فَاطِمةُ الزهَراء (ع) بَعَدَ وَفَاةِ الرسُول (ص)
في كل يوم من أيام الدنيا آباء يموتون ، وبناتهم يُفجعن بهم ، ويبكين في مصابهم ، ويحزنَّ لفقدهم إلاَّ أنّ نسبة الحزن والبكاء وألم المصيبة تختلف باختلاف الآباء والبنات ، وباختلاف العلاقات الودّيّة بين الأب وابنته ، فهناك العدد الكثير من البنات اللاتي لا نصيب لهنّ من الآباء إلاّ الأُبوّة ، فلا عطف ولا حنان ولا محبّة ، فكأنّه لا معرفة بينهما ولا صلة .
وهناك آباء يمطرون بناتهم بالعطف والدلال والاحترام والمحافظة على البنت لئلاّ تنخدش عواطفها ، ولئلاّ يحدث شيء يمسّ بكرامتها .
ويجد الأب من ابنته نفس الشعور المتبادل والاحترام والتقدير .
وفي هذه الصورة تكون العلاقات الودّيّة بين الأب وابنته وثيقة جداً ، وعلى هذا تكون مصيبة الأب على قلب ابنته أليمة وعميقة .
وقد مرّ عليك موقف رسول الله (صلّى الله عليه وآله) من ابنته الطاهرة فاطمة الزهراء (عليها السلام) ، وسوف يسهل عليك أن تدرك علاقة السيدة فاطمة الزهراء بأبيها الرسول (صلّى الله عليه وآله) ؛ ومحبّتها إيّاه لم تكن بدافع الأبوّة والنبوّة فقط ، بل كانت السيدة فاطمة تعتبره أباً عطوفاً ، ووالداً رؤوفاً ، شفيقاً رحيماً .
وفي الوقت نفسه تعتبره رسول الله ، وسيّد الأنبياء والمرسلين ، فهي تحترم أباها كما تحترم المرأة المسلمة العارفة نبيّها ، وتعظّمه أقصى
أنواع التعظيم ، وأعلى درجات التفخيم والتجليل .
والسيدة فاطمة الزهراء (عليها السلام) أعلم امرأة في الإسلام ، وأعرف أُنثى بعظمة نبي الإسلام .
وبعد هذه المقدّمة يتضح لنا أنّ مصيبة وفاة الرسول (صلّى الله عليه وآله) سلبت عن ابنته البّارة كل قرار واستقرار ، وكل هدوء وسكون .
فالزهراء تعرف عِظم المصاب ، ومدى تأثير الواقعة في الموجودات كلّها .
وهنا تحدّثنا فضّة خادمة الزهراء عن الحزن المسيطر على السيدة فاطمة بسبب وفاة أبيها الرسول (صلّى الله عليه وآله) قالت :
( ولمّا تُوفّي رسول الله (صلّى الله عليه وآله) افتجع له الصغير والكبير وكثر عليه البكاء ، وعظُم رزؤه على الأقرباء والأصحاب والأولياء والأحباب ، والغرباء والأنساب .
ولم تلق إلاّ كل باكٍ وباكية ، ونادب ونادبة ، ولم يكن في أهل الأرض والأصحاب والأقرباء والأحباب أشدّ حزناً وأعظم بكاءً وانتحاباً من السيدة فاطمة الزهراء (عليها السلام) وكان حزنها يتجدّد ويزيد ، وبكاؤها يشتد ، فجلست سبعة أيام لا يهدأ لها أنين ، ولا يسكن منها الحنين ، وكل يوم كان بكاؤها أكثر من اليوم الذي قبله .
فلمّا كان اليوم الثامن أبدت ما كتمت من الحزن ، فلم تطق صبراً ، إذ خرجت وصرخت ، وضجَّ الناس بالبكاء ، فتبادرت النسوة ، وأطفئت المصابيح لكيلا تتبيّن وجوه النساء .
كانت السيدة فاطمة تنادي وتندب أباها قائلة :
وا أبتاه ، وا صفياه ، وا محمداه ، وا أبا القاسماه ، وا ربيع الأرامل واليتامى !
