بسم الله الرحمن الرحيم
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته
قد وضع الرأس الشريف بين يدي سليل الخيانة، فجعل ينكثه بمخصرته، ويقرع ثناياه اللتين كان رسول الله (صلّى الله عليه وآله) يترشفهما، وجعل يقول:
(لقد لقيت بغيك يا حسين) .
ثمّ التفت إلى عملائه وأذنابه فقال لهم: (ما كنت أظنّ أباعبد الله قد بلغ هذا السنّ، وإذا لحيته ورأسه قد نصلا من الخضاب الأسود).
وتأمل في وجه الإمام(عليه السّلام) فغمرته هيبته وراح يقول:
(ما رأيت مثل هذا الوجه حسناً قطّ).
وراح ابن معاوية يوسع ثغر الإمام بالضرب وهو يقول: إنّ هذا وإيّانا كما قال الحصين بن الحمام:
أبـــــى قومنا إن ينصفونا فانصفت قواضب في إيمــــاننا تقـــطر الدما
نُفلِّقـــــن هــــاماً مــن رجال أعــزَّة علينـــــا وهــم كانوا أعقَّ وأظلمـا
ولم يتم الخبيث كلامه حتى أنكر عليه أبو برزة الأسلمي فقال له: أتنكت بقضيبك في ثغر الحسين، أما لقد أخذ قضيبك في ثغره مأخذاً لربّما رأيت رسول الله (صلّى الله عليه وآله) يرشفه، أما انّك يا يزيد تجيء يوم القيامة وابن زياد شفيعك ويجيء هذا ومحمّد (صلّى الله عليه وآله) شفيعه).
ثم قام منصرفاً عنه.
السبايا في مجلس يزيد
وعمد الأنذال من جلاوزة الخبيث ابن الخبيث يزيد بن معاوية إلى عقائل الوحي وسائر الصبية فربقوهم بالحبال كما تربق الأغنام، فكان الحبل في عنق الإمام زين العابدين إلى عنق العقيلة زينب وباقي بنات رسول الله (صلّى الله عليه وآله)، وكانوا كلّما قصّروا عن المشي أوسعوهم ضرباً بالسياط، وجاءوا بهم على مثل هذه الحالة التي تتصدّع من هولها الجبال، وهم يكبّرون ويهلّلون بسبيهم لبنات رسول الله وإبادتهم لعترته.
وأوقفت مخدرات الرسالة بين يدي يزيد، فالتفت إليه الإمام زين العابدين(عليه السّلام) فقال له:
(ما ظَنُّكَ بِرَسُولِ اللهِ (صلّى الله عليه وآله) لَوْ رَآنَا عَلى هذِهِ الصِّفَةِ؟).
فتأثّر يزيد، ولم يبق أحد في مجلسه إلاّ بكى، وكان منظر العلويات مثيراً للعواطف، فقال يزيد:
قبّح الله ابن مرجانة لو كان بينكم وبينه قرابة لما فعل بكم هذا.
والتفت الطاغية إلى الإمام زين العابدين فقال له:
إيه يا عليّ بن الحسين، أبوك الذي قطع رحمي وجهل حقي، ونازعني سلطاني، فصنع الله به ما رأيت.
فأجابه شبل الحسين بكل طمأنينة وهدوء بقوله تعالى:
((ما أصاب من مصيبة في الأرض ولا في أنفسكم إلا في كتاب من قبل أن نبرأها إن ذلك على الله يسير لكيلا تأسوا على ما فاتكم ولا تفرحوا بما أتاكم والله لا يحب كل مختالٍ فخورٍ) ).
وثار الطاغية وقال للإمام:
(وما أصابكم من مصيبةٍ فبما كسبت أيديكم).
فردّ عليه الإمام:
(هذا في حقّ من ظلم لا في حق من ظُلِم..).
وزوى الإمام بوجهه عنه ولم يكلّمه استهانة به.
ولم يستطع الطاغية الجواب على خطاب العقيلة، فقد انهار كبرياؤه وغروره وتمثّل ببيت من الشعر وهو:
يَا صَيْحَــــــةً تُحْمَدُ مِنْ صَوَائِحِ مَـــا أَهْوَنَ الْمَوْتَ عَلَى النَّوَائِحِ
العقيلة مع الشامي ويزيد
ونظر شخص من أهل الشام إلى السيّدة الزكية فاطمة بنت الإمام الحسين فقال ليزيد:
هب لي هذه الجارية لتكون خادمة عندي.
وقد ظنّ أنّها من الخوارج فيحق له أن تكون خادمة عنده، ولمّا سمعت العلوية ذلك، سرت الرعدة بأوصالها، وأخذت بثياب عمّتها مستجيرة بها، فانبرت العقيلة وصاحت بالرجل:
(كذبت ولؤمت، ما ذلك لك، ولا لأميرك..).
واستشاط الطاغية غضباً من استهانة العقيلة به وتحدّيها لشأنه، فقال لها: كذبت، إن ذلك لي، ولو شئت لفعلت.
فنهرته العقيلة ووجّهت له سهاماً من منطقها الفياض قائلة:
(كلاّ والله ما جعل لك ذلك، إلاّ أن تخرج من ملّتنا، وتدين بغير ديننا..) وفقد الطاغية إهابه، فقد أهانته أمام الطغمة من أهل الشام فصاح بالحوراء:
إيّاي تستقبلين بهذا، إنّما خرج من الدين أبوك وأخوك.
ولم تحفل العقيلة بسلطانه ولا بقدرته على البطش والانتقام، فردّت عليه بثقة:
(بدين الله ودين أبي وجدّي اهتديت أنت وأبوك إن كنت مسلماً..).
وأزاحت العقيلة بهذا الكلام الذي هو أشدّ من الصاعقة الستار الذي تستّر به الطاغية من أنّ الإمام الحسين وأهل بيته من الخوارج، فقد استبان لأهل الشام أنّهم ذرّية رسول الله، وأنّ يزيداً كاذب بادّعائه.
وصاح الرجس الخبيث بالعقيلة:
كذبت يا عدوّة الله.
ولم تجد العقيلة جواباً تحسم به مهاترات الطاغية، غير أن قالت:
(أنت أمير مسلّط، تشتم ظلماً، وتقهر بسلطانك..).
وتهافت غضب الطاغية وأطرق برأسه إلى الأرض، فأعاد الشامي كلامه إلى يزيد طالباً منه أن تكون بنت رسول الله (صلّى الله عليه وآله) خادمة عنده فصاح به يزيد:
وهب الله لك حتفاً قاضياً.