العزيز من أطاع الله والذليل من عصاه
أوحى الله سبحانه وتعالى إلى النبيّ موسى(ع)، أنّ مقامه في الجنّة هو مقام امرأة ذكر له اسمها، فأراد موسى(ع) أن يعرف السّرّ الّذي جعل من هذه المرأة تصل إلى مكانة نبيّ من أنبياء أولي العزم، فذهب إليها وطلب منها أن تتحدّث له عن حياتها وما تقوم به، فأجابته أنّها تتعبّد كما يتعبّد كلّ النّاس، وتعيش كما يعيش بقيّة النّاس، وعندما دقّق أكثر، وجدها قد كرّست حياتها راضيةً فرحة، لخدمة أمّ عاجزة، أطاعت الله من خلالها، فنالت عند ربّها هذه المنزلة العزيزة الرّفيعة...
مكانة الإنسان في ميزان الله
قد تختلف كيفيّة تقدير مكانة الإنسان في مجتمعه باختلاف الأوزان، وغالباً ما تكون المعايير المستعملة مؤشِّراً يدلّك في أيّ مجتمع أنت؛ هل هذا المجتمع يزن مكانة المرء بماله، أم بالمنصب الّذي وصل إليه، أم بنَسَبه وعائلته وعشيرته، أم بعلاقاته وحظوته لدى المواقع العالية والمناصب المؤثّرة؟
وهذه الموازين هي الّتي نراها ـ للأسف ـ سائدةً عند الكثير من البشر، وعلى أساس ذلك، يقيِّمون بعضهم بعضاً في الدّنيا، وقلّة هم الّذين يفكّرون عكس هذا التيّار.
أمّا في ميزان الله تعالى، فليس لهذه الأثقال أيّ وزن يُذكر، فالطّريق إلى العزّة عنده، والمكانة الرّفيعة لديه، لا يمكن أن تكون ضربة حظّ، ولا جزءاً من إرث، ولا جائزة ترضية، ولا صفقة في بورصة سياسيَّة أو اقتصاديَّة، بل إنَّ كلَّ هذه المقاييس هي في حسابات الله فتنة، وابتلاء، واختبار، وموضع سؤال: {ثُمَّ لَتُسْأَلُنَّ يَوْمَئِذٍ عَنِ النَّعِيمِ}(التّكاثر: 8).
ولهذا، فإنّ كلّ هذه النّعم قد تكون مشكلةً للمرء في الدّنيا عندما يخضع لمنطقها ولا يحسن التصرّف بها، وقد تودي به في مهاوي النّار عندما يتجاوز الحدود، بل قد تصبح فخّاً يوقع صاحبها في حبائله، حين تتحوّل هذه النّعم إلى غاية وهدف ومحور لحياته، بحيث يعيش لاهثاً وراء تحقيقها في تكديس أموال أو في الوصول إلى سلطة أو جاه أو منصب...
هذا النّموذج من النّاس، يجعله عزّه الدّنيويّ، إن حصل عليه، فرعوناً صغيراً أو قاروناً أو نيروناً... وكلّما عظُمت سلطته أو قوّته أو طغيانه أو ماله، تصبح ذاته صنماً حقيقيّاً، ولا فرق عندها بينه وبين أيِّ وثنيّ يعبد صنماً من حجر، سوى أنّه هنا يعبد مالاً أو سلطاناً أو أشخاصاً، وهناك يعبد أحجاراً وأصناماً، والعبادة لغير الله هي صنميّة وشرك، حتّى وإن لم تُعلن..
فهدف التّوحيد هو معرفة الله والخضوع له وليس لغيره، وهدفه إعادة الإنسان إلى حجمه الطّبيعيّ، فإذا جعلت منه العزّة كائناً منتفخاً استكباراً وغروراً، فإنّ هذه العزّة تكون صورةً من صور العبوديّة أيضاً، وقد تكون أخطر منها، لأنّها عبوديّة مبطّنة تحت عناوين المصلحة والرّزق والسّعي والتطوّر وما إلى ذلك..