مَن للقبلة والمصلّى ؟
ومَن لابنتك الوالهة الثكلى ؟
ثم أقبلت تعثر في أذيالها ، وهي لا تبصر شيئاً من عبرتها ، ومن تواتر دمعتها ، حتى دنت من قبر أبيها رسول الله (صلّى الله عليه وآله) فلمّا نظرت إلى الحجرة وقع طرفها على المئذنة أغمي عليها ، فتبادرت النسوة ، فنضحن الماء عليها وعلى صدرها ، وجبينها حتى أفاقت ، فقامت وهي تقول :
رُفعت قوتي ، وخانني جَلَدي ، وشمت بي عدوي ، والكمد قاتلي .
يا أبتاه بقيت والهة وحيدة ، وحيرانة فريدة .
فقد انخمد صوتي ، وانقطع ظهري ، وتنغَّص عيشي ، وتكدَّر دهري .
فما أجد ـ يا أبتاه ـ بعدك أنيساً لوحشتي ، ولا راداً لدمعتي ، ولا معيناً لضعفي ، فقد فني بعدك محكم التنزيل ، ومهبط جبرئيل ، ومحل ميكائيل .
انقلبت ـ بعدك ـ يا أبتاه الأسباب .
وتغلَّقت دوني الأبواب .
فأما الدنيا بعدك قالية ، وعليك ما تردّدت أنفاسي باكية .
لا ينفد شوقي إليك ، ولا حزني عليك .
إنّ حزني عليك حزنٌ جديد = وفؤادي والله صبّ عنيدُ
كل يوم يزيد فيه شجوني = واكتئابي عليك ليس يبيدُ
جلّ خطبي ، فبان عنّي عزائي = فبكائي في كل وقتٍ جديدُ
إنّ قلباً عليك يألف صبراً = أو عزاءً فإنّه لجليدُ
ثم نادت :
يا أبتاه ، انقطعت بك الدنيا بأنوارها ، وذوتْ زهرتها وكانت ببهجتك زاهرة .
يا أبتاه ، لا زلت آسفة عليك إلى التلاق .
يا أبتاه ، زال غمضي منذ حقَّ الفراق .
يا أبتاه ، مَن للأرامل والمساكين ؟
ومَن للأُمّة إلى يوم الدين ؟
يا أبتاه ، أمسينا بعدك من المستضعفين !
يا أبتاه ، أصبحت الناس عنّا معرضين !
ولقد كنَّا بك معظَّمين في الناس غير مستضعفين !
فأي دمعة لفراقك لا تنهمل ؟
وأي حزن بعدك لا يتصل ؟
وأي جفن بعدك بالنوم يكتحل ؟
وأنت ربيع الدين ، ونور النبيّين .
فكيف بالجبال لا تمور ؟ وللبحار بعدك لا تغور ؟
والأرض كيف لم تتزلزل ؟
رُميتُ ـ يا أبتاه ـ بالخطب الجليل .
ولم تكن الرزيّة بالقليل .
وطُرِقتُ ـ يا أبتاه ـ بالمصاب العظيم ، وبالفادح المهول .
بكتك ـ يا أبتاه ـ الأملاك .
ووقفتِ الأفلاك .
فمنبرك بعدك مستوحش .
ومحرابك خالٍ من مناجاتك .
وقبرك فرِحٌ بمواراتك .
والجنّة مشتاقة إليك وإلى دعائك وصلاتك .
يا أبتاه ما أعظم ظلمة مجالسك !!
فوا أسفاه عليك إلى أن أقدم عاجلاً عليك .
وأُثكل أبو الحسن المؤتمن ، أبو ولديك الحسن والحسين .
وأخوك ووليّك ، وحبيبك ، ومَن ربيّته صغيراً وآخيته كبيراً .
وأحلى أحبابك وأصحابك إليك .
مَن كان منهم سابقاً ومهاجراً وناصراً .
والثكل شاملنا ! والبكاء قاتلنا ! والأسى لازمنا .
