قضاء الحوائج: قيمة إسلامية وإنسانية
بسم الله الرحمن الرحيم اللهم صل على محمد وال محمد
العلامة السيد علي فضل الله
قال الله سبحانه وتعالى في كتابه العزيز: {وَتَعَاوَنُواْ عَلَى الْبرِّ وَالتَّقْوَى وَلاَ تَعَاوَنُواْ عَلَى الإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَاتَّقُواْ اللّهَ إِنَّ اللّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ}[المائدة:2]..
الأنبياء وقضاء الحوائج
في عرض القرآن الكريم لسيرة النَّبيّ موسى(ع)، يذكر أنَّه ـ وبعد أن خرج النّبيّ موسى من مصر هارباً من فرعون خشية أن يقتله ـ وصل إلى مَدْيَنَ (في الحجاز اليوم)، وقد أنهكه التّعب والجوع والظّمأ، وما كاد يجلس على الأرض ليستريح، حتّى رأى امرأتين تسعيان بلوغ ماء البئر لتسقيا أغنامهما، ولكن لكثرة الرّجال، لم تكونا تستطيعان الوصول، وخصوصاً أنّهما كانتا تتحاشيان الاختلاط.
كان النبيّ موسى في قمّة التّعب، ولم يكن يعرف المرأتين، إلا أنّه أسرع نحوهما، وأخذ ما تحملانه، وقام هو بمهمّة السّقيا لهما.
وقد وردت هذه القصّة في سورة القصص: {فَخَرَجَ مِنْهَا خَائِفًا يَتَرَقَّبُ قَالَ رَبِّ نَجِّنِي مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ، وَلَمَّا تَوَجَّهَ تِلْقَاء مَدْيَنَ قَالَ عَسَى رَبِّي أَن يَهْدِيَنِي سَوَاء السَّبِيل، وَلَمَّا وَرَدَ مَاء مَدْيَنَ وَجَدَ عَلَيْهِ أُمَّةً مِّنَ النَّاسِ يَسْقُونَ وَوَجَدَ مِن دُونِهِمُ امْرَأتَيْنِ تَذُودَانِ قَالَ مَا خَطْبُكُمَا قَالَتَا لا نَسْقِي حَتَّى يُصْدِرَ الرَّعَاء وَأَبُونَا شَيْخٌ كَبِيرٌ فَسَقَى لَهُمَا ثُمَّ تَوَلَّى إِلَى الظَّلِّ}[القصص:21-24].
ما الّذي يراه المتأمّل في هذا المشهد حتّى أورده الله لنا ليكون عبرةً، كما هي كلّ قصص القرآن الكريم؟ إنّ المتأمّل يرى نبيّاً عظيماً من أنبياء الله، من أنبياء أولي العزم، كان يمرّ في لحظاتٍ صعبةٍ في حياته، من الخوف والتّعب والغربة.. إلا أنّه لم ينس نفسه وما يقدر عليه، فبمجرّد أن تحسّس مشهداً يحتاج منه المبادرة والنّخوة والشّهامة، أسرع ليخدم امرأتين مستضعفتين لا يعرفهما ولم تطلبا منه ذلك.. وعندما انتهى، لم يطلب أجراً ولا حتّى شكراً، بل تولّى ليستظلّ من حرارة الشَّمس.. وقال: {رَبِّ إِنِّي لِمَا أَنزَلْتَ إِلَيَّ مِنْ خَيْرٍ فَقِيرٌ}[القصص:24]..
إنَّ هذا المشهد من حياة النَّبيّ موسى(ع)، لهو خير ما نستدلُّ به عمليّاً على قيمة ضروريَّة من قيم الحياة؛ إنّها قيمة قضاء حوائج النّاس. وما قام به النبيّ موسى(ع)، ما هو إلا تأكيد لهذه القيمة الّتي تمثّل دعامة الحياة الأساسيّة، وأساس نموّها وتطوّرها.. هذه القيمة الّتي عاشها كلّ الأنبياء..
