الامام الحسين عليه السلام آية العقل والعاطفة
بسم الله الرحمن الرحيم
اللَهٌمَ صَل ِعَلى مُحَمْدٍ وَآل ِ مُحَمْدٍ الْطَيّبْينَ الْطَاهِرّيْنَ
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته

الامام الحسين عليه السلام آية العقل والعاطفة
الأحاديث النبوية الشريفة كلها هي غاية في الأدب الإلهي، وتجسد العظمة في الفكر والبصائر والأخلاق والايمان. وبين هذا وذاك ثمة أحاديث قدسية صدرت عن رسول الاسلام محمد صلى الله عليه وآله، تدفع المهتم بها الى التمعن والتعمق أكثر فأكثر، ليصل بمستواه وبصيرته الى العمق الإيماني المطلوب ، الذي كان ينشده هذا النبي القدوة صلى الله عليه وآله للمؤمنين .
ومن جملة تلكم الأحاديث قول الرسول المصطفى صلى الله عليه وآله بأن الحسين: "مصباح هدى وسفينة نجاة" (27)، وقد وصف هذا الحديث بأنه مكتوب على يمين العرش، في اشارة الى عظمة وقدسية هذا الحديث المبارك. ولكي نكون بمستوى المسؤولية الدينية والحضارية، لابد لنا من التدبر والإحاطة بأبعاد هذا الحديث. فهو وغيره مما فاض على لسان سيد المرسلين وأهل بيته الطيبين الطاهرين عليهم السلام، ليس من نوع الكلام أو القصص الصادرة عن غيرهم من البشر، حتى يكون بوسعنا ان نمر عليها مرور الكرام، أو أنها من نوع الكلام الذي ما أن يسمع حتى ينسى..
فتدبّرنا وتعمّقنا وإحاطتنا -بما في وسعنا- بكلامهم الشريف، يعكس مدى اهتمامنـا وتعظيمنا لمكانتهم السامية؛ الاهتمام والتعظيم المفروضان علينا -نحن المسلمين- من قبل الله سبحانه وتعالى أولاً وآخراً.
مع أن اهتمامنا بهذه الأحاديث الفذة، إنما هي بمثابة المؤشر العملي على اهتمامنا بأنفسنا. فالروايات صدرت عن أهل البيت عليهم السلام لإنقاذنا من براثن الدنيا وغرورها، ولكي تكون منهجاً ودرساً أساسياً مقارناً للقرآن الكريم في حياتنا وكدحنا الى الله عز وجل .
ماذا يعني قول الرسول صلى الله عليه وآله بأن الحسين مصباح الهدى؟ وماذا تعني الهداية؟ وماذا يعني أن يكون أبو عبد الله عليه السلام مصباحاً؟ وما هو المصباح؟ وما هو دور المصباح في حياة الإنسان؟ وماهي مسؤولية الانسان تجاه هذا المصباح؟
ثم ماهي سفينة النجاة؟ وكيف يكون الحسين سفينة النجاة؟ وماذا يتوجّب علينا ان نعمل تجاه هذه السفينة ؟
إنني في هذا المقام ؛ لم اطرح الأسئلة أعلاه كبذخ فكري أو أدبي، ولا أدّعي أبداً بأن بوسع أحد من الناس الإجابة الوافية على هذه الأسئلة باستثناء من أنعم الله عليهم. إنما الغرض من كل ذلك إلفات نظر المؤمنين الى ضرورة التعمق في حقيقة الإمام الحسين عليه السلام ودوره الرباني العظيم، إضافة الى ضرورة وعي مسؤولياتنا تجاه سيد الشهداء وأبي الأحرار عليه السلام وقضيته السرمدية. فالإجابة ليست معقدة بقدر ماهي عميقة، ونحن في هذا الاطار يهمنا النهوض بمستوياتنا حتى نتوصل الى الحقائق النورانية لهذا الحديث النبوي الشريف الذي بين أيدينا .
ومن هنا ؛ تنبغي الاشارة الى حقيقة أن الانسان يتركب من بعدين أساسيين، ولا غنى لاحدهما عن الآخر مطلقاً؛ البعد الأول هو البعد العاطفي، والثاني هو بعد الفكر والعقل والبصيرة. والبعد الأول يحتل موقعاً من الانسان أشبه ما يكون بموقع الوقود من السيارة، حيث لايعقل مطلقاً أية حركة لهذا المصنوع البشري دون امتلاكه للطاقة. وبمعنى آخر؛ تكون السيارة غير ذات قيمة فيما لو افتقرت الى الوقود ، بغض النظر عن كون هذه السيارة ذات تكنولوجيا عالية أو هابطة .
ولكن السؤال الراهن هو: هل إنَّ الوقود بمفرده كافياً لحركة السيارة؟ وبطبيعة الحال فإن الجواب سيأتي منفياً تجاهه ، على اعتبار أن ثمة أبعاد أخرى لها الدور الكبير في حركة هذه السيارة، وهذه الأبعاد تتمثل تارة في المحرك وأخرى في العجلات، واخرى في الاجهزة الاساسية المتعددة.
وهذه الحقيقة تنطبق تمام الانطباق على حقيقة الوجود وشخصية الانسان ، ولاسيما الأفراد الاحياء قوةً وفعلاً. فمن الصعب جداً تصور الحركة والحيوية في الانسان الذي تنعدم فيه العواطف، نظراً الى إنَّ العاطفة في الانسان تمثل الدافع للحركة والنشاط والفعل وردّ الفعل .
