عالمهم عميق كالمحيطات، يحتاج إلى تدريبات، تعليمات وجهد كبير للغوص فيه، فك ألغازه واكتشاف أسراره، فهو عالم مبهم مليء بالأحاسيس.
إنه عالم الأطفال الذي يتطلب رحلة شاقة من الأمهات للوصول إليه وفهم مقاصد طفلها الذي لا يستطيع أن يطوّع كلماته كالكبار.
هذا العالم الغامض يمكن الولوج إليه من خلال «خربشات» الطفل، التي يخبر من خلالها ما عجز عنه لسانه. فالرسم لغته الحقيقية، كلماته ألوان باهتة أو صارخة، متناسقة أو غير متناسقة.
عندما يحرك الطفل قلمه يظن أنه يكتب تماماً كما يفعل الكبار، لكن خطوطه وألوانه ترسم ملامح واقع يعيشه، يعبّر عنه بتلقائية يُنتِج من خلالها رموزاً وأشكالاً تبدأ كخربشة عشوائية تتطور عندما تصبح عضلاته أقوى وأكثر نضجاً إلى أشكال: إنسان، دوائر، أشكال بيضوية، مربعات، إشارات متقاطعة، رسومات معبّرة عن أفراد منزله وما يحتويه، فيعطي رمزا لكلّ فرد حسب ما يراه.
لكن كيف يقرأ الأهل «خرْبشات طفلهم»؟ قبل الإجابة عن هذا السؤال لا بدّ من معرفة لماذا يرسم الطفل؟
الدكتورة في علم النفس العيادي اللبنانية ديزيره قزي تشرح أن الطفل يرسم ليعبّر أولاً عن مشاعره، انفعالاته وتفاعله مع الأشياء من حوله والقريبة من نفسه، ليحاكي شيئاً ما أو شخصاً يعدّه قدوته والأكثر قرباً منه. وتقول: «في عمر السنتين يملك الطفل القدرة الحسية الحرَكية على التقاط القلم فيبدأ بالخربشة، ويكون التركيز في هذا العمر على الألوان التي يختارها أكثر من الشكل، فلكل لون دلالاته. فمثلاً استخدام الألوان الداكنة من قبله تدلّ على معاناة وحزن واكتئاب يعاني منهم، في حين أن استخدام اللون الأحمر يعبّر عن عدائية، ومع ذلك قد تكون لخربشاته أبعاد كثيرة تأخذنا إلى عالم ما قبل الولادة، عالم عاشه وما زال يعاني من عذابه وآلامه».
وتضيف: «بحسب تجربتي قد تقودنا خربشة الطفل إلى عالمه ما قبل الولادة. وأنا أعالج حالياً حالة طفل يبلغ من العمر سنتين، وإذا نظرنا إلى خربشته، نرى رسماً دائرياً في داخله شكل طفل يخرج منه فقاعات، وكأنه في رحم أمه. ولدى سؤالي والدته عن فترة حملها به، أشارت الى أنها كانت معرّضة للإجهاض بسبب نزيف دائم، ولذلك من الممكن أن تكون خربشته تعبير عن حالته ما قبل الولادة التي كان يشعر فيها بأنه معرّض للاختناق والموت، فالأطفال يحملون آلامهم فترة من الزمن، ولذلك نلاحظ أن هناك أولاداً لا ينامون بانتظام في الليل أو يبكون كثيراً، وإذا عدنا للأسباب نجد أن حالة المرأة لم تكن مستقرّة أثناء الحمل».
وتوضح قزي أن «تحليل نفسية الطفل بالاستناد إلى خربشاته ورسوماته تكون أكثر فعالية عندما يبلغ سنواته الثلاث، فمن خلال الأشكال التي تأخذها خربشاته يمكن الاستدلال على مكنوناته الداخلية، ففي هذا العمر تبدأ خربشاته بأخذ أشكال معينة يتم ثقلها في المدرسة، ونحن نعلم أن أولى الأمور التي يتم تعليمها للطفل في المدرسة هي الرسم، فهو عندما يبدأ بكتابة اسمه يكون في الحقيقة يرسم أشكالا وصوراً».
أمور تساعد في التحليل:
• أين تقع خربشاته؟
إذا وقعت خربشة الطفل على يمين الورقة، فإن تفكيره يركز على الماضي ولديه بعض الخوف. أما إذا كانت على اليسار، فإن تفكيره مركز على المستقبل ويحب الحياة، وإذا كانت في الوسط، فإنها تعني أن الطفل بحاجة إلى الانتباه ويطلب الحرية. والرسوم في أعلى الورقة، تدل على أن خيال الطفل واسع وروحاني، وفي حال حماسة دائم، أما إذا كانت في الأسفل فإنها تدل على كآبة يعاني منها ونظرة حرجة للحياة.
• رسم الطفل لشكل الإنسان:
حين يشتدّ ساعده، يبدأ الطفل برسم شكل إنسان، وهذا الرسم له دلالة كبيرة عما يدور في عالمه وعليه يعوّل علماء النفس كثيراً. وتقول قزي: «إذا طلبتُ من طفلة رسم شخص معيّن فقامت برسم ولد، فهذا يعني أن لديها تمثلا عكسيا، فلا تتمثل بجنسها بل بالجنس الآخر، والأمر كذلك بالنسبة للطفل الذي يرسم بنتاً. العيون الكبار تعني أن لدى الطفل حباً لرؤية الأمور، في حين نستدلّ من الأسنان الكبار على تعنيفٍ يتعرّض له من والده، وإذا رسم الطفل والده من دون أذنين فيعني ذلك أن والده لا يصغي له، أو أنه متألم في مكان ما ومتضايق ولا يلقى الاهتمام والاستماع من والده، فكل رسم له سبب معين».
