العودة   منتديات احباب الحسين عليه السلام > القسم الاسلامي > منتدى السيدة زينب (سلام الله عليها)
منتدى السيدة زينب (سلام الله عليها) السيده - زينب - بنت امير المؤمنين - الصابره - المحتسبه - جبل الصبر - العقيله - عقيلة الهاشميين - عليها السلام


محطات قدسية للسيدة زينب عليها السلام

منتدى السيدة زينب (سلام الله عليها)


إضافة رد
قديم 23-11-2012, 03:11 AM   المشاركة رقم: 1
معلومات العضو
أصغر ملك

إحصائية العضو







 
 


التوقيت

التواجد والإتصالات
أصغر ملك غير متواجد حالياً

المنتدى : منتدى السيدة زينب (سلام الله عليها)
محطات قدسية للسيدة زينب عليها السلام


。◕‿◕。 محطات قدسية للسيدة زينب عليها السلام 。◕‿◕。





الاسم الزهي

«زينب».. وهو اختيار من الله تبارك شأنه. قيل: هو اسم لشجر حَسَن المنظر طيّب الرائحة، وقيل: أصلُه زينُ أب، حُذف الألف لكثرة الاستعمال.

كُنيتاها

الاُولى: اُمّ الحسن،

والثانية: اُمّ كلثوم.. لذا يُقال لها: زينب الكبرى؛ للتفريق بينها وبين مَن سُمّيت باسمها من أخواتها وكُنيّت بكنيتها «اُمّ كلثوم».


ألقابها السامقة

العالِمة، الفاضِلة، الكاملة.. عابِدةُ آل عليّ، عَقيلة بني هاشم، عقيلة الطالبيّين ـ والعقيلة هي المرأة الكريمة على قومها، العزيزة في بيتها.
وتُلقّب أيضاً بـ : المَوثَّقة، والعارفة.. وكذا بـ «الصِّدّيقة الصغرى»؛ تفريقاً بينها وبين اُمّها الزهراء «الصدّيقة الكبرى» صلوات الله عليها.


ولادتها البهيجة

هي أوّل بنت مباركة وُلِدت لأمير المؤمنين وفاطمة الزهراء عليهما السّلام.. وذلك في اليوم الخامس من الشهر الخامس (جمادى الأولى)، من السنة الخامسة لهجرة النبيّ الأكرم صلّى الله عليه وآله وسلّم. وكأنّ هذا التاريخ يريد الإشارة إلى أنّ هذه المرأة الطاهرة ستعيش في أكناف الخمسة الأطياب من أهل الكساء صلوات الله عليهم، وستمضي أُختاً وفيّة مخلصة للإمام أبي عبدالله الحسين خامس آل العباء سلام الله عليهم.
وكان مولدها في مهبط الوحي، في بيت أذِنَ اللهُ أن يُرفع ويُذكر فيه اسمُه.. في المدينة. فنشأت في حجُور زاكية ثلاثة: حِجر سيّد الأنبياء، وحِجر سيّد الأوصياء، وحِجر سيّدة النساء صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين.


النسب الأزكى

هو أسمى الأنساب وأطهرها وأشرفها: الجدّ حبيب الله المصطفى محمّد صلّى الله عليه وآله، وجدّها الآخر: شيخ الأباطح وناصر الإسلام ومؤيّد رسوله أبو طالب عليه السّلام. والأب: أمير المؤمنين وسيّد الوصيّين، ونَفْس أشرف الأنبياء والمرسلين، عليّ سلام الله عليه. والأُمّ: سيّدة نساء العالمين من الأوّلين والآخِرين، فاطمة الزهراء عليها سلام ربّنا.
ثمّ يمتّد النسب إلى خيرة بني هاشم، متّصلاً متواصلاً بمَن كان على دين الحنيفيّة مِلّة إبراهيم الخليل عليه السّلام، ومَن خاطب الله تعالى نبيَّه تزكيةً وتشريفاً لهم حيث قال: وتَوكَّلْ علَى العَزيزِ الرَّحيم * الذي يَراكَ حِينَ تَقومُ * وتَقلُّبَكَ في الساجِدين
أمّا جدّتها لأبيها فهي السيّدة الزكيّة فاطمة بنت أسد بن هاشم بن عبدمَناف.. زوجة أبي طالب عليه السّلام. وجدّتها لاُمّها هي اُمّ المؤمنين، وأشرف نساء رسول ربّ العالمين: خديجة بنت خُوَيلد بن أسَد بن عبد العُزى بن قُصيّ بن كلاب. وكلتاهما من بني هاشم.


الإخوة والأخوات

1. الإمام الحسن المجتبى سيّد شباب أهل الجنّة عليه السّلام.
2. الإمام الحسين السِّبط سيّد الشهداء وريحانة رسول الله صلّى الله عليه وآله.
3. العبّاس قمر بني هاشم عليه السّلام.
4. محمّد بن الحَنَفيّة.
5. عبدالله وجعفر وعثمان أبناء اُمّ البنين فاطمة بنت حِزام رضوان الله عليها.. وهم إخوة العبّاس سلام الله عليه.
6. محمّد الأوسط.
7. محمّد الأصغر.
8. عمر الأطرَف.
9. يحيى.
10. عَون.
11. عُبَيدالله.
12. المُحسِن الذي اُسقط جنيناً لستّة أشهر.
13. زينب الصغرى المكنّاة بـ «اُمّ كلثوم».
14. رُقيّة.
15. اُمّ الحسن.
16. رَملة.
17. جُمانة.
18. مَيمونة.
19. خديجة.
20. فاطمة.
21. أُم الكِرام.
22. نَفيسة.
23. أُمّ سَلَمة.
24. أُمامة.
25. أُمّ هاني.
26. رُقيّة بنت اُمّ حَبيب التَّغلِبيّة.
ومنهم من يضيف: عَمْراً، وعبدالله الأصغر، وعمرانَ، وعبدالرحمن، ورَملة الكبرى.


زوجها

ابن عمّها، عبدُالله بن جعفر الطيّار الشهيد بن أبي طالب. وهو ممّن صَحِب النبيَّ صلّى الله عليه وآله، ولازمَ أميرَ المؤمنين عمّه عليه السّلام كما لازم الحسنَ والحسينَ عليهما السّلام، وأخذ العلم الكثير عنهم. وقد عُرِف بالجود والسخاء، والعفّة والخُلُق الرفيع.
وكان الزواج المبارك مقصوداً هادفاً، فقد روي أنّ رسول الله صلّى الله عليه وآله حين نظر إلى أولاد أمير المؤمنين عليه السّلام وأولاد جعفر بن أبي طالب رضوان الله تعالى عليه قال: بَناتُنا لِبَنينا، وبَنُونا لِبناتِنا. وحين تشرّف عبدالله بن جعفر بالزواج من العقيلة المكرّمة زينب عليها السّلام كان مُخبَراً ومُجيزاً أن ترحل زوجته مع أخيها الإمام الحسين عليه السّلام إلى كربلاء.


أولادها

1. محمّد بن عبدالله.
2. أبو الحسن عليّ، المعروف بـ «عليّ الزَّينبيّ».. وذريّة زينب عليها السّلام من هذا الولد.
3. عَون، وقد استُشهد يوم عاشوراء في كربلاء، في نصرة خاله الإمام الحسين عليه السّلام ، ويُعرف بـ «عون الأكبر».
4. عبّاس.
5. أُمّ كلثوم.
6. عبدالله، وهو آخر أولادها.
7. رُقيّة.
قيل: وجعفر. كما قيل: أولادها خمسة: عليّ وعون ومحمّد وعبّاس وأمّ كلثوم.


الحكّام المعاصرون

شهدت السيدة زينب عليها السلام حكم رسول الله صلى الله عليه وآله في المدينة المنوّرة، وحكم أبيها أميرالمؤمنين عليه السلام في الكوفة (35 ـ40 هـ).. كما عاصرت أيام الحكّام التالية أسماؤهم:
1. أبو بكر بن أبي قحافة ( 11 ـ 13 هجريّة ).
2. عمر بن الخطّاب ( 13 ـ 23 هجريّة ).
3. عثمان بن عفّان ( 23 ـ 35 هجريّة).
4. معاوية بن أبي سفيان ( 35 ـ 60 هجريّة).
5. يزيد بن معاوية ( 60 ـ 64 هجريّة ).