فمن تنعدم فيه الشهوة والإحساس بالجوع والألم وتلمس الراحة، فهو لايعدو عن كونه موجوداً جامداً، إذ أن مجمل هذه الأحاسيس وغيرها تعني وجود الانسان. فالأب يكون أباً حقيقياً حينما يرى الجوع يعضّ أولاده فيسارع الى تأمين ما يشتهون، لأنه يقدّر مسؤوليته تجاه عائلته من جهة، ويعرف معنى الجوع وتأثيره من جهة ثانية. فهو يعمل المستحيل لكي يوفر الأمن المعيشي لهم. وكذلك الأم التي تترك نومتها الهنيئة لتقوم بإرضاع طفلها الذي قرصه الجوع، والداعي في ذلك بالطبع العاطفة والحنان اللذان تحملهما له، لأنّ هذه الأم تعرف أسباب ودوافع البكاء لدى رضيعها ، وتعرف في الوقت ذاته الألم الذي يعتصر قلب هذا الطفل جرّاء إحساسه بالجوع .
إذن فالعاطفة في المثالين المذكورين هي المحرك، وهي الدافع الذي على أساسه يقوم أهم ركن في بناء العائلة المتفاعلة. ثم هناك الجانب العقلي في حركة الناس، ومن دون العقل ستفقد العاطفة مصداقيتها .
وما يهمنا في هذا الجانب هو التأكيد على أن الامام الحسين عليه السلام هو الذي يوفر للأمة الاسلامية حاجتها العقلية كما وفّر لها حاجتها العاطفية. فالحسين عليه السلام كما اصبح للمسلمين بمثابة نقطة الرجاء والعاطفة بنصّ الرسول المصطفى صلى الله عليه وآله حيث وصفه بـ (سفينة النجاة) التي تؤدي دور المنقذ أثناء وبعد الأمواج والعواصف والدوّامات، فهو -أيضاً- بشعاراته ومنجزاته الدينية أصبح (مصباح الهدى) بالنسبة للمؤمنين الذين تعترض طريقهم الانحرافات الفكرية والسياسية.
إن الأمة الاسلامية ومنذ استشهاد أبي عبد الله الحسين عليه السلام لاتزال تتدفأ بحرارة الثورة الحسينية. فالحسين عليه السلام قتيل العبرات؛ بمعنى أنه قد قتل لكي يوفر في الأمة المسلمة الدموع، لإن الانسان المسلم حينما تدمع عينه ويخشع قلبه سيكون قابلاً لاستلهام المعاني الحية لتعاليم الدين الحضارية، وسيكون مثله مثل الأرض القابلة لامتصاص غيث السماء حيث تهتز وتربو، دون الأرض الصلدة التي لا تستجيب لنداء المطر ورسالته الداعية الى الانبات .
فعندما يبكي المرء ويخشع قلبه تأخذ الآيات القرآنية الكريمة موقعها منه، وتجد استجابة طيبة لديه من أجل الاعتقاد والتمسك بها وتطبيقها. ولكن الانسان الأبله أو المستهزئ الذي لاتربطه أية عاطفة بالآيات السماوية، لن ينتفع بها مهما كان تالياً لها. وقد سئل رسول الله صلى الله عليه وآله: "أين الله؟ فقال: عند المنكسرة قلوبهم"(28).
لذلك فاننا نرى ونشهد على أنّ المقيم للشعائر الحسينية يتحول الى انسان نزيه وطاهر ونظيف، نظراً الى أنّ دموعه التي ذرفها، وقلبه الذي خشع، قد غسلاه وطهراه من ذنوبه؛ فهو مغسول بالعاطفة والحماس.
والمسلك في ذلك يبدو واضحاً، حيث يعود المقيم للشعائر الحسينية الى قاعدة محاسبـة الذات بصورة إرادية أو لا إرادية. فهو على يقيـن من العظمـة اللامتناهية التي يتمتع بها سيده ومولاه الحسين بن علي عليهما السلام، وهو يعرف من خلال التأريخ ماقام به هذا السيد العظيم من تضحية وشجاعة لا نظير لهما على مرّ الزمان. فتراه يعود الى ذاته ويؤنبها إزاء التقصير في ارتكاب الذنوب، والانهزام تجاه المصاعب والعقبات. ولاشك أن التوبة العملية هذه مع ما يزامنها من اعتقاد راسخ بولاية الحسين وأهل البيت عليهم السلام، توبة حقيقية مقبولة لدى الله سبحانه وتعالى .
إذن؛ فالعاطفـة الصادقة على جانب كبير جداً من الأهمية في حيـاة المرء، حيث تحركه وتدفعه وتخلق أمامه أهدافـاً وغايات سامية، علـى اعتبار أنّ حياة الانسان لاتسمى حياةً مالم يسعى الانسان الى تحقيق شيء فيها.
وأصحاب الحسين عليه السلام وصلوا الى هذه الحقيقة، حيث لم يغادروا الحياة مالم يطمئنوا الى أن التاريخ سيكتب منجزاتهم بحـروف مـن نور في قلوب المؤمنين المصرّين على الثـأر لدين الله من الظالميـن والجبابـرة.
