السلام عليكم ورحمة الله وبركاته
وداع
ودعني ومضى .. شعرت أن آمالي قد انهارت في لحظة ، وأن أبواب السعادة أُقفلت في وجهي .. هو أحب إخواني كيف أخسره ، كيف تطيب لي الحياة إن لم يبادرني ببسمته الرقيقة .. كيف سأستيقظ دون أن أتحرش به أقلق راحته " قم أيها الكسول" .
كيف ستمر أيامي ، ولمن سأحكي ما مر بي ، كيف سيمضي اليوم دون المقالب التي كنا نُعِدَّها ، دون أن نرسم على جدران الحي خربشاتنا ، دون أن نشاكس أهلنا ، ونُغضِب إخوتنا بتحالفاتنا المزعجة ..
تسارعت الذكريات بدفقٍ عارِم ، وأخذت ذكرى الأمس تنخر دماغي ، الذي أصابه الشلل ، ولم يعد ُيدرك سوى حقيقة لا لِبسَ فيها ، أن توأم روحي قد رحل .
نعم رحل وبقيت هنا وحدي ، أكتب التاريخ الذي اعتراه الصدأ ، على أرض غيَّر معالمها الصقيع ، وصارت غربان الحزن تنعب في أجواءها ، والذئاب المرعبة تصم الآذان بعوائها ، فيتصاعد شيئاً فشيئاً ، فتصدر مني صرخة كبيرة فتبتلع الأصوات كلها لتظهر صورة التشنج المرير الذي داهم أعصابي .
ومضت الأسابيع ..
أسبوع ، أسبوعان ، وأخي صامت .. وكأن الدهر القاسي سلبه عني ، والطمأنينة لم تعد تلامس فضاءات أيامي ، ولم يعد صوته يصل إلي ليلقي على مسامعي ترانيم المحبة التي اعتاد أن يغمرني بها .
هل تسرب صقيع الغربة إلى قلبك الرقيق فغشاه ببعض القسوة ، أم تراك وقعت في ضيق وتخشى أن تخبرني كي لا يتسلل القلق إلى نفسي فيتمزق قلبي ، أم خفت أن يخف وهج مشاعري نحوك إذا أحسست بالبرود يغطي صوتك ..؟؟
وأخيراً .. رن الهاتف ، أحسست أن أجنحة وردية أخذتني إلى مرابع السعادة ، وكان صوتك بنبرته العذبة يسقط في مسامعي برقة لا يُحِسُّها إلا من سُلبت منه الطمأنينة لأجدك ضارعاً بين يدي ..
طمنيني أختي كيف حالك ؟
بخير أخي مشتاقة لرؤيتك
كيف الدروس ؟
كما هي تبعث الملل
وأنت كيف درسك ؟
ليس بحال أفضل منك ِ
وأخذ يكلمني بمواضيع شتى ، حاولت أن أجمع من كلامه أشلاء أخي التي انتثرت في الأرجاء ، وألملم شتاته فهو الإنسان الوحيد الذي تبوأ مكانة عظمى في نفسي ..
ولكني شعرت أن الأشلاء ذرتها الرياح ، فهو ليس أخي الذي فارقني وهذا ليس صوته الحنون الرقيق الذي اعتدت أن أسمعه ، وكأنه بكلامي كان يؤدي واجباً ليس أكثر ، كان كمن يتحدث إلى جماد وليس لأخته التي كانت تشاطره تفاصيل أيامه ، وأفراحه وأحزانه ..
كنت قد ادخرت له كل الأحداث لأسردها له ، كل ما جرى خلال الأسبوعين الماضيين ، وانتظرت أن يسألني عن الأخبار ، لكنه لم يسأل ، أحسست أنه يؤدي واجباً ثقيلاً عليه أو فرضاً فرض عليه وهو ملزم بأن لا يحيد عنه قيد أنملة ، فكلماته بالقطارة على قياس أحاسيسه ، التي كان ينتقيها بعناية ، وبدون وعي مني صارت دموعي تجري على وجنتي ، حداداً على الأعز الذي فقدته وهو حي يرزق .. وصرت أدندن بكلمات الرثاء ، لأيام وذكريات لن تعود ..
هل تريد شيئاً سأغلق الهاتف ؟
أريد أن أكلم والدتي .
سأناديها ..
مع السلامة ..
ناولت السماعة لأمي ، وأنا أحاول أن أجمع شتات نفسي ، وروحي المشظاة التي نسفتها عبوات الألم .. ألم لمستقبل كنت أتوق إليه لكني لن أعيشه . وأمس ذهب بذكرياته دون عودة ..
حملت كوب الشاي وجلست على شرفة غرفتي ، وأطبق الصمت حولي ، كأنه صمت القبور الدارسة ، صرت أحدث نفسي ، فقد فقدت توأمي الذي كنت أناجيه وأشكو إليه .. بقيت لي نفسي وحدها ..
أحسست بحاجة لسماع صهيل حصان جامح ، أخذ يحمحم في قلبي الخاوي ، فيعود الصدى مدوياً فيهدم أفكاري التعيسة و مشاعري الجياشة ، التي لم تعد موجودة إلا في خيالاتي وأحلامي .. أحلامي أنا فقط ..