أهم الوقائع في حياتها

جُلُّها فجائع أهل البيت عليهم السّلام، وأحداث الإسلام المريرة، حيث شهدت حالة الانكفاء والانقلاب على وصايا رسول الله صلّى الله عليه وآله. وعاشت محنة وفاة جدها النبيّ الأعظم صلّى الله عليه وآله وسلّم. ثمّ كان ما كان.. من شهادة أمّها الصدّيقة الزهراء سلام الله عليها، ودفع أبيها الوصيّ عن مقامه الإلهيّ في قيادة المسلمين حتّى أصبح جليس داره، فإذا دُعي للخلافة الظاهرة قامت في وجهه الفتن، فاضطُرّ إلى دفعها في: الجمل وصفّين والنَّهروان، وما هدأ مناوئوه حتّى غَدروا به في بيت الله، عند محراب السجود لله جلّ وعلا.
وبعد شهادة أبيها أمير المؤمنين عليه السّلام ـ وما كان أشدَّها وأفجعَها عليها! ـ قامت فتن معاوية الذي فضح نفسه بعد عقد الصلح، فعاشت العقيلة زينب عليها السّلام تلك الأحداث العصيبة حتّى كانت المصيبة بشهادة أخيها السِّبط المجتبى أبي محمّد الحسن سلام الله عليه. وما هي إلاّ سنوات وهي ترافق أخاها الإمام الحسين عليه السّلام في ظروفه الصعبة.. حتّى تسنّم يزيد زمام الحكم، فرأى سيّد شباب الجنّة أن يواجه الظلم والانحراف؛ حفاظاً على قيم الإسلام ومبادئه من أن تُشوّه ثمّ تُمحى.
وكانت الرحلة القدسيّة إلى كربلاء الطفّ، لتقف زينب الكبرى عليها السّلام على المشاهد الرهيبة.. فكان منها القلب الصبور، واللسان الشكور، رغم تعاظم المصائب والكروب عليها، وتزاحم النوائب أمام عينيها، فتجرّعت غُصَصَ الآلام والمآسي، وتحمّلت الرزايا العجيبة وهي تنظر إلى أشلاء الضحايا المقدسة مجزرين على صعيد كربلاء، وترى مصارع إخوتها وأبنائها وبني عمومتها، وذويها، وأصحاب أهل بيتها.
ثمّ كان ما كان، من السَّبي والأسر، والسفر المرير في حالٍ من الإعياء والجوع وشماتة الأعداء ومواجهة قتلة أهلها. هذا.. وزينب العقيلة بنت أمير المؤمنين عليه السّلام، تلك العارفة العالمة غير المعلَّمة، والفهِمة غير المفهَّمة.. تعيش المحن التي هجمت على الرسالة وعلى آل الرسول، وتشاهد كيف يكون غصب الحقوق الإلهيّة ثمّ هتك الحُرم القدسيّة، فيُقتل أولياء الله الأعاظم، ويسعى المتسلّطون على رقاب المسلمين فساداً وعبثاً وظلماً وتحريفاً لمبادئ الدين الحنيف.
وهذه المرارات.. كلّ واحدة منها كفيلة بأن تقضي على المرء.. لولا صبرها الذي أعجب ملائكة السماء، ولولا أن قدّر الله تعالى أن تعيش أخطر الوقائع في حياة الرسالة وأهل بيت الرسول صلّى الله عليه وآله، وتقف إلى جنب أخيها سيّد الشهداء أبي عبدالله الحسين صلوات الله عليه، فهي الأليق بعد المعصوم أن تواصل نهضته الشريفة، وأن تنقل تلك الواقعة الرهيبة إلى امتداد التاريخ وانبثاق الأجيال.


وفاتها

لعلّ أوضح سبب لوفاة العقيلة المكرمة زينب عليها السّلام هو تلك الأرزاء العجيبة، والنوائب المذهلة التي أورثت غصصاً لم تنقطع وعبرات اعتصرت قلبها الشريف. وكان غريباً وعجيباً أن تعيش بعد فاجعة الطفّ العظمى، فتلك معجزة واضحة، إلاّ أنّها لم تبقَ بعدها طويلاً، فما مضت سنة ونصف حتّى أوشك الرحيل: أوّله عن مدينة جدّها رسول الله صلّى الله عليه وآله؛ إذ اُبعدت عنها بأمرٍ من يزيد بعد سِعاية من واليه على المدينة. وآخره عن هذه الحياة؛ لتلتحق بالرفيق الأعلى وبجدها المصطفى واُمّها البتول وأبيها المرتضى وإخوتها الشهداء إذ شاطرتهم الشهادة، بل وفاقتْها في صبرها وتحمّلها ورضاها بقضاء ربّها تبارك وتعالى.
ثمّ قضت نحبها في الشام، حيث مَنفاها، وذلك يوم الأحد الخامس عشر من شهر رجب سنة 62 من الهجرة النبوية الشريفة. فدُفنت في ضواحي دمشق في قبر يناسب جلالها وعظمتها، وشُيّد لها مشهد مهيب يتوافد عليه المسلمون من أقطار الدنيا، يتبرّكون به وينالون الشرف والكرامة بالامتثال عنده، ويشهدون مفاخر المعجزات والبشارات والبركات.
وكان من إكرام الله تعالى لهذه العلويّة الطاهرة أن شُيّد لها مشاهد أخرى، في البقيع (بقيع الغرقد)، وفي مصر، فضلاً عن دمشق في المنطقة المعروفة اليوم بـ «الزينبيّة».. وهي حيّ السيّدة زينب سلام الله عليها، الذي أصبح عامراً ببركتها، فغدا حيّاً مغموراً بدُور الذِّكر والعبادة، والمراسم والشعائر الإسلاميّة.



















عرض البوم صور أصغر ملك   رد مع اقتباس
قديم 23-11-2012, 03:12 AM   المشاركة رقم: 2
معلومات العضو
أصغر ملك

إحصائية العضو







 
 


التوقيت

التواجد والإتصالات
أصغر ملك غير متواجد حالياً

كاتب الموضوع : أصغر ملك المنتدى : منتدى السيدة زينب (سلام الله عليها)
افتراضي

لمحات.. من الكمالات الزينبية


الجلال الزينبيّ

شاء الله تبارك وتعالى أن يسكب من أنواره، على أحب خلقه إليه.. محمّد وآله صلوات الله عليهم، وشاء « سبحانه » ـ ومشيئتُه نافذة ـ أن يُضفي من جلاله على أعزّ خلقه إليه.. محمّد وآله صلوات الله وسلامه عليهم، فتجلّت فيهم معاني العبادة والشرف، ومكارم الاخلاق ومعالي الخصال، توارثوها عن بيت الوحي والرسالة، فكانوا ـ بحق ـ الدعاةَ إلى الله، والأدلاّء على مراضاة الله، والمستقرّين في أمر الله، والتامّين في محبّة الله، والمخلصين في توحيد الله، والمُظهرين لأمر الله ونهيه.. وكانوا، كذلك عبادَه المُكرَمين، الذين لا يسبقونه بالقول وهم بأمره يعملون، وقد بذلوا أنفسهم في مرضاته، وصبروا على ما أصابهم في جَنْبِه.
هذه هي الشجرة النبوية والدوحة الهاشمية، وقد كانت زينبُ عليها السّلام أحدَ غصونها، فاستطالت بأصلها: المحمّدي العلوي الفاطمي، شرفاً وعزّاً وجلالاً، فأكبرَتْها العقول والنفوس، واشرأبّت إليها الأعناق، ورَمَقتْها العيون بنظرات التوقير والاحترام.. حتّى قال الشاعر فيها:

هيَ الحوراء زينبُ عن علاهالَتقصرُ كلُّ ذاتِ يدٍ طويلـةْسليلةُ أحمد مولى المَوالـيألا نِعَمت لأحمدَ مِن سليلـةْفمهما تبلغُ الألبـابُ علمـاًفلن تُحصي مواهبَها الجليلةْوكم قال ابن عباس فخـوراً:عقيلتُنا، ويا نِعمَ العقيلة !
أجل، فقد كان عبدُ الله بن عباس إذا تحدث عنها قال: «حدثتني عقيلتُنا زينب بنت عليّ»
وذكرها ابن الأثير فقال: « كانت زينب أمرأة عاقلة، لبيبة جزلة » .
وقال السيوطي في رسالته الزينبية:
« وُلدت زينب في حياة جدها رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم، وكانت لبيبة جزلة عاقلة، لها قوة جَنان » 0
بهذا عُرفت زينب بنت عليّ وبنت فاطمة وحفيدة المصطفى صلّى الله عليه وآله. حتّى اشتهرت بأنّها تاليتها في الفضائل والمقامات المعنوية، وكان الإمام الحسين عليه السّلام أخوها ـ وهو إمام معصوم ـ يقوم لها إجلالاً إذا زارته، ويُجلسها في مكانه، كما كان يفعل رسولُ الله صلّى الله عليه وآله مع ابنته الزهراء سلام الله عليها، وذاك مؤشّر واضح على رفعة المنزلة وسموّ المكانة، وجلال القدر الذي كانت تَحظى به.
ويبلغ شأن زينب عليها السّلام أن الإمام الحسين صلوات الله عليه قد ائتمَنَها على أسرار الإمامة .. حتّى أوصى إليها ما أوصى قبل شهادته في كربلاء، فكانت لها نيابة خاصة عنه، وكان الناس يرجعون إليها في الحلال والحرام حتّى برئ زين العابدين عليّ بن الحسين عليه السّلام من مرضه .
ومن هنا قيل: « يُستفاد من آثار أهل البيت جلالةُ شأن زينب الكبرى ووقارها وقرارها، بما لا مزيد عليه.. وأنّها من كمال معرفتها ووفور علمها وحسن أعراقها وطيب أخلاقها كانت تشبه أمها سيدة النساء فاطمة الزهراء عليها السّلام في جميع ذلك، وكذا في الخَفارة والحياء، وتشبه أباها في قوّة القلب في الشدّة، والثبات عند النائبات، والصبر على الملمّات.. وكانت المهابة الموروثة من سماتها » .

العفاف الزينبيّ

نعم، إنها ربيبة بيت النبوّة، وسليلة الإمامة، عاشت يظلّلها العفاف من كلّ طرف، ويطوّقها الشرفُ من كل جهة.. قال يحيى المازنيّ: «كنتُ في جوار أمير المؤمنين عليه السّلام مدّةً مديدة، وبالقرب من البيت الذي تسكنه زينب ابنته، فوالله ما رأيتُ لها شخصاً، ولا سمعتُ لها صوتاً، وكانت إذا أرادت الخروج لزيارة جدّها رسول الله صلّى الله عليه وآله تخرج ليلاً، والحسنُ عن يمينها والحسين عن شمالها، وأمير المؤمنين أمامها، فإذا قربت من القبر الشريف سبقها أمير المؤمنين فأخمد ضوء القناديل، فسأله الحسنُ مرّة عن ذلك فقال: أخشى أن ينظر أحد إلى شخص أختك زينب» .
فإذا كان سلام الله عليها قد خرجت إلى كربلاء مع الركب الحسيني المجاهد؛ فإنّما خرجت لضرورة اقتضتها مصلحة الدين، لتشاطر إمامها الحسين عليه السّلام في نهضته وثورته، وإلاّ فإن السبي كان من النوائب التي لا تطاق، والنوازل التي تتزلزل منها الجبال بعد فاجعة الطفّ بأحداثها المؤلمة، وقد تحمّلتها زينب لتُكمل ما شرع به سيّدُ الشهداء عليه السّلام، فخطبت ـ وهي الخَفِرة ـ في أهل الكوفة، وفي مجلس عبيدالله بن زياد وفي قصر يزيد لتكشف الحقائق، وتبصّر الناس وتعيد الأمّة الضالة إلى طريق الهداية، وإلاّ فانّ الأمر كما حكاه الشاعر:

وانّ مِنْ أدهى الرزايا السُودِوقوفَهـا بيـن يـدَي يزيـدِأتُؤسَرُ الحرّةُ من آل العبـاعند طليقها فيا للعَجَبـا!
ولذا قالت زينب عليها السّلام ليزيد في مجلس قصره:
« ولئنْ جرّتْ عليَّ الدواهي مخاطبتَك، إنّي لأستصغرُ قَدْرك، وأستعظمُ تقريعك، واستكثر توبيخك، لكنّ العيون عبرى، والصدور حرّى » .
إنّها المصيبةُ الكبرى التي يقول فيها أحد الأدباء في رثاء سيّد الشهداء عليه السّلام:

له مصائـبٌ تكـلّ الألسـنُعنها، فكيف شاهدتْها الأعينُأعظمُها رُزْءاً على الإسـلامِسبْـيُ ذراري سيّـد الأنـامِوأفظعُ الخطوب والدواهـيدخولُها في مجلس الملاهـيولـدغُ حيّـةٍ لهـا بِريقِهـادون وقوفها لـدى طليقِهـا


الفصاحة الزينبيّة

إذا كانت النصوص الأدبية لا تتعدّى حدود الوصف والمحسّنات البديعية، ويكاد الكثير منها يخلو من المحتوى الرفيع والمعنى الشامخ والفكرة الراشدة، فيبدو فارغاً من الذوق أحياناً، فإنَّ بيانات أهل البيت عليهم السّلام ـ فضلاً عن بلاغتها وعلوّ فصاحتها ـ قد تضمّنت المعاني الجليلة من الاعتقادات الحقة والوصايا الأخلاقية، والدعوات الموجّهة إلى الخير والجهاد، معبِّرة عن أهداف الشريعة، وعن شجاعة المتحدّثين بها. فمن أحاديث المصطفى صلّى الله عليه وآله وسلّم في مكّة المكرّمة وخطب أمير المؤمنين عليه السّلام، وخطبتَي مولاتنا فاطمة عليها السّلام.. إلى خطب أمامنا الحسن وأمامنا الحسين سلام الله عليهما.. تأتي هذه السلسلة الشريفة لتُعرب عن حكم الإسلام في صِيَغ هُنّ غُرر الحكم ولوامعُه، ودرر الكَلِم وجوامعُه.
وزينب العقيلة عليها السّلام هي وريثة هذا البيت الطاهر، حتّى جاء في إحدى زياراتها: « السّلام على المولودة في معقل العصمة والتُّقى، ومهبط الوحي والهُدى، والموروثة عظيمَ الفضل والندى. سلام على المرأة الصالحة، والمجاهدة الناصحة، والحرّة الأبيّة، واللّبوة الطالبية، والمعجزة المحمّدية، والذخيرة الحيدرية، والوديعة الفاطمية ».
قال الشيخ جعفر النقديّ رضوان الله تعالى عليه:
« في الطراز المُذهَّب، عن ناسخ التواريخ أنّه قال: من معجزات رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم أنّه كان يضع لسانه في فم أولاد فاطمة الرضّع فيُغنيهم عن اللبن. قال: والأولاد الرضّع يشمل الذكور والإناث، فزينب وأمّ كلثوم تشاركان الحسنَين عليهما السّلام في هذه الفضيلة.
ومن المعلوم أنَّ من الْتَقَمَ لسانَ رسول الله صلّى الله عليه وآله ـ عقلِ العقول ووارثِ علوم الأولين والآخرين ـ وارتوى بمصّه، كيف يحصل على المراتب العالية، وكيف يأخذ مقامات العلم والشرف » .
كانت فصاحة سيدتنا زينب تجمع ـ إلى قوّة العبارة وحسن الاسلوب ـ عنصرين شريفين: المعرفة والشجاعة، لذا هيمنت كلماتُها على السامعين وجعلتهم حيارى بمَ يُجيبون، والأمثلة في ذلك وافرة:
• قال حذيم الاسدي: « لم أرَ واللهِ خَفِرةً قطّ أنطقَ منها، كأنّها تنطق وتُفْرغ عن لسان عليّ عليه السّلام، وقد أشارت إلى الناس ( أي أهل الكوفة بعد فاجعة كربلاء وقد جيء بها سبيّة ) بأن أنصتوا، فارتدّت الأنفاس، وسكنت الاجراس، ثمّ قالت: أما بعدُ يا أهل الكوفة، يا أهل الختل، والغدر والخذل، أتبكون.. فلا رقأت العبرة، ولا هدأت الزفرة.. هل فيكم إلاّ الصلف ، والعجب، والشنف ، والكذب، وملق الإماء، وغمز الأعداء ... قد ذهبتم بعارها، ومُنيتُم بشَنارها، ولن ترحضوها أبدا، وأنّى ترحضون قتلَ سليل خاتم النبوة، ومعدن الرسالة، وسيد شباب أهل الجنة، وملاذ حربكم ، ومعاذ حزبكم ؟! أتدرون ـ وَيْلَكم ـ أيَّ كبِدٍ لمحمّد صلّى الله عليه وآله فريتُم ؟ وأيَّ حُرمة له هتكتم ؟ وأيَّ دم له سفكتم ؟! لقد جئتم بها شوهاءَ صلعاء، عنقاءَ سوداء، فقماء خرقاء .. ثمّ أنشأت تقول:

ماذا تقولون إذ قـال النـبيُّ لكـمماذا صنعتم وأنـتم آخـر الأمـمِبأهـلِ بيتـي وأولادي وتكرمتـيمنهم أُسارى ومنهم ضُرِّجوا بـدمِما كان ذاك جزائي إذ نصحتُ لكمأن تُخْلفوني بسوءٍ في ذوي رَحِمي

قال حذيم: فرأيت الناس حيارى قد ردّوا أيديَهم في أفواههم، فالتفتُّ إلى شيخ في جانبي يبكي وقد اخضلّت لحيته من البكاء وهو يقول: بأبي وأمي، كهولُهم خير كهول، ونساؤُهم خيرُ نساء، وشبابهم خير شباب، ونسلُهم نسل كريم، وفضلهم فضل عظيم. ثمّ أنشد:

كهولُـكم خيـرُ الكـهول، ونسلُـكمإذا عُدّ نسلٌ لا يبور ولا يخزى

وحين جيء بالسبايا إلى قصر ابن زياد أخذ يستعرض عائلة رسول الله صلّى الله عليه وآله بالسؤال عن أفرادها، ثمّ سأل: مَن هذه المنحازة عن النساء ؟ فقيل: زينب بنتُ عليّ، فقال: الحمد لله الذي فضحكم وقتلكم، وأكذب أُحدوثتكم. فأجابته سلام الله عليها:
« الحمدُ لله الذي أكرمنا بنبيه محمّد صلّى الله عليه وآله، وطهرنا من الرجس تطهيرا، إنّما يُفتَضح الفاسق، ويكذب الفاجر، وهو غيرنا » . قال ابن زياد: كيف رأيتِ فِعلَ الله بأهل بيتك ؟ قالت: « ما رأيت إلاّ جميلا، هؤلاء قوم كتب الله عليهم القتلَ فبرزوا إلى مضاجعهم، وسيجمع الله بينك وبينهم فتُحاجَّ وتُخاصَم. فانظر لمن الفلج يومئذ ثكلتك أمك يا ابن مرجانة !» . فغضب ابن زياد واستشاط من كلامها معه في ذلك المحتشد .
وحينما جيء بالسبايا إلى الشام، وأُدخلن إلى قصر يزيد.. سمعت زينب عليها السّلام يزيد يتمثّل بأبيات ابن الزِّبَعرى:

لَعبتْ هاشـمُ بالمُـلْكِ فـلاخبرٌ جاء ولا وحـيٌ نـزلْلستُ من خِنْدَفَ إنْ لم أنتقمْمن بني أحمدَ ما كان فعـلْ

فانبرت له العقيلة زينب عليها السّلام وألقت خطبتها المعروفة في مجلسه، وكان منها: « أمِن العدل يا ابن الطلقاء.. تخديرُك حرائرَك وإماءَك، وسوقُك بنات رسول الله سبايا ؟!.. وكيف يُرتجى مراقبة مَن لَفَظَ فوه أكبادَ الأزكياء ، ونبت لحمُه من دماء الشهداء.. فوالله ما فريتَ إلاّ جِلْدَك، ولا حززتَ إلاّ لحمك، ولَتَرِدنّ على رسول الله صلّى الله عليه وآله بما تحمَّلت من سفك دماء ذرّيته، وانتهكت من حرمته في عترته ولُحمته.. ألا فالعجبُ كلّ العجب، لقتل حزب الله النجباء، بحزب الشيطان الطلقاء... فكد كيدك، واسع سعيك، وناصب جهدك، فوالله لا تمحو ذِكرَنا، ولا تُميتُ وحينا، ولا يُرحَض عنك عارها، وهل رأيك إلاّ فَنَد، وأيامك إلاّ عدد، وجمعك إلاّ بَدَد، يوم ينادي المنادي: ألا لعنة الله على الظالمين.. ».
فقال يزيد:

يا صيحةً تُحـمَدُ مـن صوائـحِما أهونَ النَّوحَ على النوائحِ


العبادة الزينبية

وهي هداية اختص الله بها عباده المخلصين، فوهب لهم الجدَّ في خشيته، والدوام في الاتّصال بخدمته، حتّى سرحوا إليه في ميادين السابقين، وأسرعوا إليه في المبادرين، إذ كانت أعمالهم وأورادهم كلها ورداً واحداً، وحالهم في خدمته سرمداً، فجعل ألسنتهم بذكره لَهِجة، وقلوبهم بحبِّه مُتيَّمة. وكانت منهم فاطمة الزهراء صلوات الله عليها، وثانيتهما في ذلك ابنتها العقيلة زينب سلام الله عليها، فكانت تؤدّي نوافل الليالي كاملة في أوقاتها، حتّى أنَّ الحسين عليه السّلام عندما ودّع عياله الوداع الاخير يوم عاشوراء قال لها: « يا أختاه، لا تنسيني في نافلة الليل » . وصدق ظنه وصدقت هي، طاعة لله، فلم تترك تهجّدها حتّى ليلة الحادي عشر من المحرم وأجساد أهلها مضرجةٌ بدمائها إلى جانبها، فصلّت من جلوس وقد هدّها المصاب ـ كما روى الإمام عليّ بن الحسين عليه السّلام ، والعيال في هول وفزع وحزن مرير، وكذا هي في طريق السبي.. قال الإمام زين العابدين عليه السّلام يروي فيها: « إنّ عمّتي زينب مع تلك المصائب والمحن النازلة بها في طريقنا إلى الشام ما تَرَكت نوافلها الليلية » .
وعنه سلام الله عليه أيضاً أنه قال: « إن عمتي زينب كانت تؤدي صلواتها من قيام: الفرائض والنوافل عند سير القوم بنا من الكوفة إلى الشام، وفي بعض المنازل كانت تصلي من جلوس، فسألتها عن سبب ذلك فقالت: أصلي من جلوس لشدة الجوع والضعف منذ ثلاث ليالٍ. لأنّها كانت تقسّم ما يصيبها من الطعام على الاطفال، لأن القوم كانوا يدفعون لكل واحد منّا رغيفاً من الخبز في اليوم والليلة » .

الوفاة

وبعد عمر عاشته بالآلام والأحزان.. مِن فقدها لجدّها المصطفى صلّى الله عليه وآله، إلى وفاة أمها الزهراء عليها السّلام بعد الرزايا، إلى شهادة أمير المؤمنين عليه السّلام بعد ضربه في محرابه، إلى شهادة الإمام الحسن عليه السّلام بالسمّ، إلى شهادة أخيها الحسين وأطفاله وشهادة إخوتها الأربعة: العباس وإخوته، وشهادة وَلَديها وبني عمومتها، وما جرى من المصيبة العظمى في كربلاء وما بعد كربلاء من السبي والأسر وعناء الطريق إلى الكوفة ثمّ إلى الشام، ومنها إلى كربلاء في زيارة قبور الشهداء في العشرين من صفر، ثمّ إلى المدينة.. فجائع متلاحقة، ونكبات وآلام متصلة، لكنها ـ كما ذكر النسابة العُبَيدلي ـ « كانت وهي بالمدينة تؤلّب الناس على القيام بأخذ ثأر الحسين عليه السّلام وخلع يزيد. فبلغ ذلك أهلَ المدينة، فخطبت فيهم تؤلّبهم، فبلغ ذلك عمرَو بن سعيد فكتب إلى يزيد يُعلمه بالخبر، فكتب يزيد إلى أن فرِّق بينها وبين الناس، فأمر أن يُنادى عليها بالخروج من المدينة، فقالت: قد علم الله ما صار إلينا، قُتل خيرُنا، وحُملنا على الأقتاب، فوالله لاخَرَجْنا وإن أُهريقت دماؤنا. فقالت زينب بنت عقيل: طيبي نفساً وقَرّي عيناً، وسيجزي الله الظالمين، أتريدين بعد هذا هَواناً ؟ إرحلي إلى بلد آمن. ثمّ اجتمع عليها نساء بني هاشم وتلطفن معها في الكلام وواسينها » .
وقيل: « إنها أُرغمت على الخروج فذهبت إلى الشام، ومرّت بشجرة عُلّق عليها رأس الإمام الحسين عليه السّلام، فتذكرت أيّام الأسر وعادت إليها لواعج الأسى والحزن، فحُمّت وتُوفّيت بالقرب من دمشق في قرية تُّسمى ( راوية )، في الخامس عشر من شهر رجب عام 62 هـ (30)، أي بعد شهادة أخيها الحسين عليه السّلام بعام ونصف تقريباً. فسلام على مَن ناصرت الحسين في جهاده، ولم تضعف عزيمتها بعد استشهاده، سلامٌ على من تضافرت عليها المصائب والكروب، وذاقت من النوائب ما تذوب منها القلوب، سلام على من شاطرت أمَّها الزهراء، في ضروب المِحَن والأرزاء، ودارت عليها رحى الكوارث والبلاء، يوم كربلاء .















عرض البوم صور أصغر ملك   رد مع اقتباس
قديم 23-11-2012, 03:13 AM   المشاركة رقم: 3
معلومات العضو
أصغر ملك

إحصائية العضو







 
 


التوقيت

التواجد والإتصالات
أصغر ملك غير متواجد حالياً

كاتب الموضوع : أصغر ملك المنتدى : منتدى السيدة زينب (سلام الله عليها)
افتراضي

سليلة أحمد.. تلك



بنفسي مَن حَوَت أسمى المزايا
..............ومَن للمَكرُمـات غَدَت خليـلهْ
ومَن يسمـو الثناءُ بها ويحـلو
..........وأجدرُ بالنعـوتِ المستطيـله
فإن كثـُرتْ مدائحُها وفاضت
.............. تُعَدّ بشـأنها السـامي قليـله
هيَ الحوراء زينبُ عن عُلاها
............ لَتَقـْصر كلُّ ذاتِ يدٍ طويـله

* * *

سليـلةُ أحمدٍ مَولى المـوالي
........ ألا نِعمتْ لأحمدَ مِـن سليـله
فمهمـا تبلغ الألبـابُ عِـلماً
........ فلن تُحصي مواهبَها الجليـله
وكم قد جـاء برهــانٌ جليٌّ
........... بعصـمتِها وعفّتـها النبيـله
وكم قال ابنُ عباسٍ فخـوراً:
.......... عقيلتـُنا.. ويا نِـعمَ العقيـله!

* * *

فكانت في البرايا كنزَ طُهرٍ
.......... ومصدرَ كلِّ منقبةٍ جزيـله
إليها قد تنـاهى كلُّ فَخْـرٍ
...........وفضـلٍ بعد فاطمةَ البتوله
ولا عجَبٌ إذا الباري حَباها
........... صفاتٍ في العقائل مستحيله
بها مِن أُمِّها الزهـرا سجايا
...........وشيمةُ حيدرٍ رمزِ البـطوله

* * *

إذا ربُّ الفصـاحةِ قد نمـاهـا
......... فقـد وَرِثَتْ فصـاحتَه وقِيـلَه
كفـاها مفخـراً مُذْ يومَ ألـقَتْ
.........على كوفـانَ خُطبتَها المَهـوله
كـأنّ لسـانَـها إذْ ذاك نَصْـلٌ
.........شَباه يفضحُ البـيضَ الصقيـله
به قد أخرسَتْ نُطْقَ الأعـادي
............وردّت منـه أعـينـَهم كليـله
لـقد أدلَـتْ بخُطبتـها معـانٍ
............بهـا قـد مَثّلت عِـزَّ القبيـله
فأضحى الجمعُ مندهشاً مَرُوعاً
..............ولاقى كـلُّ ذي لُبّـاً ذُهـولَه
ومَن نشـأت بعِـزٍّ.. مستحيلٌ
........... أمـامَ الجمـع وقفتـُها ذليـله

* * *

بربِّك مَن كزينبَ فـي البـرايا
...........لـوقع النائبـاتِ غَدَت حَمـوله
فيـاللهِ مــا لاقــت وقـاست
..........من الأشـرار أربابِ الـرذيـله
أتُحمَل فوق ظَهْر العُجْفِ قَسْـراً
..........وفتيتها على الرمضـا جديــله
فأبدتْ بعد يـوم الـطفّ حزمـاً
........... ومـا مـِن حـُرّةٍ أبـدَتْ مثيـلَه
وحِلْماً لا يُقاس بثقْلِ « رضوى »
............مَحـالٌ أن يـَرى رضوى عديلَه

* * *

لقـد وَثِقَ الحسينُ بها لكَـيْمـا
............تقـومَ بحمل أعبــاءٍ ثقيــله
وقـد بانت كفـاءتُها لـديــهِ
...........وأعلن عن بني الـدنيا رحيـله
فنـاداها: أزينـبُ أنتِ بعـدي
..............لِحفظِ عـوائلي كـوني كفيـله
فَجـُلُّ الفادحـات وإن تنـاهت
........ غَدَتْ في حزمها السامي ضئيله
صـلاةُ الله تتـرى كـلَّ حيـنٍ عليها..
.................. ما تلا الشـادي هديـلَه
















عرض البوم صور أصغر ملك   رد مع اقتباس
قديم 23-11-2012, 03:14 AM   المشاركة رقم: 4
معلومات العضو
أصغر ملك

إحصائية العضو







 
 


التوقيت

التواجد والإتصالات
أصغر ملك غير متواجد حالياً

كاتب الموضوع : أصغر ملك المنتدى : منتدى السيدة زينب (سلام الله عليها)
افتراضي

امرأة.. اسمها زينب (رواية)