موقع العزّة الحقيقيّ
لقد بنى الله سبحانه وتعالى موقع العزّة الحقيقيّ، عندما قال لعباده بكلّ وضوح: {إِنَّ الْعِزَّةَ لِلَّهِ جَمِيعًا...}(يونس:65). والعبد إذا ما أراد أن يصل إلى العزّة، فعليه بطاعة الله، ففي هذا يقول رسول الله(ص): "يقول الله تعالى كلّ يوم: أنا ربّكم العزيز، فمن أراد عزّ الدّارين فليطع العزيز".
وورد عن رسول الله(ص): "من أراد عزّاً بلا عشيرة، وهيبةً بلا سلطان، فلينتقل من ذلّ معصية الله إلى عزّ طاعته"، ذلك هو العزّ الحقيقيّ: "أن تذلّ للحقّ إذا لزمك"، أن تكون صادقاً "فالصّدق عزّ"، أن تكون عالماً لأنّ "الجهل ذلّ"... "أن تكفّ أذاك عن النّاس"، "أن تترك القيل والقال"، كما يقول الإمام عليّ(ع)، أمّا أرفعه، فيضيف(ع): "لا عزّ أرفع من الحلم".
وعلينا أن ندرك أنّ العزّ والملك والجاه والمكانة هي كلّها نعم من نعم الله وبمشيئته: {قُلِ اللَّهُمَّ مَالِكَ الْمُلْكِ تُؤْتِي الْمُلْكَ مَن تَشَاء وَتَنزِعُ الْمُلْكَ مِمَّن تَشَاء وَتُعِزُّ مَن تَشَاء وَتُذِلُّ مَن تَشَاء بِيَدِكَ الْخَيْرُ إِنَّكَ عَلَىَ كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ}(آل عمران: 26).
وقد تحدّث القرآن الكريم بكلّ وضوح عن الّذين بنوا أمجادهم ومواقعهم على غير خطّ الله: {الَّذِينَ يَتَّخِذُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاء مِن دُونِ الْمُؤْمِنِينَ أَيَبْتَغُونَ عِندَهُمُ الْعِزَّةَ فَإِنَّ الْعِزَّةَ لِلَّهِ جَمِيعًا}(النّساء: 139).
وقد ورد عن الإمام عليّ(ع): "ومن اعتزّ بغير الله أهلكه العزّ". لماذا؟ لأنّ العزيز بغير الله لا يمكن إلا أن يكون ذليلاً وعبداً لمن أعطاه السّلطة.. وصاحب الجاه الّذي تأخذه حميّة العزّة الموهومة وغرور الجاه، يتحوّل إلى عبدٍ لهذا الجاه، حتّى وإن بدت حاله على عكس ذلك، فهو أذلّ النّاس، مسكين لم يذق طعم الرّفعة والعزّة الحقيقيّتين، بل كلّ ما هو فيه وهم وسراب..
أمّا الّذي رفعه الله وأعطاه نعمة المكانة والعزّة، فتراه يسعى جاهداً لأن لا يشعر النّاس بينهم وبينه بالفارق، فهو يتواضع حتّى يقلّص المسافة الّتي يوجدها المنصب أو توجدها المكانة العالية بينه وبين الآخرين، فالتّواضع هو العلامة الفارقة، هو ما نقيس به حقيقة كلّ صاحب عزّ أو منصب أو موقع، ولنا في رسول الله أسوة حسنة:
فالرّسول الأكرم(ص) هو أفضل خلق الله، هو القائد والحاكم، كان إذا دخل مجلساً، لا يجلس في المكان المميّز، بل كان يجلس حيث ينتهي به المجلس...
ونبيّ الله عيسى(ع)، كان يطلب من الحواريّين أن يمدّوا أرجلهم ليغسلها لهم، فيقال له نحن أحقّ بذلك يا روح الله، فأنت سيّدنا ونبيّنا، فيقول(ع): "سيّد القوم خادمهم".
