محاضرات سماحة آية الله العظمى السيد صادق الحسيني الشيرازي دام ظله في شرح دعاء مكارم الاخلاق
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين، والصلاة على محمد وآله الطاهرين واللعن الدائم على أعدائهم أجمعين. *
يقول الإمام السجاد سلام الله عليه في دعائه: «اللهم وفـّر بلطفك نيّتي، وصحّح بما عندك يقيني».
تقدم بعض الحديث عن النية، ولكن حيث إن النية من المسائل المهمة جداً، ينبغي لنا أن نقف وقفة أخرى عندها.
وقلنا إن النية بحاجة إلى الصيانة والإكمال، ولذلك قال الإمام زين العابدين سلام الله عليه في أول دعاء مكارم الأخلاق: «اللهم وفّر بلطفك نيتي»، لأن التوفير بمعنى الصيانة والإكمال.
إن الإنسان مع ما أودع الله تعالى فيه من الطاقات الضخمة، كثيراً ما يضعف عن صيانة نيته وحفظها، وكثيراً ما يعجز عن الصعود والارتقاء بها إلى درجات الكمال العليا؛ ولذلك يقول الإمام السجاد سلام الله عليه: «اللهم وفّر بلطفك نيتي» أي أنت يا إلهي خذ بيدي واصعد بي.
:. النية إطار العمل ومانحه لونه
والنية إطار العمل، فالعمل لا لون له، مثل الماء الشفاف الذي لم تخالطه أجزاء ترابية أو شوائب أخرى. فلو كان الماء صافياً جداً وصُبّ في إناء زجاجي شفاف أيضاً، لا يتمكن الإنسان أن يبصر حدّ الماء من بعيد بسهولة إذا كان ساكناً لا تموّج فيه، وذلك لأن الماء في الأصل لا لون فيه وإنما يكتسب اللون مما يُصبّ أو يوضع فيه أو يمتزج معه، وهكذا الهواء، فإن أطناناً منه تحيط بنا ولكننا لا نبصره لأنه شفاف.
إذا اتضح مثال الماء والهواء نقول إن العمل كالماء وإن النية كالشيء الذي يمنحه لونه. وإليك الأمثلة:
زيد يدرّس، ولكن المهم هو الداعي الذي يدرّس من أجله فإن كان إلهياً قلنا إن عمله وهو التدريس إلهي، وإلا كان له لون آخر كالشيطاني أو الدنيوي وما أشبه. وهكذا الحال مع كل عمل سواء كان تدريساً أو دراسة أو خطابة أو تأليفاً أو بناء مسجد أو أي عمل آخر.
مثال آخر: شخص شتمك ولكنك حلمت، فالحلم شيء صعب وجميل، ولكن الأصعب من الحلم تأطيره بنية إلهية. أما إذا كان الدافع لاستعمالك الحلم أن تقوّي مركزك بين الأصدقاء أو يقال عنك حليم، أو تعلن للناس أنك قوي الإرادة، فهذا يختلف عمن يحلم لعلمه أن الله يحب الحلم ويدعو إليه، ولكلٍّ حساب!
:. لا عمل إلا بنية
ثمة أحاديث كثيرة بهذا المضمون، ذكر بعضها صاحب الوسائل رحمه الله في مقدمة كتابه(1).
و «لا» هنا نافية للجنس؛ لأن اسمها مبني على الفتح، وهي تختلف في أدائها ومدلولها عن «لا» المشبهة بـ «ليس» في كونها تنفي جنس الشيء وهو العمل في المقام. وهذا معناه أن العمل واللا عمل سيان إذا لم يكن بنية، وبتعبير أدق العمل بلانية واللاعمل سواء، وليس المقصود نفي الحقيقة والواقع الخارجي بل نفي الاعتبار والواقع المطلوب. فمن واصل الدراسة لمدة عشرين أو ثلاثين سنة حتى بلغ مرحلة الاجتهاد، فهو يعبر عن وجود همة وأن صاحبها رجل قويّ، فكيف لا يعدّ ما بذله من جهد عملاً؟! وهكذا من عمِل إطعاماً أو ألقى خطاباً استوجب مدح الناس وإعجابهم كيف يقال عما صدر منه أنه لا عمل إن لم يكن مقترناً بالنية؟ لا شك أن المقصود هو نفي الاعتبار وليس الحقيقة. وتوضيحه بمثال:
لو أن شخصاً ألّف كتاباً ضخماً وأتعب نفسه في تأليفه ثم قدّمه لعالِم والتمسه أن يكتب له تقريظاً، ولكن العالم اكتشف بعد مطالعته الكتاب أنه لا قيمة له من الناحية العلمية والموضوعية واعتذر لصاحبه من كتابة التقريظ قائلاً: إن هذا ليس بكتاب أصلاً، فماذا نفهم؟ هل نفي الواقع المادي الملموس والخارجي للكتاب المؤلَّف من أوراق كتبت عليها عبارات وخطوط، أم نفي توفر الكتاب على الشروط التي يستحق معها أن يسمى كتاباً كما ينبغي.