جَمَحت الفرس... رمحت ... ارتفع صهيلها عالياً يملأ الآفاق... لقد عانق الفارسُ الذي دوّخ القبائل... عانق الأرض... توسّد رمال الصحراء... أفناه الظمأ... وأعياه نزف الدم، والفراتُ يجري متلوّياً تتدافع أمواجه كأنّه بطون الحيّات.
جالت الفرس... حَمَحمتْ وهي تقترب منه. راحت تُمرّغ ناصيتها بالدماء الثائرة... تُلوّن ذرّات الرمل الملتهبة بلون الشفَق الحزين.
هتف رجلٌ من القبائل... رجل أسكرته نشوة القتل:
ـ دونكم الفرَس. إنّها من جياد خَيل النبي!
مثل دوّامة ما لها من قرار، دارت الخيل حولها الفرس تقاتل بضراوة... تدفع عنها غائلة القبائل، كما لو أن روح السبط قد سكنت أعماقها.
أمّا هو فقد توقّف ليستريح فوق رمال كربلاء.
ما لها القبائل تشتعل حقداً... تضطرم غيظاً... تتفجر في أعماقها شهوة الثأر!
ثارت الرمال تحت حوافر الخيل، وعجزت الذئاب عن كبح جماح فرس ثائرة كان صاحبها قد التوى به السرج، فانسربت روحه الدافئة تلتقط أنفاسها من بين ذرات الأرض...
صرخ الرجل الّذي يحلم بكنوز «الريّ وجُرجان»:
ـ دعوها لننظر ما تصنع!
انحسرت عنها الخيل... نظرت الى الأفق البعيد، ثمّ لَوَت رأسها باتجاه آخِرِ الأسباط.
ما يزال غافياً فوق الرمال ينوء بنفسه... قلبه ينزف دماً؛ ودماء القلب ترسم طريقها فوق الأرض نهراً صغيراً يكاد سنا نوره يضيء التاريخ.
خَفَتَ زعيقُ القبائل... وتقدّمت الفرس نحو سبط النبي... شمّته... ملأت رئتَيها من عبير النبوّات... أطلقت صهيلاً مدوّياً وهي تركل الأرض ... تريدها أن تستيقظ... أن تهتزّ، وتتزلزل تحت أقدام الذين اغتالوا الحرّية وطعنوا السّلام.
انطلقت الفرس نحو خيام قافلة عَصفَتْ بها الريح من كل مكان. كانت ما تزال تصهل عالياً... ما تزال كلماتها تتردد في سماء التاريخ.
ـ الظليمةَ الظليمةَ من أمّة قَتَلتْ ابنَ بنت نبيّها!
لقد انتهى كل شيء، ومرّت العاصفة الهوجاء... ملأت الرمال دماءً ودموعاً... والفراتُ ما يزال يجري... تتدافع أمواجه نحو البحر البعيد.
يمّمت الفرس وجهها شطر الفرات المسافر في مجاهل الصحراء... اقتحمت أمواجه المتدافعة، وغمرتها الأمواج، وكان الحصى المتناثر فوق الشواطئ يصغي لأنين خافت يشبه حمحمة فرس حزينة.
وتألقت في أعماق النهر مآذنُ وقِباب وقوافل مسافرة.
هناك في القَيعان الخفية تسطع النجوم، ويغفو القمر بسلام، ويمتزج الصهيل الكربلائي مع المياه المتدافعة صوب البحر.
وتغفو الفرس في أحضان الطين المعطور بعد يوم عصيب.
وفي المساء، عندما بدا نخيل الشواطئ كأهداب حوريّة شهيدة، فقَدَ الفراتُ مذاقه العذب، فاذا هو أُجاج يلفظه الظمآن كما لو كان مُترعاً بملح الصحراء.
وعندما مرّت الغيوم، شاهد بعضُهم غيمةً بيضاء تشبه فرساً مجنّحة تشقّ طريقها في الفضاء الأزرق... ترسم للأجيال طريق الحرّية.

* * *
تراقصت ألسنة النار المجنونة وهي تلتهم خيام القافلة... بَدَت كشيطانٍ يتميّز من الغيظ.
فرّت النسوة والأطفال هائمين في وجه الصحراء، وقطعانُ الذئاب تجوس خلال الخيام كريحٍ مجنونة.
هبّت القبائل تسلب وتنهب، وتحوّلت تلك القطعة من أرض الله إلى مسرحٍ رهيبٍ، وقد ظهر إبليس ينفخ ويَصفُر... يسخر من آدم... وبدا آدمُ حزيناً على فردوسه المفقود.
وكانت امرأة اسمها «زينب» تتألّق وَسْط الناس... ترتّل نداء السماء: يا نارُ كوني برداً وسلاما.
تقدّمتْ نحو الشمس التي كُوّرت... كانت تتنفس روحَ عليّ... ترتدي حُلّة أيوب النبيّ.
تقدمت نحو آخِرِ القرابين السماوية.
اختفت الزهور والرياحين، وظهرت الأشواك حادّة كأنصال السكاكين... ملأت الطريق... الطريق الذي يؤدي الي الحسين.
قالت زينب وهي تجثو أمام جسد ممزَّق:
ـ الهي تقبّل منّا هذا القربان!
نَهَضتْ تُلملم آلامها... تبحث عن أطفال ونسوة فرّت مذعورة كطيور هاربة من سفن بعيدة غرقت.
العيون الحالمة والقلوب الصغيرة فرّت خائفة. وكان «الرضيع» ما يزال غافياً مصبوغ النحر بلون الأرجوان.
عواء الذئاب يمزّق وداعة الرياحين. واستحالت الأشياء الخضراء إلى رماد تذروه الرياح.
كل شيء بات يهتزّ بشدّة... الموجودات تتأرجح كما لو أن زلزالاً ضرب الأرض، فبدت مجنونة، وهي تمخر غبار الكون.
آن للقافلة أن تستأنف رحلتها، وقد ظهرت امرأة ترتدي صبر الأنبياء... عنفوان الرسالات... وكان اسمها زينب...
آن للقافلة أن ترحل.
رفعت النوق أثقالها... وانتشلت سفن الصحراء مراسيها...
وبَوصَلة التاريخ تشير إلى المدينة المشهورة بالغدر.
ومن بعيدٍ لاحت الكوفة... ذليلةً خاويةً على عروشها.
قالت زينب وهي تستقي صبر الحسين:
ـ لن يموت مَن رأسُه فوق الرمح... انظر، إنه يرتّل سورة الكهف.
قال فتى عليل أفلَتَ من أنياب الذئاب:
ـ إنهم يقتلون الحرّية... والانسان.
ـ الروح العظيمة لاتعرف الموت... إنّهم يرفعونها عالياً فوق ذُرى الرماح.
وأردفت المرأة المتوشّحة بالصبر:
ـ انظر يابن أخي، سندخل الكوفة.
ـ يا عمّتي، إننا ندخلها أسرى.
ـ بل فاتحين... وسينجلي ذلك ولو بعد حين.
ـ وهذه الحبال وقيود الحديد ؟
ـ ستلتفّ حول أعناق الذين غدروا. إنّهم لا إيمان لهم. صبراً يا بقية جدّي وأبي وإخوتي، فواللهِ إنّ هذا لَعهدٌ من الله إلى جدّك وأبيك، ولقد أخذ الله ميثاق أُناسٍ لا تعرفهم فراعنة هذه الأرض، وهم معروفون في أهل السماوات... أنّهم يجمعون هذه الجسوم المضرّجة فيوارونها، ويَنصبون بذاك الطفّ علَماً لا يُدرس أثره.

* * *
عصف الأرق بأمّ سَلَمة... غادر النوم عينيها الساهرتين... تراقب النجوم وهي تومض من بعيد.
مُذْ غادر الحسين الحجاز.. والرؤيا لا تفارقها
مذ رحل السبط إلى أرض السواد.. وهي ترى النبيّ حزيناً مكتئباً. وعندما تنحسر الرؤيا، تتذكر حزن الحبيب يوم فقَد ابنَه إبراهيم.
عانقه ثم قال ـ وعيناه تدمعان: إنّا بك لَمحزونون.
ولكنّ حزنه الآن حزنٌ عميقٌ... كبئر سحيقة.
لم تشاهده بهذه الحال أبداً.
رأت شعره المتموّج تموَّجَ الصحارى... رأته أشعث، ورأت وجهه القطني المشرَب بحمرةِ الشفق مغبرّاً، وعلى رأسه التراب.
هدّ أمَّ المؤمنين القلقُ. كانت تدرك في قرارة نفسها أنّ شيئاً رهيباً قد وقع، فالحسين في أرضٍ طالماً غَدَرتْ بأبنائها.
أغمضت عينيها الواهنتين، فرأت الحبيبَ مرّة أخرى. أفزعها منظره... كان يَنكتُ الترابَ عن رأسه، وبدا شعره أشعثَ مغبّراً:
ـ مالي أراك أشعثَ مغبرّاً يا رسول الله ؟!
أجاب آخرُ الأنبياء، وعيناه تدمعان:
ـ قُتل ولدي الحسين، وما زلت أحفر القبور له ولأصحابه.
انتبهَتْ أمّ سَلَمة من الحُلم... وجَدتْ نفسها تبكي بصوت يشبه نشيج الميازيب في مواسم المطر.
البكاء يشقّ طريقه في الليل ... يتسلّل من خلال الظلام الذي يغمر المدينة قبل الساعة التي ينفلق فيها الفجر.
النجوم ما تزال تومض كقلوبٍ واهنةٍ أجهدها النبض.
أسرعت أمّ سلمة إلى قارورة فيها قبضة من ترابٍ كان جبريل قد أحضرها من شُطآن الفرات.
كانت القارورة تفور دماً عبيطاً... كجُرح بعيدِ الغَور... بركان من دم ثائر.
ـ واثكلاه! ليت الموت أعدَمَني الحياة... اليومَ مات رسولُ الله... فاطمةُ الزهراء.
غبرة كئيبة لفّت المدينة التي فَقَدتْ مجدها...
ها هو أبوسفيان يقود جيوشَ الشرك مرّة أخرى، وقد عاد ليثأر من بدر... يثأر لأبي جهل، وأُمية، والوليد، وهُبل، واللات والعُزّى.
ـ اين أنت يا رسول الله؟! هلّم إلى سبطك تتخطّفه سيوف القبائل... هلّم لترى ما يفعل طلقاؤك... لقد سرقوا منبرك... يَنزون عليه قردةً وخنازير.
وها هم اليوم يمزّقون قلبك... يمزفون صدر الحسين!
انهم يطعنون المُزن في السماء، فيا أرض اعطشي... يطفئون وهجة الضياء، فيا شمس ارحلي... يسحقون الورد والريحان، فيا أرض اهمدي.
وحين غاب الحسين حلّ زمن القهر، وبدت خيول العرب ذليلة... ذليلة كصبايا السَّبي.
ومضت أمّ سلّمة تحثّ الخطى إلى رسول الله... تعزيه في ريحانته... أمّا الزهراء فما يزال مثواها مجهولاً يرسم علامة سؤال كبير يستفهم التاريخ.
استيقظت المدينة خائفة تترقّب... أطلّت عيون زائغة...
الأفاعي التي فرّت من مكّة ظَهَرتْ رؤوسها في دمشق... فحيحها يملأ الفضاء... يكاد يخنق كلمات السماء.
وانبعث أبوجهل يكرع كؤوس الخمر، ويعربد.
وفرّ بلال وعمّار و سلمان... كانوا يبحثون عن رسول الله، فلقد حمي الوطيس... وطيس المعركة.