وعليّ(ع) وهو أمير المؤمنين، كان يرفض أن يلحق النّاس بدابّته، أو أن ينزلوا من على دوابّهم احتراماً له كما يفعلون مع الأمراء...
مفهوم العزّة
ليس من الضّروريّ حتّى يكون الواحد منّا عزيزاً أن يملك ثروةً أو جاهاً وموقعاً، ليست العزّة أن ترفع رأسك عالياً وتشعر بانتفاخ شخصيّتك لما وصلت إليه، وخصوصاً إذا وصلت إلى ذلك بين ليلةٍ وضحاها، بل العزّة هي القوّة الدّاخليّة الّتي تمتلكها، والّتي تجعلك لا تخضع لهوى يفقدك عدلك مع من تعمل معهم ولهم، ولا لعصبيّة تمنعك عن سماع رأيٍ مخالف لرأيك، ولا لشهوةٍ وطمعٍ تبررّهما لنفسك بأنّ هذا من شأنك. نعم، أنت بحاجة إلى تلك القوّة الداخليّة التي تستمدّها من الله، لتقف بكلّ عزة وعنفوان، ومهما كان تقييم النّاس لك وأينما كنت.
فقد تكون عزيزاً وأنت في غياهب السّجن، كما كان يوسف(ع)، وكما يستشعر كلّ الأحرار، وتكون عزيزاً وأنت تواجه تحدّياً أخلاقيّاً وتصمد، وتكون عزيزاً وأنت تواجه مغريات الفساد وترفض.
وفي المقابل، قد تكون ذليلاً وأنت تملك كلّ ما يحلم بامتلاكه ملايين البشر...
كان الإمام الحسين(ع) عزيزاً، لهذا خُلِّد اسمه، وصار رمزاً لمواقف العزّ ومنارةً تشعّ في ظلمات التّاريخ، فيما كلّ الّذين وقفوا قبالته في تيهٍ وكبرياء، وهم يضربون بسيف الحاكم، كان عزّهم عزّ الأذلاء، عبيد الدّرهم، جُلّ ما كانوا يريدونه، ما قاله قائدهم عمر ابن سعد: "اشهدوا لي عند الأمير أنّي أوّل من رمى".
وهناك فرق كبير بين من يعمل وهدفه "اشهدوا لي عند فلان"، ومن يعمل وهدفه "اشهدوا لي عند الله"، وهذا الفرق هو القضيّة وهو الميزان والمفترق الّذي يجعلك إمّا في معسكر الذلّ أو في فضاء العزّة والكرامة..
فمن يشهد لمن في هذه الحياة والكلّ سواء، ومن يعلّق نيشاناً ووساماّ لمن، والكلّ لا يملكون لأنفسهم نفعاً ولا ضرّاً من دون الله، والله هو الشّاهد والمطّلع، يعلم خائنة الأعين وما تخفي الصّدور، هو مقلّب القلوب والأبصار وإليه ترجع الأمور..
ففي أيّ ساحةٍ من ساحات الحياة، وفي أيّ موقعٍ كان الإنسان، فهو دائماً أمام ثلاثة خيارات:
الأوّل: موقف إرضاء النّاس أو الزّعماء ولو على حساب الحقّ والعدل، بالسّكوت على الفساد والظّلم والتّزوير.
والثّاني: هو موقف نصرة الحقّ ورفض الباطل، لأنَّ رهانه على حسابات الله لا على حسابات النّاس الدّنيويّة..
أمّا موقف وضع رِجْلٍ في الفلاحة ورِجْلٍ في البور، واحدة في موقع الحقّ وأخرى في موقع الباطل، فهذا خيار المتلوّنين وأصحاب الأقنعة، والّذي لن يجني صاحبه منه غير الذلّ في الدّنيا والآخرة.
عقدة المستوى
إنَّ لواقعنا اليوم مع موضوع العزّ والموقع والجاه حديث طويل، حيث لم يعد يُخفى كيف يعاني هذا الواقع من عقدة: "كيف نبدو أصحاب جاه وميزة ومستوى؟".