إذن ما كتبه الكاتب في المثال هو كتاب، وليس بكتاب. هو كتاب خارجاً وحقيقة، ولكنه ليس كتاباً اعتباراً، أي وفق الشروط التي يعتبرها أهل الفن للكتاب المقبول.
إذا اتضح هذا المثال نقول: هكذا نفهم تماماً الأحاديث الشريفة التي تقول إنه لا عمل بلا نية.
وسيأتي يوم ينتشر هذا اللاعمل بعدد أعمال الخلائق، فلكل فرد منا مئات الملايين من الأعمال في حياته، لأن العمل ليس منبراً أو تأليفاً أو تدريساً أو بناء حسينية وحسب، بل كل نظرة وكل نفحة، وكل خطور وكل تأمل وتفكر، وكل لمسة وهمسة ولمزة وخلسة، وكل استماع ونجوى وتعبير، وستجتمع هذه الأعمال عند الله تعالى وتنشر يوم القيامة، ويكشف عندها عن عدد هائل من اللاعمل بعدد مصاديق الأعمال المجردة عن النية الحسنة.
:. ولا عمل ولا نية إلا بإصابة السنة
وهذا تتمة الحديث(2)، وإن لم يكن مورد بحثنا الآن، ولكن لا بأس بإشارة سريعة إليه لأهميته. ولعل خير مثال يوضّح هذا المعنى هم أولئك الذين كفّروا الإمام أمير المؤمنين سلام الله عليه وشهروا سيوفهم في وجهه بنية التقرب إلى الله تعالى!
فكيف يتصور قبول عمل من شهر سيفه في وجه علي وهو سلام الله عليه ميزان الأعمال يوم القيامة؟! أي بأعمال علي سلام الله عليه توزن أعمال العباد ليعرف ثقلها ﴿فأما من ثقلت موازينه… وأما من خفّت موازينه…﴾(3).
أيعقل أن يجعل اللهُ تعالى علياً هو الميزان والمعيار لأعمال العباد والفيصل بين الحق والباطل، الذي يدور الحق معه حيثما دار(4)، ثم يدعو لمحاربته وإشهار السيف بوجهه؟!
ولكنا نرى قوماً هذا فعلهم ومع ذلك ذكر المؤرخون أنه عندما طُعن أحدهم في حرب النهروان برمح في صدره دفع صدره إلی الإمام وقرأ هذه الآية الكريمة: ﴿وعجلتُ إليك رب لترضى﴾ (سورة طه: 84)(5). فهذا عنده عمل وعنده نية ولكن عمله ونيته ما أصابا السنة، فهذا أيضاً يكون عمله من مصاديق «لاعمل».
:. النية قبل العمل وحين العمل وبعد العمل
وفي الأحاديث أن النية لون العمل وأنها قبل العمل وحين العمل وبعد العمل لا فرق. فالنية حتى إن فسدت بعد العمل فهي تُفسد العمل، ولكن الفقهاء (رضوان الله عليهم) سهّلوا علينا الأمر وقالوا إن النية حين العمل إذا كانت لغير الله وكانت رياء مثلاً فهي تبطل العمل، ولكنها إن فسدت بعد العمل فهي لا تبطل العمل. وهذا الفهم ليس من باب التناقض مع مفهوم الروايات المتقدمة بل هو فهم يفرّق بين البطلان وبين عدم القبول، وهو مستفاد من روايات أخرى طبعاً. ويمكن توضيح المطلب بمثال:
لو أن شخصاً نوى أن يصلي رياء أي كانت نيته فاسدة قبل العمل، أو صدر منه الرياء أثناء الصلاة كما لو حضر في المكان شخص مهمّ وهو يصلي فحسّن صلاته وتظاهر بالخشوع رياءً له، فلا شك بفساد الصلاة وبطلانها في الحالتين، والبطلان يستوجب الإعادة في الوقت، والقضاء خارج الوقت إن فاته.
