أريد أن أركز على نقطة في حياة الإمام الصادق(ع) بمناسبة ذكرى استشهاده ، وهذه النقطة يشترك فيها جميع الأئمة ، ألا وهي الجمع بين حقوق الخالق و حقوق المخلوقين .
إذ أن هناك ثغرة متعارفة في حياة السالكين إلى الله عزوجل ، إنسان يريد تهذيب نفسه ، ويتخصص في عالم السالكين إلى الله ... يعيش جو المحبة الإلهية الخالصة ... يريد أن يُكثف من عنصر المراقبة في حياته اليومية ، من الملاحظ أن السالك يبدأ بدايةً لا بأس بها وبعد فترة من انكشاف الحُجُب ، وتذوق حلاوة ما وراء الطبيعة – هذه الحلاوة التي لا تساويها أيُّ حلاوةٍ أخرى ، الحب الإلهي ... والتجلي الإلهي ... والجذب الإلهي متناسب مع عالم الربوبية ، لا تساويها جذبة النساء وما شابه ذلك ، أين الثرى من الثريا ؟! - نعم يبدأ بداية جيدة ، ولكنه بعد فترة يتقوقع ، و تتحول حياته إلى صومعة حسية ومعنوية .
النصارى والرهبان قبل الإسلام تقوقعوا نفسيا أولا ، وتحولت الصومعة الباطنية والذاتية إلى صوامع في بطون الوديان وفي أعالي الجبال ثانيا ، ولكن بعد الإسلام ( لا رهبانية في الإسلام ) البعض يخشى من الصومعة الخارجية لأنها محاربة شرعا ، ليس هناك إلا المساجد ، ولهذا لجأ إلى القوقعة الباطنية ، بمعنى أن يعيش داخل نفسه ، يعيش همَّ نفسه ، يحتقر العباد ، وتراه كأنه يعيش حالة الضرة بين الله عزوجل وبين عباده ، إذا تقرب إلى العباد فكأنه ابتعد عن الله عزوجل ، وإذا اقترب إلى الله عزوجل عليه أن يبتعد عن العباد ، هذا مرض شائعٌ في حياة المسلمين ؛ ولهذا نشأ ما يُسمى بالصوفية ، اتخذوا بيوتا للعبادة في مقابل المساجد ، وإلى يومنا هذا يوجد جماعة من المسلمين ممن يدَّعي السير إلى الله عزوجل ، لهم بيوت في مقابل المساجد ، ونلاحظ في حياة الدولتين الأموية والعباسية ترحيبٌ قويٌ وشديد لهذا التوجه في حياة المسلمين ، لأن هذا التوجه باسم الدين ... وباسم العرفان ... وباسم الأخلاق ، وهو يُفرغ المجتمع الإسلامي من محتواه الباطني .
الإمام الصادق في شهادة أئمة المذاهب :
كان الإمام الصادق (ع) قائد مدرسة ، والشهادات التي جاءت في حقه (ع) لا يمكن أن تُخدش ، فهو لم يكن صاحب سلطة يُخاف منها ، ولم يكن صاحب سلطان يعوض هذه الشهادات ببضائع وبأموال هائلة إنما كان إماما قائدا للمسيرة الفكرية في حياة الأمة . كلمة أبي حنيفة النعمان في حق الإمام الصادق (ع) : ( لولا السنتان لهلك النعمان ) لم تكن هذه الشهادة أبداً بدواعي الطمع في مال الإمام الصادق ، ولم يكن بدواعي الخوف من الإمام (ع) ، ولكن هل سمعتم كلمة مالك بن أنس من عمالقة المسلمين في عالمه ؟... ماذا كان يقول عن الإمام الصادق (ع) : ( ما رأت عينٌ ، ولا سمعت أُذُنٌ ، ولا خطر على قلب بشر أفضل من جعفر بن محمد الصادق ، فضلا وعلما وعبادة وورعا ) هذه العبارات مألوفة ومعروفة في وصف نعيم الجنة ، مالك بن أنس يرى جنة الفكر و يرى فردوس الثقافة في حياة الإمام الصادق (ع) ، فيصفه بهذا الوصف ، مالك بن أنس يعرفُ الإمام الصادق (ع) ، وأنه لم يفتح مدرسة في قِبال جده المصطفى (ص) ، البعض يحلوا له بغرض حقدٍ وجهلٍ وسفاهةٍ ... أن يجعل أئمة الهدى (ع) في خطٍ يُقابل خط الرسول (ص) .
استمع لقول ابن مالك عن إمامنا (ع) : ( إذا قال الصادق (ع) قال رسول الله (ص) اخضرَّ مرة ، واصفرَّ مرة ، حتى يُنكرهُ من لا يعرفه ) ... فلو عرضت هذه الصورة على من لا يعرف الإمام الصادق (ع) لا يكاد يُصدق أنه الإمام جعفر بن محمد (ع) ، يتغير لونه لأنه يُريد أن يذكر حكم الله عزوجل نقلاً عن النبي المصطفى (ص) ، ويكمل الإمام مالك حول الإمام الصادق(ع) ( كُنت أدخُلُ على الصادق (ع) فكان لا يخلو من إحدى ثلاث خِصال إمَّا صائما و إمَّا قائما و إمَّا ذاكرا ) هذه طبيعة حياة إمامنا ، بشهادات الذين لم يكونوا ينظرون إلى الإمام كما كان ينظر زُرارة وأبو بصير و هذه الثلة المؤمنة حول إمامنا جعفر بن محمد الصادق (ع) .