وفي عصر الإمام عليه السلام جدّت ظروف وملابسات، ضعفت معها السلطة العباسية
إلى درجة سيطرة الموالي والأتراك على مقاليد الحكم.
وكان من المتوقع وفي هذا الجو من ضعف السلطة، أن يخف الضغط والإرهاب على الإمام وأصحابه، لكن شيئاً من هذا لم يحدث، بل ازدادت موجة الإرهاب والضغط وبلغت أوجها على يد الخليفة المعتمد، لأن الخوف والتوجس من نشاط الإمام وتحركاته لم يكن ليقتصر على الخليفة وحده، بل إن هذه تمثلت في خط اجتماعي عام، لم يكن الخليفة إلا أحد أفراده.
فكان هذا الخط الإجتماعي العام، يقف دوماً ضد خط الإمام وأطروحته الفكرية والسياسية، والمتميزة والمتناقضة مع أطروحة الحاكم المتمثل في هذا الخط الإجتماعي العام والطبقة المستأثرة المنحرفة.
ومن هنا كان الصراع الدائم بين الخطين المتناقضين، ومحاولات الحاكم لعزل أطروحة الإمام وقيادته عن المسرح الإجتماعي والسياسي، ومحاسبته على كل بادرة نشاط أو تحرك حتى ولو كانت وشاية تافهة أو خبراً صغيراً عن نشاط الإمام "وقد حبسه المتوكل ولم يذكر سبب ذلك، ولا شك أن سببه العداوة والحسد وقبول وشاية الواشين كما جرى لابائه مع المتوكل وابائه من التشريد والحبس والقتل وأنواع الأذى، وروي أنه عليه السلام قتل مسموماً على يد المعتمد"1
ومن هنا لا ينبغي توقع خفة الضغط، وموجته المرعبة بتوالي الأعوام، بل يحدثنا التاريخ عن شدتها وترسخها.
وهذا التصاعد الحاقد في محاربة الإمام عليه السلام كان السبب والدافع الرئيسي والمهم، لحدوث الغيبة، كما سنوضحه فيما يأتي إن شاء الله.
خطة الإمام عليه السلام في مواجهته للأحداث:
ويمكن تقسيم مواقف الإمام عليه السلام وخططه تجاه الأحداث بما يلي من المواقف:
الموقف الأول: من الحكم والحكام
كانت سياسة العباسيين تجاه الأئمة عليه السلام واضحة من أيام الإمام الرضا عليه السلام وتلخصت بالحرص على دمج إمام أهل البيت وصَهْرِه في الجهاز الحاكم، وضمان مراقبتهم الدائمة له، ومن ثم عزله عن قواعده ومواليه.
هذه السياسة المخادعة كانت نافذة تجاه الإمام الحسن العسكري عليه السلام كذلك لمزاياها الكثيرة بالنسبة للحكم، فكان العسكري عليه السلام كوالده مجبراً على الإقامة في سامراء، مكرهاً على الذهاب والحضور إلى بلاط الخليفة كل يوم اثنين وخميس2
ولكن الإمام عليه السلام كابائه في موقفه من الحكام، وقف موقفاً حذراً ومحترساً في علاقته بالحكم، دون أن يثير أي اهتمام أو أن يلقي بنفسه في أضواء الحكم وجهازه، بل كانت علاقته بالحكم روتينية رتيبة، تمسكاً بخط ابائه تجاه السلطة العباسية.
فموقف الإمام السلبي هذا أكسبه أمام الحكام احتراماً ومنزلة رفيعة، وهذا ما نلاحظ من خلال علاقته بوزراء عصره وكيف أن الإمام عليه السلام كان يفرض شخصيته وجلالها حتى على أشد الناس حقداً وانحرافاً عن أهل البيت وهو الوزير عبيد الله يحيى بن خاقان الذي يقول في الإمام عليه السلام: "ما رأيت ولا عرفت بسر من رأى رجلاً من
العلوية مثل الحسن بن علي بن محمد بن علي الرضا في هديه وسكونه وعفافه ونبله وكبرته عند أهل بيته وبني هاشم كافة وتقديمهم أيَّاه على ذوي السن منهم والخطر"3
والملاحظ من كلام هذا الوزير مدى احترامه وتقديسه للإمام، وقد زاره الإمام مرة وقابله في مجلس قصير4لكي يفهمهم أن وقوفه عليه السلام إلى جنب الوزير في انتقاده للظلم والإنحراف الذي يمارسه الجهاز الحاكم، إنما يقفه لتأييد كل حق أينما وجد، لأن المسألة عنده مسألة أمة ورسالة وهي تسمو على العداوات الشخصية والإختلافات، وربما أراد كذلك أن يوهمهم بعدم الخروج على سياستهم أو الإحتجاج ضدهم وربما كانت سبباً تدفع الحاكم للتخفيف عن أصحابه من الضغط والمطاردة التي يلقونها من الدولة.
وقد أراد الإمام عليه السلام أن يلتقي بالوزير في محل عام "وفي أثناء جلوس الوزير يخبره حاجبه بأن أبا محمد بن الرضا بالباب فيأخذ هذا الخبر اهتماماً في نفس الوزير، قال ولده أحمد: فتعجبت مما سمعت منهم ومن جسارتهم أن يكنوا بحضرة أبي، ولم يكن يكنى عنده إلا خليفة أو ولي عهد.