ولكن لو فرضنا أن الشخص لم تكن هذه نيته لا قبل الصلاة ولا أثناءها ولكنه وبعد أن أتم الصلاة حدثته نفسه بالرياء والتظاهر، وعمل بذلك، فتحدّث عن صلاته وخشوعه فيها، فهنا يقول الفقهاء إن الصلاة لا تبطل، ويعنون بذلك بطلانها الدنيوي والتكليفي والظاهري، وهو معنى مساوق لعدم وجوب الإعادة والقضاء، أما الروايات التي تقول باشتراط حسن النية حتى بعد العمل فهي ناظرة إلی القبول، ولذلك فإن هذه الصلاة تساوق العدم من حيث الأجر والقبول وإن لم تستلزم الإعادة؛ لسقوط التكليف بالفراغ منه قبل حصول الخلل في النية. أما الخلل الحاصل قبل العمل أو حينه فهو مخلّ بالركنين معاً (الصحة والقبول)، ولذلك عُد من رائی أثناء صلاته كمن صلى بلا وضوء أو مستدبر القبلة أو مع النجاسة غير المعفوّ عنها وما أشبه! ومن ثم فتجب عليه الإعادة، والقضاء إن لم يعد في الوقت، بل تجب على ورثته قضاؤها إن لم يقضها أيضاً، على التفصيل المذكور في الكتب الفقهية.
أما إذا كان الرياء بعد الانتهاء من العمل فهو غير مشمول لهذه الحالات ولكن هذه الصلاة لا تُكتب في قائمة أعماله وتكون مصداقاً للحديث الشريف «لا عمل إلا بالنية» لا تختلف في ذلك من هذه الحيثية مع الحالتين السابقتين (أي فساد النية قبل العمل أو بعده).
:. مثال من واقع الحياة
واشتراط النية وصحتها في قبول العبادات جري على سنة العقلاء في حياتهم العملية، والأمثلة ليست عزيزة في هذا المجال، فكثيرة هي الأمور التي قد يُتعب الإنسان نفسه عليها كثيراً ثم يفرط بها ويتلفها بسهولة وربما باندفاع لأنه يرى أنها كانت عديمة الفائدة وإن شكلت كماً ضخماً في الواقع الخارجي.
نقل لي أحد العلماء، ممن تُوفّوا رحمهم الله، قال: لقد ألّفت مجموعة من الكتب خلال عشرين سنة ثم بدا لي بعد ذلك أني غير راغب فيها من الناحية الدينية طبعاً وليس السياسية – ولا أريد بقاءها عندي، ففكرت بطريقة للتخلص منها، لأنني لا أستطيع إحراقها بسبب وجود أسماء الله تعالى وآيات قرآنية وروايات للمعصومين فيها، يقول: فکّرت أن أعطيها لشخص لكي يرميها في نهر من الأنهار ولكني خشيت أن لا يرميها في الماء أو أن يبقي منها ما قد يدركه أحد ويستخرجه، فرأيت أن أفضل طريقة هي أن أدفنها في حفرة في بيتي، فاستأجرت حفاراً وقلت له أريد أن تحفر لي بئراً في الموضع الفلاني، ولكنه مهما حفر لم يصل إلی الماء فطلبت منه أن يأتي في اليوم الآتي ليعيد ملأها بالتراب، وعندما خرج من البيت أسرعت بوضع الكتب في الحفرة وفتحت عليها الماء ثم أهلت التراب حتى اختفت، وأكمل العامل مهمة تسوية الحفرة في اليوم التالي!
هكذا يفعل الله مع أعمالنا الباطلة، يقول تعالى: ﴿وقدمنا إلى ما عملوا من عمل فجعلناه هباءً منثوراً﴾(6). حقاً ما آلمه من عذاب يهون عنده كل أنواع التعذيب في دار الدنيا، لأن الإنسان سيرتاح منها بالموت، ولا راحة في العذاب الأخروي سيّان النفسي منه والجسدي.
إن المفتاح بيد الإنسان وإن لم يخلُ الأمر من صعوبة ولكنه ممكن، غايته أنه يتطلب إرادة وتوكلاً على الله تعالى. والنية تؤطر العمل في كل حال. فهي تؤطر الخطابة والتدريس والبذل والإطعام، وهي تؤطر عمل المرجع والكاتب وإمام الجماعة والقاضي، كما تؤطر العمل في سائر المجالات.
