تهنئة:
لا زلنا في رحاب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم الذي تهل علينا ذكرى ميلاده الشريف صلى الله عليه وآله وسلم الموافق للثاني من ربيع الاول على رأي أكثر المسلمين ، والسابع عشر من ربيع الاول على رأي الطائفة أعلى الله مقام المؤمنين.يقول الله جلا وعلا ، بسم الله الرحمن الرحيم : ﴿قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِّثْلُكُمْ يُوحَى إِلَيَّ أَنَّمَا إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَمَن كَانَ يَرْجُو لِقَاء رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا صَالِحًا وَلَا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا﴾ (الكهف،110). صدق الله العلي العظيم.
كشف حقيقة النبي صلى الله عليه وآله وسلم:
هذه الآية الشريفة أُمر فيها رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بان يكشف عن حقيقة نفسه للناس ، وان يقوم بتعريف نفسه الطاهرة لعامة البشر. وحصرت الآية الشريفة حقيقة الرسول في انه بشر مثل الناس يوحى اليه ﴿ أَنَّمَا إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ﴾ .
نريد أن نتوقف قليلا عند هذه الآية لنتأمل في حقيقة النبوة ، ونستفيد من هذه الآية الشريفة بعض الدروس التي تعيننا على تجاوز بعض ما يطرح في الساحة العالمية ، والإقليمية ، والمحلية ، وعلى الصعيد الاقتصادي ، أو الثقافي ، أو السياسي ، وكل ذلك مربوط بشكل وثيق جدا بحقيقة النبوة. وقد وقعت في حيرة شديدة جدا كيف ألج في هذا الموضوع ، ومن أين ابدأ ، وأي نقطة اطرح لان المشاكل كثيرة ، ولان هذه المشاكل بعضها يقود الي بعض ، وكل أمر يطرح لمشكلة يقودنا لحل مشكلة أخرى حتى نصل في الواقع الي أن هناك إبهام ، وحيرة ، وغفلة عن حقيقة النبوة .
مذهبنا وحقيقة النبوة:
وعلى مذهبنا حقيقة النبوة تعني حقيقة وباطن الإمامة ، والفرق بين النبوة والإمامة في قوله صلى الله عليه وآله وسلم: ''لا نبي بعدي''. والآية الشريفة تقول : '﴿قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِّثْلُكُمْ يُوحَى إِلَيَّ أَنَّمَا إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَمَن كَانَ يَرْجُو لِقَاء رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا صَالِحًا وَلَا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا ﴾ (الكهف،110). إن التعريف المستفاد من هذه الآية ينبغي أن يكون مبنيا على أساس دلالة هذه الآية حسب قانون اللغة. كثير من المسلمين يرى أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم كسائر الأنبياء ، بشر ويقصر حقيقته على البشرية. لذلك يحاول أن يعالج بعض الأفكار والمقامات في إطار بشرية النبي صلى الله عليه وآله وسلم فإذا وجد أن حقيقة البشر لا تساعد على تقبل هذه المواقف رفضها رفضا قاطعا ، ويقول ليس من شأن البشر الاطلاع على الغيب ، وان يأتوا بالمعاجز ، أو الولاية التكوينية ، أو ليس من شأن البشر ذلك المقام الغيبي أو غير ذلك من المقامات. ويستند على مثل هذه الآيات : ﴿قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِّثْلُكُمْ﴾.
الفهم الخاطئ لحقيقة النبوة:
والخطأ والخلل ناشئ من عدم قراءة الآية بالطريقة الصحيحة ، وليست الآية هي : ﴿قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِّثْلُكُمْ﴾ ويسكت الإنسان ، هذا خطأ وإنما هي :'﴿قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِّثْلُكُمْ يُوحَى إِلَيَّ﴾' . النبي صلى الله عليه وآله وسلمله ميزة على سائر البشر انه يوحى اليه. إذا أردت أن تعرف الإنسان فلا يجوز لك أن تقول انه حيوان وتسكت ، بل يجب أن تكمل وتقول هو حيوان عاقل ، هو حيوان ناطق. النبي صلى الله عليه وآله وسلم تعريفه : بشر يوحى اليه ، وهذه حقيقة النبي صلى الله عليه وآله وسلم.
