيه ، بين نثيله ومعتلفه ، وقام معه بنو أبيه يخضمون مال الله خضم الإبل نبتة الربيع ، إلى أن انتكث عليه فتله ، وأجهز عليه عمله ، وكبت به بطنته .
فما راعني إلاّ والنّاس كعرف الضّبع إليّ ، ينثالون عليّ من كلِّ جانب حتّى لقد وطئ الحسنان ، وشقّ عطفاي ، مجتمعين حولي كربيضة الغنم ، فلمّا نهضت بالأمر نكثت طائفة ومرقت أُخرى وقسط آخرون ، كأنّهم لم يسمعوا كلام الله سبحانه حيث يقول : ( تِلْكَ الدَّارُ الآخِرَةُ نَجْعَلُهَا لِلَّذِينَ لا يُرِيدُونَ عُلُوّاً فِي الأَرْضِ وَلا فَسَاداً وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ ) (1) بلى والله لقد سمعوها ووعوها ، ولكنّهم حليت الدنيا في أعينهم ، وراقهم زبرجها .
أما والذي فلق الحبّة ، وبرأ النسمة ، لولا حضور الحاضر ، وقيام الحجّة بوجود الناصر ، وما أخذ الله على العلماء أن لا يقارّوا على كظّة ظالم ولا سغب مظلوم ، لألقيت حبلها على غاربها ، ولسقيت آخرها بكأس أوّلها ، ولألفيتم دنياكم هذه أزهد عندي من عفطة عنز .
ـــــــــــــــــــــــ
(1) القصص : 83 .
________________________________________
قالوا : وقام إليه رجل من أهل السواد عند بلوغه إلى هذا الموضع من خطبته فناوله كتاباً ، فأقبل ينظر فيه ، فلمّا فرغ من قراءته ، قال له ابن عباس (رحمه الله) : يا أمير المؤمنين لو اطّردت مقالتك من حيث أفضيت ، قال : هيهات يا ابن عباس ، تلك شقشقة هدرت ثم قرّت ، قال ابن عباس : فو الله ما أسفت على كلامٍ قطّ كأسفي على هذا الكلام أن لا يكون أمير المؤمنين (عليه السلام) بلغ منه حيث أراد (1) .
قال ابن أبي الحديد : وأمّا قول ابن عباس : ما أسفت على كلام الخ ، فحدّثني شيخي أبو الخير مصدّق بن شبيب الواسطي في سنة ثلاث وستمائة ، قال : قرأت على الشيخ أبي محمد عبد الله بن أحمد المعروف بابن الخشّاب هذه الخطبة ، فلمّا انتهيت إلى هذا الموضع ، قال لي : لو سمعت ابن عباس يقول هذا ، لقلت له : وهل بقي في نفس ابن عمّك أمر لم يبلغه في هذه الخطبة لتتأسّف أن لا يكون بلغ من كلامه ما أراد ، والله ما رجع عن الأوّلين ولا عن الآخرين (2) .
وفي البحار ، عن كشف اليقين ، عن ابن عباس ، قال : كنت أتتبّع غضب أمير المؤمنين (عليه السلام) إذا ذكر شيئاً ، أو هاجه خبرٌ ، فلمّا كان ذات يوم ، كتب إليه بعض شيعته من الشام يذكر في كتابه أنّ معاوية ، وعمرو بن العاص ، وعتبة ابن أبي سفيان ، والوليد بن عقبة ، ومروان ، اجتمعوا عند معاوية فذكروا أمير المؤمنين (عليه السلام) فعابوه ، وألقوا في أفواه الناس أنّه ينتقص أصحاب رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) ، ويذكر كل واحد منهم بما هو أهله ، وذلك لَمّا أمر (عليه السلام) أصحابه بالانتظار له بالنخيلة فدخلوا وتركوه ، فغلظ ذلك عليه .
وجاء هذا الخبر فأتيت بابه في الليل ، فقلت : يا قنبر ، أيّ شيء خبر
ـــــــــــــــــــــ
(1) نهج البلاغة : ص37 ـ 44 ج1 . نهج البلاغة صبحي الصالح : ص48 .
(2) شرح ابن أبي الحديد : ج ص205 .
أمير المؤمنين (عليه السلام) قال : هو نائم فسمع (عليه السلام) كلامي ، فقال : مَن هذا ؟ قال ابن عباس يا أمير المؤمنين قال : ادخل ، فدخلت ، فإذا هو قاعد ناحية عن فراشه في ثوب ، جالس كهيئة المهموم فقلت : ما لك يا أمير المؤمنين الليلة ؟ فقال : ويحك يا ابن عباس ، وكيف تنام عينا قلب مشغول ، يا ابن عباس ، ملك جوارحك قلبك ، فإذا أرهبه طار النوم عنه ، ها أنا ذا كما ترى مذ أوّل اللّيل اعتراني الفكر والسهر لما تقدّم من نقض عهد أول هذه الأمّة المقدّر عليها نقض عهدها .