:. التذبذب في النية
واللافت للنظر أن النية تتذبذب وتتغير ليس على مدار السنوات والأشهر والأيام والساعات فحسب بل على مدار اللحظات. وربما تغيرت نية بعض الناس في الصلاة الواحدة خمسين مرة!
ألاحظتم المرضى الذين يخضعون للرعاية المركزة؟ يضع الأطباء بالقرب منهم أجهزة لمعرفة التغير الذي يحصل في سرعة ضربات قلوبهم. فإذا عاد المريضَ أحدٌ من ذويه وكان المؤشر يشير إلى أن وضعه طبيعي، فبدأ يحدثه بأخبار سارة معتدلة تناسب حاله، فإنّ وضع المريض وقلبه لا يتردى ومن ثم لا يؤشر الجهاز إلى أي اضطراب أو تذبذب مقلق. أما إذا لم يراع الزائر حالة مريضه وبدأ يحدثه بأخبار محزنة عديدة، كأن يقول له لقد مات فلان، ومرض فلان، وسطا السراق على دارك ولم يكن فيه أحد فأخلوه وهربوا… وما أشبه، فماذا تتوقع أن يحلّ بهذا المريض المسكين وقلبه؟ عادةً الجهاز سينبّه المشرفين عليه إلى أن القلب قد اضطربت ضرباته و... !
ترى ما هي الأمور التي تصعد وتنزل بالنية وتُحدث فيها ذبذبات وارتجاجات قد تودي بها إلى حالة مشابهة لما يحلّ بقلب المريض الذي تقدم ذكره آنفاً؟ إنها الأهواء والشهوات والأنانيات وحب المال والدنيا.
:. الخلود بسبب النية
يقول العلامة المجلسي: ومن هذا يظهر سرّ أن أهل الجنة يخلدون فيها بنياتهم لأن النية الحسنة تستلزم طينة طيبة وصفات حسنة وملكات جميلة تستحق الخلود بذلك؛ إذ لم يكن مانع العمل من قبله فهو بتلك الحالة مهيأ للأعمال الحسنة والأفعال الجميلة، والكافر مهيأ لضد ذلك، وبتلك الصفات الخبيثة المستلزمة لتلك النية الردية استحق الخلود في النار(7).
توضيحه: أن المؤمن ذا الاستقامة مهما مدّ الله في عمره أقام على الطاعة فهذه نيته، والعاصي المصرّ على العصيان مهما عاش في الدنيا استمر على عصيانه، وهذا عزمه.
:. الشيخ عباس القمي رحمه الله وإخلاصه
مؤلف كتاب «مفاتيح الجنان» هو الشيخ عباس القمي، له كتب عديدة، ومنها كتاب جميل كتبه باللغة الفارسية تمّت ترجمته مؤخراً إلى اللغة العربية، واسم الكتاب «منازل الآخرة» وهو يعبّر حقيقةً عن محتواه.
وكان أبوه (محمد رضا) رجلاً عادياً، ومن الكسبة الأخيار، فكان ملتزماً بالحضور في مسجد الإمام الحسن العسكري سلام الله عليه المعروف في مدينة قم المقدسة، حيث كان هناك خطيب يتأثر (أبو الشيخ عباس) بمجلس خطابته بوعظه وإرشاده؛ فقد كان خطيباً محترفاً أي من الخطباء الذين حرفتهم الخطابة ويخدمون أهل البيت سلام الله عليهم عن هذا الطريق.
أما الشيخ عباس القمي فلم تكن حرفته الأصلية الخطابة بل كان عالماً محققاً، ولكنه مع ذلك كان يصعد المنبر أحياناً، فكان المرحوم الشيخ عبد الكريم الحائري (زعيم الحوزة العلمية) يدعوه لارتقاء المنبر في مدينة قم، كما كان السيد حسين القمي (رحمه الله) يدعوه أحياناً ليصعد المنبر في بيته في مدينة مشهد المقدسة. وكان غالباً ما يأخذ كتاباً بيده ويقرأ منه، إما لأنه لم يكن حافظاً أو أنه كان يخشى الزيادة والنقيصة ويتورع في ذلك.