ثم زفرت ، وأنَّت أنيناً يخدش القلوب ، ثم قالت :
قلَّ صبري وبان عنّي عزائي = بعد فقدي لخاتم الأنبياءِ
عين يا عين اسكبي الدمع سحّاً = ويك لا تبخلي بفيض الدماءِ
يا رسول الإله يا خيرة الله = وكهف الأيتام والضعفاءِ
قد بكتك الجبال والوحش جمعاً = والطير والأرض بعد بكي السماءِ
وبكاك الحجون والركن والمشـ = ـعر ـ يا سيّدي ـ مع البطحاءِ
وبكاك المحراب والدرس = للقرآن في الصبح معلناً والمساءِ
وبكاك الإسلام إذ صار في النا = س غريباً من سائر الغرباءِ
لو ترى المنبر الذي كنت تعلو = ه علاه الظلام بعد الضياءِ
يا إلهي عجّل وفاتي سريعاً = ( فلقد عِفْتُ الحياة يا مولائي )
وأخذت فاطمة الزهراء (عليها السلام) شيئاً من تراب قبر أبيها رسول الله (صلّى الله عليه وآله) وجعلت تشمّه وهي تقول :
ماذا على مَن شمّ تربة أحمدٍ = إن لا يشمّ مدى الزمان غواليا
قل للمغيّب تحت أطباق الثرى = إن كنت تسمع صرختي وندائيا
صُبَّت عليَّ مصائب لو أنّها = صُبَّت على الأيام صرن لياليا
قد كنت ذات حمى بظلّ محمّدٍ = لا أخش من ضيم وكان حمىً ليا
فاليوم أخضع للذليل وأتّقي = ضيمي ، وأدفع ظالمي بردائيا
فإذا بكت قمريّة في ليلها = شجناً على غصنٍ بكيت صباحيا
فلأجعلنّ الحزن بعدك مؤنسي = ولأجعلنّ الدمع فيك وِشاحيا (1)
وروى زيني دحلان في السيرة النبوية هذه الأبيات لها في رثاء أبيها بعد دفنه (صلّى الله عليه وآله) :
اغبرَّ آفاق السماء وكوّرت = شمس النهار وأظلم العصرانِ
والأرض من بعد النبيّ كئيبة = أسفاً عليه كثيرة الرجفانِ
فليبكه شرق البلاد وغربها = وليبكه مضرٌ وكل يماني
وليبكه الطود المعظّم جوّه = والبيت ذو الأستار والأركانِ
يا خاتم الرسل المبارك ضوؤه = صلّى عليك منزّل القرآنِ
ثم رجعت إلى منزلها ، وأخذت بالبكاء والعويل ، وكانت ـ سلام الله عليها ـ معصبة الرأس ، ناحلة الجسم منهدّة الركن ، باكية العين ، محترقة القلب ، يغشى عليها ساعة بعد ساعة .
وتقول لولديها : أين أبوكما الذي كان يكرمكما ويحملكما مرّة بعد مرّة ؟
أين أبوكما الذي كان أشد الناس شفقة عليكما ، فلا يدعكما تمشيان على الأرض .
لا أراه يفتح هذا الباب أبداً ، ولا يحملكما على عاتقه ، كما لم يزل يفعل بكما !!
ولمّا توفّى رسول الله (صلّى الله عليه وآله) امتنع بلال من الأذان قال : لا أؤذن لأحد بعد رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم)
وإنّ فاطمة (عليها السلام) قالت ذات يوم : إنّي أشتهي أن أسمع
ـــــــــــــــــــــ
(1) بحار الأنوار ج43 .
________________________________________
صوت مؤذّن أبي (صلّى الله عليه وآله) بالأذان .
فبلغ ذلك بلالاً فأخذ في الأذان فلما قال : الله أكبر الله أكبر ، ذكرت أباها وأيامه ، فلم تتمالك من البكاء .
فلما بلغ إلى قوله : أشهد أنّ محمّداً رسول الله شهقت فاطمة (عليها السلام) وسقطت لوجهها وغشي عليها .
فقال الناس لبلال : أمسك يا بلال فقد فارقت ابنة رسول الله (صلّى الله عليه وآله) الدنيا ، وظنّوا أنّها قد ماتت ؟ فقطع أذانه ، ولم يتمّه .
فأفاقت فاطمة (عليها السلام) وسألته أن يتمّ الأذان فلم يفعل وقال لها : يا سيّدة النسوان إنّي أخشى عليك ممّا تنزلينه بنفسك إذا سمعت صوتي بالأذان . فأعفته عن ذلك (1) .
قال أمير المؤمنين (عليه السلام) : غسّلت النبي (صلّى الله عليه وآله) في قميصه . فكانت فاطمة تقول : أرني القميص . فإذا شمّته غشي عليها . فلمّا رأيت ذلك غيّبته (2) .