فالسيِّد المسيح(ع)، عندما قدَّم نفسه للنَّاس قال: {قَالَ إِنِّي عَبْدُ اللهِ آتَانِيَ الْكِتَابَ وَجَعَلَنِي نَبِيًّا * وَجَعَلَنِي مُبَارَكًا أَيْنَ مَا كُنتُ}[مريم: 30-31].
والله عندما قدَّم رسوله(ص): {لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِّنْ أَنفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتِّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُم بِالْمُؤْمِنِينَ رَؤُوفٌ رَّحِيمٌ}[التّوبة:128].
فالإنسان، أيُّها الأحبَّة، ومهما بلغت قدراته وإمكاناته، لا يستطيع أن يلبِّي حاجاته منفرداً، سواء أكانت ماديَّةً أم معنويَّةً، بل إنَّه بحاجةٍ إلى جهود الآخرين وطاقاتهم، والحاجة ليست نقصاً يختصُّ بفردٍ دون آخر، إنَّما هي صفة للإنسان المخلوق، ومنذ أن تتفتَّح عيناه على الحياة، أو منذ ينعقد في رحم أمِّه...
مسؤوليّة التَّعاون وبذل الطّاقات
كلُّ إنسانٍ إنَّما هو صاحب حاجة، إلا أنَّ هذه الحاجات تتفاوت من إنسانٍ إلى آخر، وتتفاوت عند الإنسان نفسه من مرحلةٍ إلى مرحلة، ومن زمنٍ إلى زمن، ومن حالٍ إلى حال: {نَحْنُ قَسَمْنَا بَيْنَهُم مَّعِيشَتَهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَرَفَعْنَا بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ لِيَتَّخِذَ بَعْضُهُم بَعْضاً سُخْرِيّاً وَرَحْمَتُ رَبِّكَ خَيْرٌ مِّمَّا يَجْمَعُونَ}[الزّخرف:32]..
الله سبحانه وتعالى هو قاضي الحاجات أوّلاً وأخيراً، وهو من يهيّئ الوسائل بين البشر لخدمة بعضهم البعض، وقد دعاهم إلى ذلك..
فالحياة تتكامل بتكاتف جهود أبنائها وتعاونهم، وبدون ذلك، لن تعرف الحياة نموّاً ولا استقراراً ولا خيراً ولا بركة.
وعن هذه الخدمة المتبادلة بين النَّاس، قال الشَّاعر:
النَّاس للنَّاس من بدوٍ وحاضرةٍ بعضٌ لبعضٍ وإن لم يشعروا خدمُ
وقد حرص الإسلام على شدّ أواصر التَّعاون داخل المجتمع، وحمَّل كلّ فردٍ مسؤوليّةً تجاه الآخرين.. وقد أشار القرآن الكريم إلى ذلك بقوله: {وَتَعَاوَنُواْ عَلَى الْبرِّ وَالتَّقْوَى..}.. والتّعاون إنّما يتمّ بتكامل الجهود والطّاقات، وبه يتمّ سدّ الثّغرات وردم الهوّات، وهذا إنّما ينبغي أن يتمّ بشكلٍ تلقائيّ، فلا يتردَّد صاحب علمٍ في أن يقدِّم علمه في أمرٍ معيّنٍ لمن يسأله.. ولا يتردَّد مقتدر في أن يخفِّف من عوز محتاجٍ عَلِم به، أو أرسله الله في دربه، ولا ينتظر الوجيه في قومه أو المصلح، في السّعي لحلّ الخلافات والتوتّرات بين أهل بلده، ولا يتوانى صاحب الخبرة الاجتماعيّة أو الدّينيّة أو التّربويّة في أن يخفّف عن مهمومٍ أو مغمومٍ. وما أكثر هموم النّاس ومشاكلهم ومصائبهم! وكم هم بحاجةٍ إلى من يبلسم آلامهم، أو يخفّف عنهم، أو ييسِّر أمورهم ويدخل السرور عليهم..