كان محمد رضا يسأل ابنه «الشيخ عباس» مراراً: لماذا لا تزيد من معلوماتك وتصعد المنبر مثل الخطيب الفلاني الذي أحضر مجلسه في مسجد الإمام العسكري سلام الله عليه، فهو خطيب جيد يحضر منبره جمهور كثير وهو يقرأ من كتاب معه مواعظ ونصائح وحكماً وحكايات مؤثرة؟
وكان الكتاب الذي يطالع فيه ذلك الخطيب هو كتاب «منازل الآخرة» للشيخ عباس القمي، ولكن الشيخ مع ذلك لم يخبر أباه أبداً أن هذا الخطيب إنما يقرأ من كتاب «منازل الآخرة» وأنه من تأليفي أنا.
وهذه الحالة صعبة جداً، وتكشف عن الإخلاص في النية، وأن النية الحسنة هي التي تؤطر العمل.
:. الشيخ ابن فهد الحلي رحمه الله وإخلاصه
للشيخ ابن فهد الحلي (رحمه الله) كتاب «عدة الداعي» يعود تاريخ أول إطلاع لي عليه إلى ما قبل ثلاثين سنة تقريباً. وكنت قبل ذلك قد سمعت عن الكتاب ورأيت بعض ما نُقل منه، ولكني لم أكن قد طالعت الكتاب مباشرة. وعندما حصلت عليه، وكان قد جاءني به شخص في أول الليل، باشرت بقراءته وسهرت معه الليل كله (تقريباً)، وأحسست بتأثير مطالبه عليّ مع أني كنت قد سمعت بمعظمها، حتی إنه يمكنني القول أني لم أجد شيئاً جديداً سوی جملة واحدة لا تزيد على سطر واحد.
وكعادة طلاب العلوم الدينية الذين يبحثون دائماً عن جذور الأشياء وأسبابها، سألت نفسي عن السبب الذي يكمن وراء كل هذا التأثير الذي لمسته في الكتاب، رغم أن معظم مواضيعه لم تكن جديدة عليّ، فلم أهتد إلا إلى أمر واحد فقط وهو أن المؤلف كتب كتابه هذا بنية خالصة!
لقد كان الشيخ ابن فهد الحلي رحمه الله من الفقهاء الأتقياء وصاحب كرامات وقد نُقلت عنه أشياء نادرة وأمور مبتكرة ولعلها فريدة.
ولقد كانت نيّته موفّرة وخالصة لدرجة أن عمله وكتابه يؤثر في النفوس رغم مرور مئات السنين عليه!
«مفاتيح الجنان» مثالاً
ابحثوا عن كتب الأدعية المؤلفة عبر مئات السنين ربما تجدوها بالمئات. وإنني رأيت بالعشرات منها ما بين مطبوع ومخطوط، ولكن الملاحظ أن كتاب «مفاتيح الجنان» هو الوحيد الذي أصبح معروفاً لدرجة ربما لا يعلم كثير من الشيعة بوجود كتاب في الأدعية غيره!
هذه الأمور لا تخلو من أسرار، وهناك حديث شريف يؤيده الاعتبار – على حد تعبير الفقهاء – مضمونه أن الكلام إذا خرج من القلب وقع في القلب. ولعل الملاك نفسه موجود في الكتابة، ولم ترد في الحديث لأنها كانت قليلة زمن المعصومين وإن كان هناك تحريض منهم سلام الله عليهم عليها.
:. المشاركة بالنيات
«لما أظفر الله تعالى أمير المؤمنين بأصحاب الجمل قال له بعض أصحابه: وددت أن أخي فلانا كان شاهدنا ليرى ما نصرك الله به على أعدائك، فقال سلام الله عليه: أهوى أخيك معنا؟ قال: نعم. قال: فقد شهدنا، ولقد شهدنا في عسكرنا هذا أقوام في أصلاب الرجال وأرحام النساء سيرعف بهم الزمان ويقوى بهم الإيمان»(8).
:. لابد من النية والتوكل معا
إن النية هي الأساس في العمل، وهي إطار العمل، والاختيار بيد الإنسان ولكن بما أنه مكبل ومشدود إلى الأرض فهو بحاجة إلى تأييد ربّاني. نضرب لذلك مثلاً :
إن الذين يتسلقون الجبال يمسكون بحبل طرفه الأعلى مثبت فوق الجبل، فالمتسلق يصعد بعزيمته وعضلاته وفكره وأعصابه ولكنه يحتاج مع ذلك إلى الحبل لأن أدنى زلة منه قد تودي بحياته أو تهشم عظامه إذا هوى. فلا العزيمة وحدها كافية ولا الحبل، لأن من لا عزيمة وقوة له لا يستطيع التسلق وإن كان هناك حبل يعينه، كما أن الإرادة والعزيمة غير كافيتين لأن الطريق صعب ومحفوف بالمخاطر، وأن أدنى غفلة أو زلّة تنتهي بصاحبها إلى التحطم والهلاك.