منشأ آخر للاشتباه السابق ذكرناه وهو أن الوحي على أن الله سبحانه وتعالى من فوق عرشه جلا وعلا يأمر بعض ملائكته بان يوحي الى من يشاء من خلقه بدون أي ميزة موجودة في من يوحى اليه. لذلك يصدق بعض البلهاء إذا اتهم الشيعة بأنهم يدعون أن الوحي كان مرسلا الي علي عليه السلام وخان ألامين وانزله على النبي صلى الله عليه وآله وسلم. هذه بلاهة وغباوة ، ليس الوحي ممكنا النزول على أي شخص كان. الله سبحانه وتعالى إنما يوحي وفق قانون خاص ، لذا نحن نعتقد بان الوارد عن الرسول صلى الله عليه وآله وسلم والمبين للكتاب أن عليا عليه السلام أفضل من الأنبياء وكثيرا منهم من دون تنقيص في درجة احد من الأنبياء عليهم السلام، ولا نفرق نبينا وبينهم صلى الله عليهم أجمعين.
خصوصية الموحى اليه:
ولكن نقول الوحي قام إجماع المؤمنين والمسلمين على انه مخصوص بنبينا صلى الله عليه وآله وسلم : ''قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِّثْلُكُمْ يُوحَى إِلَيَّ''. ولعل البعض يقول انه ما تأخر الوحي إلا ظننا انه نزل عند دار فلان ، هذه الفكرة موجودة في كتب المسلمين : ''ما تأخر الوحي عني إلا ظننت انه نزل عند فلان'' . هذا خطأ لاحظوا أي شخص يكون عنده قدرة ذهنية معينة وتبين له
المعادلة 2+2 = 4 ، أي شخص عنده عقل وعنده مستوى إدراكي معقول ، هل لا يمكن أن يدرك هذه المعادلة ؟ إذا كانت الحواس سليمة والجو صافٍ وتبصر الإنسان جهة الشمس ، ألا يبصر الشمس؟ نعم سوف يبصرها.
مناقشة مسألة نزول الوحي:
إذا كان المَلَك ينزل على شخص من الأشخاص ، على واحد من البشر وكان باستطاعة غيره أن يخاطب الملك ، لِم لم يبصره إلا شخص واحد؟ نحن نتصور أن الناس يتفاوتون في إدراك الشمس ، إذا لم تكن الشمس لا تحتاج الي إدراك إلا من تحديد الجهة وجو صافٍ. إذا تصدى واحد لرؤية الشمس قد تمكن الآخرين من رؤيتها. لكن لماذا إذا تصدى شخص لروية الملك لم يستطع أن يراه إلا واحد مع أن الناس كافة مساوية له في العقل والإدراك؟
إذا قلنا أن الوحي لا يكشف عن ميزة في الموحى اليه فيجب أن يتساوى الجميع في خاصية رؤية الملك . لذلك قال البشر للأنبياء : ﴿قَالَتْ رُسُلُهُمْ أَفِي اللّهِ شَكٌّ فَاطِرِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ يَدْعُوكُمْ لِيَغْفِرَ لَكُم مِّن ذُنُوبِكُمْ وَيُؤَخِّرَكُمْ إِلَى أَجَلٍ مُّسَمًّى قَالُواْ إِنْ أَنتُمْ إِلاَّ بَشَرٌ مِّثْلُنَا تُرِيدُونَ أَن تَصُدُّونَا عَمَّا كَانَ يَعْبُدُ آبَآؤُنَا فَأْتُونَا بِسُلْطَانٍ مُّبِينٍ قَالَتْ لَهُمْ رُسُلُهُمْ إِن نَّحْنُ إِلاَّ بَشَرٌ مِّثْلُكُمْ وَلَكِنَّ اللّهَ يَمُنُّ عَلَى مَن يَشَاء مِنْ عِبَادِهِ وَمَا كَانَ لَنَا أَن نَّأْتِيَكُم بِسُلْطَانٍ إِلاَّ بِإِذْنِ اللّهِ وَعلَى اللّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ ﴾ (إبراهيم،10 -11 ).
