اعلم انه لا مستحق للحب غير الله ـ سبحانه ـ، ولا محبوب بالحقيقة عند ذوي البصائر إلا هو، ولو كان غيره ـ تعالى ـ قابلا للحب وموضعا له فانما هو من حيث نسبته إليه ـ تعالى ـ، فمن احب غيره ـ تعالى ـ لا من حيث نسبته إليه، فذلك لجهله وقصوره في معرفة الله، وكيف يكون غيره ـ سبحانه ـ من حيث هو، لا من جهة انتسابه إليه، مستحقا للحب، وهو في نفسه مع قطع النظر عنه ـ تعالى ـ وعن انتسابه إليه ليس إلا العدم، والعدم كيف يصلح للحب، فينبغي ان يكون حبه لعموم الخلق بعموم النسبة، أي من حيث انها منه ـ تعالى ـ، وآثاره، ومعلولاته، واضوائه واظلاله، ولخصوص بعض الخواص الذين لهم خصوصية نسبة إليه ـ تعالى ـ، كالحب، والإنس، والمعرفة، والاطاعة لخصوص النسبة أيضا.
ومما يوضح المطلوب: ان جميع أسباب الحب مجتمعة في حق الله ـ تعالى ـ، ولا توجد في غيره حقيقة، ووجودها في حق غيره وهم تخيل ومجاز محض لا حقيقة له.
اما السبب الأول ـ اعني محبة النفس: فمعلوم ان وجود كل أحد فرع لوجود ربه وظل له، ولا وجود له من ذاته، بل هو من حيث ذاته ليس محض وعدم صرف، فوجوده ودوام وجوده وكمال وجوده من الله وبالله وإلى الله، فهو الموجد المخترع له، وهو المبقي له، وهو المكمل لوجوده بايجاد صفات الكمال فيه، فهو صرف العدم لولا فضل الله عليه بالايجاد، وهالك بعد وجوده لولا فضله عليه بالابقاء، وناقص بعد بقائه لولا فضله عليه بالتكميل، فليس في الوجود شيء له قوام بنفسه إلا القيوم المطلق الذي هو قائم بذاته ومقوم لغيره. وحينئذ، فمحبة كل شيء لنفسه ترجع إلى محبة ربه، وان لم يشعر المحب به، وكيف يتصور ان يحب الإنسان نفسه ولا يحب ربه الذي به قوام نفسه؟ مع ان من احب الظل احب بالضرورة الاشجار التي بها قوام الظل، ومن احب النور احب لا محالة الشمس التي بها قوام النور، وكل ما في الوجود بالاضافة إلى قدرة الله ـ تعالى ـ كالظل بالاضافة إلى الشجر والنور بالاضافة إلى الشمس، إذا الكل من آثار قدرته، ووجوده تابع لوجوده، كما ان وجود الظل تابع لوجود الشخص، ووجود النور تابع لوجود الشمس، بل هذا المثال انما هو للتفهم، والاضافة إلى اوهام العوام، حيث يتوهمون ان الظل والنور تابعان للشخص والشمس وفايضان عنهما، وعند التحقيق ليس الظل والنور أثرين للشخص والشمس وموجودين بهما، بل هما فايضان من الله ـ تعالى ـ، موجودان به بعد حصول الشرائط، كما ان اصل الشخص والشمس وشكلهما وصورتهما وسائر صفاتهما منه ـ تعالى ـ.
اما السبب الثاني، والثالث ـ اعني الالتذاذ والإحسان، سواء كان متعدياً إلى المحب ام لا: فمعلوم انه لا لذة ولا احسان إلا من الله ـ تعالى ـ، ولا محسن سوى الله، فانه خالق الاحسان وذويه، وفاعل اسبابه ودواعيه، وكل محسن فهو حسنة من حسنات قدرته وحسن فعاله، وقطرة من بحار كماله وافضاله.
واما الرابع ـ اعني الحسن والجمال والكمال: فلا ريب في انه ـ تعالى ـ هو الجميل بذاته والكامل بذاته، وهو الجمال الخالص، والكمال المطلق، وحقيقتهما منحصرة به ـ تعالى ـ، وما يوجد في غيره ـ تعالى ـ من الجمال والكمال لا يخلو عن شوائب الخلل والنقصان، إذ النقص شامل لجميع الممكنات وانما تتفاوت في درجات النقص. وقد عرفت ان الجمال المعنوي اقوى من الجمال الصوري، ومن كان من أهل البصيرة وكمال يكون حبه للجمال الباطن المعنوي اكثر واقوى من حبه للجمال الصوري، وحقيقة الجمال المعنوي الذي هو وجوب الوجود، وكمال العلم والقدرة، والاستيلاء على الكل، واستناد الجميع إليه، منحصر بالله ـ تعالى ـ، فإذا كان الجمال المشوب بالنقص محبوباً، فكيف لا يكون الجمال الخالص البحت الذي لا يتصور جمال فوقه محبوبا، بل المحبوب حقيقة ليس إلا هو.
