سيد أحمد شهيد سار
....
حنانيكِ يا أمي ..
إدَّخري دموعك الماسية الغالية
خبئيها في صندوق الأمنيات
لعلي أعود يوماً
لتزفيني لعروس أحلامي
وتطوقي جيدها بطوقٍ ، صِيغت حبُيباته من دموعك الغالية
أعذريني أمي
فقد رحلت بلا وداع ...
فقلبي يتفطَّر لو رأيت الدموع في عينيكِ..
..
هو .. سيد أحمد
من قرية سار
جاوز الأربعة عشر ربيعاً
قارب عمر القاسم (ع) ...
ومن في سار لا يعرف أحمد؟! ..
هو من الوجوه المحببة التي تعلق صورتها في فضاءات عالمنا
وتترك أثراً لا يُمحى ..
صوته الرقيق يمرُ على القلوب كأجراس الحنين
ضحكته تسبقه
ترافقها نظرة حنين وشوق .. لمجهول ...
ينثر وريقات الحب أينما حل ..
يشد الرحال ، وبسرعة تشرع له أبوابها القلوب ليدخلها
ووجهه صفحة صافية تفيض قسماتها بالنور ..
مذ أُوقِدت شُعلة الثورة كان حاضراً في الميدان .. المرفأ .. وكل مسيرة في بلده الحبيب كانت تشهد على وجوده فيها..
وللمرفأ حكاية مع أحمد ..
كان ضمن المتظاهرين المتوجهين للمرفأ حين باغتتهم قوات الشغب بالقنابل الدخانية ، فأصيب باختناق وأغمي عليه نتيجة استنشاقه دخان إحدى القنابل ، فحمله رفاقه وهرعوا به إلى المستشفى ، كانوا خائفين عليه لأنه الأصغر بينهم .. لكنه سرعان ما تعافى ورجع للميدان بعد أيام ٍ قليلة ، لكن .. كانت علامات الحزن مرتسمة على محياه ..
تقدم منه صديقه مبادراً بالسؤال : شخبار صحتك سيد إن شاء الله زين؟
احمد : الحمدلله بس ويش الفايدة ما استشهدت ..
فقال له : لو الشهادة مكتوبة لك ح تنالها يا سيد ..
سكت.. وجلس مطرقاً برأسه إلى الأرض ..
أيام قليلة مرَّت.. كان أحمد فيها يعيش حلم الشهادة ...
مبكراً إستيقظ ذلك اليوم وكأنه كان يعرف أنه اليوم الموعود ..
بعد ليلة طويلة ناجى فيها الأم الرؤوم مطولاً وختم المناجاة بسؤال :
أريد أسألك أمي ..
قول يمه شنو سؤالك :
أماااه بسألج عن الشهاادة .. !
يعني الحين اذا واحد استشهد الله ما يحاسب له ؟؟
ويروح الجنة ...
لم تملك دموعها
ضمته إلى صدرها
إي بني
الشهيد ما يحاسب له ..
وغفا أحمد وحلم الشهادة يداعب مخيلته ..
قام من سريره على عجالة ..غسل وجهه وارتدى ملابسه الرياضية .. لا بُدّ من لعبة كرة في أزقة القرية .. نادى أمه : أماه إني ذاهب لأتمشى مع رفاقي ..
قالت : لا تبتعد عن البيت كثيراً .. فالشغب لا يُؤمن لهم .. ومضى وصوت دعواتها ترافقه ..لله يحفظك بني ..
اتجه نحو المسجد داخل البلدة القديمة .. وجد اصدقاءه بانتظاره .. كانوا خمسة يتسامرون بهدوء في منطقة هادئة لا يشوب هدوءها سوى جلجلة ضحكاتهم ..
كانت القرية هادئة ، لا مظاهرات اليوم ولا شغب يجولون بين المنازل ..
فجأة رن هاتف احمد .. ليخبره المتصل أن الشغب اقتحموا القرية .. تشاوروا فيما بينهم هل نرجع لمنازلنا ، لكنهم أجمعوا على البقاء فمكانهم آمن بعيد عن الأعين المتربصة ، والتلال الرملية تحجبهم عن الأنظار ..
لكن .. هذا عدوٌّ لا يُركنُ إليه . إن هي إلا لحظات ..حتى دوى طلق ناري قريب فأصيبوا بالهلع .. واحتاروا لأي جهة يفِرّون ..
فالمرتزقة مُتوارين وراء التلال الرملية المقابلة وهم مكشوفين أمامهم ، لحظات .. وبدأ الجبناء بإطلاق النار على الفتية ففروا من بين أيديهم إلى الزقاق المفتوح أمامهم .. وظلوا يلاحقونهم من زاوية لأخرى ، يطلقون النار عليهم من مسافة قريبة .. يُجرِّبون أسلحة جديدة لا عهد للفتية بها ..