إنّ رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) ، أمر مَن أمر من أصحابه بالسلام عليَّ في حياته بإمرة المؤمنين ، فكنت أؤكّد أن أكون بعد وفاته ، يا ابن عباس ، أنا أولى الناس بالناس بعده ، ولكنّ أمور اجتمعت على رغبة الناس في الدنيا وأمرها ونهيها ، وصرف قلوب أهلها عنّي .
أقول : وساق كلامه (عليه السلام) في الشكاية عمّن تقدّمه إلى أن قال (عليه السلام) : فالآن يا ابن عباس قرنت بابن آكلة الأكباد ، وعمرو ، وعتبة ، والوليد ، ومروان ، وأتباعهم ، فمتى اختلج في صدري ، وألقي في روعي ، أن الأمر منقاد إلى دنيا يكون هؤلاء فيها رؤساء يطاعون ، فهم في ذكر أولياء الرّحمان يثلبونهم (1) ويرمونهم بعظائم الأمور ، من إفك مختلق وحقد قد سبق .
وقد علم المستحفظون ممّن بقي من أصحاب رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) ، أنّ عامّة أعدائي ممّن أجاب الشيطان عليّ ، وزهد الناس فيّ ، وأطاع هواه فيما يضرّه في آخرته ، وبالله عزّ وجلّ الغنى وهو الموفّق للرشاد والسّداد ، يا ابن عباس ، ويل لمَن ظلمني ودفع حقّي وأذهب عظيم منزلتي ، أين كانوا أُولئك ؟ وأنا أُصلّي مع رسول الله (صلّى الله عليه وآله) صغيراً ، لم يكتب عليَّ صلاة ، وهم عبدة الأوثان وعصاة الرّحمان ، وبهم توقد النّيران .
ــــــــــــــــ
(1) ثلبه : تنقّصه .
________________________________________
فلمّا قرب إصعار الخدود (1) وإتعاس الجدود ، أسلموا كرهاً ، وأبطنوا غير ما أظهروا ، طمعاً في أن يطفئوا نور الله ، وتربّصوا انقضاء أمر الرّسول ، وفناء مدّته ، لمّا أطمعوا أنفسهم في قتله ، ومشورتهم في دار ندوتهم قال الله عزّ وجلّ : ( وَمَكَرُواْ وَمَكَرَ اللهُ وَاللهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ ) (2) . وقال : ( يُرِيدُونَ أَن يُطْفِؤُواْ نُورَ اللهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَيَأْبَى اللهُ إِلاَّ أَن يُتِمَّ نُورَهُ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ ) (3) .
يا ابن عباس ، ندبهم رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) في حياته بوحي من الله يأمرهم بموالاتي ، فحمل القوم ما حملهم ممّا حقد على أبينا آدم من حسد اللّعين له ، فخرج من روح الله ورضوانه ، وألزم اللّعنة لحسده لولّي الله ، وما ذاك بضاري إن شاء الله شيئاً ، يا ابن عباس ، أراد كل امرئٍ أن يكون رأساً مطاعاً يميل إليه الدنيا وإلى أقاربه فحمله هواه ، ولذة دنياه ، واتباع الناس إليه أن يغصب ما جعل لي ، ولولا اتقائي على الثّقل الأصغر أن ينبذ فتنقطع شجرة العلم وزهرة الدنيا وحبل الله المتين ، وحصنه الأمين ، وولد رسول ربّ العالمين ؛ لكان طلب الموت والخروج إلى الله عزّ وجلّ عندي ( أهون ) من شربة ظمآن ونوم وسنان ، ولكني صبرت وفي الصدر بلابل ، وفي النفس وساوس ( فَصَبْرٌ جَمِيلٌ وَاللهُ الْمُسْتَعَانُ عَلَى مَا تَصِفُونَ ) .
ولقديماً ظلم الأنبياء وقتل الأولياء إلى أن قال : ( وَسَيَعْلَمُ الْكُفَّارُ لِمَنْ عُقْبَى الدَّارِ ) وأذّن المؤذّن فقال : الصلاة يا ابن عباس لا تفت ، أستغفر الله لي ولك وحسبنا الله ونعم الوكيل ، ولا حول ولا قوّة إلاّ بالله العليّ العظيم ، قال ابن عباس : فغمّني انقطاع الليل وتلهّفت على ذهابه (4) .
ــــــــــــ
(1) صعّر خده تصعيراً وصاعره وأصعره : أماله عن النظر إلى الناس تهاوناً .
التعس : الهلاك . والجدود جمع الجد بالفتح وهو الحظ .
(2) آل عمران : 54 .
(3) التوبة : 32 .
(4) بحار الأنوار كتاب الفتن والمحن : ط القديم ص162 ( مكالمة ابن عباس مع أمير المؤمنين (عليه السلام) )
من كتاب بيت الأحزان في مصائب سيدة النسوان
البتول الطاهرة فاطمة الزهراء (سلام الله عليها)
الحاج الشيخ عبّاس القُمِّي (طاب ثراه)












تعليق