تِقتُ لصدمة تعيد إلي ذاكرة الواقع ، وتهدم برج الحلم العاجي الذي كنت أنظر لما حولي من خلاله ..
الآن ..
جمعت الذكريات والمشاعر ورحت أؤدي الصلاة على أحلام فجرتها عبوة موقوتة . وبسكون حفرت قبراً للأمس السارب ودفنته ببرودة جليدية ، وأهلت عليه أغبرة النسيان , وغطيته بوشاحي الأسود ، ورمقته بنظرة عاتبة ، ومضيت نحو المجهول ..
أفقت على صوت أبي : تعالي اجلسي معنا يا ابنتي .. فاستجبت له ..
شهر مرَّ ، والأمس على حاله والغد سيكون كما هو .
لقد أحسنت صنعاً بدفن الذكريات . لأن أجزاءها كانت بحاجة إلى عملية صيانة جديدة ، قد تستنزفني ويكلفني جمعها من الألم والمكابدة أكثر مما كابدته من مشقة حتى الآن .
وها هي الأيام تتسارع ، لم أعد أميزها عن غيرها إلا بالأسماء ، فأمس كان ثلاثاء واليوم أربعاء وهكذا دواليك ، وأنا أراها تنزلق أمامي في جيب الزمن ليواريها ..
وفقدت الإهتمام حين أسمع رنين الهاتف ، فهو فقد ألقه .. وهالة القداسة التي كانت تحيط به من قبل .. اختفى وهجه المزيف الذي كان يحملني إلى فضاءات القمر ولم يعد قلبي يرقص لرنينه .
حتى سطح القمر صار بالنسبة لي أرض لا حياة فيها ..وفوهة بركان خامد ..
رن جرس الهاتف ، وكأن أطرافي أصابها الشلل ، لم أتحرك من مقعدي ، وبقيت سارحة في الفراغ ، لما وراء خط الأفق ، أخط حروف الأمس ، أكتبها على أوردتي ، فيتبخر المصل المشبع حباً ويبقى الألم مترسباً يجوس في أجزاء جسدي المتعب .
لم أتحرك من مكاني .
وجاء صوت والدتي مدوياً : لكنني أحسسته آتٍ من برزخ القبور ..
" ربما يكون أخوكِ ، ألا تريدين الرد ؟"
" سلموا عليه "
وعدت أرتفع مع دوائر الدخان ، لذكريات مضت ، علها تحملني للماضي القريب ، إلى سدرة المنتهى ..
وداع
وداع
ودعني ومضى .. شعرت أن آمالي قد انهارت في لحظة ، وأن أبواب السعادة أُقفلت في وجهي .. هو أحب إخواني كيف أخسره ، كيف تطيب لي الحياة إن لم يبادرني ببسمته الرقيقة .. كيف سأستيقظ دون أن أتحرش به أقلق راحته " قم أيها الكسول" .
كيف ستمر أيامي ، ولمن سأحكي ما مر بي ، كيف سيمضي اليوم دون المقالب التي كنا نُعِدَّها ، دون أن نرسم على جدران الحي خربشاتنا ، دون أن نشاكس أهلنا ، ونُغضِب إخوتنا بتحالفاتنا المزعجة ..
تسارعت الذكريات بدفقٍ عارِم ، وأخذت ذكرى الأمس تنخر دماغي ، الذي أصابه الشلل ، ولم يعد ُيدرك سوى حقيقة لا لِبسَ فيها ، أن توأم روحي قد رحل .
نعم رحل وبقيت هنا وحدي ، أكتب التاريخ الذي اعتراه الصدأ ، على أرض غيَّر معالمها الصقيع ، وصارت غربان الحزن تنعب في أجواءها ، والذئاب المرعبة تصم الآذان بعوائها ، فيتصاعد شيئاً فشيئاً ، فتصدر مني صرخة كبيرة فتبتلع الأصوات كلها لتظهر صورة التشنج المرير الذي داهم أعصابي .
ومضت الأسابيع ..
أسبوع ، أسبوعان ، وأخي صامت .. وكأن الدهر القاسي سلبه عني ، والطمأنينة لم تعد تلامس فضاءات أيامي ، ولم يعد صوته يصل إلي ليلقي على مسامعي ترانيم المحبة التي اعتاد أن يغمرني بها .
هل تسرب صقيع الغربة إلى قلبك الرقيق فغشاه ببعض القسوة ، أم تراك وقعت في ضيق وتخشى أن تخبرني كي لا يتسلل القلق إلى نفسي فيتمزق قلبي ، أم خفت أن يخف وهج مشاعري نحوك إذا أحسست بالبرود يغطي صوتك ..؟؟
وأخيراً .. رن الهاتف ، أحسست أن أجنحة وردية أخذتني إلى مرابع السعادة ، وكان صوتك بنبرته العذبة يسقط في مسامعي برقة لا يُحِسُّها إلا من سُلبت منه الطمأنينة لأجدك ضارعاً بين يدي ..