هناك منة ، وهناك نعمة من الله جلا وعلا من بها على من يشاء من عباده. هذه النعمة لا تنزل جزافا ، لان الله تعالى لا يعبث ، لان الله تعالى حكيم. حيث يذكر جلا وعلا: ﴿اللّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالَتَهُ﴾ (الأنعام،124). هناك خصوصية معينة تستتبع نزول الوحي لا يمكن أن ينزل الوحي على من لا يؤتمن على حزمة بقل ، أو على بوال على عقبيه ، أو على من كان ظالما في أول عمره. الله سبحانه وتعالى جعل لنزول الوحي قانون ، وهذا القانون: أن الوحي لا ينزل إلا على من كان زكيا ، طيبا ، طاهرا ، من أصلاب شامخة ، وأرحام مطهرة. لا يمكن ان نتصور ان الوحي ينزل الا على مثل نبينا صلى الله عليه وآله وسلم الذي كان آباؤه مثل الشموس الطالعة في التاريخ. أما إذا كان الشخص المزعوم نزول الوحي عليه مثل معد يكرب وغيره ، هذا لا يمكن ان يكون نبيا.
أرواح الأنبياء:
ولا يمكن تصور حقيقة النبوة الا كما بينها القران الكريم . الرسل يقولون :نحن بشر ولكن الله من علينا هذا المنة ، تعني الخصوصية التي خلق الله الأنبياء عليها . الله جلا وعلا خلق الأنبياء بخصوصية معينة . في الأحاديث الشريفة عن الأئمة عليهم السلام ''ان في الأنبياء خمسة أرواح:روح الحياة ، وروح القوة ، وروح الشهوة ، روح الإيمان ، وروح القدس''.وتلك الأرواح الثلاثة الأولى مشتركة بين جميع الناس.
أما روح الإيمان فهنا يبدأ الناس في التفاوت ، والانقسام ، والتفرق.
هل روح الإيمان موجودة في المؤمنين والكفار؟ الجواب: موجودة لدى المؤمنين فقط. حيث يقول الله تعالى: ﴿لَهُمْ قُلُوبٌ لاَّ يَفْقَهُونَ بِهَا وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لاَّ يُبْصِرُونَ بِهَا وَلَهُمْ آذَانٌ لاَّ يَسْمَعُونَ بِهَا أُوْلَئِكَ كَالأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ ﴾ (الاعراف،179).
لماذا أضل؟ لان الله سبحانه وتعالى جعل لهم قوة يرتقوا الي درجة الإيمان ، ومع ذلك لا يستطيعوا ان يتجاوزوا عقبة الهوى. ولكن لو أعطى الله الأنعام القدرة على ان ترتقي لارتقت في الأسباب.
أما الكافر فلا يريد ان يرتقي في الأسباب. القران الكريم يقول:﴿'قَالَتْ رُسُلُهُمْ أَفِي اللّهِ شَكٌّ فَاطِرِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ يَدْعُوكُمْ لِيَغْفِرَ لَكُم مِّن ذُنُوبِكُمْ﴾(ابراهيم،10).
﴿بَلْ يُرِيدُ كُلُّ امْرِئٍ مِّنْهُمْ أَن يُؤْتَى صُحُفًا مُّنَشَّرَةً﴾(المدثر،52).
كل منهم يريد ان يكون نبيا حيث يقول الله تعالى: ﴿وَقَالُوا لَوْلَا نُزِّلَ هَذَا الْقُرْآنُ عَلَى رَجُلٍ مِّنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ﴾ (الزخرف،31).
الرسل يقولون ندعوكم الي الله ليغفر لكم ، وهم يشترطون على الله عز وجل شيء آخر. لا يكتفون بالمغفرة ، والذي لا يكتفي بالمغفرة يعبد الله أم يعبد هواه؟ الجواب : يعبد هواه. إذا قوله تعالى : ''قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِّثْلُكُمْ يُوحَى'' . يعني ان النبي صلى الله عليه وآله وسلم ليس بشرا صرفا وهذه نقطة مهمة. المستفاد من هذه الآية ان النبي صلى الله عليه وآله وسلم ليس كسائر البشر ، وان الأنبياء ليسوا كسائر البشر ، الأنبياء فيهم خصوصية وهذه الخصوصية هي التي تمكنهم من الولوج في عالم الملكوت.
