لعبــــ النسيـــــان ـــة.
ﻷرضي فضولي وجدتني أقترب من تلك السيدة الجالسة على مقربة من البحر باسطة قدميها تحاول كتابة شيىء ما لكن الرياح تأبى إﻻ أن تعاندها وتمسح كل كلمة تخطها فتعيد كتابتها من جديد، لم يكن هذا الوجه الحزين مألوفا لي وأنا الذي داومت على حضور موعد ارتماء الشمس بين أحضان البحر، حاولت أن أثير انتباهها لكن دون جدوى ، ألقيت السـﻼم فلم تجب، أشرت عليها بأن تتوجه للرمال المبللة فهي على اﻷقل ستسمح لها بأن تكتب ما تشاء دون أن تنال الرياح من كلماتها، التفتت إلي ببطء وألصقت عيناها الذابلتين بعيناي وقالت : أتحسبني بليدة ؟ ! لو كنت أريد القيام بذلك لفعلت، ولكني ﻻ أفعل هذا عبثا فأنا بكتابتي هذه اﻷسطر أنتقم منها كلما حملتها الرياح ومع كل عملية مسح أرتاح ﻷنها تذكرني بلعبة النسيان التي لم أستطع يوما إتقان قواعدها .
كانت كلماتها قوية وعلمت أني أمام بركان من الذكريات ﻻ مجرد امرأة عادية، وبينما طأطأت رأسها لتتمم ما كانت تقوم به طيلة الدقائق التي راقبتها فيها انشغلتُ بالتفكير في طريقة أكتشف بها هذا الضيف الذي احتل مكاني في هذه الرقعة التي تسمح لي بمشاهدة الغروب إلى آخر فصوله، وسر تلك اﻷسطر المكتوبة بعناية والتي يبدو أن أصابعها اعتادت نقشها على كتبان الرمل الذهبية كأنها راسخة في ذاكرتها .
رجوت الريح أن تتوقف واستأذنت الغروب أن يتأخر قليﻼ لكن هيهات ﻻ شيىء من ذلك حدث ﻷجدني بين مطرقة الجو وسندان الظﻼم الذي بدأ يرخي سدوله على المكان فاستسمحت فضولي الذي طالما أرضيته، وضربت له موعدا عند غروب شمس الغد لمعرفة حقيقة المرأة وأسطرها، وأبى إﻻ أن يؤنبني ويحرمني النوم تلك الليلة، وساعداه في ذلك صوت عقارب الساعة التي هيجت أعصابي ورفعت ضغطي وصوت صفير الرياح الذي يخترق جذران غرفتي.
ومع بزوغ فجر اليوم الموالي وأثناء إرتشافي لكأس قهوتي مطالعا الجريدة ؛ لم أحس بطعم السكر ولم يستأثرني عنوان أي خبر وبقيت صورة تلك المرأة جاثمة على مخيلتي ! ، وعدت لغرفتي ورجوت الساعة أن تسرع بعقاربها .. وصوت : فضولي يمﻸ أرجاء الغرفة :
متى سنذهب للبحر ؟
-قالها بطريقته التي أعرف المغزى منها، هدأ صوته وكأنه يمنحني فرصة ﻻستجماع قواي وترتيب أفكاري المشتتة كحروف تلك السيدة لما تحملها الرياح
عاد فضولي ليراودني مجددا بخططه الغبية التي لطالما تحملت عواقب تطبيقها : إن أردتَ الوصول لدواخل شخص ما يجب أن تُفصح له أوﻻ عما بداخلك لتُنسج خيوط الثقة بينكما.
أوقفته قائﻼ : - هذا ما لن أفعله أبد .
شعرت به غاضبا .. ثائرا كأنه لم يستصغ كلماتي، لم آبه ارتديت معطفي ومضيت، الشوارع المﻸى وهذا الضجيج الذي يخترق كياني، أسرعت بخطاي ألتمس بعض الهدوء والصمت ﻷجدني واقفا أمام باب الحديقة العامة بمواجهة ذاك الكرسي الذي طالما تحملني قبل أن يحملني .