أيُّها الأحبَّة، لقد حمَّل الله سبحانه وتعالى كلَّ فردٍ مسؤوليَّة قضاء حاجات النّاس من حوله، بحيث لا تتبلّد مشاعره تجاه مشاهد العَوز والعجـز وذلّ السّؤال، بل يسعى جاهداً، وبما يمتلك من أدواتٍ لسدّ تلك الحاجات. بعض النّاس تراهم لا يملكون مالاً، ولكنّهم يملكون همّةً أو غيرةً أو نخوةً وحميةً تمكّنهم من السّعي في قضاء حوائج النّاس، فيُكتب لهم أجر الباذلين. أَوَليس الدالّ على الخير كفاعله: {أَرَأَيْتَ الَّذِي يُكَذِّبُ بِالدِّينِ * فَذَلِكَ الَّذِي يَدُعُّ الْيَتِيمَ * وَلا يَحُضُّ عَلَى طَعَامِ الْمِسْكِينِ}[الماعون:1-3]..
إنَّ الطَّاقات الّتي يمتلكها أيٌّ منكم، ومهما كانت تلك الطَّاقات، هي مسؤوليَّته، وعليه أن لا يبخل بها على أحد؛ علمك، صنعتك، خبرتك، مالك، وحتَّى رأيك وسعيك، وأيضاً علاقاتك وأفكارك، هناك من يحتاج إليها، فلا تبقها لديك، ولا تبخل بها.. فطاقة أيّ إنسان ليست ملكاً له، بل هي ملكٌ للآخرين، وسيسأله الله عنها: {ثمّ لتُسأَلنَ يومئذٍ عن النّعيم}[التّكاثر:8].
عدم صدِّ السَّائل
أيُّها الأخوة والأخوات، أن تكون مقصداً للآخرين في تلبية احتياجاتهم، هي قيمةٌ لك قبل أن تكون نعمةً للآخر، هي مدعاة سرورك وفرحك، لأنَّ لك الأجر والفخر. البعض ـ للأسف ـ يعتبر أنَّ دوره في خدمة النَّاس هو (وجع رأس)، ولا يريد أن يفتح الباب أمام ما يملكه من إمكانات وقدرات، وهو لا يعلم أنّه سيُسأل عن كلِّ سائل كان بالإمكان أن يساعده في ما يملك، والحديث الشَّريف يقول لنا: "لا تردّ سائلاً ولو من شطر حبَّة عنب أو شقّ تمرة"..
والإمام عليّ(ع)، يخبرنا عن الرّسول(ص)، وهو الأعرف به، قائلاً: "ما سُئِل رسول الله شيئاً فقال لا، وما ردَّ سائلاً عن حاجةٍ إلا أتاه بها". وتحدَّثت عنه السيِّدة خديجة بعد أن جاء من الغار في بداية الوحي، قائلةً له: «كلا والله.. ما يُخزيك الله أبداً، إنّك لتصل الرّحم، وتحمل الكلّ، وتُكسب المعدوم، وتُقري الضّيف، وتعين على نوائب الحقّ».
هذا وقد حرص رسول الله(ص) على تأكيد هذه السّيرة، حتّى مع الخوف من كذب السّائل وعدم صدقه. ولذا عندما جاء رجل إلى رسول الله(ص) قال له: أفي المال حقّ سوى الزَّكاة؟ قال: "نعم، على المسلم أن يطعم الجائع إذا سأله، ويكسو العاري إذا سأله". فقال له الرَّجل: إنَّه يخاف أن يكون كاذباً، فقال له الرَّسول(ص): "أفلا يخاف صدقه؟"
كان رسول الله(ص) حريصاً على الحفاظ على قيمة قضاء حاجات الآخرين، حتّى لو صدرت أخطاء في إيصال المال أو الجهد إلى غير المستحقّ..
لهذا، فمع تثبيت هذه القيمة، تهون هذه الأخطاء، ولا تؤخذ بعين الاعتبار، هذا مع الحرص على عدم الوقوع فيها ما أمكن.. ولذا ورد في الحديث: "إنَّا لنعطي غير المستحقّ حذراً من ردِّ المستحقّ".
وكم كان حرص الإسلام كبيراً في دعوته إلى احترام مشاعر السَّائل، بعدم إيذائه والمنّ عليه: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تُبْطِلُواْ صَدَقَاتِكُم بِالْمَنِّ وَالأَذَى}[البقرة:264]، بل لا بدَّ لقاضي الحاجة من أن يشعر بتكريم السَّائل له عندما يسأله، لأنَّه بذلك جعله يحصل على كلِّ البركات الّتي تنتج من قضاء حوائج النَّاس في الدّنيا وفي الآخرة.. وقد ورد في الحديث: "من نعم الله عليكم، حاجة النّاس إليكم"..