وهنا يجب أن نلتفت الى أن المصباح هو الذي يشع بالنور، والهدى هو الذي يهدي الانسان الى الطريق المستقيم. وإننا كأمة مسلمة بعيدون عن الإمام الحسين عليه السلام من هذه الناحية، فنحن نعيش مع سيد الشهداء في عواطفه ومأساته فقط مع بالغ الأسف.
وللتوضيح أقول: إن تاريخ كربلاء ينقل لنا بأن الإمام الحسين عليه السلام وأصحابه استمهلوا الأعداء سواد ليلة عاشوراء، ولم يكن طلب الفرصة هذا ناتجاً عن خوف من الموت أو الاستشهاد، حيث أن هذا الركب الشجاع لم يقدم الى ارض كربلاء إلاّ وكان عارفاً بما سيؤول اليه مصيره مسبقاً. والدليل على ذلك أن الإمام عليه السلام نفسه كان قد قال قبيل مغادرته المدينة المنورة في معرض رده على تحذير من حذره القتل وتعرض نسائه ونساء أصحابه للتنكيل والتشريد من قبل الجيش الأموي، قال عليه السلام: "قد شاء الله أن يراهن سبايا". (29)
لقد كان سبب الطلب المشار اليه الرغبة في تجديد العهد بكتاب الله تبارك وتعالى، فالحسين عليه السلام كان القرآن الناطق. لذا نحن نرى في حركته ومنهجه قرآناً ينطق بصدق الحديث وصدق الأمانة والتضحية والتفاني في ذات الله. فواقعة كربلاء كانت تجسيداً واقعياً لتعاليم القرآن والوحي المنزل .
ومن جانبنا نحن المسلمين، كلما كان التصاقنا بالقرآن الكريم وتعاليمه شديداً، كلما كان اقترابنا للحسين عليه السلام شديداً أيضاً، والعكس هو الصحيح. فالطرفان يعبران عن إرادة إلهية تتجلى في ضرورة إنقاذ الانسان نفسه من الوساوس والانحرافات .
يقول ربنا سبحانه وتعالى: (قُلْ إِن كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّه( (آل عمران/31)، أي إن كنتم تدّعون محبّة الله ومحبة رسوله ومحبة أولياء الله (فَاتَّبِعُونِي( على اعتبار أن هذا الحب لابد له من طاعة لتتقرّب به، كي لايكون حبّاً فارغاً. فالاتباع بمختلف معانيه ومصاديقه، وبمختلف ما يستدعي من تضحية وشجاعة وفداء هو الحب المنشود، وإذا ما اقترن الحب بالطاعة لله تكون النتيجة العملية لـه: (يُحْبِبْكُمُ اللّهُ(.
فالعاطفة والعقل إذا ما امتزجا يولّدان الفلاح، حيث يقول تعالـى: (يُحْبِبْكُمُ اللّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَاللّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ * قُلْ أَطِيعُواْ اللّهَ وَالرَّسُولَ فإِن تَوَلَّواْ فَإِنَّ اللَّهَ لاَ يُحِبُّ الْكَافِرِينَ( (آل عمران/31-32)، وهذه الحقيقة تمثل إحدى مصاديق الكفر التي قد يصاب بها الانسان من حيث لايشعر، إذ يحصل التفاوت بين قوله وفعله؛ بين اعتقاده وسلوكه.
وقد جاء عن الامام جعفر بن محمد الصادق عليه السلام حديث يحتل أعظم درجات الأهمية، حيث يتضمـن بيان موقع أئمة أهـل البيت عليهـم السلام، كما يتضمن ضرورة ما ينبغي أن يكون عليه شيعتهم ومواليهم؛ بل وجميع المسلمين، حيث يقول عليه السلام: "إن الله تبارك وتعالى أوجب عليكم حبّنا وموالاتنا، وفرض عليكم طاعتنا، ألا فمن كان منّا فليقتدِ بنا فإن من شأننا الورع والاجتهاد، وأداء الأمانـة الى البرِّ والفاجر، وصلة الرحم، وإقراء الضيف والعفو عن المسيء ، ومن لم يقتدِ بنا فليس منّا، وقال عليه السلام: لا تسفّهوا فإنَّ أئمتكم ليسوا بسفهاء". (30)
فالانسان - لكي يصل الجنة - عليه أن يعفّ نفسه عن ارتكاب المعاصي ، وأن يبذل كل وسعه ويجدّ ويجتهد في طريق أداء الواجبات الشرعية الذي هو - في واقع الأمر - المسؤول أولاً وآخراً عنها. فأئمة أهل البيت عليهم السلام لايحبون الشخص الكسول الجامد، وانما يحبون المؤمن الذي يبذل جهده تماماً أويستنفذ طاقته في اطار الطاعة .