وهكذا الحال بالنسبة للنية ونجاحها، فإنها تتطلب إرادة وعزيمة وتصميماً من العبد، وتوكلاً منه على الله تعالى إلى جانب ذلك. فإن التوكل وحده دون إرادة واختيار من العبد لا يكفي، كما أن اعتماد العبد على إرادته وحدها دون مدد من الله غير مضمون النتائج بل ينتهي إلى الفشل لا محالة. فما هو الحبل والمدد الإلهي في طريق تسلق درجات المعرفة والكمال والفلاح؟
:. آل البيت سلام الله عليهم حبل الله المتين
عن الإمام الصادق سلام الله عليه قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وآله في حجة الوداع: «أيها الناس إني تارك فيكم الثقلين الثقل الأكبر كتاب الله عز وجل، طرف بيد الله تعالى وطرف بأيديكم فتمسكوا به، والثقل الأصغر عترتي أهل بيتي فإنه قد نبأني اللطيف الخبير أنهما لن يفترقا حتى يردا علي الحوض كإصبعي هاتين - وجمع بين سبابتيه - و لا أقول كهاتين - وجمع بين سبابته والوسطى - فتفضل هذه على هذه»(9).
وهذا أمر خلاف العادة لابد من التوقف عنده والتأمل فيه، فإن الفرد عندما يريد أن يؤشر باثنتين من أصابعه يستعمل السبابة مع الوسطى، أما أن يجمع بين السبابتين فأمر نادر، فلابد أن النبي صلّى الله عليه وآله أراد بذلك أن يُفهم المخاطبين والمسلمين كافة أن القرآن وأهل البيت سلام الله عليهم عدلان ليس أحدهما أطول من الآخر ولا يتخلف أو يختلف أحدهما عن الآخر. فما من أمر دعا إليه القرآن إلا وجسده أهل البيت سلام الله عليهم ودعوا إليه، وما من أمر دعا إليه أهل البيت سلام الله عليهم إلا وجذوره في القرآن.
أجل إن القرآن هو الأساس وأهل البيت هم الفرع، ولذلك أشار النبي صلّى الله عليه وآله إلى أن أحدهما أكبر من الآخر إلا أنه لا يوجد بينهما أي اختلاف أو افتراق، ولذلك قال رسول الله صلّى الله عليه وآله : «لن يفترقا حتى يردا عليّ الحوض». فأينما وُجد القرآن فثم أهل البيت سلام الله عليهم وأينما كان أهل البيت سلام الله عليهم فهناك القرآن. فهما حبلان ممدودان من عند الله.
:. لماذا يستريح الإمام الصادق عند أبي حمزة الثمالي؟
كان أبو حمزة الثمالي (واسمه ثابت بن دينار) شخصية عظيمة، ومن حسناته روايته الدعاء المعروف بدعاء أبي حمزة الثمالي، الذي كان يدعو به الإمام زين العابدين سلام الله عليه في أسحار شهر رمضان المبارك.
أدرك أبو حمزة أربعة من الأئمة المعصومين سلام الله عليهم على أقل تقدير، فقد عاصر الإمام زين العابدين والإمام الباقر والإمام الصادق والإمام الكاظم سلام الله عليهم، وهناك خلاف في كونه أدرك الإمام الحسن والإمام الحسين سلام الله عليهما. المتيقن أنه أدرك أربعة من ذرية الحسين سلام الله عليه (أعني السجاد والباقر والصادق والكاظم سلام الله عليهم). وهناك قول بأنه أدرك الإمام الرضا سلام الله عليه أيضاً، لأن هناك روايات تقول بأنه كان أيام زين العابدين سلام الله عليه شاباً وأيام الإمام الكاظم سلام الله عليه شيخاً كبيراً.