الروح القدس:
إذا الله عز وجل يقول عن عيسى عليه السلام: ﴿وَأَيَّدْنَاهُ بِرُوحِ الْقُدُسِ﴾(البقرة،253).
روح القدس: هي روح الطهارة من كل دنس ، روح تجعل وجوداتهم المقدسة مترفعة عن كل ما يشدها الي غير الله سبحانه وتعالى.
وقد ورد في الروايات التي تعدد أرواح الأنبياء والأئمة ان روح الحياة وروح القوة وروح الشهوة يستعملها الإمام في طاعة الله تعالى . روح الشهوة وبه اشتهى طاعة الله وكره معصيته. وروح الطاعة وبها قوي على طاعة الله ونهض وجاهد . وروح الإيمان وبه آمن وعرف. وروح القدس وبه عرف ما دون العرش. وهذه الأرواح يصيبها الحدثان ، أي التبدل والتغير الا روح القدس لان هذه الروح مسددة ومؤيدة من الله عز وجل.
والله سبحانه يقول: ﴿وَلَوْلاَ أَن ثَبَّتْنَاكَ لَقَدْ كِدتَّ تَرْكَنُ إِلَيْهِمْ شَيْئًا قَلِيلاً﴾(الاسراء،74). إخواني اقرؤوها فتفهمون مغزى الآية ، أي ان النبي صلى الله عليه وآله وسلم لم يركن الي الكفار شيئا قليلا أصلا.
لماذا لم يركن النبي صلى الله عليه وآله وسلم الي الكفار؟ لان الله ثبته ، وهذا التثبيت هو روح القدس. الوحي ينزل على من ؟ يذكر الله تعالى : ﴿نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ ﴾(الشعراء،193). ﴿ فَإِنَّهُ نَزَّلَهُ عَلَى قَلْبِكَ ﴾ (البقرة،97).
أي ان قلب النبي صلى الله عليه وآله وسلم طاهر ويستطيع ان يستوعب الوحي. واما قلب غيره فلا يستطيع ان يستوعب هذا الوحي. اذا الرسل تقول : ﴿ إِن نَّحْنُ إِلاَّ بَشَرٌ مِّثْلُكُمْ وَلَكِنَّ اللّهَ يَمُنُّ عَلَى مَن يَشَاء مِنْ عِبَادِهِ وَمَا كَانَ لَنَا أَن نَّأْتِيَكُم بِسُلْطَانٍ إِلاَّ بِإِذْنِ اللّهِ﴾.
البعض يقول ان الأنبياء ليس لهم قدرة على الإتيان بالعجز ، الا بإذن من الله . وهذا القول صحيح وهذا لا يتنافى مع ما ذكرناه ، وهذا لا يتنافى ان تقول ان الأنبياء يتوقفون على ان يأذن الله لهم في إيجاد المعجز ، فان إذن الله لهم أتوا بالمعجز كما ذكر الحق جلا وعلا: ﴿فَأَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى أَنِ اضْرِب بِّعَصَاكَ الْبَحْرَ فَانفَلَقَ فَكَانَ كُلُّ فِرْقٍ كَالطَّوْدِ الْعَظِيمِ﴾(الشعراء،63).