أما أداء الامانة، فهو أمر ذو وجوه؛ منها وجه تحمل المسؤوليات السماوية انطلاقاً من مفهوم الآية القرآنية القائلة : (اِنَّا عَرَضْنَا الأَمَانَةَ عَلَى السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَن يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الاِنسَانُ( (الاحزاب/72)، ومنها نبذ الخيانة الذي يعكس الصورة الصحيحة للأئمة ولشيعتهم ، رغم ما يبذله حـزب الشيطان من مساع حثيثة لتشويه صورتهم بين الناس. وكان الامام السجاد عليه السلام يقول بهذا الصدد: "عليكم بأداء الأمانة فوالّذي بعث محمداً بالحق نبياً لو أنَّ قاتل أبي الحسين بن علي عليه السلام ائتمنني على السيف الذي قتله به لأدّيته اليه". (31)
وكان رسول الله صلى الله عليه وآله قد قال من قبل: "لا تنظروا إلى كثرة صلاتهم وصومهم، وكثرة الحج والمعروف، وطنطنتهم بالليل، ولكن انظروا الى صدق الحديث وأداء الأمانة". (32)
فالمطلوب والأهم من الوجهة الشرعية تطبيق المعتقدات دون الاكتفاء بالناحية النظرية لها، وهذا لعمري خلاصة وجذوة الرسالات السماوية.
ثم إن الله سبحانه وتعالى وبعد أن وضّح الخارطة الايمانية التي ينبغي للانسان المسلم السير وفقها، قال : (إِنَّ اللّهَ اصْطَفَى ءَادَمَ وَنُوحاً وءَالَ إِبْرَاهِيمَ وءَالَ عِمْرَانَ عَلَى الْعَالَمِينَ((آل عمران/33)، وهو بذلك يدفع المؤمنين الى التطلع عبر ايمانهم العملي نحو أن يكونوا من المصطفين الأخيار . فالاصطفاء أمر يعمّ جميع المؤمنين؛ ممن يدفعهم الايمان الجاد الى التطور والوعي الأكثر والأوسع لحقيقة الوجود ومصيره.
والسؤال الأكثر جدية الذي أودّ طرحه في هذا المقام هو: انه على الرغم من عمق العلاقة العاطفية التي تربط الموالين للامام الحسين عليه السلام، فاننا نرى تفاوتاً واضحاً بين مستوى العلاقة العاطفية وبين مقدار الاندماج الفكري والعقلي بقضية كربلاء ورؤى الإمام الحسين عليه السلام وأخلاقه. فما السبب في ذلك يا ترى، علماً بأننا قدّمنا فيما مضى من القول بأن العلاقة العاطفية بالحسين عليه السلام وقضيته العادلة لا تأخذ مصداقيتها مالم ينضم اليها وعي والتزام فكريان ؟
لقد تركنا الاطار الفكري للقضية، وكأن السبط الشهيد عليه السلام قد ولد في يوم عاشوراء وقتل فيه. وها نحن لانعرف -أو لا نتطلع لأن نعرف- من الإمام الحسين سوى أحداث كربلاء، رغم عظمتها. في حين أن حياة الإمام الحسين عليه السلام تحمل في طياتها العظمة برمتها، بدءاً بمولده الشريف في الصدر الأول للاسلام، ثم امتداداً لمعطيات هذا المولد المبارك. إننا لا نكلف انفسنا البحث في رسائل وخطب سيد الشهداء اللاهبة الى معاوية، فضلاً عن عدم تدبّرنا فيها .. وإننا نتغافل عن مطالعة رسائله عليه السلام المفصّلة فيما يخص حياة العلماء وصفاتهم، بل ولا نسعى الى التدبر في الزيارات التي نقرؤها تعظيماً وعرفاناً بجميل الحسين عليه السلام لنا .. فهل فكّر الواحد منا فيما تعنيه هذه الزيارات؟ ولماذا هذا التعدد فيها ؟ ولماذا هذا التوقيت الخاص لأنواعها وأقسامها ؟
وإننا في الوقت الذي نكون بأمس الحاجة الى أجهزة تبليغية متطورة وفاعلة بهذا الشأن، نرى الكثير من الخطباء عديمي الاهتمام بما تعنيه هذه الزيارات مع العلم أنها قد صدرت عمن هم معصومون عن الخطأ، الأمر الذي يحول دون الانتفاع بهذه الزيارات أدنى نفع.
وإنني إذ أقرأ الزيارة المعروفة بزيارة عاشوراء كثيراً ما تستوقفني عباراتها النورانية، والتي منها هذه العبارة: "السلام عليك يا أبا عبد الله وعلى الأرواح التي حلّت بفنائك وأناخت برحلك". فالأرواح التي حلت بفناء الحسين عليه السلام هي أرواح الأنبياء والشهداء والعلماء والصديقين؛ أرواح المخلصين الذين يهمهم خدمة الدين وإعلاء كلمته .
فأنعِم وأكرِم بلحظة أو ساعة او حياة يخصص الإنسان فيها جهوده وطاقاته لكي يكون مع هذا الامام العظيم؛ الامام الذي على أساس جهاده قامت قائمة الدين بعد عواصف وسيول التحريف والكبت والطغيان؛ بل وأكثر من ذلك كله، هو استمرار معطيات الثورة الحسينية بالنسبة للمصممين على إنقاذ شعوبهم من عبودية الطاغوت .
ونحن بدورنا نسلم على تلك الأرواح ونقول: السلام عليك يا أبا عبد الله وعلى الأرواح التي حلت بفنائك وأناخت برحلك، ولا جعله الله آخر العهد منّا لزيارتكم، السلام على الحسين وعلى علي بن الحسين وعلى أولاد الحسين وعلى أصحاب الحسين جميعاً ورحمة الله وبركاته.