طمنيني أختي كيف حالك ؟
بخير أخي مشتاقة لرؤيتك
كيف الدروس ؟
كما هي تبعث الملل
وأنت كيف درسك ؟
ليس بحال أفضل منك ِ
وأخذ يكلمني بمواضيع شتى ، حاولت أن أجمع من كلامه أشلاء أخي التي انتثرت في الأرجاء ، وألملم شتاته فهو الإنسان الوحيد الذي تبوأ مكانة عظمى في نفسي ..
ولكني شعرت أن الأشلاء ذرتها الرياح ، فهو ليس أخي الذي فارقني وهذا ليس صوته الحنون الرقيق الذي اعتدت أن أسمعه ، وكأنه بكلامي كان يؤدي واجباً ليس أكثر ، كان كمن يتحدث إلى جماد وليس لأخته التي كانت تشاطره تفاصيل أيامه ، وأفراحه وأحزانه ..
كنت قد ادخرت له كل الأحداث لأسردها له ، كل ما جرى خلال الأسبوعين الماضيين ، وانتظرت أن يسألني عن الأخبار ، لكنه لم يسأل ، أحسست أنه يؤدي واجباً ثقيلاً عليه أو فرضاً فرض عليه وهو ملزم بأن لا يحيد عنه قيد أنملة ، فكلماته بالقطارة على قياس أحاسيسه ، التي كان ينتقيها بعناية ، وبدون وعي مني صارت دموعي تجري على وجنتي ، حداداً على الأعز الذي فقدته وهو حي يرزق .. وصرت أدندن بكلمات الرثاء ، لأيام وذكريات لن تعود ..
هل تريد شيئاً سأغلق الهاتف ؟
أريد أن أكلم والدتي .
سأناديها ..
مع السلامة ..
ناولت السماعة لأمي ، وأنا أحاول أن أجمع شتات نفسي ، وروحي المشظاة التي نسفتها عبوات الألم .. ألم لمستقبل كنت أتوق إليه لكني لن أعيشه . وأمس ذهب بذكرياته دون عودة ..
حملت كوب الشاي وجلست على شرفة غرفتي ، وأطبق الصمت حولي ، كأنه صمت القبور الدارسة ، صرت أحدث نفسي ، فقد فقدت توأمي الذي كنت أناجيه وأشكو إليه .. بقيت لي نفسي وحدها ..
أحسست بحاجة لسماع صهيل حصان جامح ، أخذ يحمحم في قلبي الخاوي ، فيعود الصدى مدوياً فيهدم أفكاري التعيسة و مشاعري الجياشة ، التي لم تعد موجودة إلا في خيالاتي وأحلامي .. أحلامي أنا فقط ..
تِقتُ لصدمة تعيد إلي ذاكرة الواقع ، وتهدم برج الحلم العاجي الذي كنت أنظر لما حولي من خلاله ..
الآن ..
جمعت الذكريات والمشاعر ورحت أؤدي الصلاة على أحلام فجرتها عبوة موقوتة . وبسكون حفرت قبراً للأمس السارب ودفنته ببرودة جليدية ، وأهلت عليه أغبرة النسيان , وغطيته بوشاحي الأسود ، ورمقته بنظرة عاتبة ، ومضيت نحو المجهول ..
أفقت على صوت أبي : تعالي اجلسي معنا يا ابنتي .. فاستجبت له ..
شهر مرَّ ، والأمس على حاله والغد سيكون كما هو .
لقد أحسنت صنعاً بدفن الذكريات . لأن أجزاءها كانت بحاجة إلى عملية صيانة جديدة ، قد تستنزفني ويكلفني جمعها من الألم والمكابدة أكثر مما كابدته من مشقة حتى الآن .
وها هي الأيام تتسارع ، لم أعد أميزها عن غيرها إلا بالأسماء ، فأمس كان ثلاثاء واليوم أربعاء وهكذا دواليك ، وأنا أراها تنزلق أمامي في جيب الزمن ليواريها ..
وفقدت الإهتمام حين أسمع رنين الهاتف ، فهو فقد ألقه .. وهالة القداسة التي كانت تحيط به من قبل .. اختفى وهجه المزيف الذي كان يحملني إلى فضاءات القمر ولم يعد قلبي يرقص لرنينه .
حتى سطح القمر صار بالنسبة لي أرض لا حياة فيها ..وفوهة بركان خامد ..
رن جرس الهاتف ، وكأن أطرافي أصابها الشلل ، لم أتحرك من مقعدي ، وبقيت سارحة في الفراغ ، لما وراء خط الأفق ، أخط حروف الأمس ، أكتبها على أوردتي ، فيتبخر المصل المشبع حباً ويبقى الألم مترسباً يجوس في أجزاء جسدي المتعب .
لم أتحرك من مكاني .
وجاء صوت والدتي مدوياً : لكنني أحسسته آتٍ من برزخ القبور ..
" ربما يكون أخوكِ ، ألا تريدين الرد ؟"
" سلموا عليه "
وعدت أرتفع مع دوائر الدخان ، لذكريات مضت ، علها تحملني للماضي القريب ، إلى سدرة المنتهى ..
تعليق