ورُوي عن الإمام جعفر الصادق ( عليه السلام ) أنّه قال : عاشت فاطمة بعد رسول الله ( صلّى الله عليه وآله وسلّم ) خمسة وسبعين يوماً ، لم تُرَ كاشرةً ولا ضاحكة ، تأتي قبور الشهداء في كل جمعة مرّتين : الاثنين والخميس ، فتقول ، ها هنا كان رسول الله ، وها هنا كان المشركون (3) .
وعن محمود بن لبيد قال : لمّا قُبض رسول الله ( صلّى الله عليه وآله وسلّم ) كانت فاطمة ( عليها السلام ) تأتي قبور الشهداء وتأتي قبر حمزة
ـــــــــــــــــــ
(1) بحار الأنوار ج 43 عن مَن لا يحضره الفقيه .
(2) مقتل الحسين للخوارزمي .
(3) بحار الأنوار ج 43 ص 195 عن الكافي .
________________________________________
وتبكي هناك .
فلمّا كان في بعض الأيام أتيت قبر حمزة فوجدتُها تبكي هناك ، فأمهلتها حتى سكنت ، فأتيتها وسلّمت عليها وقلت : يا سيّدة النسوان قد ـ والله ـ قطعتِ نياط قلبي من بكائك .
فقالت : يا أبا عمرو ، ويحقّ لي البكاء ، فلقد أصبتُ بخير الآباء : رسول الله .
وا شوقاه إلى رسول الله .
ثم أنشأت تقول :
إذا مات يوماً ميّتٌ قلَّ ذكره = وذكر أبي مذ مات ـ والله ـ أكثر (1)
أقول : المستفاد من التاريخ والأحاديث أنّ السيدة فاطمة (عليها السلام) كانت تبكي ـ علي أبيها ـ في بيتها ، فلمّا منعوها عن البكاء ، خرجت إلى أُحد ، فلمّا اشتدّ بها المرض صعب عليها الخروج إلى أُحد ، فكانت تخرج إلى البقيع وبيت الأحزان ـ كما ستقرأ ذلك ـ .
ـــــــــــــــــ
(1) بيت الأحزان للقمّي ص 141
من كتاب فاطمة الزهراء (عليها السلام) من المهد إلى اللحد
السيد محمّد كاظم القزويني

في كل يوم من أيام الدنيا آباء يموتون ، وبناتهم يُفجعن بهم ، ويبكين في مصابهم ، ويحزنَّ لفقدهم إلاَّ أنّ نسبة الحزن والبكاء وألم المصيبة تختلف باختلاف الآباء والبنات ، وباختلاف العلاقات الودّيّة بين الأب وابنته ، فهناك العدد الكثير من البنات اللاتي لا نصيب لهنّ من الآباء إلاّ الأُبوّة ، فلا عطف ولا حنان ولا محبّة ، فكأنّه لا معرفة بينهما ولا صلة .
وهناك آباء يمطرون بناتهم بالعطف والدلال والاحترام والمحافظة على البنت لئلاّ تنخدش عواطفها ، ولئلاّ يحدث شيء يمسّ بكرامتها .
ويجد الأب من ابنته نفس الشعور المتبادل والاحترام والتقدير .
وفي هذه الصورة تكون العلاقات الودّيّة بين الأب وابنته وثيقة جداً ، وعلى هذا تكون مصيبة الأب على قلب ابنته أليمة وعميقة .
وقد مرّ عليك موقف رسول الله (صلّى الله عليه وآله) من ابنته الطاهرة فاطمة الزهراء (عليها السلام) ، وسوف يسهل عليك أن تدرك علاقة السيدة فاطمة الزهراء بأبيها الرسول (صلّى الله عليه وآله) ؛ ومحبّتها إيّاه لم تكن بدافع الأبوّة والنبوّة فقط ، بل كانت السيدة فاطمة تعتبره أباً عطوفاً ، ووالداً رؤوفاً ، شفيقاً رحيماً .
وفي الوقت نفسه تعتبره رسول الله ، وسيّد الأنبياء والمرسلين ، فهي تحترم أباها كما تحترم المرأة المسلمة العارفة نبيّها ، وتعظّمه أقصى
أنواع التعظيم ، وأعلى درجات التفخيم والتجليل .
والسيدة فاطمة الزهراء (عليها السلام) أعلم امرأة في الإسلام ، وأعرف أُنثى بعظمة نبي الإسلام .
