التفاعل بين الفكر الأصولي والفكر الفقهي
آية الله السيد محمد باقر الصدر (قدس سره)
عرفنا أن علم الأصول يقوم بدور المنطق بالنسبة إلى علم الفقه والعلاقة بينهما علاقة النظرية والتطبيق، وهذا الترابط الوثيق بينهما يفسر لنا التفاعل المتبادل بين الذهنية الأصولية على صعيد النظريات من ناحية وبين الذهنية الفقهية على صعيد التطبيق من ناحية أخرى، لان توسع بحوث التطبيق يدفع بحوث النظرية خطوة إلى الامام لأنه يثير أمامها مشاكل ويضطرها إلى وضع النظريات العامة لحولها، كما أن دقة البحث في النظريات الأصولية تنعكس على صعيد التطبيق إذ كلما كانت النظريات أوفر وأدق تطلبت طريقة تطبيقها دقة وعمقا أكبر.
وهذا التفاعل بين الذهنيتين الأصولية والفقهية يؤكده تاريخ العلمين على طول الخط، وتكشف عنه بوضوح دراسة المراحل التي مر بها البحث الفقهي والبحث الأصولي في تاريخ العلم، فقد نشأ علم الأصول في أحضان علم الفقه كما نشأ علم الفقه في أحضان علم الحديث.
ولم يكن علم الأصول مستقلا عن علم الفقه في البداية ومن خلال نمو علم الفقه واتساع أفق التفكير الفقهي أخذت الخيوط العامة، والعناصر المشتركة في عملية الاستنباط تبدو وتتكشف وأخذ الممارسون للعمل الفقهي يلاحظون اشتراك عمليات الاستنباط في عناصر عامة لا يمكن استخراج الحكم الشرعي بدونها، وكان ذلك إيذانا بمولد علم الأصول واتجاه الذهنية الفقهية اتجاها أصوليا، فانفصل علم الأصول عن علم الفقه في البحث والتصنيف وأخذ يتسع ويشرى تدريجا من خلال نمو الفكر الأصولي من ناحية وتبعا لتوسع البحث الفقهي من ناحية أخرى، لان اتساع نطاق التطبيق الفقهي كان يلفت أنظار الممارسين إلى مشاكل جديدة فتوضع للمشاكل حلولها المناسبة وتتخذ الحلول صورة العناصر المشتركة في علم الأصول.
وكلما بعد الفقيه عن عصر النص تعدد جوانب الغموض في فهم الحكم من مداركه الشرعية وتنوعت الفجوات في عملية الاستنباط نتيجة للبعد ألزمني، فيحس أكثر فأكثر بالحاجة إلى تحديد قواعد عامة يعالج بها جوانب الغموض ويملا بها تلك الفجوات، وبهذا كانت الحاجة إلى علم الأصول تاريخية بمعنى أنها تشتد وتتأكد كلما ابتعد الفقيه تاريخيا عن عصر النص وتراكمت الشكوك على عملية الاستنباط التي يمارسها.
وعلى هذا الأساس يمكن أن نفسر الفارق ألزمني بين إزدهار علم الأصول في نطاق التفكير الفقهي السني وازدهاره في نطاق تكفيرنا الفقهي الامامي، فإن التاريخ يشير إلى أن علم الأصول ترعرع وازدهر نسبيا في نطاق الفقه السني قبل ترعرعه وازدهاره في نطاقنا الفقهي الامامي، وذلك لان المذهب السني كان يزعم انتهاء عصر النصوص بوفاة النبي صلى الله عليه وآله فحين اجتاز الفكر الفقهي السني القرن الثاني كان قد ابتعد عن عصر النصوص بمسافة زمنية كبيرة تخلق بطبيعتها الثغرات والفجوات.
وأما الامامية فقد كانوا وقتئذ يعيشون عصر النص الشرعي لان الامام امتداد لوجود النبي فكانت المشاكل التي يعانيها فقهاء الامامية في الاستنباط أقل بكير إلى الدرجة التي لا تفسح المجال للاحساس بالحاجة الشديدة إلى وضع علم الأصول ولهذا نجد أن الامامية بمجرد ان انتهى عصر النصوص بالنسبة إليهم ببدء الغيبة أو بانتهاء الغيبة الصغرى بوجه خاص تفتحت ذهنيتهم الأصولية وأقبلوا على درس العناصر المشتركة.
وهذا لا يعني طبعا أن بذور التفكير الأصولي لم توجد لدى فقهاء أصحاب الأئمة بل قد وجدت هذه البذور منذ أيام الصادقين عليهما السلام على المستوى المناسب لتلك المرحلة، ومن الشواهد التاريخية على ذلك ما ترويه كتب الحديث من أسئلة ترتبط بجملة من العناصر المشتركة في عملية الاستنباط وجهها عدد من الرواه إلى الإمام الصادق وغيره من الأئمة عليهم السلام وتلقوا جوابا منهم، فإن تلك الأسئلة تكشف عن وجود بذرة التفكير الأصولي عندهم.
ويعزز ذلك أن بعض أصحاب الأئمة ألفوا رسائل في بعض المسائل الأصولية كهشام بن الحكم من أصحاب الإمام الصادق الذي روي أنه ألف رسالة في الألفاظ.