السيد محمد تقي المدرسي
بسم الله الرحمن الرحيم
اللَهٌمَ صَل ِعَلى مُحَمْدٍ وَآل ِ مُحَمْدٍ الْطَيّبْينَ الْطَاهِرّيْنَ
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته

الامام الحسين عليه السلام آية العقل والعاطفة
الأحاديث النبوية الشريفة كلها هي غاية في الأدب الإلهي، وتجسد العظمة في الفكر والبصائر والأخلاق والايمان. وبين هذا وذاك ثمة أحاديث قدسية صدرت عن رسول الاسلام محمد صلى الله عليه وآله، تدفع المهتم بها الى التمعن والتعمق أكثر فأكثر، ليصل بمستواه وبصيرته الى العمق الإيماني المطلوب ، الذي كان ينشده هذا النبي القدوة صلى الله عليه وآله للمؤمنين .
ومن جملة تلكم الأحاديث قول الرسول المصطفى صلى الله عليه وآله بأن الحسين: "مصباح هدى وسفينة نجاة" (27)، وقد وصف هذا الحديث بأنه مكتوب على يمين العرش، في اشارة الى عظمة وقدسية هذا الحديث المبارك. ولكي نكون بمستوى المسؤولية الدينية والحضارية، لابد لنا من التدبر والإحاطة بأبعاد هذا الحديث. فهو وغيره مما فاض على لسان سيد المرسلين وأهل بيته الطيبين الطاهرين عليهم السلام، ليس من نوع الكلام أو القصص الصادرة عن غيرهم من البشر، حتى يكون بوسعنا ان نمر عليها مرور الكرام، أو أنها من نوع الكلام الذي ما أن يسمع حتى ينسى..
فتدبّرنا وتعمّقنا وإحاطتنا -بما في وسعنا- بكلامهم الشريف، يعكس مدى اهتمامنـا وتعظيمنا لمكانتهم السامية؛ الاهتمام والتعظيم المفروضان علينا -نحن المسلمين- من قبل الله سبحانه وتعالى أولاً وآخراً.
مع أن اهتمامنا بهذه الأحاديث الفذة، إنما هي بمثابة المؤشر العملي على اهتمامنا بأنفسنا. فالروايات صدرت عن أهل البيت عليهم السلام لإنقاذنا من براثن الدنيا وغرورها، ولكي تكون منهجاً ودرساً أساسياً مقارناً للقرآن الكريم في حياتنا وكدحنا الى الله عز وجل .
ماذا يعني قول الرسول صلى الله عليه وآله بأن الحسين مصباح الهدى؟ وماذا تعني الهداية؟ وماذا يعني أن يكون أبو عبد الله عليه السلام مصباحاً؟ وما هو المصباح؟ وما هو دور المصباح في حياة الإنسان؟ وماهي مسؤولية الانسان تجاه هذا المصباح؟
ثم ماهي سفينة النجاة؟ وكيف يكون الحسين سفينة النجاة؟ وماذا يتوجّب علينا ان نعمل تجاه هذه السفينة ؟
إنني في هذا المقام ؛ لم اطرح الأسئلة أعلاه كبذخ فكري أو أدبي، ولا أدّعي أبداً بأن بوسع أحد من الناس الإجابة الوافية على هذه الأسئلة باستثناء من أنعم الله عليهم. إنما الغرض من كل ذلك إلفات نظر المؤمنين الى ضرورة التعمق في حقيقة الإمام الحسين عليه السلام ودوره الرباني العظيم، إضافة الى ضرورة وعي مسؤولياتنا تجاه سيد الشهداء وأبي الأحرار عليه السلام وقضيته السرمدية. فالإجابة ليست معقدة بقدر ماهي عميقة، ونحن في هذا الاطار يهمنا النهوض بمستوياتنا حتى نتوصل الى الحقائق النورانية لهذا الحديث النبوي الشريف الذي بين أيدينا .
ومن هنا ؛ تنبغي الاشارة الى حقيقة أن الانسان يتركب من بعدين أساسيين، ولا غنى لاحدهما عن الآخر مطلقاً؛ البعد الأول هو البعد العاطفي، والثاني هو بعد الفكر والعقل والبصيرة. والبعد الأول يحتل موقعاً من الانسان أشبه ما يكون بموقع الوقود من السيارة، حيث لايعقل مطلقاً أية حركة لهذا المصنوع البشري دون امتلاكه للطاقة. وبمعنى آخر؛ تكون السيارة غير ذات قيمة فيما لو افتقرت الى الوقود ، بغض النظر عن كون هذه السيارة ذات تكنولوجيا عالية أو هابطة .
ولكن السؤال الراهن هو: هل إنَّ الوقود بمفرده كافياً لحركة السيارة؟ وبطبيعة الحال فإن الجواب سيأتي منفياً تجاهه ، على اعتبار أن ثمة أبعاد أخرى لها الدور الكبير في حركة هذه السيارة، وهذه الأبعاد تتمثل تارة في المحرك وأخرى في العجلات، واخرى في الاجهزة الاساسية المتعددة.
وهذه الحقيقة تنطبق تمام الانطباق على حقيقة الوجود وشخصية الانسان ، ولاسيما الأفراد الاحياء قوةً وفعلاً. فمن الصعب جداً تصور الحركة والحيوية في الانسان الذي تنعدم فيه العواطف، نظراً الى إنَّ العاطفة في الانسان تمثل الدافع للحركة والنشاط والفعل وردّ الفعل .