وكان لأبي حمزة الثمالي أولاد من خيرة أصحاب الأئمة فكانوا خيرة الأولاد ومن خيرة أولاد الخيرة، وهم محمد وعلي وهما ثقتان، وكان عنده ابن يسمی حسيناً، وسبط بهذا الاسم أيضاً، ولكن اختلف علماء الرجال هل حسين هذا واحد هو ابنه أو سبطه أم هما اثنان؛ قال العلامة المجلسي وجماعة إنهما شخصان أحدهما ابنه والآخر ابن بنته، وكلاهما ثقتان، الرواية التالية يرويها حسينٌ (السبط) عن أبيه أبي حمزة أنه قال: «والله إني لعلى ظهر بعيري بالبقيع إذ جاءني رسول فقال: أجب يا أبا حمزة! فجئت وأبو عبد الله سلام الله عليه جالس، فقال: إني لأستريح إذا رأيتك»(10).
هذه كلمة عظيمة جداً، فالإمام الصادق سلام الله عليه ليس إمام البشر وحدهم بل هو إمام الملائكة والإنس والجن وكل ما سوی الله (وهكذا النبي والأئمة المعصومين من آله، فهم نور واحد)، وبيده كل الطاقات الكونية، وأبو حمزة الثمالي ليس من المعصومين بل هو من سائر البشر من أمثالنا – بل في بعض الأحاديث أن من بلغ بنا مرتبة مشابهة يكون أفضل منه ومن أمثاله، لأن أولئك رأوا المعصوم وعاشوا معه ونحن لم نره، وحتى الذي وفق لزيارة الإمام الحجة (عجل الله تعالی فرجه) فزيارته خاطفة أو قصيرة – ومع ذلك يقول له الإمام: أستريح إذا رأيتك!
كان للإمام سلام الله عليه أصحاب كثيرون، فلماذا كان يستريح لأبي حمزة بالخصوص؟ هل كان سلام الله عليه يستريح لشكله أو منطقه أو لسانه أو ماله أم كان يستريح لإخلاصه؟ لا شك أن إخلاص أبي حمزة هو الذي رفعه إلى هذه الدرجة العظيمة، وأن الإمام كان يستريح لنية أبي حمزة.
فلنتجاوز هذه العقبة الكؤود – عقبة النية – ولنؤطر أعمالنا بنية خالصة مادمنا على الطريق، نؤمن بالله واليوم الآخر، ونصلي ونصوم لله، ونؤدي سائر الفروض والواجبات، وندرس وندرّس العلوم الدينية ونعظ الناس ويؤلف بعضنا الكتب لهدايتهم أو لبيان معالم الدين، في حين أن بعض الناس بعيد حتى عن هذه الأوليات، ويلزم أن يبذلوا جهداً حتی يتدينوا.
إذا كان العمل موجوداً ولله الحمد – وإن كان قليلاً – فلنجعل له الإطار الصحيح، وهذا لا يحتاج إلى وقت، خلافاً للدراسة والتأليف وسائر الأعمال، بل يحتاج إلى تركيز وتصميم وتوسل بالله تعالى وبأهل البيت سلام الله عليهم . فإن العمل الخالص هو الذي لا تريد أن يمدحك عليه أحد – كما هو مضمون حديث عن أحد المعصومين سلام الله عليهم – وهذا أمر صعب المنال جداً ولكنه ممكن.
بعد لحظات أو ساعات أو أيام أو شهور أو سنين – كلّ حسب عمره – سننتقل إلى الدار الآخرة فنتأسف إن لم نستثمر حياتنا وأعمارنا في العمل بإخلاص، وكان كل همنا أن نتظاهر بأعمالنا وذواتنا.
صحيح أنه ينبغي في بعض الموارد – أو يستحب بل قد يجب – أن يُظهر الإنسان نفسه، وهذا ما نوّهت له الروايات أيضاً، ومثاله: أن تكتب اسمك على الكتاب الذي تؤلفه ليُعرف أنه لك فيؤخذ بما فيه إن كنتَ ممن يوثق بكلامه. فلو لم يكن الشيخ الطوسي أو الشيخ المفيد أو المحقق الحلي مثلاً يذكرون أسماءهم على مؤلفاتهم وكتبهم فتُعرف أنها لهم لما اعتمِد عليها ولا حصل الاطمئنان بها والرجوع إليها.
ولكن ليكن كتابة اسمك من أجل التوثيق وليس لكي تري نفسك وتظهر ذاتك، وهذا أمر دقيق ينبغي الالتفات إليه جيداً، سيما وأنه متذبذب بتغير بسرعة على أثر نفخ الشيطان والنفس الأمارة بالسوء.