ركض أحمد في أحد الأزقة المفتوحة ، ولحقه أحدهم وأطلق قنبلة غازية أصابت رأس أحمد فهوى إلى الأرض .. ركض مهدي يحاول رفعه لكنهم عاجلوه بطلق الشوزن .. ففر من بين أيديهم ملتحقاً برفاقه الفارين وهو يصرخ بصوت عالٍ : سيد أحمد طاح .. سيد أحمد طاح .. لنرجع ونحمله ، لكنهم لم يسمعوه فالخوف أخذ منهم كل مأخذ ، خاصة وأن المرتزقة يحاولون محاصرتهم . كان أحمد يتقلب على الأرض متألماً .. حاول رفع رأسه ، لكن أحد الجلاوزة تقدم منه وعاجله بضربة من بندقيته .. وبقسوة عجيبة وطأ رقبته بحذائه العسكري الثقيل فكسرها ..ما أشبه المشهد بيوم جده الحسين (ع) حين داست خيول بني أمية جسده الطاهر ، أغشي على أحمد .. فالضربة أصابت منه مقتلاً ..
هرع مهدي نحو بيت أحمد وهو يصرخ : عمييييييييييي طاح أحمد صابوه الشغب ..
وقع الخبر على مسامع أبي أحمد كالصاعقة ، ولم يعرف الأب المذهول كيف حملته قدماه نحو المكان الذي سقط فيه ولده .. أقبل نحوه يتبعه بعض الأهل والجيران .. فوجده ممدداً على الأرض مغمىً عليه ، وبالكاد كانت أنفاسه تتصاعد من صدره .. رفعه بين يديه وهو يجتاز الأزقة والحواري بمشقة كبيرة ، ففي كل زاوية كان هناك مجموعة من الجلاوزة ترصُد العابرين لتقتنصهم ، إستمر بالمحاولة لكن السُبُل ضاقت به ولم يجد ولو طاقة صغيرة يعبر منها إلى مستشفى القرية ، كان قلبه ينبض بعنف ، وعيناه زائغتان في محاجرهما ، فأنفاس إبنه تتقطع في صدره ويكاد يفارق الحياة .. هذا فلذة كبده ، حبيبه أحمد ، أمل المستقبل .. ولا أمل لنجاته إلا المستشفى ، سمع صوت امرأة تناديه من بعيد .. خوي تعال .. بيتي فيه باب خلفي يودي لطريق المستشفى ، دخل البيت وخرج من الباب الخلفي وهو يشكر المرأة . ها هو الآن في الشارع المؤدي للمستشفى .. خارت قواه من التعب ، لكنه تمالك نفسه وركض نحو باب المستشفى ، رآه أحد الممرضين من بعيد فأسرع وأحضر حمالة وضع أحمد عليها ، متجهاً به إلى غرفة الطوارئ ، وسرعان ما نقلوه لغرفة العناية المركزة فقد وصل ميتاً ..
حاولوا أنعاشه وبعث الروح في الجسد الغض بلا جدوى ، فالروح قد فارقت الجسد الصغير .. وصعدت إلى بارئها ..
خرجوا من غرفة الإنعاش والحزن والوجوم بادٍ على وجوههم ،كان أبو أحمد يذرع الغرفة المجاورة جيئة وذهاباً مناجياً ربه وحوله قد اجتمع الأهل والأصحاب يحاولون التخفيف من هول الفاجعة .. تقدم أحد الأطباء وقال : عظم الله أجرك بولدكَ يا أبا أحمد ..لقد استُرجِعت الوديعة ..
أغمض عينيه بيديه وهمس : آآآآآآآآآآآآآآآآآآآه
بني أحمد ما زال عودك طرياً ..
بني : لم أفرح بك ..
بني : تمنيت أن أزفك عريساً .. وها أنا أزفك شهيداً ..
بعين الله يا بني ما نزل بك ..
تُقبل على جدك رسول الله (ص) فيزِفَّك للحور العين ..
فإلى الله المشتكى .. إلى الله المشتكى ..
( نعم ...الى الله المشتكى، ولكم الله يا أبطال كربلاء العصر)
آآآه هذا الشهيد وهو طفل من البحرين راينا صورته
صبر الله والديه واهله على فراقه واخوانه ودمه لن يذهب هدرا
عظم الله اجورنا واجوركم واحسن لنا ولكم العزاء
الى جنان الخلد يا قمر الثورة


منقول
تعليق