وعجبا لمن لا يرى في نسبة القدرة الي جبرائيل عليه السلام حيث اباد قريبة لوط عليه السلام وأمثالها شركا ، ويرى ان نسبة القدرة الي الأنبياء شرك. أو يرى نسبة القدرة الي جبرائيل بإذن الله جلا وعلا موافقة للآيات ، ويرى ان نسبة القدرة الي الأنبياء مخالفة للآيات. هذا كله باطل ، اذا كان نسبة القدرة الي الأنبياء شرك ، اذا نسبة القدرة الي جبرائيل شرك أيضا. وإذا كان نسبة القدرة الي الملائكة منسجمة مع النصوص والأدلة النقليه ، فليكن هذا كذلك في الأنبياء والأئمة من دون تفصيل. الله عز وجل وما يفهم من القران الكريم ان الأنبياء أعطاهم الله القدرة على انجاز المعجز لكن بإذنه سبحانه :﴿وَ مَا كَانَ لَنَا أَن نَّأْتِيَكُم بِسُلْطَانٍ إِلاَّ بِإِذْنِ اللّهِ﴾. وقد ورد انه الله يقضي بيننا وبينكم ، لكن تلك الآيات ناظرة الي أصل القضاء ، واما كيفيته فغير ناظرة اليه. هذه الآيات ناظرة الي كيفية القضاء. اذا إذن الله تعالى أتينا بكل سلطان ، وهذا ما يفهم من هذه الآية. وقد عرفنا ماذا يستفاد من الآية الشريفة؟ وهو حقيقة النبوة لا بل حقيقة محمد صلى الله عليه وآله وسلم؟
وتعريف حقيقة محمد صلى الله عليه وآله وسلم. انه:﴿ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِّثْلُكُمْ يُوحَى إِلَيَّ﴾. ما يوحى اليه؟ ﴿ يُوحَى إِلَيَّ أَنَّمَا إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَمَن كَانَ يَرْجُو لِقَاء رَبِّهِ﴾.
نتكلم عن هذا المقطع الكريم في نقطتين:
النقطة الأولى:
المناسبة بين نزول الوحي من السماء ومضمون الوحي. '' يُوحَى إِلَيَّ أَنَّمَا'' جاءت الآية الشريفة بالحصر. يوحى الي النبي كل شيء يتناسب مع ذلك العالم. وهذا لا يعنى التخصيص في الوحي والعلم . يعنى أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم يعلم بكل شيء أوحي اليه.
الله عز وجل يقول في القران الكريم: ﴿وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِّكُلِّ شَيْءٍ﴾(النحل،89). كل شيء بدون استثناء. لكن ينبغي ان يفهم ذلك على ان سبب اختصاص هذا العلم بالنزول من السماء : ان هذا العلم لا يمكن ان يستفاد من الأرض كما ورد في الرواية الشريفة : ''ليس العلم في السماء فينزل إليكم ، ولا في الأرض فيخرج إليكم ، وإنما هو في صدوركم تخلقوا بأخلاق الروحانيين يكشف لكم''.
الوحي النازل تعلق بالتوحيد: ﴿يُوحَى إِلَيَّ أَنَّمَا إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ﴾هذا الحصر ناشئ من عظمة هذا العلم ، ومن عظمة هذه المعلومة. لا يمكن ان يعرف التوحيد بدون التسديد من الله جلا وعلا. التوحيد ليس من العلوم القابلة للتحصيل والتعلم بدون تعلم من الله جلا وعلا , والله يقول : '' وَعَلَّمَكَ مَا لَمْ تَكُنْ تَعْلَمُ ''( النساء،113). ولم يقل وعلم ما لم تعرف. ما لم تكن تعلم بمعنى انه لولا الوحي لا يعرف النبي صلى الله عليه وآله وسلم فضلا عن غيره هذه العلوم والمعارف. ولذلك كان النبي صلى الله عليه وآله وسلم خير من كرم الله سبحانه وتعالى ، لان الله ببركته فتح باب الوحي ، ولولا الوحي لم تصل البشرية في جميع مناحي الحياة الي ما وصلت اليه أصلا حتى الطاقة النووية ، والتكنولوجيا ، وغير ذلك كلها بسبب الوحي. النبي صلى الله عليه وآله وسلم أمر بعد أن بين عظما ما أوحي به اليه قال :﴿ فَمَن كَانَ يَرْجُو لِقَاء رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا صَالِحًا﴾.