إن هذا الأمر يتطلب انتباهاً مستمراً وتوكلاً على الله تعالى، لأن غفلة لحظة قد تؤدي إلى سقوط مميت! كمن يقودون سياراتهم في طرق ذات منعطفات ومزالق خطيرة تتطلب انتباهاً ويقظة وحذراً لكي لا تؤدي غفلة آنٍ إلى خسارة عمر طويل أو البقاء معوقين طيلة حياتهم!
وما أكثر الأشخاص الذين كانوا يعيشون في هاوية الشقاء ولكنهم صاروا من خيرة السعداء بفضل تنقية نياتهم، وما أكثر الحالات المعاكسة والعياذ بالله.
:. الخلاصة
ربما اتضح مما تقدم أن معنى قول الإمام سلام الله عليه (اللهم وفّر بلطفك نيّتي) يكون كالتالي: إلهي أنت صن واحفظ نيتي، لأني بدون الاعتماد عليك لا أستطيع الصمود ولا يمكنني حفظ نيتي.
وإذ صنت بنيتي يا سيدي وحفظتها فلا تدَعها على مرتبتها التي هي عليه، بل أكملها واصعد بها أيضاً؛ لأن «وفّر» كما قلنا تعني: صن وأكمل.
وبما أن النية أمر دقيق بل هي من أدق الأشياء كما أسلفنا، فإن الإمام سلام الله عليه يستعين بلطف الله تعالى فيقول «اللهم وفّر بلطفك نيتي» ولم يقل بخلاقيتك أو غفاريتك أو أية صفة أخرى، لأن من معاني اللطف - كما تقدم في بحثنا السابق - الدقة أيضاً، فهو يتناسب مع النية إذن. وهذه من دقائق كلمات أهل البيت سلام الله عليهم .
كما أن التحكم بالنية شيء صعب، لأنها متذبذبة بسرعة وعلى الدوام، كحركة أهداب العين، فالإنسان بحاجة لمزيد من الدقة لكي يلتفت إليها، كما هو الحال أيضاً في حركة أهداب عيونه أو توالي الحروف الهجائية في كلامه، فهي سريعة جداً حتى لكأنها غير إرادية، لأن الإنسان عندما يفكر في الكلمة وينطقها لا يفكر في حروف الكلمة ولا يقوم بإعدادها بل تتوالى ارتجالاً إلا إذا أراد المتكلم التركيز على الحروف التي يتلفظها، وهو أمر صعب ولا شك.
وهكذا حال النية تقريباً فإنها دقيقة جداً فهي تحتاج إلى اللطف الإلهي – واللطف من معانيه الدقة – وهي صعبة جداً فتحتاج إلى فضل الله تعالی، واللطف تعبير آخر عن الفضل. فالنية تحتاج إلى دقة الله وفضله، ولذلك قال الإمام سلام الله عليه «اللهم وفر» أي صن وأكمل «بلطفك» أي بدقتك وفضلك «نيتي» لأنها أساس العمل وإطاره ومانحته لونه وصيغته، ولا فائدة من العمل وإن كان صالحاً إذا لم تكن النية صالحة.
نسأل الله تعالى ببركة هذا الدعاء (دعاء مكارم الأخلاق) وببركة صاحبه (الإمام زين العابدين سلام الله عليه) أن يوفقنا للتوجه إلى النية والإلحاح إلى الله تعالى وإلى أهل البيت سلام الله عليهم في هذا المجال لكي يتفضل علينا الله تعالى بإجابة هذه الجملة من الدعاء وهي قول الإمام (اللهم وفر بلطفك نيتي).
أسأل الله التوفيق لي ولكم.
وصلى الله على محمد وآله الطاهرين.
--------------------------------------------------------------------------------
· ألقيت هذه المحاضرة في 21 محرم 1421 هـ.
(1) وسائل الشيعة: 1/ 46، ح83، عن روضة الكافي: 234 ح312.
(2) الكافي: 1 / 70 ح9.
(3) القارعة، الآية 6 – 8 .
(4) قال رسول الله صلّى الله عليه وآله: علي مع الحق والحق مع علي، يدور معه حيثما دار (شرح نهج البلاغة: 18 / 72).
(5) بحار الأنوار: 33 / 355.
(6) الفرقان، الآية 23 .
(7) بحار الأنوار: 198 / 67، باب 53- النية و شرائطها و مراتبها.
(8) بحار الأنوار: 32/ 345
(9) بحار الأنوار: 128 / 37 باب 52- أخبار الغدير وما صدر في ذلك.
(10) رجال الكشي: ص33، ح61.
تعليق