صاف اگر باشد ندانم چون كند[4]
بادهء خاك آلودتان مجنون كند
على ان كل جميل بالجمال الظاهر الصوري، أو بالجمال الباطن المعنوي، رشحة من رشحات جماله، وكل كامل فكماله فرع كماله، فكل من احب جميلا احب خالقه وما احب احداً غير الله ـ تعالى ـ، لكنه احتجب عنه تحت وجوه الأحباب واستار الأسباب، هذا مع ان عمدة جمال المخلوقين انما هو علمهم بالله وبصفاته وافعاله، وقدرتهم على اصلاح نفوسهم بازالة الرذائل والخبائث الشهوية المانعة عن التقرب إلى الله ـ تعالى ـ، وباتصافهم بمعالي الصفات وشرائفها المقربة إلى الله، وعلى اصلاح عباد الله بالارشاد والسياسة، ومعلوم ان هذه الأمور اضافات إلى الله ـ سبحانه ـ، فحبها يرجع إلى حبه ـ تعالى ـ.
وأما الخامس ـ اعني المناسبة الخفية والمجانسة المعنوية: فلا ريب في ان للنفس الناطقة الإنسانية مناسبة مجهولة خفية مع باريها وموجدها، إذ هي شعلة من شعلات جلاله، وبارقة من بوارق جماله، ولذا قال الله ـ سبحانه ـ:
" قل الروح من أمر ربي " وقال: " إني جاعل في الأرض خليفة "[6].
إذ لم يستحق آدم خلافة الله لا بتلك المناسبة، وبهذه المناسبة ينقطع العبد إلى ربه، ويعرفه عند ابتلائه بمصيبة وبلية، وهذه المناسبة لا تظهر ظهوراً تاماً إلا بالمواظبة على النوافل بعد أحكام الفرائض، كما قال الله ـ تعالى ـ: " لا يزال العبد يتقرب الي بالنوافل حتى أحبه، فإذا احببته كنت سمعه الذي يسمع به، وبصره الذي يبصر به، ولسانه الذي ينطق به ". وهذا موضع تزل فيه الاقدام، حتى وقع قوم في التشبيه الظاهر، وآخرون في الحلول والاتحاد، وأهل الحق الذين انكشفت لهم استحالة التشبيه والاتحاد، وفساد طرفي التفريط والافراط، واتضحت لهم حقيقة الشر، وعرفوا تلك المناسبة واستقاموا عليها: هم الاقلون. ثم من المناسبة الظاهرة التي بين العبد وبين ربه هو قرب العبد من الله في الصفات الربوبية والأخلاق الإلهية: كالعلم، والبر، والإحسان، واللطف، وافاضة الخير والرحمة على الخلق، وارشادهم إلى الحق... إلى غير ذلك من الصفات الإلهية، ولذا قيل: تخلقوا باخلاق الله. ولا ريب في ان ذلك يقرب العبد إلى الله، ويصيره مناسباً له. واما العلية والمعلولية فالأمر فيه ظاهر، وباقي الأسباب أسباب ضعيفة نادرة، اعتبارها في حق الله نقص.
وقد ظهر مما ذكر! أن أسباب الحب بجملتها متظاهرة في حق الله ـ تعالى ـ تحقيقاً لا مجازاً، وفي اعلى الدرجات لا ادناها. ثم كل من يحب احداً من الخلق بسبب من هذه الأسباب يتصور ان يحب غيره لمشاركته اياه في السبب. والشركة نقصان في الحب، لا يتصف أحد بوصف محبوب إلا ويوجد شريك له فيه، والله ـ سبحانه ـ هو الذي لا يشاركه غيره في اوصاف الكمال والجمال، لا وجوداً ولا امكاناً، فلا جرم لا يكون في حبه شركة، فلا يتطرق إليه نقصان، كمالا تتطرق الشركة والنقصان إلى اوصاف كماله، فهو المستحق لاصل المحبة وكمالها، ولا متعلق للمحبة إلا هو، إلا انه لا يعرف ذلك إلا العارفون من اوليائه واحبائه، كما قال سيد الشهداء (ع) في دعاء عرفة بقوله: " وانت الذي ازلت الاغيار عن قلوب احبائك، حتى لم يحبوا سواك، ولم يلجأوا إلى غيرك ".
تعليق