خدمة النّاس وإن لم يسألوا
بعض النّاس، أيُّها الأحبَّة، وظيفتهم خدمة النَّاس، في المؤسَّسات العامَّة والخاصَّة، والنَّاس تحتاجهم، إلا أنّهم يتصرَّفون بطريقةٍ يشعرون وكأنَّهم يدفعون من جيوبهم، وبعض المرّات يكون المال هو مال الفقراء وحقّهم.. ومن نعم الله عليهم أن كانوا الوسطاء، فتتحوّل هذه المواقع من نعمةٍ إلى نقمةٍ في الدّنيا والآخرة..
أيّها الأخوة والأخوات، إنّ قضاء حوائج النّاس يتجاوز في المفهوم الإيمانيّ موضوع السّؤال والإجابة، كما قد يتبادر إلى الذّهن ـ البعض يقال له ساعد فلاناً، فيقول لم يسألني فكيف أعطيه ـ والمسألة ليست في أن تساعد فقط من يدقّ بابك أو هاتفك ـ مع أهميَّة ذلك ـ إنَّما في أن تساعد من لا يدقّ الباب أو الهاتف.. ممن لا يتحمَّل ذلَّ السّؤال أو بذل ماء الوجه.. هؤلاء الصّامتون الّذين تصدق فيهم الآية الكريمة: {يَحْسَبُهُمُ الْجَاهِلُ أَغْنِيَاء مِنَ التَّعَفُّفِ تَعْرِفُهُم بِسِيمَاهُمْ لاَ يَسْأَلُونَ النَّاسَ إِلْحَافًا}[البقرة: 273].
هؤلاء يحتاجون إلى من يبحث عنهم، كما قال أمير المؤمنين عليّ بن أبي طالب(ع) في كلمته لكميل بن زياد: "مر أهلك أن يروحوا في كسب المكارم، ويدلجوا في حاجة من هو نائم".. وها هو الإمام زين العابدين(ع) الّذي أُطلق عليه لقب صاحب الجراب.. جراب اللّيل الّتي كان ينقل فيها ما يلبّي حاجات النّاس، يتركها أمام أبوابهم، ولا يكلّفهم حتى عناء الشّكر...
تكريم إلهيّ لقاضي الحاجات
أيّها الأحبّة: لقد رفعت الأحاديث من موقع الّذين يسعون لقضاء حوائج النّاس: "الخلق كلّهم عيال الله، وأحبّهم إلى الله أنفعهم لعياله"، "وخير النّاس أنفعهم للنّاس"، "الماشي في حاجة أخيه كالسّاعي بين الصّفا والمروة"..
والإمام الباقر(ع) كان يقول: "لئن أعول أهل بيتٍ من المسلمين، أسدّ جوعتهم، وأكسو عورتهم، أحبّ إليّ من أن أحجّ حجّةً وحجّةً ومثلها ومثلها، حتّى بلغ عشراً، ومثلها ومثلها حتّى بلغ السّبعين...".
وفي الحديث: "من نفَّس عن مؤمنٍ كربةً من كرب الدّنيا، نفَّس الله عنه كربةً من كرب يوم القيامة، ومن يسَّر على معسر، يسَّر الله عليه في الدّنيا والآخرة".. "إنّ الله في عون العبد ما كان العبد في عون أخيه".. "من كان في حاجة أخيه، كان الله في حاجته ما كان في حاجة أخيه"..
فأيُّ تكريمٍ هو هذا التَّكريم؛ أن يكون الله عزّ وجلّ بذاته العليَّة في حاجة هذا الإنسان، يقضيها له وييسّرها، ويعطف قلوب الخلق عليه، فيبادرون إلى خدمته ومساعدته عندما يحتاج هو الى ذلك، ثمَّ هو يوم القيامة، وبينما يتصبَّب النَّاس عرقاً، وتضطرب قلوبهم، وتتلاحق أنفاسهم، وتشخص أبصارهم، تأتي يد القدرة الإلهيَّة والعناية الربّانيَّة تربت على كتفيه، وتمسح دمع عينيه، وتبدّل الخوف أمناً، والحزن سعادةً، والحرّ ظلاً ظليلاً..