وفي واقعنا، أصبح المظهر الخارجيّ هو المهمّ، بما يمثّله من شكلٍ وتصرّفات وطريقة إنفاق وحتّى طريقة كلام، والأهمّ لدى الكثيرين، هو كيف نقنع الآخرين بأنّنا ذوو أهميّة وشأن ورفعة، ولأجل هذا، يعيش هؤلاء أسرى لأسلوب العيش الفلانيّ، أو للنّمط الفلانيّ، ولارتياد الأماكن الفلانيّة.. والله هذا لأمر عجيب، وخصوصاً أنّ معظم هؤلاء هم ليسوا كذلك، وهم يغشّون أنفسهم، يحملون ثقل الدّين ليتزيّنوا، ويغرقون في المشاكل الماليّة والقروض الّتي توصل إلى السجون في أحيان كثيرة..
لقد بات يسيطر على النّاس هاجس المستوى: هذا في مستواي، وهذا ليس في مستواي، هذا يناسب العائلة والعشيرة وهذا لا يناسبهما، وما الى هنالك من حسابات ضيّقة، هذا على الصّعيد الاجتماعيّ.
واجب لا خيار
العزّة هي قيمة الحياة، هي ليست خِياراً، هي واجب لا يمكن التّفريط به أبداً: "إنّ الله فوّض إلى المؤمن أموره كلّها ولم يفوّض إليه أن يكون ذليلاً".
الأعزّاء الأعزّاء هم الّذين: "عظم الخالق في أنفسهم، فصغر ما دونه في أعينهم..".
والأعزّاء الأعزّاء هم الّذين يقولون: "إلهي إن رفعتني فمن ذا الّذي يضعني، وإن وضعتني فمن ذا الّذي يرفعني..".
والأعزّاء الأعزّاء هم الّذين يستشعرون عظمة عزّة عليّ(ع) في مناجاته: "إلهي كفى بي عزّاً أن أكون لك عبداً، وكفى بي فخراً أن تكون لي ربّاً"..
مكتب سماحة آية الله العظمى السيد محمد حسين فضل الله (رض)
أوحى الله سبحانه وتعالى إلى النبيّ موسى(ع)، أنّ مقامه في الجنّة هو مقام امرأة ذكر له اسمها، فأراد موسى(ع) أن يعرف السّرّ الّذي جعل من هذه المرأة تصل إلى مكانة نبيّ من أنبياء أولي العزم، فذهب إليها وطلب منها أن تتحدّث له عن حياتها وما تقوم به، فأجابته أنّها تتعبّد كما يتعبّد كلّ النّاس، وتعيش كما يعيش بقيّة النّاس، وعندما دقّق أكثر، وجدها قد كرّست حياتها راضيةً فرحة، لخدمة أمّ عاجزة، أطاعت الله من خلالها، فنالت عند ربّها هذه المنزلة العزيزة الرّفيعة...
مكانة الإنسان في ميزان الله
قد تختلف كيفيّة تقدير مكانة الإنسان في مجتمعه باختلاف الأوزان، وغالباً ما تكون المعايير المستعملة مؤشِّراً يدلّك في أيّ مجتمع أنت؛ هل هذا المجتمع يزن مكانة المرء بماله، أم بالمنصب الّذي وصل إليه، أم بنَسَبه وعائلته وعشيرته، أم بعلاقاته وحظوته لدى المواقع العالية والمناصب المؤثّرة؟
وهذه الموازين هي الّتي نراها ـ للأسف ـ سائدةً عند الكثير من البشر، وعلى أساس ذلك، يقيِّمون بعضهم بعضاً في الدّنيا، وقلّة هم الّذين يفكّرون عكس هذا التيّار.
أمّا في ميزان الله تعالى، فليس لهذه الأثقال أيّ وزن يُذكر، فالطّريق إلى العزّة عنده، والمكانة الرّفيعة لديه، لا يمكن أن تكون ضربة حظّ، ولا جزءاً من إرث، ولا جائزة ترضية، ولا صفقة في بورصة سياسيَّة أو اقتصاديَّة، بل إنَّ كلَّ هذه المقاييس هي في حسابات الله فتنة، وابتلاء، واختبار، وموضع سؤال: {ثُمَّ لَتُسْأَلُنَّ يَوْمَئِذٍ عَنِ النَّعِيمِ}(التّكاثر: 8).