فمن تنعدم فيه الشهوة والإحساس بالجوع والألم وتلمس الراحة، فهو لايعدو عن كونه موجوداً جامداً، إذ أن مجمل هذه الأحاسيس وغيرها تعني وجود الانسان. فالأب يكون أباً حقيقياً حينما يرى الجوع يعضّ أولاده فيسارع الى تأمين ما يشتهون، لأنه يقدّر مسؤوليته تجاه عائلته من جهة، ويعرف معنى الجوع وتأثيره من جهة ثانية. فهو يعمل المستحيل لكي يوفر الأمن المعيشي لهم. وكذلك الأم التي تترك نومتها الهنيئة لتقوم بإرضاع طفلها الذي قرصه الجوع، والداعي في ذلك بالطبع العاطفة والحنان اللذان تحملهما له، لأنّ هذه الأم تعرف أسباب ودوافع البكاء لدى رضيعها ، وتعرف في الوقت ذاته الألم الذي يعتصر قلب هذا الطفل جرّاء إحساسه بالجوع .
إذن فالعاطفة في المثالين المذكورين هي المحرك، وهي الدافع الذي على أساسه يقوم أهم ركن في بناء العائلة المتفاعلة. ثم هناك الجانب العقلي في حركة الناس، ومن دون العقل ستفقد العاطفة مصداقيتها .
وما يهمنا في هذا الجانب هو التأكيد على أن الامام الحسين عليه السلام هو الذي يوفر للأمة الاسلامية حاجتها العقلية كما وفّر لها حاجتها العاطفية. فالحسين عليه السلام كما اصبح للمسلمين بمثابة نقطة الرجاء والعاطفة بنصّ الرسول المصطفى صلى الله عليه وآله حيث وصفه بـ (سفينة النجاة) التي تؤدي دور المنقذ أثناء وبعد الأمواج والعواصف والدوّامات، فهو -أيضاً- بشعاراته ومنجزاته الدينية أصبح (مصباح الهدى) بالنسبة للمؤمنين الذين تعترض طريقهم الانحرافات الفكرية والسياسية.
إن الأمة الاسلامية ومنذ استشهاد أبي عبد الله الحسين عليه السلام لاتزال تتدفأ بحرارة الثورة الحسينية. فالحسين عليه السلام قتيل العبرات؛ بمعنى أنه قد قتل لكي يوفر في الأمة المسلمة الدموع، لإن الانسان المسلم حينما تدمع عينه ويخشع قلبه سيكون قابلاً لاستلهام المعاني الحية لتعاليم الدين الحضارية، وسيكون مثله مثل الأرض القابلة لامتصاص غيث السماء حيث تهتز وتربو، دون الأرض الصلدة التي لا تستجيب لنداء المطر ورسالته الداعية الى الانبات .
فعندما يبكي المرء ويخشع قلبه تأخذ الآيات القرآنية الكريمة موقعها منه، وتجد استجابة طيبة لديه من أجل الاعتقاد والتمسك بها وتطبيقها. ولكن الانسان الأبله أو المستهزئ الذي لاتربطه أية عاطفة بالآيات السماوية، لن ينتفع بها مهما كان تالياً لها. وقد سئل رسول الله صلى الله عليه وآله: "أين الله؟ فقال: عند المنكسرة قلوبهم"(28).
لذلك فاننا نرى ونشهد على أنّ المقيم للشعائر الحسينية يتحول الى انسان نزيه وطاهر ونظيف، نظراً الى أنّ دموعه التي ذرفها، وقلبه الذي خشع، قد غسلاه وطهراه من ذنوبه؛ فهو مغسول بالعاطفة والحماس.
والمسلك في ذلك يبدو واضحاً، حيث يعود المقيم للشعائر الحسينية الى قاعدة محاسبـة الذات بصورة إرادية أو لا إرادية. فهو على يقيـن من العظمـة اللامتناهية التي يتمتع بها سيده ومولاه الحسين بن علي عليهما السلام، وهو يعرف من خلال التأريخ ماقام به هذا السيد العظيم من تضحية وشجاعة لا نظير لهما على مرّ الزمان. فتراه يعود الى ذاته ويؤنبها إزاء التقصير في ارتكاب الذنوب، والانهزام تجاه المصاعب والعقبات. ولاشك أن التوبة العملية هذه مع ما يزامنها من اعتقاد راسخ بولاية الحسين وأهل البيت عليهم السلام، توبة حقيقية مقبولة لدى الله سبحانه وتعالى .
إذن؛ فالعاطفـة الصادقة على جانب كبير جداً من الأهمية في حيـاة المرء، حيث تحركه وتدفعه وتخلق أمامه أهدافـاً وغايات سامية، علـى اعتبار أنّ حياة الانسان لاتسمى حياةً مالم يسعى الانسان الى تحقيق شيء فيها.
وأصحاب الحسين عليه السلام وصلوا الى هذه الحقيقة، حيث لم يغادروا الحياة مالم يطمئنوا الى أن التاريخ سيكتب منجزاتهم بحـروف مـن نور في قلوب المؤمنين المصرّين على الثـأر لدين الله من الظالميـن والجبابـرة.