• رسم شخص ضخم للغاية:
تدلّ الرسوم الضخمة لشكل الإنسان عادة على العدوانية، فالأطفال الذين يجدون صعوبة في التوافق مع الغير يميلون إلى رسم إنسان مبالَغ فيه.
• رسم شخص صغير للغاية:
دلالات عديدة ممكن استنتاجها من الرسوم الصغيرة لشكل الإنسان فهي تعبّر عن مشاعر النقص، عدم الكفاءة، انخفاض تقدير الذات، القلق، الجبن، الخجل، الإنقباض، الميول الاكتئابية والاعتمادية. والطفل الانطوائي يرسم الشكل الإنساني صغيراً جداً وغالباً ما يهمل ملامح الوجه وتفاصيله.
كما يمكن الاستفادة من كل تفصيل «يخربشه» الطفل في رسمه لشكل الإنسان لفهم نفسيته أكثر فأكثر.
• الرأس:
تدل مبالغة الطفل في تكبير حجم الرأس على تضخم «الأنا» لديه، في حين يرسم الأطفال السويون نفسياً الرأس بشكل ملائم للجسم.
• الفم:
يرسم الأطفال كثيري الحديث أو العدوانيين الفم كبيراً جداً، بأسنان ذات حجم كبير كما لو كانوا على استعداد دائم للقطع والالتهام، في حين يميل الأطفال السويون إلى رسم حجم الفم مناسباً بالنسبة للجسم.
• العيون:
عادة يرسم الأطفال المضطربون نفسياً، الذين يشعرون بأنهم مراقَبون وتحت سيطرة شديدة، عيوناً ذات نظرة متشككة نافذة، في حين يدلّ رسم الطفل للعين على شكل دوائر صغيرة على الاعتمادية وقلة الانفعال، أما حذف الطفل للعيون أثناء رسمه فدليل على عدم الرغبه في الاختلاط بالآخرين.
• الأنف:
الأطفال السويون يرسمون الأنف مناسباً للجسم على عكس الأطفال العدوانيين المضطربين الذين يميلون إلى تكبير الأنف والتأكيد على فتحتيه.
• العنق:
الطفل الذي يبالغ في رسم طول العنق يجد صعوبات في الوصول إلى تحقيق رغباته المطلوب إشباعها، أما حذفه للعنق فدليل على معاناة يمر بها.
• الأيدي:
الأيدي الممتدة للخارج تدل على رغبة في الاتصال بالمحيط والأشخاص الآخرين وعلى رغبة في المساعدة والتفاعل. وفي حين أن الأيدي الكبيرة نجدها في رسومات الأطفال الذين يسرقون، تعبّر الأيدي الصغيرة عن المشاعر المرتبة بعدم الأمن وقلة الحيلة، كما أن الطفل العاجز والمنطوي قد ينسى رسم الأيدي باستمرار.
وعندما يتطور الطفل تكثر الحروف الزائفة في رسمته، ويظهر القليل من علامات الخربشة. وهذه الأشكال والتكوينات لها دلالات منها: ( المربع: محدود في التعامل، مقتصد. المثلث: سرعة الحكم في المواقف المختلفة. النجوم: منضبط ينفذ ما يُطلب منه، وحكمه موضوعي).
• الإمساك بالقلم
طريقة إمساك وقوة ضغط الطفل على القلم يمكن الركون عليها نوعاً ما لفهم نفسيته بحسب ما قالته قزي، «فمسكه للقلم بشكل واثق دليل على أن الأهل يشجعون ولدهم، أما إذا كان يمسكه بشكل مترد، فقد يدل ذلك على تعرضه للتأنيب عند قيامه بأخطاء: (إذا كان الضغط ثقيلاً، فإن نشاطه كبير وطاقته عالية، عصبي، وأحياناً متحمس ولديه ثقة بنفسه. وإذا كان الضغط متوسطاً، فهو يعني شخصية متوازنة، منظمة ومرتبة. أما إذا كان الضغط خفيفاً، فإنه يتأثر بالمواقف بسرعة، عاطفي، رومانسي وخجول أحياناً).
وعن إمكان التعرف على إعاقة الأطفال الذهنية من خلال خربشاتهم قالت قزي: «نحن نتكلم عن الولد الذكي الذي يستطيع أن يحمل القلم في عمر السنتين. الإعاقة الذهنية لها درجات، خفيفة أو متوسطة أو عميقة. والولد الذي لديه إعاقة وسطية لا يكون لديه القدرة على الإمساك بالقلم».
رسومات الأطفال هي إحدى تقنيات البحث عن داخله، تُستعمل بوفرة لكنها تلاقي بعض الصعوبات منها: أن الراشد قد يحللها نسبة له كإنسان رجل أو امرأة ناضجة. من ناحية ثانية، هذا الراشد له مشاكله، فالذي يحلّل رسوم الأطفال يجب ألا يعكس مشاكله في تحاليله، بل يجب أن يتناساها.
لهذه الأسباب يجب أن تكون تحاليل الرسومات، الخربشات والخطوط، من قبل اختصاصي يملك القدرة التحليلية النفسية والاجتماعية.
لا يمكن اكتشاف مكنونات الطفل من خلال رسمة أو لوحة أو تخطيط واحد، كما لا يمكن الاكتفاء بوسيلة أو طريقة واحدة، فلكل طفل حالة، تتطلب معطيات خاصة.
المواضيع المتشابهه
«الخربشات»... لغة الأطفال ومرآة لعالمهم
العرض العادي