ولهذا، فإنّ كلّ هذه النّعم قد تكون مشكلةً للمرء في الدّنيا عندما يخضع لمنطقها ولا يحسن التصرّف بها، وقد تودي به في مهاوي النّار عندما يتجاوز الحدود، بل قد تصبح فخّاً يوقع صاحبها في حبائله، حين تتحوّل هذه النّعم إلى غاية وهدف ومحور لحياته، بحيث يعيش لاهثاً وراء تحقيقها في تكديس أموال أو في الوصول إلى سلطة أو جاه أو منصب...
هذا النّموذج من النّاس، يجعله عزّه الدّنيويّ، إن حصل عليه، فرعوناً صغيراً أو قاروناً أو نيروناً... وكلّما عظُمت سلطته أو قوّته أو طغيانه أو ماله، تصبح ذاته صنماً حقيقيّاً، ولا فرق عندها بينه وبين أيِّ وثنيّ يعبد صنماً من حجر، سوى أنّه هنا يعبد مالاً أو سلطاناً أو أشخاصاً، وهناك يعبد أحجاراً وأصناماً، والعبادة لغير الله هي صنميّة وشرك، حتّى وإن لم تُعلن..
فهدف التّوحيد هو معرفة الله والخضوع له وليس لغيره، وهدفه إعادة الإنسان إلى حجمه الطّبيعيّ، فإذا جعلت منه العزّة كائناً منتفخاً استكباراً وغروراً، فإنّ هذه العزّة تكون صورةً من صور العبوديّة أيضاً، وقد تكون أخطر منها، لأنّها عبوديّة مبطّنة تحت عناوين المصلحة والرّزق والسّعي والتطوّر وما إلى ذلك..
موقع العزّة الحقيقيّ
لقد بنى الله سبحانه وتعالى موقع العزّة الحقيقيّ، عندما قال لعباده بكلّ وضوح: {إِنَّ الْعِزَّةَ لِلَّهِ جَمِيعًا...}(يونس:65). والعبد إذا ما أراد أن يصل إلى العزّة، فعليه بطاعة الله، ففي هذا يقول رسول الله(ص): "يقول الله تعالى كلّ يوم: أنا ربّكم العزيز، فمن أراد عزّ الدّارين فليطع العزيز".
وورد عن رسول الله(ص): "من أراد عزّاً بلا عشيرة، وهيبةً بلا سلطان، فلينتقل من ذلّ معصية الله إلى عزّ طاعته"، ذلك هو العزّ الحقيقيّ: "أن تذلّ للحقّ إذا لزمك"، أن تكون صادقاً "فالصّدق عزّ"، أن تكون عالماً لأنّ "الجهل ذلّ"... "أن تكفّ أذاك عن النّاس"، "أن تترك القيل والقال"، كما يقول الإمام عليّ(ع)، أمّا أرفعه، فيضيف(ع): "لا عزّ أرفع من الحلم".
وعلينا أن ندرك أنّ العزّ والملك والجاه والمكانة هي كلّها نعم من نعم الله وبمشيئته: {قُلِ اللَّهُمَّ مَالِكَ الْمُلْكِ تُؤْتِي الْمُلْكَ مَن تَشَاء وَتَنزِعُ الْمُلْكَ مِمَّن تَشَاء وَتُعِزُّ مَن تَشَاء وَتُذِلُّ مَن تَشَاء بِيَدِكَ الْخَيْرُ إِنَّكَ عَلَىَ كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ}(آل عمران: 26).
وقد تحدّث القرآن الكريم بكلّ وضوح عن الّذين بنوا أمجادهم ومواقعهم على غير خطّ الله: {الَّذِينَ يَتَّخِذُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاء مِن دُونِ الْمُؤْمِنِينَ أَيَبْتَغُونَ عِندَهُمُ الْعِزَّةَ فَإِنَّ الْعِزَّةَ لِلَّهِ جَمِيعًا}(النّساء: 139).