وبعد هذه المقدّمة يتضح لنا أنّ مصيبة وفاة الرسول (صلّى الله عليه وآله) سلبت عن ابنته البّارة كل قرار واستقرار ، وكل هدوء وسكون .
فالزهراء تعرف عِظم المصاب ، ومدى تأثير الواقعة في الموجودات كلّها .
وهنا تحدّثنا فضّة خادمة الزهراء عن الحزن المسيطر على السيدة فاطمة بسبب وفاة أبيها الرسول (صلّى الله عليه وآله) قالت :
( ولمّا تُوفّي رسول الله (صلّى الله عليه وآله) افتجع له الصغير والكبير وكثر عليه البكاء ، وعظُم رزؤه على الأقرباء والأصحاب والأولياء والأحباب ، والغرباء والأنساب .
ولم تلق إلاّ كل باكٍ وباكية ، ونادب ونادبة ، ولم يكن في أهل الأرض والأصحاب والأقرباء والأحباب أشدّ حزناً وأعظم بكاءً وانتحاباً من السيدة فاطمة الزهراء (عليها السلام) وكان حزنها يتجدّد ويزيد ، وبكاؤها يشتد ، فجلست سبعة أيام لا يهدأ لها أنين ، ولا يسكن منها الحنين ، وكل يوم كان بكاؤها أكثر من اليوم الذي قبله .
فلمّا كان اليوم الثامن أبدت ما كتمت من الحزن ، فلم تطق صبراً ، إذ خرجت وصرخت ، وضجَّ الناس بالبكاء ، فتبادرت النسوة ، وأطفئت المصابيح لكيلا تتبيّن وجوه النساء .
كانت السيدة فاطمة تنادي وتندب أباها قائلة :
وا أبتاه ، وا صفياه ، وا محمداه ، وا أبا القاسماه ، وا ربيع الأرامل واليتامى !
مَن للقبلة والمصلّى ؟
ومَن لابنتك الوالهة الثكلى ؟
ثم أقبلت تعثر في أذيالها ، وهي لا تبصر شيئاً من عبرتها ، ومن تواتر دمعتها ، حتى دنت من قبر أبيها رسول الله (صلّى الله عليه وآله) فلمّا نظرت إلى الحجرة وقع طرفها على المئذنة أغمي عليها ، فتبادرت النسوة ، فنضحن الماء عليها وعلى صدرها ، وجبينها حتى أفاقت ، فقامت وهي تقول :
رُفعت قوتي ، وخانني جَلَدي ، وشمت بي عدوي ، والكمد قاتلي .
يا أبتاه بقيت والهة وحيدة ، وحيرانة فريدة .
فقد انخمد صوتي ، وانقطع ظهري ، وتنغَّص عيشي ، وتكدَّر دهري .
فما أجد ـ يا أبتاه ـ بعدك أنيساً لوحشتي ، ولا راداً لدمعتي ، ولا معيناً لضعفي ، فقد فني بعدك محكم التنزيل ، ومهبط جبرئيل ، ومحل ميكائيل .
انقلبت ـ بعدك ـ يا أبتاه الأسباب .
وتغلَّقت دوني الأبواب .
فأما الدنيا بعدك قالية ، وعليك ما تردّدت أنفاسي باكية .
لا ينفد شوقي إليك ، ولا حزني عليك .
إنّ حزني عليك حزنٌ جديد = وفؤادي والله صبّ عنيدُ
كل يوم يزيد فيه شجوني = واكتئابي عليك ليس يبيدُ
جلّ خطبي ، فبان عنّي عزائي = فبكائي في كل وقتٍ جديدُ
إنّ قلباً عليك يألف صبراً = أو عزاءً فإنّه لجليدُ
ثم نادت :
يا أبتاه ، انقطعت بك الدنيا بأنوارها ، وذوتْ زهرتها وكانت ببهجتك زاهرة .
يا أبتاه ، لا زلت آسفة عليك إلى التلاق .
يا أبتاه ، زال غمضي منذ حقَّ الفراق .
يا أبتاه ، مَن للأرامل والمساكين ؟
ومَن للأُمّة إلى يوم الدين ؟
يا أبتاه ، أمسينا بعدك من المستضعفين !
يا أبتاه ، أصبحت الناس عنّا معرضين !
ولقد كنَّا بك معظَّمين في الناس غير مستضعفين !