* * *
الغروب الحزين يقرض منازل المدينة المشهورة بالغدر، توهّجت ذرى النخيل بحمرة تشبه الجمر، فبدتْ كجراح متألّقة.
دخلت القافلة التي جاءت على قدَرٍ العاصمةَ الدارسة.
كمومس عجوز بدت الكوفة ذلك الغروب.
احتشدت جموع مذهولة حول القافلة العجيبة.
سألت امرأة كوفية ربّما لتمسّ الجراح:
ـ من أيّ الأُسارى أنتم ؟
وجاء الجواب الصاعقة:
ـ نحن أسارى آل محمّد.
وأومات بنت محمّد إلى الناس، فسكنت الأصوات، وبلغت القلوب الحناجر.
وبَدَت وهي فوق ناقتها مَلاكاً قادماً من السماء.
سكت الناس، وتوقّف التاريخ يصغي إلى كلمات عليّ تنبعث من جديد:
ـ اما بعد يا أهل الكوفة، يا أهل الخَتل والغَدر. أتبكون فلا رَقَأت الدمعة، ولا هدأت الرنّة! إنّما مَثَلكم كمثل الّتي نَقَضت غَزْلَها من بعدِ قوةٍ أنكاثاً، تتّخدون أيمانكم دَخلاً بينكم. ألا وهل فيكم إلاّ الصَّلف النطف والعجب الكذب والشنف، ومَلَق الإماء، وغمز الأعداء. كمرعى على دِمنة أو كفضّةٍ على ملحودة. ألا بئس ما قدّمتْ لكم أنفسكم أن سخْط الله عليكم وفي العذاب أنتم خالدون.
كلمات تشبه الصواعق. وبدت الجموع كشواهد قبور دارسة تحترق.
كان الصمت ما يزال جاثماً فوق المكان كغراب أسطوري، وكانت الكلمات وحدها تدوّي في أُذن التاريخ:
ـ أتبكون وتنتحبون! إي والله فابكوا كثيراً واضحكوا قليلاً، فلقد ذهبتم بعارها وشَنارها... فتَعساً لكم وسُحقاً، فلقد خاب السعي، وتبّت الأيدي وخسرت الصفقة، وبُؤتم بغضب من الله ورسوله، وضُربت عليكم الذلّة والمسكنة... ويلكم يا أهل الكوفة! أتدرون أيَّ كبِد لرسول الله فَرَيتم ؟! وأيَّ كريمة له أبرزتم ؟! وأي حرمة له انتهكتم ؟! وأي دم له سَفكْتم ؟! لقد جئتم شيئاً إدّا... تكاد السماوات يتفطّرنَ منه وتنشقّ الأرض، وتخرّ الجبال هدّاً... لقد أتيتم بها خَرقاءَ شوهاء كطِلاعِ الأرض وملء السماء. أفعجبتم أن مَطَرت السماءُ دماً، ولَعذاب الآخرة أخزى، وأن ربّكم لبالمرصاد.
كانت الكلمات تتدفّق قوية كإعصار فيه نار، وكان صهيلٌ غاضب يتردّد من بعيد... قادماً من أرض كربلاء...
ما يزال الحسين يقاتل. فالحسين لا يعرف الموت. لقد كشف سرّ الخلود و مزّق بسيفه حجبَ الزمن. وها هي زينب تشير بيدها نحو الدرب... الدرب الذي خطّه الحسين.
تساءل صوتٌ مدهوش:
ـ ولكنّ الحسين ما يزال في الرمضاء ... جسداً بلا رأس!!
ـ مجرّد إغفاءة... سينهض الفارس الذي دوّخ القبائل ... سيلمع سيفه كبروق السماء، وسينبعث جواده من مياه الفرات، وعندها ستشتعل المعركة من جديد...
كربلاء معركة متجدّدة في كل أرض مظلومة وفي كل زمان جائر. وستغدو كلّ بقعة من دنيا الله كربلاء، وسيمتدّ يوم عاشوراء ليشمل كل الزمن. سيصبح أطولَ يوم في التاريخ، بل سيستوعب التاريخ كلّه.
ـ ها هي زينب ... ها هي بنت علي.
هتف حرّاس القصر، وهم يتطلّعون الى قافلة قادمة... قافلة تحوطها ذئاب غبراء.
ها هي زينب تتقدّم بخطىً واثقة... تدخل القصر... ينبض في صدرها قلب عليّ، ويتألق في عينيها بريق الحسين.
وتتفتّح الأبواب أمام موكب من الأسرى... تطفح فوق وجوههم العزّة والإباء. العيون النفّاذة تخترق أستار الزمن، تنظر الى ماوراء الأيام....
لقد سقط يزيد وابن زياد... تحطّمت عروشهم، وتهاوت قصورهم. إنّهم لم يعودوا سوى جثث متعفّنة غادَرَتْها الروح.
أناخت القافلة رَحلَها في قصر يكاد يميد بأهله... قصر تحرسه رماح ونبال.

* * *
جلس الأرقط متربعاً على عرشه. عيناه تقدحان شرراً، وما تزال سكرة الليل ترسم آثارها فوق وجهه... وفي عينيه لاحَت كؤوس من خمرة ودماء.
كان يتصفّح وجوه «أسراه»! توقّف عند أحدهم. تسمّرت عيناه وارتدّ بصره خاسئاً وهو حسير، فهؤلاء لا تلوح عليهم سمات الأسر أو القهر.
نظرات متحدّية تصفعه من كل صوب. وكانت ذلة الأسر تلوح فوق حرّاسه وجلاوزته.
سأل الأرقط وقد غاظته هيبة «الأسرى»:
ـ مَن هذه المتنكّرة ؟!
كان الصمت المشوب بالاحتقار صفعةً أطارت بقايا نشوةٍ تطوف في رأسه.
لم تُجب المتنكّرة.
حاول أحد الجلاوزة إنقاذ هيبة سيّده، فتمتم:
ـ إنها زينب... زينب ابنة علي.
لمعت في عينيه شهوة الانتقام:
ـ الحمدلله الذي فضَحكم وقتَلكم وأكذَب أُحدوثتكم!
وانتفضت المرأة الزوبعة:
ـ الحمدلله الذي أكرمنا بنبيّه «محمد» وطهّرنا من الرجس تطهيرا. وإنّما
يُفتضح الفاسق ويُكذَّب الفاجر، وهو غيرنا.
قال الأرقط متمادياً في شماتة و نفاق:
ـ كيف رأيتِ فِعل الله بأهل بيتكِ ؟
أجابت بنتُ محمدٍ وهي تنظر الى ما وراء الحوادث:
ـ ما رأيتُ إلاّ جميلا. هؤلاء قومٌ كَتبَ اللهُ عليهمُ القتل فبرزوا الى مضاجعهم، وسيجمع اللهُ بينك وبينهم فتُحاجُّ وتُخاصَم، فانظر لمَن الفَلجُ يومئذ. ثكلتك أمّك يابن مرجانة!
لم تنتَهِ المعركة بعد. هناك جولاتٌ أخرى... جولات مريرة عنيفة.
كاد يتميّز غيظاً، و بدا كأفعى رقطاءَ تهمُّ بابتلاع ضحيّتها.
زاغت عيناه تطاير منها شرر كشَرر الجحيم المستعرة، وثار بركان حقدٍ في أعماقه، فنظر الى أحد جلاوزته.
كان رأس الحسين صامتاً، وكان صمته المحيِّر يتكلّم بلغة عميقة أو صرخة مدوّية تكاد تعصف بالقصر وساكنيه.
كفحيح حيّة جاء صوت الأرقط:
لقد اشتفيتُ من الحسين والعصاة المرَدة من أهل بيتكِ!
تساءلت المرأة المقهورة: كيف أمكن لخنزير أن يسرق منابر الصدّيقين، تمتمت بحرقة:
ـ لعمري لقد قتلتَ كهلي، وقطعتَ فرعي واجتثثتَ أصلي، فإن يشفِكَ هذا فقد اشتفيت.
أدارت الافعى رأسها نحو فتى عليل... فتىً ادّخره القدر لزمن آخر.
سأل الارقط: ما اسمك ؟
أجاب الفتى باعتزاز: عليّ بن الحسين.
ـ أو لم يَقتلِ اللهُ علياً ؟!
ـ كان لي أخ أكبر منّي يُسمى علياً، قتله الناس.
ـ بل قتله الله.
ردَّ الفتى، والحكمة تتفجّر من جوانبه:
ـ الله يتوفّى الأنفسَ حين مَوتها، وما كان لنفس لتموت إلاّ بأذن الله.
زاغت عينا الأرقط غيظاً. أشار الى أحد جلاّديه:
ـ اضرب عنقه!
هَبَّت عمّته معترضة:
ـ حَسْبُك يابن زياد من دمائنا ما سَفكتَ، وهل أبقيت أحداً غير هذا، فإن أردت قتله فاقتلني معه.
زاد الفتى من تحدّيه. إنّه لا يرى سوى خرائب قصر ولا يرى سوى جثث متعفّنة:
ـ أما علمتَ أنّ القتل لنا عادة، وكرامتنا من الله الشهادة ؟!
الشهادة ليست موتاً بل خلوداً... الموت أن يتعفّن الإنسان.
والّذي يعبر جدار الزمن وأوداجُه تشخب دماً ليس ميّتاً.
لا يموت من يصبغ الأرض بلون الشفَق الدامي.