النقطة الثانية:
ما هو موقع هذه الآية من قوله تعالى: '' إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِّثْلُكُمْ''. الآية الشريفة نزلت في مقام محاجة المشركين النافين للنبوة بسبب المساواة في الطبيعة بينهم وبين الأنبياء. '' قَالُواْ إِنْ أَنتُمْ إِلاَّ بَشَرٌ مِّثْلُنَا '' والأنبياء تقول : ﴿قَالَتْ لَهُمْ رُسُلُهُمْ إِن نَّحْنُ إِلاَّ بَشَرٌ مِّثْلُكُمْ﴾ والنبي صلى الله عليه وآله وسلم أمر بذلك : ﴿قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِّثْلُكُمْ يُوحَى إِلَيَّ أَنَّمَا إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ﴾.
أتريدون أن تعرفوا حقيقة نبوتي؟ أتريدون أن يباشركم الملائكة ؟ أتريدون أن يكشف لكم عالم الغيب فتبصروا إنني نبي؟ أتريدون أن ترووا الله كما رايته؟
الجواب : ﴿فَمَن كَانَ يَرْجُو لِقَاء رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا صَالِحًا﴾. هذا من تتمة الاحتجاج.
النبوة لا يمكن ان تترك لم حكم بإغلاق باب السماء : ﴿وَلَوْ نَزَّلْنَا عَلَيْكَ كِتَابًا فِي قِرْطَاسٍ فَلَمَسُوهُ بِأَيْدِيهِمْ لَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُواْ إِنْ هَذَا إِلاَّ سِحْرٌ مُّبِينٌ﴾ (الانعام،7).﴿لَقَالُواْ إِنَّمَا سُكِّرَتْ أَبْصَارُنَا بَلْ نَحْنُ قَوْمٌ مَّسْحُورُونَ ﴾ (الحجر،15).
هل يمكن ان تصل نتيجة المباحثة والمجادلة مع هؤلاء من حكم على السماء بأنها مسدودة؟
الجواب: لا يمكن ان يعترفوا بالنبوة ولا يعترفوا بالحقيقة.
تريدون ان تعرفوا الحقيقة؟ تريدون ان تعرفوا كيف ينزل جبرائيل على رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم؟
الجواب قوله تعالى: ﴿ فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا صَالِحًا وَلَا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا﴾.
الاختلاف في تحديد معيار السعادة البشرية:
الآن هل يوجد مؤمن أو مسلم يتحقق فيه عنوان الإسلام يشك أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ينزل عليه جبرائيل؟
ما الذي ميز المسلم والمؤمن عن الكافر؟
الجواب : ان المؤمن والمسلم موحد. البعض يرى ان في ذلك تحليقا في سماء عالم المثال ، وخروجا عن الواقع ، وطرح مسائل غيبية لا ارتباط لها بواقعنا. خذ من الوقع في جوهر هذه المسألة مشكلة البطالة ، والفقر ، والعنوسة ، والإسكان ، والاحتباس الحراري ، والطاقة النووية , ومشكلة النعرة الطائفية ، والتشرذم القومي ، والنزعة القبائلية البغيضة والمقيتة. كل هذه المشاكل من أين نشأت؟ نشأت من ان البشر الآن يتخبطون في وضع المعيار لتحقيق السعادة البشرية.
الأمم المتحدة عندها رؤية لحقوق الإنسان ، ودول أمريكا اللاتينية عندها رؤية تختلف ، ودول العالم الثالث عندها رؤية ثالثة ، والشيعة عندهم رؤية ، والسنة عندهم رؤية ، العرب عندهم رؤية ، والأكراد عندهم رؤية ، سوريا عندها رؤية ، مصر عندها رؤية ، والسعودية عندها رؤية ، وأهل القطيف عندهم رؤية ، وأهل جدة عندهم رؤية ، وأهل حيزان عندهم رؤية ، والاثنين من البلد الواحد عندهم رؤية مختلفة.