وقد ورد عن الإمام عليّ(ع): "ومن اعتزّ بغير الله أهلكه العزّ". لماذا؟ لأنّ العزيز بغير الله لا يمكن إلا أن يكون ذليلاً وعبداً لمن أعطاه السّلطة.. وصاحب الجاه الّذي تأخذه حميّة العزّة الموهومة وغرور الجاه، يتحوّل إلى عبدٍ لهذا الجاه، حتّى وإن بدت حاله على عكس ذلك، فهو أذلّ النّاس، مسكين لم يذق طعم الرّفعة والعزّة الحقيقيّتين، بل كلّ ما هو فيه وهم وسراب..
أمّا الّذي رفعه الله وأعطاه نعمة المكانة والعزّة، فتراه يسعى جاهداً لأن لا يشعر النّاس بينهم وبينه بالفارق، فهو يتواضع حتّى يقلّص المسافة الّتي يوجدها المنصب أو توجدها المكانة العالية بينه وبين الآخرين، فالتّواضع هو العلامة الفارقة، هو ما نقيس به حقيقة كلّ صاحب عزّ أو منصب أو موقع، ولنا في رسول الله أسوة حسنة:
فالرّسول الأكرم(ص) هو أفضل خلق الله، هو القائد والحاكم، كان إذا دخل مجلساً، لا يجلس في المكان المميّز، بل كان يجلس حيث ينتهي به المجلس...
ونبيّ الله عيسى(ع)، كان يطلب من الحواريّين أن يمدّوا أرجلهم ليغسلها لهم، فيقال له نحن أحقّ بذلك يا روح الله، فأنت سيّدنا ونبيّنا، فيقول(ع): "سيّد القوم خادمهم".
وعليّ(ع) وهو أمير المؤمنين، كان يرفض أن يلحق النّاس بدابّته، أو أن ينزلوا من على دوابّهم احتراماً له كما يفعلون مع الأمراء...
مفهوم العزّة
ليس من الضّروريّ حتّى يكون الواحد منّا عزيزاً أن يملك ثروةً أو جاهاً وموقعاً، ليست العزّة أن ترفع رأسك عالياً وتشعر بانتفاخ شخصيّتك لما وصلت إليه، وخصوصاً إذا وصلت إلى ذلك بين ليلةٍ وضحاها، بل العزّة هي القوّة الدّاخليّة الّتي تمتلكها، والّتي تجعلك لا تخضع لهوى يفقدك عدلك مع من تعمل معهم ولهم، ولا لعصبيّة تمنعك عن سماع رأيٍ مخالف لرأيك، ولا لشهوةٍ وطمعٍ تبررّهما لنفسك بأنّ هذا من شأنك. نعم، أنت بحاجة إلى تلك القوّة الداخليّة التي تستمدّها من الله، لتقف بكلّ عزة وعنفوان، ومهما كان تقييم النّاس لك وأينما كنت.
فقد تكون عزيزاً وأنت في غياهب السّجن، كما كان يوسف(ع)، وكما يستشعر كلّ الأحرار، وتكون عزيزاً وأنت تواجه تحدّياً أخلاقيّاً وتصمد، وتكون عزيزاً وأنت تواجه مغريات الفساد وترفض.
وفي المقابل، قد تكون ذليلاً وأنت تملك كلّ ما يحلم بامتلاكه ملايين البشر...
كان الإمام الحسين(ع) عزيزاً، لهذا خُلِّد اسمه، وصار رمزاً لمواقف العزّ ومنارةً تشعّ في ظلمات التّاريخ، فيما كلّ الّذين وقفوا قبالته في تيهٍ وكبرياء، وهم يضربون بسيف الحاكم، كان عزّهم عزّ الأذلاء، عبيد الدّرهم، جُلّ ما كانوا يريدونه، ما قاله قائدهم عمر ابن سعد: "اشهدوا لي عند الأمير أنّي أوّل من رمى".