* * *
بدا قصر الإمارة وسط الظلمة كغرابٍ يبحث في الأرض... يريد نبش قبر قديمٍ عفّى عليه الزمن.
وصمتٌ رهيب يسيطر على زوايا القصر ما خلا صوت بومة ترسل هأهأتها متقطّعة.
كان الأرقط يذرع البهو وبيده كأس. وبدا مخموراً بعضَ الشيء.
وكان «الأبرص» منسحباً إلى نفسه، والرجل الّذي قاد القبائل على شاطئ الفرات يداعب لحيته الشعثاء، وهو يحملق في الفراغ... ينظر إلى أحلامه تتبدّد... تتبخّر... وصبايا الري وجرجان تفرّ مذعورة بين يديه.
منذ «عاشوراء» والأرقطُ تعصف به الهواجس... ينتابه القلق... يهبّ من نومه مذعوراً، تطارده الأشباح... أشباح لايعرفها... يتقدّمها رأسُ الحسين على رمحٍ طويل. أمّا هو فكان يلهث مبهور الأنفاس تائهاً في صحراء مترامية مليئة بالأفاعي؛ تمتم بحقد:
ـ ما ذا لقيتُ من الحسين ؟!
دون شعور سقطت الكأس من يده.
رفع الأبرص عينه. كان ينظر بحقد. واستيقظ الرجل الذي كان يحلم بالري وجرجان.
شعر الأبرص بحرقة في نحره. منذ أيام وهي تلسعه بنار.
ركض الى بِركة الماء. بلّل نحره، ولكن بلا فائدة.
هتف الأرقط ساخراً:
ـ ما تزال تحرقك... أعني قطرات الدم.
صوّب الأبرص عينين متأرجحتين:
ـ لماذا تسخر منّي ؟ إنها قطرات من نار لا من دماء... صدِّقني أنّني أخلط خمرتي بدماء قتلاي. ولكن هذا الدم كان يختلف. إنّه اللهيب بعينه.
قهقه الرجل الحالم:
ـ ولكنك جثمت على صدره كغراب أبقع.
ردّ الأبرص منتشياً.
ـ أنت لا تدرك اللذّة التي شعرتُ بها وأنا أعلو صدر الحسين. كان ربوة من ربيع تفوح منه روائح أطيب من المسك. يابن سعد! لقد ارتقيتُ قمّة المجد.
الأبرص ما يزال منتشياً، أسكرته لحظة الانقضاض.
الرجل الحالم قطع قهقهته فجأة. زاد اتساع عينيه كأنّما ما يزال يراقب مشهداً مثيراً على شاطئ الفرات.
الحسين ما يزال يقاتل الألوف غير عابئ بالسهام والرماح، وسيوف القبائل تحاول أن تتخطفه. اندفع نحو الفرات كزوبعة غاضبة. وبدا الفرات تحت حوافر جواده كأفعى ذليلة لشدّما هزّه منظر الحسين. أيّ رجل هذا ؟!
غطّى وجهه بكفّيه. أراد أن يطفئ اشتعالات مشاهد مضيئةٍ كبروق سماوية.
ما تزال الخيول المجنونة تركض بعنف، فيتردّد صداها في أعماقه هزّات عنيفة مدمرِّة تعصف بأحلامه فتتبدّد.
كان الأرقط يراقب صاحبيه من طَرْف خفيّ. أدرك ما يعتمل فيهما. لوّح بسوطه في الهواء، وصرخ:
ـ إنّني أُنفّذ أمر الخليفة.

* * *
الليل يغمر الأرض بظلمة حالكة. وبدت الصحراء المترامية امرأة متّشحة بالسواد حزناً على أبنائها. النخيل الذي يحفّ بشطآن الفرات بدا كرماح مركوزة في الرمال.
خُيِّل إليه أنّه يسمع صهيلاً ينبعث من أعماق المياه المتدفّقة...
اقترب أكثر فأكثر... فكاد يسقط دهشة... مواكب من شموع تتألّق وأصوات تشبه البكاء.
كان الرجل الأسدي يحدّ النظر... يريد أن يتعرّف أحدهم، لكنّ بصره ارتدّ حسيراً ... تقهقر إلى الوراء... سيطرت عليه رهبة المكان.
خُيّل اليه أنه يرى جواداً ينبعث من نهر الفرات. كان الجواد يشبه غيمةً بيضاء تنساب فوق الرمال الناعمة. ورأى رجلاً يستيقظ... راح الجواد يمرّغ ناصيته يشمّه ويحمحم بحزن.
نهض الرجل النائم... مسَح على رقبة جواده، ثمّ راح يوقِظ النائمين واحداً بعد الآخر.
استيقطوا جميعاً. كانوا سبعين أو يزيدون.
وهتف الرجل الذي أيقظهم:

أنا الحسين بن عليآليـت ألاّ أنـثـني
انتبه الرجل الأسدي... فرك عينيه. كان الفجر قد لاح من وراء النخيل... فجر يشبه الرماد.
وشيئاً فشيئاً تبدّدت الظلمة، ولاحت له أجساد القتلى مقطّعة الرؤوس... متناثرة هنا وهناك، كنجوم منطفئة.
حلّ اليوم الثالث عشر من محرّم. شمسه كئيبة حزينة. ترسل أنواراً باهتة. تلفح أجساداً مقطّعة الرؤوس، وكانت الريح تعدو كذئبة مجنونة تثير غباراً كدخان الحرائق.
وجاءت نسوة أسديات، ورجال كانوا يبكون بحرقة. وتعالت في الفضاء تأوّهات هابيل، وهو يشكو ظلم أخيه.
وقف بنو أسد حيارى لا يدرون ما يصنعون!
حاول بعضهم أن يتعرّف القتلى ولكن لا جدوى. حتّى «ابن مظاهر» ضاع عليهم.
كانت الأجساد مضرّجة مزّقتها حوافر خيل قاسية.
وجاء فتى يسعى... عليه سيماء النبوّات. ووقف بنو أسد مدهوشين، وهو يشير الى الأجسام المجهولة.
ـ هذا جسد أبي...
وتمتم وهو يواريه الثرى:
ـ طوبى لأرض تضمّنت جسدك الطّاهر... الدنيا بعدك مظلمة والآخرة بنورك مشرقة. أمّا الليل فمُسهَّد، وأمّا الحزن فسرمد.
ومشى الفتى الى جسدٍ آخر كان مقطوع الرأس واليدين.
فاعتنقه وراح يبكي:
ـ على الدنيا بعدك العفا يا قمر بني هاشم... سلام عليك من شهيد محتسب ورحمةالله.
ومرّ النهار، ونكت الفتى يديه من التراب، ونظر الى الفرات. كان يشعر بظمأ شديد...
اغترف من الماء، وهمّ أن يشرب، ولكنه رماه بعنف كما لو كان سماً. تذكّر كلّ تفاصيل ملحمة الظمأ، وهي تجري على شواطئ نهر يموج بالمياه.
نهض الفتى وألقى نظرة احتقار على الفرات، وطفرت من عينيه الدموع وهو يولي ظهره للشواطئ. وبدا النهر كئيباً كخيط من الملح. وشيئاً فشيئاً كانت أصوات مناحة بني أسد تخبو في أُذنَيه، وهو يتّخذ طريقه نحو مدينة غَدرَتْ بأبيه.

