[frame="14 10"]

إنّ القائل بأنّ الموت إبطال للشخصية ، حسب أنّ الإنسان موجود مادي محض ، وليس هو إلاّ مجموعة خلايا وعروق وأعصاب وعظام وجلود ، تعمل بانتظام ، فإذا مات الإنسان صار تراباً ، ولا يبقى من شخصيته شيء ، فكيف يمكن أن يكون المعاد نفس الأوّل؟ ولعلّه إلى ذلك يشير قولهم : { أَئِذَا ضَلَلْنَا فِي الأَرْضِ أَئِنَّا لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ } ؟. بأن يكون المراد من الضلال في الأرض بطلان الهوية بطلاناً كاملاً لا يمكن أن تتسم معه بالإعادة ، ويجيب القرآن عن هذه الشبهة بجوابين:
أوّلهما : قوله : { هُمْ بِلِقَاءِ رَبِّهِمْ كَافِرُونَ } (سورة السجدة : الآية 10).
وثانيهما: قوله : { قُلْ يَتَوَفَّاكُمْ مَلَكُ الْمَوْتِ الَّذِي وُكِّلَ بِكُمْ ثُمَّ إِلَى رَبِّكُمْ تُرْجَعُونَ} (سورة السجدة : الآية 11).
والجواب الأوّل : راجع إلى بيان باعث الإنكار ، وهو أنّ السبب الواقعي لإنكار المعاد ، ليس ما يتقوّلونه بألسنتهم من الضلالة في الأرض ، وإنّما هو ناشئ من تبنيّهم موقفاً سلبياً في مجال لقاء الله ، فصار ذلك مبدأً لطرح هذه الشبهات.
والجواب الثاني :جواب عقلي عن هذا السؤال ، وتعلم حقيقته بالإمعان في معنى لفظ التوفي ، فهو وإن كان يفسّر بالموت ، ولكنّه تفسير باللازم ، والمعنى الحقيقي له هو الأخذ تماماً ، وقد نصّ على ذلك أئمة أهل اللغة ، قال ابن منظورفي اللسان : « توفّي فلان وتوفاه الله ، إذا قبض نفسه ، وتَوفَّيْت المال منه ، واستوفيته ، إذا أَخَذته كلّه. وتوفيت عدد القوم ، إذا عددتهم كلهم . وأنشد أبوعبيدة:
إنّ بني الأدرد ليسوا من أحد * و لا توفّاهم قريش في العدد
أي لا تجعلهم قريش تمام عددهم ولا تستوفي بهم عددهم »(١).
و آيات القرآن الكريم بنفسها كافية في ذلك ، يقول سبحانه: { اللَّهُ يَتَوَفَّى الأَنْفُسَ حِينَ مَوْتِهَا وَالَّتِي لَمْ تَمُتْ فِي مَنَامِهَا} (سورة الزمر : الآية 42.) ؛ فإنّ لفظة { الَّتِي } ، معطوفةعلى الأنفس ، وتقدير الآية : يتوفى التي لم تمت في منامها . ولو كان التوفي بمعنى الإماتة ، لما استقام معنى الآية ؛ إذ يكون معناها حينئذٍ : الله يميت التي لم تَمُتْ في منامِها . وهل هذا إلاّ تناقض؟ فلا مناص من تفسير التوفّي بالأخذ ، وله مصاديق تنطبق على الموت تارة ، كما في الفقرة الأُولى ، على الإنامة أُخرى ، كما في الفقرةالثانية.
إذا عرفتَ ذلك فلنرجع إلى قوله سبحانه : { قُلْ يَتَوَفَّاكُمْ مَلَكُ الْمَوْتِ } ،فمعناه : يأخذكم ملك الموت الذي وكّل بكم ، ثمّ إنّكم إلى الله ترجعون . وهذا مآله إلى أنّ شخصيتكم الحقيقية لا تضل أبداً في الأرض ، وما يرجع إليها يأخذه ويقبضه ملك الموت ، وهو عندنا محفوظ لا يتغير ولا يتبدّل ولا يضلّ ، وأمّا الضال ، فهو البدن الذي هو بمنزلة اللباس لهذه الشخصية.
فينتج أنّ الضال لا يشكل شخصية الإنسان ، وما يشكّلها ويقوّمها فهومحفوظ عند الله ، الذي لا يضلّ عنده شيء.
والآية تعرب عن بقاء الروح بعد الموت ، وتجرّدها عن المادة وآثارها ، وهذا الجواب هو الأساس لدفع أكثر الشبهات التي تطرأ على المعاد الجسماني العنصري.
وبما أنّ تجرد النفس ، ممّا شغل بال المنكرين ، واهتمّ به القرآن الكريم ،عناية كاملة ، فسنبحث عنه بعد الإجابة عن الشبهة الرابعة.
[/frame]
بسم الله الرحمن الرحيم..
اللهم صلِ على محمد وآل محمد وعجل فرج قائم آل محمد..

اللهم صلِ على محمد وآل محمد وعجل فرج قائم آل محمد..