آية الله السيد محمد باقر الصدر (قدس سره)
عرفنا أن علم الأصول يقوم بدور المنطق بالنسبة إلى علم الفقه والعلاقة بينهما علاقة النظرية والتطبيق، وهذا الترابط الوثيق بينهما يفسر لنا التفاعل المتبادل بين الذهنية الأصولية على صعيد النظريات من ناحية وبين الذهنية الفقهية على صعيد التطبيق من ناحية أخرى، لان توسع بحوث التطبيق يدفع بحوث النظرية خطوة إلى الامام لأنه يثير أمامها مشاكل ويضطرها إلى وضع النظريات العامة لحولها، كما أن دقة البحث في النظريات الأصولية تنعكس على صعيد التطبيق إذ كلما كانت النظريات أوفر وأدق تطلبت طريقة تطبيقها دقة وعمقا أكبر.
وهذا التفاعل بين الذهنيتين الأصولية والفقهية يؤكده تاريخ العلمين على طول الخط، وتكشف عنه بوضوح دراسة المراحل التي مر بها البحث الفقهي والبحث الأصولي في تاريخ العلم، فقد نشأ علم الأصول في أحضان علم الفقه كما نشأ علم الفقه في أحضان علم الحديث.
ولم يكن علم الأصول مستقلا عن علم الفقه في البداية ومن خلال نمو علم الفقه واتساع أفق التفكير الفقهي أخذت الخيوط العامة، والعناصر المشتركة في عملية الاستنباط تبدو وتتكشف وأخذ الممارسون للعمل الفقهي يلاحظون اشتراك عمليات الاستنباط في عناصر عامة لا يمكن استخراج الحكم الشرعي بدونها، وكان ذلك إيذانا بمولد علم الأصول واتجاه الذهنية الفقهية اتجاها أصوليا، فانفصل علم الأصول عن علم الفقه في البحث والتصنيف وأخذ يتسع ويشرى تدريجا من خلال نمو الفكر الأصولي من ناحية وتبعا لتوسع البحث الفقهي من ناحية أخرى، لان اتساع نطاق التطبيق الفقهي كان يلفت أنظار الممارسين إلى مشاكل جديدة فتوضع للمشاكل حلولها المناسبة وتتخذ الحلول صورة العناصر المشتركة في علم الأصول.
وكلما بعد الفقيه عن عصر النص تعدد جوانب الغموض في فهم الحكم من مداركه الشرعية وتنوعت الفجوات في عملية الاستنباط نتيجة للبعد ألزمني، فيحس أكثر فأكثر بالحاجة إلى تحديد قواعد عامة يعالج بها جوانب الغموض ويملا بها تلك الفجوات، وبهذا كانت الحاجة إلى علم الأصول تاريخية بمعنى أنها تشتد وتتأكد كلما ابتعد الفقيه تاريخيا عن عصر النص وتراكمت الشكوك على عملية الاستنباط التي يمارسها.
وعلى هذا الأساس يمكن أن نفسر الفارق ألزمني بين إزدهار علم الأصول في نطاق التفكير الفقهي السني وازدهاره في نطاق تكفيرنا الفقهي الامامي، فإن التاريخ يشير إلى أن علم الأصول ترعرع وازدهر نسبيا في نطاق الفقه السني قبل ترعرعه وازدهاره في نطاقنا الفقهي الامامي، وذلك لان المذهب السني كان يزعم انتهاء عصر النصوص بوفاة النبي صلى الله عليه وآله فحين اجتاز الفكر الفقهي السني القرن الثاني كان قد ابتعد عن عصر النصوص بمسافة زمنية كبيرة تخلق بطبيعتها الثغرات والفجوات.
وأما الامامية فقد كانوا وقتئذ يعيشون عصر النص الشرعي لان الامام امتداد لوجود النبي فكانت المشاكل التي يعانيها فقهاء الامامية في الاستنباط أقل بكير إلى الدرجة التي لا تفسح المجال للاحساس بالحاجة الشديدة إلى وضع علم الأصول ولهذا نجد أن الامامية بمجرد ان انتهى عصر النصوص بالنسبة إليهم ببدء الغيبة أو بانتهاء الغيبة الصغرى بوجه خاص تفتحت ذهنيتهم الأصولية وأقبلوا على درس العناصر المشتركة.
وهذا لا يعني طبعا أن بذور التفكير الأصولي لم توجد لدى فقهاء أصحاب الأئمة بل قد وجدت هذه البذور منذ أيام الصادقين عليهما السلام على المستوى المناسب لتلك المرحلة، ومن الشواهد التاريخية على ذلك ما ترويه كتب الحديث من أسئلة ترتبط بجملة من العناصر المشتركة في عملية الاستنباط وجهها عدد من الرواه إلى الإمام الصادق وغيره من الأئمة عليهم السلام وتلقوا جوابا منهم، فإن تلك الأسئلة تكشف عن وجود بذرة التفكير الأصولي عندهم.
ويعزز ذلك أن بعض أصحاب الأئمة ألفوا رسائل في بعض المسائل الأصولية كهشام بن الحكم من أصحاب الإمام الصادق الذي روي أنه ألف رسالة في الألفاظ.
تعليق