كان الإمام الصادق ( عليه السلام ) إذا تجاوز عليه أحد لا يقابله إِلا بالصفح ، بل ربما قابله بالبر والإحسان. وكان ( عليه السلام ) إذا بلغه نيل منه ووقيعة وشتم يقوم فيتهيأ للصلاة، فيصلي ثم يدعو طويلاً ملحاً في الدعاء سائلاً ربه ألا يؤاخذ ذلك الجاني بظلمه ولا يقايسه على ما جنى ، لأن الحق حقه ، وقد وهبه للجاني غافراً له ظلمه [مشكاة الأنوار: 217]. بل يزيد على ذلك في ذوي رحمه فيقول (عليه السلام): ((إِني لأحب أن يعلم الله أني أذللت رقبتي في رحمي ، وأني لأبادر أهل بيتي ، أصلهم قبل أن يستغنوا عني))[ الكافي : 2 / 156 / 25 ]. إِن الحوادث محكّ، وبها تعرف مقادير الرجال، وبها تبلى السرائر ومن ثمّ تعرف الفرق بين أبي عبد الله (عليه السلام) وبين ذوي قرابته، فكان يجفوه أحدهم، بل ينال منه الآخر شتماً ونبزاً، بل يحمل عليه الثالث بالشفرة عامداً على قتله، وليس هناك ما يدعوهم إلى تلك الجفوة والقسوة والقطيعة، فيعاملهم على عكس ما فعلوه معه، فتراه واصلاً بدل القطيعة، وبارّاً عوض الجفاء، وعاطفاً بدل القسوة . وما كان الحلم شعاره (عليه السلام) مع الأقربين من أهله فحسب، بل كان مع مواليه وسائر الناس، فقد بعث (عليه السلام) غلاماً له في حاجة فأبطأ فخرج على أثره فوجده نائماً، فجلس عند رأسه يروّح له حتّى انتبه ، فلما انتبه لم يكن منه (عليه السلام) معه إلا أن قال: ((يا فلان ما ذلك لك تنام الليل والنهار، لك الليل ولنا منك النهار))[ الكافي : 8 / 87 ]. وبعث (عليه السلام) مرة غلاماً له أعجمياً في حاجة ثم جاء الغلام فاستفهم الصادق (عليه السلام) الجواب والغلام يعني عن إفهامه، حتى تردد ذلك منه مراراً والغلام لا ينطق لسانه ولا يستطيع إفهامه، فبدلاً من أن يغضب عليه أحدَّ النظر إليه وقال: ((لئن كنت عي اللسان فما أنت بعيي القلب))، ثم قال (عليه السلام): ((إِن الحياء والعفاف والعي - عيّ اللسان لا عيّ القلب - من الإيمان، والفحش والبذاءة والسلاطة -طول اللسان- من النفاق))[ بحار الأنوار : 47 / 61 ]. ونهى أهل بيته عن الصعود فوق البيت فدخل يوماً فإذا جارية من جواريه ممَّن تربي بعض وُلدِه قد صعدت في سلَّمٍ والصبي معها، فلما بصرت به ارتعدت وتحيرت وسقط الصبي إلى الأرض فمات، فخرج الإمام الصادق (عليه السلام) وهو متغيِّر اللون، فسئل عن ذلك فقال (عليه السلام): ((ما تغيَّر لوني لموت الصبي وإِنما تغيَّر لوني لِما أدخلتُ على الجارية من الرعب)) وكان قد قال لها : ((أنتِ حُرَّة لوجه الله لا بأس عليك)) مرّتين. [المناقب : 4 / 275]. وما كان هذا رأيه مع أهله وغلمانه فحسب بل كان ذلك شأنه مع الناس كافة، فإنَّه نام رجل من الحاجّ في المدينة فتوهَّم أن هميانه سُرِق، فخرج فرأى الإمام الصادق (عليه السلام) مُصلّياً ولم يعرفه، فتعلق به وقال: أنت أخذت همياني، فقال (عليه السلام): ((ما كان فيه؟)) قال الرجل: ألف دينار، فحمله (عليه السلام) إلى داره ووزن له ألف دينار. ولما عادَ الرجل إلى منزله وجد هميانه، فعادَ إلى الصادق معتذراً بالمال، فأبى (عليه السلام) قبوله، وقال: ((شيء خرج من يدي لا يعود إِليّ)) فسأل الرجل عنه، فقيل: هذا جعفر الصادق (عليه السلام)، قال: لا جرم هذا فعال مثله. هذا بعض ما كان منه مما يدل على ذلك الحلم العظيم الذي كان يلاقي به تلك الاعتداءات والمخالفات لقوله ولأمره (عليه السلام)