فقد ورد في الحديث: "إنَّ الله خلق لقضاء حوائج النَّاس من يفزع النّاس إليهم في حوائجهم، أولئك الآمنون يوم القيامة".. وقد ورد في الحديث: "إذا بعث الله المؤمن من قبره، خرج معه مثال يقدَّم أمامه، كلّما رأى المؤمن هولاً من أهوال يوم القيامة، قال له المثال: لا تفزع ولا تحزن، فيقول له المؤمن: من أنت؟ فيقول: أنا السّرور الّذي كنت أدخلته على أخيك المؤمن"..
وفي الموقع المقابل، هناك الّذين يعيشون الأنانيّة، ولا يسألون عن حاجات النّاس، ولا يسعون إلى سدِّها، هؤلاء ماذا سيكون حالهم؟ الأحاديث تقول: "أيّما رجلٍ مسلمٍ أتاه رجل مسلم في حاجته وهو يقدر على قضائها فمنعه إيَّاها، عيّره الله يوم القيامة تعييراً شديداً، وقال له: أتاك أخوك في حاجةٍ قد جعلت قضاءها في يديك، فمنعته إيّاها زهداً منك في ثوابها. وعزَّتي وجلالي، لا أنظر إليك اليوم في حاجة...".
ولا يقف الأمر عند حدود الآخرة، فرغم أهميَّة الأمر، إلا أنَّه في الدّنيا أيضاً لن يبارك الله بالطَّاقات والنِّعم الّتي لا تقوم بمسؤوليَّة خدمة النَّاس وتلبية حاجاتهم.. فقد ورد في الحديث: "إنَّ لله عباداً اختصّهم بالنّعم، يقرّها فيهم ما بذلوها للنّاس، فإذا منعوها، حوَّلوها منهم إلى غيرهم".. وقد ورد أيضاً: "من كثرت نعم الله عليه، كثرت حوائج النّاس إليه، فمن قام بما يجب منها، عرَّضها للدّوام والبقاء، ومن لم يقم بما يجب، عرّضها للزّوال والفناء"..
واجب التّكاتف الاجتماعيّ
أيّها الأحبَّة، ولم يكتف الاسلام بالدَّعوة والتَّوجيه والتَّرغيب بقضاء حوائج النَّاس، بل جعل ذلك فريضةً من فرائضه، عندما أوجب الخمس والزّكاة على كلّ قادرٍ على بذل المال للفقراء والمساكين والّذين تثقلهم الدّيون، وكلّ عملٍ فيه خدمة للنَّاس والحياة وإعمار الأرض: {إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاء وَالْمَسَاكِينِ وَالْعَامِلِينَ عَلَيْهَا وَالْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ وَفِي الرِّقَابِ وَالْغَارِمِينَ وَفِي سَبِيلِ اللهِ وَابْنِ السَّبِيلِ فَرِيضَةً مِّنَ اللهِ وَاللهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ}[التّوبة:60].
أيّها الأحبَّة، لم تعد الجهود الفرديّة كافيةً في حلِّ المشاكل الّتي نعاني منها في واقعنا، وكثيرة هي هذه المشاكل، إنّنا بحاجةٍ إلى تضافر الجهود وإلى تعاونها وتكاتفها.. نحن بحاجةٍ إلى بناء جمعيَّاتٍ ولجانٍ وهيئاتٍ تنطلق من كلّ مواقعنا، ولا سيّما من المساجد الّتي نريدها أن تشعّ بالخير على من حولها، لأنَّ هذا العمل من العبادة، والإنسان العابد عندما يبلغ القمّة في العبادة، فلا بدَّ من أن يكون مشاركاً في سدِّ حوائج النَّاس.. لنسدَّ بذلك كلَّ الثَّغرات في واقعنا؛ ثغرات الفقر واليتم والجهل والخلافات الّتي ينفذ منها الضَّعف والانحراف..