الاختلاف والتخلف:
الاختلاف هو سبب التخلف على صعيد الاقتصاد ، والتنمية ، والاجتماع ، والسياسة. الاختلاف فيما؟ الجواب: الاختلاف في المعيار الذي يحقق سعادة البشرية. والله عز وجل انزل إلينا هذا الكتاب ، وأرسل إلينا الرسل. أمريكا أعلنت انه لولا رسالة المسيح عليه السلام لم تكن هي أعظم قوة مادية على الأرض ، وكذلك أوروبا. وروسيا تعلم انه لولا فكرة الدين لم يقم للشيوعية عامود ، مع ان الشيوعية قائمة على الكفر والإلحاد ، لكن مع ذلك استغلوا فكرة الدين لتعبئة مشاعر الناس وتوجيه عواطفهم نحو مُثُل معينة.
الكل يتشبث بالدين. اذا أين المشكلة؟
الجواب : المشكلة في إخضاع الأديان لأهواء البشر.
ما هو الحل؟ الحل هو إتباع السماء في تحكيم القران ، ولذلك نجد ان هذه القمة الأخيرة التي وصفت بأنها أفضل القمم. وليس من الصدفة إنها تكون كذلك ويحضرها الدول الإسلامية لولا حسن التحضير ودعوة بقية الدول الإسلامية للحضور. لم تكن هذه القمة أفضل قمة إلا لأنهم تجاوزوا النعرة العصبية التي تبث الفرقة في جسد الأمة.
فإذا استكملنا مشوار التجاوز للعقبات في سبيل الوصول الي وحدة الدين ، وعبادة الله جلا وعلا ، والقران اثبت أساس الحوار حيث يذكر الله تعالى: ﴿تَعَالَوْاْ إِلَى كَلَمَةٍ سَوَاء بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلاَّ نَعْبُدَ إِلاَّ اللّهَ﴾ (ال عمران 64).هذه الكلمة السواء اذا أقيمت بحق استطعنا ان نتجاوز كثير من المشاكل. وليس من هدفي الآن ان ادخل في مشاكل العالم الإسلامي أو على الصعيد الدولي. لأنه قد تكفل الله عز وجل بحفظ هذه المصالح إنشاء الله تعالى ، ويوجد من القادة من يتصدون لهذه المسألة . وإنما أريد ان أطبق هذه الفكرة في الدائرة المحلية داخل مجتمعنا.
تساؤلات:
هذه النعرات الحزبية الموجودة عندنا والتعصبات البغيضة : فلان من الخط الفلاني ، وفلان من البلد الفلاني. المشكلة الآن تطورت ، الحزبية الآن ما اصبحت تطرح بشكلها الصريح ، الآن عندنا أطروحات – وأنا أريد ان أتحدث بتجرد دون ان احكم على احد – الآن الكل يتكلم باسم الدين ، وكل واحد عنده مشروع قال : أنا استدل على نص من النصوص ويتمسك بأذيال النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأهل بيته الطاهرين عليهم السلام. ويقول هذا الأمر لا يمكن ان يصدق ان أهل البيت عليهم السلام يحثون عليه!!! وهذا الأمر لا يخدم أهل البيت عليهم السلام!!!
استنباط أحكام أهل البيت عليهم السلام:
مطلب واحد نريده ، تعالوا فلنحكم أهل البيت عليهم السلام بيننا ونثبت أولا معرفة كيفية استنباط ومعرفة ذوق أهل البيت عليهم السلام ، وفهم رواية أهل البيت عليهم السلام ونجعل حكم أهل البيت عليهم السلام فيصل بيننا. أما ان يأتي شخص ويقول : أهل البيت عليهم السلام لا يقرون هذا المطلب. والإنسان يعلم ان هناك روايات متواترة بخلاف ما ادعاه. كيف نتصور ان هذا هو حكم أهل البيت عليه السلام. هذا يحكم هواه على حكم أهل البيت عليهم السلام.
وبالإمكان ان نضرب لكم أمثلة على ان الإنسان اذا حكم الهوى أنكر الشمس وهي طالعة في وضح النهار.
موجود الآن من علماء القرن الماضي من أنكر تواتر الأحاديث في المهدي عليه السلام. مع ان علماء المسلمين سنة وشيعة اعترفوا بتواتر أحاديث المهدي عليه السلام. اذا سلك الإنسان مسلكا كان قائده فيه الهوى ، لم يمكن ان نتعامل معه ببرهان ، أو كتاب ولا سنة.