إنّ القائل بأنّ الموت إبطال للشخصية ، حسب أنّ الإنسان موجود مادي محض ، وليس هو إلاّ مجموعة خلايا وعروق وأعصاب وعظام وجلود ، تعمل بانتظام ، فإذا مات الإنسان صار تراباً ، ولا يبقى من شخصيته شيء ، فكيف يمكن أن يكون المعاد نفس الأوّل؟ ولعلّه إلى ذلك يشير قولهم : { أَئِذَا ضَلَلْنَا فِي الأَرْضِ أَئِنَّا لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ } ؟. بأن يكون المراد من الضلال في الأرض بطلان الهوية بطلاناً كاملاً لا يمكن أن تتسم معه بالإعادة ، ويجيب القرآن عن هذه الشبهة بجوابين:
أوّلهما : قوله : { هُمْ بِلِقَاءِ رَبِّهِمْ كَافِرُونَ } (سورة السجدة : الآية 10).
وثانيهما: قوله : { قُلْ يَتَوَفَّاكُمْ مَلَكُ الْمَوْتِ الَّذِي وُكِّلَ بِكُمْ ثُمَّ إِلَى رَبِّكُمْ تُرْجَعُونَ} (سورة السجدة : الآية 11).
والجواب الأوّل : راجع إلى بيان باعث الإنكار ، وهو أنّ السبب الواقعي لإنكار المعاد ، ليس ما يتقوّلونه بألسنتهم من الضلالة في الأرض ، وإنّما هو ناشئ من تبنيّهم موقفاً سلبياً في مجال لقاء الله ، فصار ذلك مبدأً لطرح هذه الشبهات.
والجواب الثاني :جواب عقلي عن هذا السؤال ، وتعلم حقيقته بالإمعان في معنى لفظ التوفي ، فهو وإن كان يفسّر بالموت ، ولكنّه تفسير باللازم ، والمعنى الحقيقي له هو الأخذ تماماً ، وقد نصّ على ذلك أئمة أهل اللغة ، قال ابن منظورفي اللسان : « توفّي فلان وتوفاه الله ، إذا قبض نفسه ، وتَوفَّيْت المال منه ، واستوفيته ، إذا أَخَذته كلّه. وتوفيت عدد القوم ، إذا عددتهم كلهم . وأنشد أبوعبيدة:
إنّ بني الأدرد ليسوا من أحد * و لا توفّاهم قريش في العدد
أي لا تجعلهم قريش تمام عددهم ولا تستوفي بهم عددهم »(١).
و آيات القرآن الكريم بنفسها كافية في ذلك ، يقول سبحانه: { اللَّهُ يَتَوَفَّى الأَنْفُسَ حِينَ مَوْتِهَا وَالَّتِي لَمْ تَمُتْ فِي مَنَامِهَا} (سورة الزمر : الآية 42.) ؛ فإنّ لفظة { الَّتِي } ، معطوفةعلى الأنفس ، وتقدير الآية : يتوفى التي لم تمت في منامها . ولو كان التوفي بمعنى الإماتة ، لما استقام معنى الآية ؛ إذ يكون معناها حينئذٍ : الله يميت التي لم تَمُتْ في منامِها . وهل هذا إلاّ تناقض؟ فلا مناص من تفسير التوفّي بالأخذ ، وله مصاديق تنطبق على الموت تارة ، كما في الفقرة الأُولى ، على الإنامة أُخرى ، كما في الفقرةالثانية.
إذا عرفتَ ذلك فلنرجع إلى قوله سبحانه : { قُلْ يَتَوَفَّاكُمْ مَلَكُ الْمَوْتِ } ،فمعناه : يأخذكم ملك الموت الذي وكّل بكم ، ثمّ إنّكم إلى الله ترجعون . وهذا مآله إلى أنّ شخصيتكم الحقيقية لا تضل أبداً في الأرض ، وما يرجع إليها يأخذه ويقبضه ملك الموت ، وهو عندنا محفوظ لا يتغير ولا يتبدّل ولا يضلّ ، وأمّا الضال ، فهو البدن الذي هو بمنزلة اللباس لهذه الشخصية.
فينتج أنّ الضال لا يشكل شخصية الإنسان ، وما يشكّلها ويقوّمها فهومحفوظ عند الله ، الذي لا يضلّ عنده شيء.
والآية تعرب عن بقاء الروح بعد الموت ، وتجرّدها عن المادة وآثارها ، وهذا الجواب هو الأساس لدفع أكثر الشبهات التي تطرأ على المعاد الجسماني العنصري.
وبما أنّ تجرد النفس ، ممّا شغل بال المنكرين ، واهتمّ به القرآن الكريم ،عناية كاملة ، فسنبحث عنه بعد الإجابة عن الشبهة الرابعة.
المصدر :
الإلهيات على هدى الكتاب والسنّة والعقل : للشيخ جعفر السبحاني ، ج4 ، ص 191 ـ 193
(١) - لسان العرب : ج 15، ص 400، مادة « وفى ».
الإلهيات على هدى الكتاب والسنّة والعقل : للشيخ جعفر السبحاني ، ج4 ، ص 191 ـ 193
(١) - لسان العرب : ج 15، ص 400، مادة « وفى ».

تعليق