والأمر لن يتمّ إلا إذا بدأنا بتدريب أنفسنا، أن نعيش ونفهم ما يعانيه الآخرون، لأنّنا غالباً ـ وقد أنعم الله علينا بالموقع والمال والمنصب ـ قد تغيب عنَّا تفاصيل عيش الفقراء والمحتاجين... حتَّى لا نصل إلى حالةٍ يقال لنا فيها إنّ فلاناً لا يملك خبزاً، فنقول له ـ كما قالت يوماً إحدى الملكات ـ لماذا لا يأكل البسكويت؟ أليس هذا هو حال الكثيرين الّذين باتوا يبتعدون تدريجيّاً عن عالم المعوزين، حتَّى إنّهم قد ينسون وجود هذه الطّبقة الفقيرة المحتاجة، ويعتقدون أنَّ كلَّ النّاس مثلهم قد خلقوا وفي أفواههم ملعقة من ذهب..
مطلوبٌ منّا، أيّها الأحبّة، الكثير الكثير من العمل على المستوى النَّفسيّ والإيمانيّ، حتّى نخفّف من الهوّة الّتي بدأت تتصاعد بين النّاس بشكلٍ مخيف، تلك الهوّة التي تقسّم النّاس إلى فقراء يزدادون فقراً، وأغنياء تتراكم ثرواتهم يوماً بعد يوم...
اِحرص على أن تعيش أكثر من عمرك، بأن تترك أثراً في قلوب الآخرين وعقولهم وحياتهم، لأنَّ من يترك الأثر لا يموت، سواء كان هذا الأثر علماً ينتفع به، أو صدقةً جارية، أو ابناً ربَّيته على التّقوى والإيمان.
لا تكن أنانيّاً، فالحياة لفظت كلَّ الّذين اختنقوا في ذواتهم واختصروا الحياة بوجودهم، لا يبقى في الحياة إلا أصحاب الهمم العالية والنّفوس الحيّة الّتي تجدّد وجودها في أعماق الحياة مهما طال الزَّمن..
أنت معذور إذا بذلت جهدك في قضاء حوائج النّاس وإن لم تفلح.. ولكنّك لست معذوراً إذا كانت لديك قدرة على السّعي ولم تسع.
لا تزهد في قضاء حوائج النّاس بسبب من لا يقدّر معروفك، أو بسبب من يظلمك بادّعاء أنّك لم تساعده، بينما عملت كلّ جهدك لمساعدته.. خذ بكلام أمير المؤمنين: «لا يزهدنّك في المعروف من لا يشكره لك...».
أيّها الأحبَّة: فليبدأ كلّ منكم، وكبرنامجٍ عمليٍّ يوميّ، ليسأل نفسه، كما كان أمير المؤمنين يسأل نفسه في كلّ صباح ومساء :«يا نفس، إنَّ هذا يومٌ قد مضى عليك لا يعود إليك أبداً، والله سائلك عنه فيما أفنيته، فما الّذي عملت فيه؟ أذكرت الله أم حمدتيه، أقضيت حقّ أخ مؤمن؟ أنفّست عنه كربته؟ أحفظتيه بعد الموت في مخلّفيه؟ أكففت عن غيبة أخٍ مؤمنٍ بفضل جاهك؟ أأعنت مسلماً؟ ما الّذي صنعت فيه؟»
جرّبوا هذا البرنامج، التزموا به، وستختبرون حجم الفرح الكبير الّذي يسيطر على كيانكم، كلّ كيانكم، جرّاء راحة البال لفقيرٍ دعا لكم بالتّوفيق.. ولمريضٍ دعا لكم بالصّحّة وطول العمر.. ولصاحب حاجةٍ دعا لكم بقضاء حوائجكم، ولمكروبٍ دعا الله لكم أن يُنفّس همّكم وغمّكم.. وتتصاعد الدّعوات، وتقبل من لدن قاضي الحاجات، ومن إليه منتهى الطّلبات، ويأتي الجواب : "ثوابك عليّ، ولا أرضى لك ثواباً دون الجنَّة"..
تعليق