وهناك فرق كبير بين من يعمل وهدفه "اشهدوا لي عند فلان"، ومن يعمل وهدفه "اشهدوا لي عند الله"، وهذا الفرق هو القضيّة وهو الميزان والمفترق الّذي يجعلك إمّا في معسكر الذلّ أو في فضاء العزّة والكرامة..
فمن يشهد لمن في هذه الحياة والكلّ سواء، ومن يعلّق نيشاناً ووساماّ لمن، والكلّ لا يملكون لأنفسهم نفعاً ولا ضرّاً من دون الله، والله هو الشّاهد والمطّلع، يعلم خائنة الأعين وما تخفي الصّدور، هو مقلّب القلوب والأبصار وإليه ترجع الأمور..
ففي أيّ ساحةٍ من ساحات الحياة، وفي أيّ موقعٍ كان الإنسان، فهو دائماً أمام ثلاثة خيارات:
الأوّل: موقف إرضاء النّاس أو الزّعماء ولو على حساب الحقّ والعدل، بالسّكوت على الفساد والظّلم والتّزوير.
والثّاني: هو موقف نصرة الحقّ ورفض الباطل، لأنَّ رهانه على حسابات الله لا على حسابات النّاس الدّنيويّة..
أمّا موقف وضع رِجْلٍ في الفلاحة ورِجْلٍ في البور، واحدة في موقع الحقّ وأخرى في موقع الباطل، فهذا خيار المتلوّنين وأصحاب الأقنعة، والّذي لن يجني صاحبه منه غير الذلّ في الدّنيا والآخرة.
عقدة المستوى
إنَّ لواقعنا اليوم مع موضوع العزّ والموقع والجاه حديث طويل، حيث لم يعد يُخفى كيف يعاني هذا الواقع من عقدة: "كيف نبدو أصحاب جاه وميزة ومستوى؟".
وفي واقعنا، أصبح المظهر الخارجيّ هو المهمّ، بما يمثّله من شكلٍ وتصرّفات وطريقة إنفاق وحتّى طريقة كلام، والأهمّ لدى الكثيرين، هو كيف نقنع الآخرين بأنّنا ذوو أهميّة وشأن ورفعة، ولأجل هذا، يعيش هؤلاء أسرى لأسلوب العيش الفلانيّ، أو للنّمط الفلانيّ، ولارتياد الأماكن الفلانيّة.. والله هذا لأمر عجيب، وخصوصاً أنّ معظم هؤلاء هم ليسوا كذلك، وهم يغشّون أنفسهم، يحملون ثقل الدّين ليتزيّنوا، ويغرقون في المشاكل الماليّة والقروض الّتي توصل إلى السجون في أحيان كثيرة..
لقد بات يسيطر على النّاس هاجس المستوى: هذا في مستواي، وهذا ليس في مستواي، هذا يناسب العائلة والعشيرة وهذا لا يناسبهما، وما الى هنالك من حسابات ضيّقة، هذا على الصّعيد الاجتماعيّ.
واجب لا خيار
العزّة هي قيمة الحياة، هي ليست خِياراً، هي واجب لا يمكن التّفريط به أبداً: "إنّ الله فوّض إلى المؤمن أموره كلّها ولم يفوّض إليه أن يكون ذليلاً".
الأعزّاء الأعزّاء هم الّذين: "عظم الخالق في أنفسهم، فصغر ما دونه في أعينهم..".
والأعزّاء الأعزّاء هم الّذين يقولون: "إلهي إن رفعتني فمن ذا الّذي يضعني، وإن وضعتني فمن ذا الّذي يرفعني..".
والأعزّاء الأعزّاء هم الّذين يستشعرون عظمة عزّة عليّ(ع) في مناجاته: "إلهي كفى بي عزّاً أن أكون لك عبداً، وكفى بي فخراً أن تكون لي ربّاً"..
مكتب سماحة آية الله العظمى السيد محمد حسين فضل الله (رض)
تعليق