فأي دمعة لفراقك لا تنهمل ؟
وأي حزن بعدك لا يتصل ؟
وأي جفن بعدك بالنوم يكتحل ؟
وأنت ربيع الدين ، ونور النبيّين .
فكيف بالجبال لا تمور ؟ وللبحار بعدك لا تغور ؟
والأرض كيف لم تتزلزل ؟
رُميتُ ـ يا أبتاه ـ بالخطب الجليل .
ولم تكن الرزيّة بالقليل .
وطُرِقتُ ـ يا أبتاه ـ بالمصاب العظيم ، وبالفادح المهول .
بكتك ـ يا أبتاه ـ الأملاك .
ووقفتِ الأفلاك .
فمنبرك بعدك مستوحش .
ومحرابك خالٍ من مناجاتك .
وقبرك فرِحٌ بمواراتك .
والجنّة مشتاقة إليك وإلى دعائك وصلاتك .
يا أبتاه ما أعظم ظلمة مجالسك !!
فوا أسفاه عليك إلى أن أقدم عاجلاً عليك .
وأُثكل أبو الحسن المؤتمن ، أبو ولديك الحسن والحسين .
وأخوك ووليّك ، وحبيبك ، ومَن ربيّته صغيراً وآخيته كبيراً .
وأحلى أحبابك وأصحابك إليك .
مَن كان منهم سابقاً ومهاجراً وناصراً .
والثكل شاملنا ! والبكاء قاتلنا ! والأسى لازمنا .
ثم زفرت ، وأنَّت أنيناً يخدش القلوب ، ثم قالت :
قلَّ صبري وبان عنّي عزائي = بعد فقدي لخاتم الأنبياءِ
عين يا عين اسكبي الدمع سحّاً = ويك لا تبخلي بفيض الدماءِ
يا رسول الإله يا خيرة الله = وكهف الأيتام والضعفاءِ
قد بكتك الجبال والوحش جمعاً = والطير والأرض بعد بكي السماءِ
وبكاك الحجون والركن والمشـ = ـعر ـ يا سيّدي ـ مع البطحاءِ
وبكاك المحراب والدرس = للقرآن في الصبح معلناً والمساءِ
وبكاك الإسلام إذ صار في النا = س غريباً من سائر الغرباءِ
لو ترى المنبر الذي كنت تعلو = ه علاه الظلام بعد الضياءِ
يا إلهي عجّل وفاتي سريعاً = ( فلقد عِفْتُ الحياة يا مولائي )
وأخذت فاطمة الزهراء (عليها السلام) شيئاً من تراب قبر أبيها رسول الله (صلّى الله عليه وآله) وجعلت تشمّه وهي تقول :
ماذا على مَن شمّ تربة أحمدٍ = إن لا يشمّ مدى الزمان غواليا
قل للمغيّب تحت أطباق الثرى = إن كنت تسمع صرختي وندائيا
صُبَّت عليَّ مصائب لو أنّها = صُبَّت على الأيام صرن لياليا
قد كنت ذات حمى بظلّ محمّدٍ = لا أخش من ضيم وكان حمىً ليا
فاليوم أخضع للذليل وأتّقي = ضيمي ، وأدفع ظالمي بردائيا
فإذا بكت قمريّة في ليلها = شجناً على غصنٍ بكيت صباحيا
فلأجعلنّ الحزن بعدك مؤنسي = ولأجعلنّ الدمع فيك وِشاحيا (1)
وروى زيني دحلان في السيرة النبوية هذه الأبيات لها في رثاء أبيها بعد دفنه (صلّى الله عليه وآله) :
اغبرَّ آفاق السماء وكوّرت = شمس النهار وأظلم العصرانِ
والأرض من بعد النبيّ كئيبة = أسفاً عليه كثيرة الرجفانِ
فليبكه شرق البلاد وغربها = وليبكه مضرٌ وكل يماني
وليبكه الطود المعظّم جوّه = والبيت ذو الأستار والأركانِ
يا خاتم الرسل المبارك ضوؤه = صلّى عليك منزّل القرآنِ
ثم رجعت إلى منزلها ، وأخذت بالبكاء والعويل ، وكانت ـ سلام الله عليها ـ معصبة الرأس ، ناحلة الجسم منهدّة الركن ، باكية العين ، محترقة القلب ، يغشى عليها ساعة بعد ساعة .
