
قال تعالى في كتابه الكريم ((يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ))البقرة: 183..
لقد بدأ الخطاب الإلهي للناس بصفة الايمان حتى تطيب النفس لهذا التكليف ويعرفوا بأنّ من يفعله فهو منتسب الى جمع المؤمنين فيقبلوا عليه طواعية بالرغم ما في هذا التكليف من مشقة عليهم من جوع وعطش ومقاربة، أي مخالفة ما تشتهيه أنفسهم وتتوق اليه ومنعها منها، وهي أمور محللة لهم في باقي الأيام ولكن في هذه الأيام ممنوعة عنهم..
انظروا أيها الأحبة الى تودد الله سبحانه وتعالى الى عباده، فنحن نعلم انّ من الطبيعي أن يتودد العبد الى سيده، ولكن ليس من الطبيعي أن يتودد السيد الى عبده، ولكن الله سبحانه وتعالى هنا يتودد الى عبده ويصفه بالايمان حتى يطمعه في عبادته وطاعته مع انّه الغني عن عبادة الخلق أجمع، ولا عجب في انّ اسم من أسمائه الحسنى (الودود) ((وَهُوَ الْغَفُورُ الْوَدُودُ))البروج: 14، وهو القائل عزّ وجلّ ((من تقرّب اليّ شبراً تقربت اليه ذراعاً))، ولكن مع الأسف الكثير منّا غارق في شهواته وملذاته غير آبه بهذا الربّ الودود الذي هو أعطف من الأم على وليدها، وترى الكثير يعصونه نهاراً جهاراً..
هذا الشهر أيها الأحبة عطية من الله سبحانه وتعالى وهو من أعظم العطايا علينا أن نستثمرها خير إستثمار وتسخير كلّ الجهود ونوجهها نحوه تعالى لعلنا نكون من المؤمنين المتقين فنكون من الناجين من النار التي أعدت لمن خالفه وعصاه..
الكتابة معناها القضاء والحتم، فقد جاء في مفردات الراغب في مادة كتب: يعبر عن الإثبات والتقدير والإيجاب والفرض والعزم بالكتابة، ووجه ذلك أن الشيء يراد، ثم يقال، ثم يكتب، فالإرادة مبدأ، والكتابة منتهى. ثم يعبر عن المراد الذي هو المبدأ إذا أريد توكيده بالكتابة التي هي المنتهى..
الصيام لغة معناه الكف عن الفعل أي الصيام عن الاكل والشرب والكلام وغيرها من الأمور الأخرى مما تشتهيه النفس، ثمّ استعملت هذه الكلمة بخصوص الامتناع عما نهى عنه الله تعالى بخصوص أيام شهر رمضان في الوقت المحدد من طلوع الفجر الى الغروب..
والمقصود بمن قبلكم أي الأمم السابقة التي سبقت الإسلام كأمة موسى وأمة عيسى، وليس المقصود بأنّ صوم تلك الأمم كصومنا هذا، بل قد يكون عن أكل اللحم أو عن شرب اللبن أو عن الكلام كما أخبر الله تعالى في قصة زكريا ومريم عليهما السلام..
على انّ الصيام عبادة يفعلها حتى من لا يعبد الله أمثال عبدة الأوثان والأصنام فهم يصومون تقرباً لآلهتهم وقضاء حوائجهم..
أما التقوى المرجوة من هذا التكليف هو انّ كلّ هذه التكاليف إنما يعود نفعها على العبد نفسه ((وَمَا تُقَدِّمُوا لِأَنْفُسِكُمْ مِنْ خَيْرٍ تَجِدُوهُ عِنْدَ اللَّهِ هُوَ خَيْرًا وَأَعْظَمَ أَجْرًا))المزمل: 20، ولا يحتاج اليها ربّ العباد سبحانه وتعالى فهو الغني المطلق ((لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ))لقمان: 26..
وأمر طبيعي أن يتصف العبد بالتقوى بعد أن يعمل بهذا التكليف، وهو في الحقيقة طاعة لله فيما أمر من إمتناع النفس والجسم بالتزود بما تشتهيه وتلتذ به، وهذه الطاعة تجعل العبد يزداد إيماناً وتحصناً بالتقوى، لأنّ منع النفس عما منعه الله سبحانه وتعالى هو تدريب النفس عن الابتعاد عن معصيته تعالى، وبالتالي تكون بداية لارتقاء النفس في سلّم الكمالات حتى تتقرب من الباري عزّ وجلّ رويداً رويداً، فتكون في مصاف الصالحين والصادقين أو بالقرب منهم..
جعلنا الله تعالى وإياكم ممن أقبل على هذه الفريضة العظيمة بقلب راض فننال ما أعدّه الله تعالى لنا من المغفرة والرضوان...
تعليق