وهنا يجب أن نلتفت الى أن المصباح هو الذي يشع بالنور، والهدى هو الذي يهدي الانسان الى الطريق المستقيم. وإننا كأمة مسلمة بعيدون عن الإمام الحسين عليه السلام من هذه الناحية، فنحن نعيش مع سيد الشهداء في عواطفه ومأساته فقط مع بالغ الأسف.
وللتوضيح أقول: إن تاريخ كربلاء ينقل لنا بأن الإمام الحسين عليه السلام وأصحابه استمهلوا الأعداء سواد ليلة عاشوراء، ولم يكن طلب الفرصة هذا ناتجاً عن خوف من الموت أو الاستشهاد، حيث أن هذا الركب الشجاع لم يقدم الى ارض كربلاء إلاّ وكان عارفاً بما سيؤول اليه مصيره مسبقاً. والدليل على ذلك أن الإمام عليه السلام نفسه كان قد قال قبيل مغادرته المدينة المنورة في معرض رده على تحذير من حذره القتل وتعرض نسائه ونساء أصحابه للتنكيل والتشريد من قبل الجيش الأموي، قال عليه السلام: "قد شاء الله أن يراهن سبايا". (29)
لقد كان سبب الطلب المشار اليه الرغبة في تجديد العهد بكتاب الله تبارك وتعالى، فالحسين عليه السلام كان القرآن الناطق. لذا نحن نرى في حركته ومنهجه قرآناً ينطق بصدق الحديث وصدق الأمانة والتضحية والتفاني في ذات الله. فواقعة كربلاء كانت تجسيداً واقعياً لتعاليم القرآن والوحي المنزل .
ومن جانبنا نحن المسلمين، كلما كان التصاقنا بالقرآن الكريم وتعاليمه شديداً، كلما كان اقترابنا للحسين عليه السلام شديداً أيضاً، والعكس هو الصحيح. فالطرفان يعبران عن إرادة إلهية تتجلى في ضرورة إنقاذ الانسان نفسه من الوساوس والانحرافات .
يقول ربنا سبحانه وتعالى: (قُلْ إِن كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّه( (آل عمران/31)، أي إن كنتم تدّعون محبّة الله ومحبة رسوله ومحبة أولياء الله (فَاتَّبِعُونِي( على اعتبار أن هذا الحب لابد له من طاعة لتتقرّب به، كي لايكون حبّاً فارغاً. فالاتباع بمختلف معانيه ومصاديقه، وبمختلف ما يستدعي من تضحية وشجاعة وفداء هو الحب المنشود، وإذا ما اقترن الحب بالطاعة لله تكون النتيجة العملية لـه: (يُحْبِبْكُمُ اللّهُ(.
فالعاطفة والعقل إذا ما امتزجا يولّدان الفلاح، حيث يقول تعالـى: (يُحْبِبْكُمُ اللّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَاللّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ * قُلْ أَطِيعُواْ اللّهَ وَالرَّسُولَ فإِن تَوَلَّواْ فَإِنَّ اللَّهَ لاَ يُحِبُّ الْكَافِرِينَ( (آل عمران/31-32)، وهذه الحقيقة تمثل إحدى مصاديق الكفر التي قد يصاب بها الانسان من حيث لايشعر، إذ يحصل التفاوت بين قوله وفعله؛ بين اعتقاده وسلوكه.
وقد جاء عن الامام جعفر بن محمد الصادق عليه السلام حديث يحتل أعظم درجات الأهمية، حيث يتضمـن بيان موقع أئمة أهـل البيت عليهـم السلام، كما يتضمن ضرورة ما ينبغي أن يكون عليه شيعتهم ومواليهم؛ بل وجميع المسلمين، حيث يقول عليه السلام: "إن الله تبارك وتعالى أوجب عليكم حبّنا وموالاتنا، وفرض عليكم طاعتنا، ألا فمن كان منّا فليقتدِ بنا فإن من شأننا الورع والاجتهاد، وأداء الأمانـة الى البرِّ والفاجر، وصلة الرحم، وإقراء الضيف والعفو عن المسيء ، ومن لم يقتدِ بنا فليس منّا، وقال عليه السلام: لا تسفّهوا فإنَّ أئمتكم ليسوا بسفهاء". (30)
فالانسان - لكي يصل الجنة - عليه أن يعفّ نفسه عن ارتكاب المعاصي ، وأن يبذل كل وسعه ويجدّ ويجتهد في طريق أداء الواجبات الشرعية الذي هو - في واقع الأمر - المسؤول أولاً وآخراً عنها. فأئمة أهل البيت عليهم السلام لايحبون الشخص الكسول الجامد، وانما يحبون المؤمن الذي يبذل جهده تماماً أويستنفذ طاقته في اطار الطاعة .