يقول: فدخل رجل حسنُ القامة، جميل الوجه، جيد البدن حديث السن، له جلالة وهيئة حسنة.
قال أحمد: فلما نظر إليه أبي، قام فمشى إليه خطىً فعانقه وقبَّل وجهه وصدره وأجلسه على مصلاه وجلس إلى جنبه مقبلاً عليه بوجهه، وجعل يكلمه ويفديه بنفسه!..
وقد بقي أحمد بن عبيد الله متحيراً في أمر أبيه وأمر الإمام حتى استأذن مرة أباه بالسؤال وقال: يا أبه من الرجل الذي رأيتك بالغداة فعلت به ما فعلت من الإجلال والكرامة والتبجيل. فقال يا بني ذاك إمام الرافضة الحسن بن علي، ثم سكت وأنا ساكت، ثم قال: يا بني لو زالت الإمامة عن خلفائنا بني العباس ما استحقها أحد من بني هاشم غيره لفضله وعفافه وصيانته وزهده وعبادته وجميل أخلاقه وصلاح5
وهذا يدل على ما للإمام عليه السلام من حب وتعظيم وإدراك لعدالة قضيته وأجدريته بالحكم.
والإمام العسكري عليه السلام كان يقف من بعض الأحداث موقف الساكت دون تصريح إيجابي أو سلبي تجاهها، كما فعل مع صاحب ثورة الزنج الذي زعم الإنتساب إلى الإمام علي عليه السلام ولم تكن ثورته تجسيداً لأطروحة أهل البيت لما ارتكبته ثورته من قتل الكثير من الناس، وسلبه الأموال وإحراقه المدن وسبيه النساء، كل ذلك بالجملة وبلا حساب أو رادع من دين.
فموقف الإمام إزاء سلوكية الثورة كان قطعاً موقف الرافض والمستنكر لما ارتكبته من أعمال تتنافى وأحكام الإسلام ولكن الإمام عليه السلام اثر السكوت والصمت ولم ينتقد تصرفاتها ولم يتعرض لتفاصيلها، ولو فعل ذلك لكان عمله هذا يعتبر تأييداً ضمنياً للدولة، لأن ثورة الزنج بالرغم من سلبياتها الكثيرة فهي بالتالي تتفق وأهداف الإمام عليه السلام من إضعاف حكم العباسيين وكسر شوكتهم، وهو أمر ينبغي على الإمام عليه السلام أن يستفيد منه لصالح حركته ونشاطه، لأن المعارضين مهما اختلفوا، فهم بالتالي يشتركون في مناوأة عدو واحد وهو الوضع الحاكم.
فالإمام يستفيد من نتائج حركة الزنج، لأن الدولة سوف تضعف، ولا يمكنها من أن تحارب على جبهتين أو أن تعطي لكل جبهة ثقلها المطلوب، ولربما أدى ذلك إلى حد ما إلى تخفيف الضغط على جبهة الإمام عليه السلام، ولو أن الدولة كانت ترى أن نشاط الإمام عليه السلام أشد خطراً وأبعد أثراً على المدى البعيد من حركة الزنج التي لا يعدو كونها تحركاً انياً سرعان ما يزول.
الموقف الثاني: موقفه من الحركة العلمية والتثقيف العقائدي
وتمثلت مواقفه العلمية بردوده المفحمة للشبهات الإلحادية وإظهاره للحق بأسلوب الحوار والجدل الموضوعي والمناقشات العلمية، وكان يردف هذا النشاط بنشاط اخر بإصداره البيانات العلمية وتأليفه الكتب ونحو ذلك.
وهو بهذا الجهد "يموِّن الأمة العقائدية شخصيتها الرسالية والفكرية من ناحية ومقاومة التيارات الفكرية التي تشكل خطراً على الرسالة، وضربها في بدايات تكونها من ناحية أخرى، وللإمام من علمه المحيط المستوعب ما يجعله قادراً على الإحساس بهذه البدايات وتقدير أهميتها ومضاعفاتها والتخطيط للقضاء عليها.
ومن هنا جاء موقف الإمام العسكري واهتمامه في المدينة بمشروع كتاب يضعه الكندي " أبو يوسف يعقوب بن إسحاق" فيلسوف العراق في زمانه، حول متناقضات القران إذ اتصل به عن طريق بعض المنتسبين إلى مدرسته وأحبط المحاولة وأقنع مدرسة الكندي بأنها على خطأ6وجعله يتوب ويحرق أوراقه7.
وله عليه السلام بيانات علمية لأبي هاشم الجعفري في مسألة خلق القران8وكذلك في تفسير القران9
يتبع
1- الموسوعة، ص49.
2- المناقب، ج3، ص335.
3- الإرشاد، ص813 وأعلام الورى، ص753.
4- المناقب، ج3، ص625.
5- الإرشاد، ص813
6- دور الأئمة للصدر.
7- المناقب، ج3، ص625.
8- نفس المصدر، ج3، ص535.
9- الإحتجاج، ج2، ص052.