اخترت الجلوس على كرسي آخر تمردا، وبدأت أتفقد المكان بنظراتي كأني أزوره ﻷول مرة، أحسست وكأن صوتا غريبا يكلمني طفقت أطل بعينين حزينتين الى ممرات الحديقة .. ﻻ أحد غيري في هذا المكان، قفزت من مكاني والصوت يحاصرني :
- ألن تتخلص من ذكرياتك ؟
- أستبقى هاربا طوال حياتك ؟
أسندت ظهري للكرسي مجددا ورفعت رأسي للسماء كأني بها تحضنني ﻷجدني قد انسجمت والطبيعة في هذا المكان الذي ساقتني إليه خطواتي فهذا يتيح ﻷمثالي التخلص من شوائب الماضي .
انتابني إحساس غريب، تثاقل جسدي، وتدلت أطرافي، وتغاريد هذه الطيور التي تعلوها نغمة حزن زادت الجو كآبة ولحظات التيه التي أعيشها - آه كم أكرهني إذا تهت بداخلي -، وما إن أغمضت عيناي حتى وجدتني محاصرا .. أمواج البحر المتﻼطمة .. الهائجة .. الطريق الﻼمنتهي .. كثبان الرمل .. بكاء وعويل .. شريط حياتي استُعرض في لحظات وقذف في قلبي رعبا، صرخت بكل ما أوتيت من قوّة : آه ..- أجدني اﻵن قادرا على اتخاذ القرار .. ربما ! .. -
حدّثت نفسي بأن أشارك هذه الطبيعة التي عانقتني ذكرياتي، : اﻷرض .. السماء .. الريح .. الشجر،
كم من الوقت مضى ولم أبح ؟ كم مر من العمر ولم يسكن أضلعي حب ولم يرتسم في خيالي وجه ؟ كم مضى على انطفاء نار الغيرة في قلبي ؟
أخرجت قلمي من جيب معطفي البارد برودة الطقس والتقطت وريقات كانت تفترش اﻷرض وتستمع ﻵهاتي وأحزاني وبدأت أخط أحرفا كثيرة .. تجمد المداد في القلم وتجمد الدم في عروقي لكني استمريت في الكتابة وكلما امتﻸت الورقة رميتها .. اﻷولى .. الثانية .. الثالثة .. العاشرة .. رميتهم كلهم الواحدة تلو اﻷخرى .
وشعرت بوجه يراقبني .. يقترب مني .. يمد يده فيأخذ قلمي ويهديني قلما ورديا مُتبعه بكلمات : لو كان القلم يكتب على الرمل لكتبت ذكرياتي وأحزاني .. لقد كنت شجاعا عندما اخترت أوراق الشجر فاكتب ما لم أستطع أنا كتابته.
رفعت رأسي ﻷجدها نفس المرأة التي قابلتها في البحر، أخذت القلم وبقيت أكتب .. وأكتب فذكرياتي وأحزاني أعظم من أن أدقق في التفاصيل ولما انتهيت وجدتها قد غادرت ..! تبعتها وقد هجم الليل .. فأحسني كمتشرد بين اﻷزقة أبحث عن شيىء ﻻ أعرفه .. تهت وسط هذه
اﻷجساد والوجوه التي ﻻ تشبهني - ما أحوجني اﻵن الى من ينتشلني - ضللت الطريق وكل ما أحمله قلمها ووريقاتي التي قررت رميها كما رميت ماضي ﻷتخلص مني .. لم يرحموها فالتصقت بأحذيتهم وداستها نعالهم وشقت خدّي دمعة دافئة، وفجأة أحسست بيد تمسك يدي وتشد باﻷخرى على القلم وتقول : قد نحتاجه في تدوين لحظات المستقبل .
تعليق