أما أداء الامانة، فهو أمر ذو وجوه؛ منها وجه تحمل المسؤوليات السماوية انطلاقاً من مفهوم الآية القرآنية القائلة : (اِنَّا عَرَضْنَا الأَمَانَةَ عَلَى السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَن يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الاِنسَانُ( (الاحزاب/72)، ومنها نبذ الخيانة الذي يعكس الصورة الصحيحة للأئمة ولشيعتهم ، رغم ما يبذله حـزب الشيطان من مساع حثيثة لتشويه صورتهم بين الناس. وكان الامام السجاد عليه السلام يقول بهذا الصدد: "عليكم بأداء الأمانة فوالّذي بعث محمداً بالحق نبياً لو أنَّ قاتل أبي الحسين بن علي عليه السلام ائتمنني على السيف الذي قتله به لأدّيته اليه". (31)
وكان رسول الله صلى الله عليه وآله قد قال من قبل: "لا تنظروا إلى كثرة صلاتهم وصومهم، وكثرة الحج والمعروف، وطنطنتهم بالليل، ولكن انظروا الى صدق الحديث وأداء الأمانة". (32)
فالمطلوب والأهم من الوجهة الشرعية تطبيق المعتقدات دون الاكتفاء بالناحية النظرية لها، وهذا لعمري خلاصة وجذوة الرسالات السماوية.
ثم إن الله سبحانه وتعالى وبعد أن وضّح الخارطة الايمانية التي ينبغي للانسان المسلم السير وفقها، قال : (إِنَّ اللّهَ اصْطَفَى ءَادَمَ وَنُوحاً وءَالَ إِبْرَاهِيمَ وءَالَ عِمْرَانَ عَلَى الْعَالَمِينَ((آل عمران/33)، وهو بذلك يدفع المؤمنين الى التطلع عبر ايمانهم العملي نحو أن يكونوا من المصطفين الأخيار . فالاصطفاء أمر يعمّ جميع المؤمنين؛ ممن يدفعهم الايمان الجاد الى التطور والوعي الأكثر والأوسع لحقيقة الوجود ومصيره.
والسؤال الأكثر جدية الذي أودّ طرحه في هذا المقام هو: انه على الرغم من عمق العلاقة العاطفية التي تربط الموالين للامام الحسين عليه السلام، فاننا نرى تفاوتاً واضحاً بين مستوى العلاقة العاطفية وبين مقدار الاندماج الفكري والعقلي بقضية كربلاء ورؤى الإمام الحسين عليه السلام وأخلاقه. فما السبب في ذلك يا ترى، علماً بأننا قدّمنا فيما مضى من القول بأن العلاقة العاطفية بالحسين عليه السلام وقضيته العادلة لا تأخذ مصداقيتها مالم ينضم اليها وعي والتزام فكريان ؟
لقد تركنا الاطار الفكري للقضية، وكأن السبط الشهيد عليه السلام قد ولد في يوم عاشوراء وقتل فيه. وها نحن لانعرف -أو لا نتطلع لأن نعرف- من الإمام الحسين سوى أحداث كربلاء، رغم عظمتها. في حين أن حياة الإمام الحسين عليه السلام تحمل في طياتها العظمة برمتها، بدءاً بمولده الشريف في الصدر الأول للاسلام، ثم امتداداً لمعطيات هذا المولد المبارك. إننا لا نكلف انفسنا البحث في رسائل وخطب سيد الشهداء اللاهبة الى معاوية، فضلاً عن عدم تدبّرنا فيها .. وإننا نتغافل عن مطالعة رسائله عليه السلام المفصّلة فيما يخص حياة العلماء وصفاتهم، بل ولا نسعى الى التدبر في الزيارات التي نقرؤها تعظيماً وعرفاناً بجميل الحسين عليه السلام لنا .. فهل فكّر الواحد منا فيما تعنيه هذه الزيارات؟ ولماذا هذا التعدد فيها ؟ ولماذا هذا التوقيت الخاص لأنواعها وأقسامها ؟
وإننا في الوقت الذي نكون بأمس الحاجة الى أجهزة تبليغية متطورة وفاعلة بهذا الشأن، نرى الكثير من الخطباء عديمي الاهتمام بما تعنيه هذه الزيارات مع العلم أنها قد صدرت عمن هم معصومون عن الخطأ، الأمر الذي يحول دون الانتفاع بهذه الزيارات أدنى نفع.
وإنني إذ أقرأ الزيارة المعروفة بزيارة عاشوراء كثيراً ما تستوقفني عباراتها النورانية، والتي منها هذه العبارة: "السلام عليك يا أبا عبد الله وعلى الأرواح التي حلّت بفنائك وأناخت برحلك". فالأرواح التي حلت بفناء الحسين عليه السلام هي أرواح الأنبياء والشهداء والعلماء والصديقين؛ أرواح المخلصين الذين يهمهم خدمة الدين وإعلاء كلمته .
فأنعِم وأكرِم بلحظة أو ساعة او حياة يخصص الإنسان فيها جهوده وطاقاته لكي يكون مع هذا الامام العظيم؛ الامام الذي على أساس جهاده قامت قائمة الدين بعد عواصف وسيول التحريف والكبت والطغيان؛ بل وأكثر من ذلك كله، هو استمرار معطيات الثورة الحسينية بالنسبة للمصممين على إنقاذ شعوبهم من عبودية الطاغوت .
ونحن بدورنا نسلم على تلك الأرواح ونقول: السلام عليك يا أبا عبد الله وعلى الأرواح التي حلت بفنائك وأناخت برحلك، ولا جعله الله آخر العهد منّا لزيارتكم، السلام على الحسين وعلى علي بن الحسين وعلى أولاد الحسين وعلى أصحاب الحسين جميعاً ورحمة الله وبركاته.
السيد محمد تقي المدرسي
تعليق