وتقول لولديها : أين أبوكما الذي كان يكرمكما ويحملكما مرّة بعد مرّة ؟
أين أبوكما الذي كان أشد الناس شفقة عليكما ، فلا يدعكما تمشيان على الأرض .
لا أراه يفتح هذا الباب أبداً ، ولا يحملكما على عاتقه ، كما لم يزل يفعل بكما !!
ولمّا توفّى رسول الله (صلّى الله عليه وآله) امتنع بلال من الأذان قال : لا أؤذن لأحد بعد رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم)
وإنّ فاطمة (عليها السلام) قالت ذات يوم : إنّي أشتهي أن أسمع
ـــــــــــــــــــــ
(1) بحار الأنوار ج43 .
________________________________________
صوت مؤذّن أبي (صلّى الله عليه وآله) بالأذان .
فبلغ ذلك بلالاً فأخذ في الأذان فلما قال : الله أكبر الله أكبر ، ذكرت أباها وأيامه ، فلم تتمالك من البكاء .
فلما بلغ إلى قوله : أشهد أنّ محمّداً رسول الله شهقت فاطمة (عليها السلام) وسقطت لوجهها وغشي عليها .
فقال الناس لبلال : أمسك يا بلال فقد فارقت ابنة رسول الله (صلّى الله عليه وآله) الدنيا ، وظنّوا أنّها قد ماتت ؟ فقطع أذانه ، ولم يتمّه .
فأفاقت فاطمة (عليها السلام) وسألته أن يتمّ الأذان فلم يفعل وقال لها : يا سيّدة النسوان إنّي أخشى عليك ممّا تنزلينه بنفسك إذا سمعت صوتي بالأذان . فأعفته عن ذلك (1) .
قال أمير المؤمنين (عليه السلام) : غسّلت النبي (صلّى الله عليه وآله) في قميصه . فكانت فاطمة تقول : أرني القميص . فإذا شمّته غشي عليها . فلمّا رأيت ذلك غيّبته (2) .
ورُوي عن الإمام جعفر الصادق ( عليه السلام ) أنّه قال : عاشت فاطمة بعد رسول الله ( صلّى الله عليه وآله وسلّم ) خمسة وسبعين يوماً ، لم تُرَ كاشرةً ولا ضاحكة ، تأتي قبور الشهداء في كل جمعة مرّتين : الاثنين والخميس ، فتقول ، ها هنا كان رسول الله ، وها هنا كان المشركون (3) .
وعن محمود بن لبيد قال : لمّا قُبض رسول الله ( صلّى الله عليه وآله وسلّم ) كانت فاطمة ( عليها السلام ) تأتي قبور الشهداء وتأتي قبر حمزة
ـــــــــــــــــــ
(1) بحار الأنوار ج 43 عن مَن لا يحضره الفقيه .
(2) مقتل الحسين للخوارزمي .
(3) بحار الأنوار ج 43 ص 195 عن الكافي .
________________________________________
وتبكي هناك .
فلمّا كان في بعض الأيام أتيت قبر حمزة فوجدتُها تبكي هناك ، فأمهلتها حتى سكنت ، فأتيتها وسلّمت عليها وقلت : يا سيّدة النسوان قد ـ والله ـ قطعتِ نياط قلبي من بكائك .
فقالت : يا أبا عمرو ، ويحقّ لي البكاء ، فلقد أصبتُ بخير الآباء : رسول الله .
وا شوقاه إلى رسول الله .
ثم أنشأت تقول :
إذا مات يوماً ميّتٌ قلَّ ذكره = وذكر أبي مذ مات ـ والله ـ أكثر (1)
أقول : المستفاد من التاريخ والأحاديث أنّ السيدة فاطمة (عليها السلام) كانت تبكي ـ علي أبيها ـ في بيتها ، فلمّا منعوها عن البكاء ، خرجت إلى أُحد ، فلمّا اشتدّ بها المرض صعب عليها الخروج إلى أُحد ، فكانت تخرج إلى البقيع وبيت الأحزان ـ كما ستقرأ ذلك ـ .
ـــــــــــــــــ
(1) بيت الأحزان للقمّي ص 141
من كتاب فاطمة الزهراء (عليها السلام) من المهد إلى اللحد
السيد محمّد كاظم القزويني
تعليق