لا يمكن ذلك كل واحد يقول : منهج أهل البيت عليهم السلام ، بين لنا كيف تحكم أهل البيت عليهم السلام، حتى نقبل منك كلام أهل البيت عليهم السلام؟ وبين لنا كيف استنبطت الحكم من أهل البيت عليهم السلام؟ النبي صلى الله عليه وىله وسلم كان يقول : ﴿مَن كَانَ يَرْجُو لِقَاء رَبِّهِ﴾ من كان يريد ان يعرف النبوة ، من أراد ان يعرف أحكام النبوة ؟ : ﴿فلْيَعْمَلْ عَمَلًا صَالِحًا﴾.
أسس بناء المشروع الديني:
لا ينبغي ان يأخذ الداعية الي الله لومة لائم ، ولا ان يبني مشروعه على أساس الاستجابة للظروف الفعلية التي اذا تغيرت تغيرت رؤيته . اليوم تنادي الي الشرق ، غدا تنادي الي الغرب ، وبعد غد تنادي الي الشمال ، وفي اليوم التالي الي الجنوب. اليوم يرى الشيء الفلاني ثابت , وغدا يرى الشئ الفلاني غير ثابت. ويتقلب حسب تقلب الرأي العام. هؤلاء لا يصلحون ان يكونوا قادة. ليس القيادة هي القدرة على جذب اكبر عدد من الناس. الم يقف عامة الناس ضد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم؟ الم يكن أمير المؤمنين عليه السلام اقل الصحابة أنصارا؟ اهكذا تحسب القيادة ؟ أتحسب القيادة بنجاح الإنسان باقتياد قطيع من الناس تعد رؤوسهم فكل من كان قطيعه أكثر عددا فهو انجح قيادةً. هؤلاء ينعقون وراء كل ناعق. والمشكلة ان هذا متبادل بين الناس ، الناس تنعق والقائد ينعق وراءهم لانه يطرح ما يريدون ، هكذا تريد الجماهير.
ينبغي ان نحكم الدين ، وتحكيم الدين مسألته في تقرير كيفية الاستنباط . هذه مسالة مهمة ، ويحب ان نعترف بوجود أنظار مختلفة ، وأساليب مختلفة في طرق الاستنباط ، ومعرفة الأحكام . وينبغي ان نعترف بذلك ونحدد هذه النقطة مبدأ للنقاش في تحديد آلية التطبيق ، أو تحديد مشروع الدين . يعني قبل ان تستعجل وتطرح مشروعك الديني تعال فلنتكلم معك عن الآلية التي تستخدمها في تحديد المشروع الديني. ولعل البعض يرى في أصل الإقرار في الخلاف بهذه النقطة تنازلا عن شيء عظيم ، لا بأس بذلك فلنتنازل.
كيف نستنبط؟ هل عندنا شك ان الاستنباط يحتاج الي ان يكرس الإنسان من عمره عشرين سنة على الأقل في دراسة الدين ؟وهل يستطيع احد ان يستنبط في الدين من دون ان يتخصص فيما لا يقل عن عشرة من العلوم؟ وهل كل واحد جاء وكتب مقال ، أو كل منهم يقول نحن أولى الناس بالدين !!! هل تريدون من العلماء ان يدعوا العصمة؟ هل تريدون من المراجع ان يدعوا ان غيرهم يخطئ وهو يصيبون؟ لا يكون ذلك ، لان المراجع أولى الناس معرفة بان مقدرتهم الذهنية محدودة وليست المسألة بالعصمة المطلقة ولا بالخطأ المطلق. المسألة في المقياس والمعيار الذي تعرف به الأحكام ثم نسبة الخطأ بعد ذلك تكون مقبولة ومعقولة حتى في تحديد هذا المعيار نحن على الأقل فلنمارس تحديد المعيار وفق الآلية التي أسسها لنا أهل البيت عليهم السلام ووفق المشروع الديني. حينئذ يكون قد تجاوزنا الكثير من المشاكل.
اسأل الله عز وجل ان يوفقنا وإياكم لما يحب ويرضى ، وصلى الله على محمد واله.
"عاشقة النور"
تعليق