* * *
بدا الجامع الأعظم مكتئباً، كناسكٍ حزين. ورغم الضجة المتصاعدة، فقد بدا مقفراً، وضاعت آيات القرآن بين لغط الكوفيّين الذين تجمهروا في الظهيرة المحرقة.
نزا الأرقط على المنبر، وراح ينظر الى الناس باستعلاء. الشرر يتطاير من عينيه كشظايا جحيم مستعرة. هتف بغطرسة وقد فقد السيطرة على لثغة لسانه:
ـ الهمد... الحمدلله الّذي أظهر الحق وأهله... نَسَرَ اميرالمؤمنين يزيد وهزبه، وقتل الكذّاب ابن الكذّاب الحسين بن علي وشيعته.
ضحك أحدهم بمرارة، وهو ينظر الى هذا الألكن الّذي نزى على منبر عليّ.
لقد مضت أيام البلاغة والفصاحة. مضت دون عودة، وورث المنبر قردةٌ وخنازير يسومون الناس سوءَ العذاب.
كان الصمت يخيّم فوق الرؤوس الّتي أطرقت ذلاًّ...
فجأة هبَّ رجل مكفوف البصر:
ـ يابن مرجانة! الكذّاب أنت وأبوك والّذي ولاّك وأبوه... أتقتلون أبناء النبيّين وتتكلّمون بكلام الصدّيقين ؟!
فُوجئ الأرقط، فصرخ بغيظ:
ـ مَن المتكلّم؟!
ـ أنا المتكلّم يا عدوّ الله! تقتلون الذرية الطاهرة الّتي أذهب الله عنهم الرجس، وتزعم أنّك على دين الاسلام... واغوثاه! أين أولاد المهاجرين والأنصار ؟!
استشاط الأرقط، وهتف بجلاوزته كأفعى حانقة:
ـ عَلَيَّ به!
هتف الرجل المكفوف البصر بشعار الأزد:
ـ يا مَبرور!
وتواثب الرجال من هنا وهناك، وانتزعوه من بين أنياب الكلاب.
وقال رجل أزديّ بإشفاق:
ـ لقد أهلكتَ نفسك و عشيرتك!
مضت الساعات ثقيلة، وباتت الكوفة تترقب حادثة ما، وبدا قصر الإمارة كوحشٍ رابض في الظلام.
كسرت حوافرُ الخيل هدأة الليل... كانت تندفع نحو منزل رجل مكفوف البصر... بصير القلب.
واقتحمت الذئاب داره بعد أن حطّمت الباب، وكانت له صَبيّة فصاحت:
ـ وا أبتاه!
ـ لاعليكِ، ناوِليني سيفي.
ـ ليتني كنتُ رجلاً أذبّ بين يديك.
كان الرجل يقاتل في الظلام؛ وأحاطت به الذئاب، فسقط أسيراً بين الأنياب.
وهتفت ابنته:
ـ وا ذلاّه! يحاط بأبي وليس له ناصر!
وفي القصر، فرك الأرقط يديه جَذلاً، وقال بشماتة:
ـ الحمدلله الّذي أخزاك.
ـ وبما ذا أخزاني يابن مرجانة ؟!
قال الأرقط بنفاق:
ـ ما تقول في عثمان ؟
ـ ما أنت وعثمان، أساءَ أم أحسَن، أصلَح أم أفسَد؟ ولكن سَلْني عنك وعن أبيك وعن يزيد وأبيه.
ـ لأَذيقنّك الموت.
فقال الأزديّ بطمأنينة:
ـ لقد كنتُ أسأل ربّي الشهادة مِن قبل أن تلدك أمُّك، وسألتُه أن يجعلها على يدَي ألعنِ خلقه وأبغضهم اليه.
جحظت عينا الأرقط غيظاً، وأشار الى جلاوزته، وسرعان ما تدحرج رأس الشيخ؛ وكانت ابتسامة تلوح على وجهه.
ودعا ابن زياد بأزديّ آخر، كان في الطامورة، فجيء به، يخطو على وهن... أثقلته السنون والسلاسل والقيود.
قال الأرقط بصفاقة، وقد اجتاحته رغبة في سفك الدم:
ـ ألستَ صاحِبَ أبي ترابٍ في صِفّين ؟!
ـ نعم و إنّي لأُحبّه، وأفتخر به، وأمقتك وأباك، لاسيّما الآن وقد قتلتَ سِبط الرسول.
أجاب الأرقط باستهتار:
ـ إنّك لأَقلّ حياء من ذلك الأعمى.
وهمّ الأرقط بقتله، فحدّق به ثم تمتم في نفسه:
ـ إن هي إلاّ أيام وينفق...
وأردف وهو يصرّ على أسنانه:
ـ لولا أنّك شيخ قد ذهب عقلك لَقتلتك.
وتساقطت السلاسل من بين يديه. وعندما خطا باتجاه الحرّية كانت عيناه تفيضان من الدمع حزناً. وغبط في نفسه صاحبَه الّذي رُزق الشهادة بعد أمدٍ طويل.
وعندما غادر الشيخُ القصر كان الأمل يكبر في قلبه الواهن بأن يلتحق بصاحبه ولو بعد حين.

* * *
كاد قصر الخضراء يهتزّ طرباً، فيزيد بدا ذلك اليوم يطير فرحاً، كان يلاعب قِردَه باستمرار... ينظر من نوافذ قصره المنيف الى باب الساعات، فأسراه سيدخلون دمشقَ بين لحظة وأخرى. لم يتمالك نفسه فراح يتغنّى بصوتٍ عال:

لـيـت أشياخـي ببدر شهدوا جَزَعَ الخزرجِ مِن وَقْعِ الأسَلْ لأَهـلّـوا واستـهـلّوا فرَحاً ثـمّ قـالـوا: يا يزيد لا تُشَلّ! قـد قَتَـلنا القَرمَ مِن ساداتِهم وعَـدَلنـاهُ بـبـدرٍ فـاعتدلْ لَـعِبَـت هـاشمُ بالمُلكِ، فلا خبرٌ جاء ولا وحـيٌ نَـزَلْ! لستُ مِن خِندفَ إنْ لم أنتـقِمْ مِن بني أحمدَ ما كانَ فَعَـلْ!
ولمعت عيناه وهو ينظر إلى ثمالة كأس فكرعها. ودبّت النشوة في رأسه كطوابير النمل.
بدت دمشق في يوم الزينة كمومس تَعْرض بضاعتها على قارعة الطريق، ولَغطُ الشاميين يرتفع كطنين الذباب، والذباب لا يفرّق بين العسل والنفايات.
أطلّ شهر «صَفَر» بوجهه الكئيب، وكانت القافلة قد توقّفت في «باب الساعات»، ونَعبَ غراب قبل أن يخفق بحناحَيه السوادوَين.
تمتم يزيد متشفّياً وهو يطّلع الى ثارات بدر، واجتاحته رغبة عارمة بالغناء، فأطلق عقيرته:

لـمّا بَـدَتْ تـلك الحُمولُ وأشرقَتْ تـلـك الـرؤوسُ على شفا جَيرونِ نَعبَ الغرابُ فقلتُ: صِحْ أو لاتَصِحْ فـلقـد قَضـَيـتُ من النبيِّ دُيوني
كانت دمشق ترقص على دفوف أهلها، والأبواق تدوّي في الفضاء، وتَذكّر يزيدُ جدَّته (هند)، وهي تصدح غداة «أُحُد»:

إن تُقبِـلوا نُعانقْ ونَفرش النَّمارقْ أو تُدبِروا نُفارقْ فِراقَ غيرِ وامِقْ
القافلة المقهورة تشقّ طريقها كسفينة تعصف بها ريح مجنونة... يتقدّمها رأسُ آخرِ الأسباط على رمح طويل، فبدا كعملاق من عمالقة التاريخ. ودنا شيخ من فتىً في العشرين من عمره... كان ينوء بثقل سلاسل القهر. هتف الشيخ:
ـ الحمدلله الّذي أهلككم، وأمكنَ الأميرَ منكم!
نظر الفتى اليه، وخاطبه بإشفاق:
ـ أقرأت القرآنَ يا شيخ ؟
قال الشيخ مأخوذاً:
ـ بلى.
ـ أقرأتَ: قل لا أسألُكم عليه أجراً إلاّ المودّةَ في القربى ؟
ـ نعم قرأت ذلك. ما ذا تعني ؟
ـ نحن القربى يا شيخ... أقرأت: إنّما يُريدُ اللهُ لِيُذهِبَ عَنكُمُ الرجسَ أهلَ البيتِ ويُطهِّرَكم تطهيراً ؟
ـ نعم قرأت ذلك.
ـ نحن أهل البيت يا شيخ.
ـ بالله عليك، أنتم هُم ؟!
ـ نعم، وحقِّ جدِّنا رسولِ الله، إنّا لَنحن هم.
وقع الشيخ... كأنّ الأرض تهتزّ تحت قدميه... كان ينتحب ويُوَلوِل:
ـ أبرأ الى الله ممّن قتلكم...
وما أسرع أن احتوشته الجلاوزة، كحَمل سقط بين مخالب قطيع من الذئاب.
وتساءلت امرأة دمشقية:
ـ مِن أيّ السبايا أنتم ؟
فقالت سكينة بحزن:
ـ نحن سبايا آل محمّد.
ومضت القافلة في طريقها الى قصرٍ بُني على الظلم ما له من قرار.
وفي باب القصر توقّفت القافلة، وجيء بالحبال، فرُبِّق بها آل الرسول، وَضعوا طرَفه في رقبة فتىً في العشرين؛ أنهكته السلاسل والقيود، ثمّ في رقبة زينب بنت علي! ثمّ باقي بنات محمّد! وكلّما تعثّر الأسرى في طريقهم انهالَتْ عليهم السياط من كل جانب.
وتذكّرت زينبُ عِزّاً قديماً بدّدته أيام الزمن الخالي... يوم كانت تخرج يحفّ بها فتية بني هاشم. وها هي الآن تُساق أسيرةً الى أولاد الطلقاء. لَشدّ ما يقسو الدّهر... ولكن كل شيء في عَين الله، ولقد أوتيَتْ زينب صبراً دونه صبر أيّوب.
وأُدخلت الرؤوس، وكان رأسُ الحسين على رمح طويل.
وفي تلك الليلة ضاعت آياتُ القرآن وسط دفوف مجنونة تحتفل بنصر الخليفة الجديد. الّذي زيّن قِرْده الأثير قلادةً جديدة من الذهب المرصّع بالياقوت الأحمر.

* * *
دمشق تغمرها ظُلمة... تلاشت زينتها، وبدت المدينة كراهبة مكتئبة، وعلى باب جَيرون كان رأس الحسين مصلوباً، حيث صُلب رأس يحيى بن زكريا.
دمشق صامتة كأنّ على رأسها الطير. وفي باب السّاعات كانت حيّة من نحاس تُخرج رأسها المثلّث في كل ساعة، فتُسقِط حصاةً في إناء نحاسي، وكان غراب من نحاس يشير الى الوقت دون اكتراث، وها هو الزمن يعود الى الوراء... يستعيد حوادث قديمةً... قديمة جداً.
كان صوتُ يحيى بن زكريا يدوّي في السجن:
ـ آه من الخليعة العاهرة... ابنة بابل!
ليرجمها الناس بالحجارة، فتزول الآثام من الأرض، والاّ فسترتدي السماء ثوبَ الحِداد، ويصير القمر بِركةً من الدم، وستسقط النجوم على الأرض، وسيحلّ الرعب في قلوب الملوك.
كانت «سالُومي» تُصغي بحقد الى كلمات يحيى تُفجّرُ الغيظَ في صدرها... وزادها الشّيطان فتنة.
همست في أذن هيرودس:
ـ سأرقصُ مِن أجلك.
وجُنّ هيرودس:
ـ أُعطيك ما تشائين. امنحكُ نصف مملكتي.
أغرقت الجواري «سالومي» بالعطور.
هتفت بخلاعة:
ـ بقدمَين عاريتين سأرقص لك... بقدمين مثل حمامتين بيضاوين سأرقص لك.
هبّ هيرودس من عرشه:
ـ آه ... رائع... عظيمٌ لقد رقصتِ من أجلي. اقتربي يا سالومي سأعطيك كلَّ ما تشتهين... أُقسم بآلهتي.
خرّت «ابنة بابل» عند قدميه:
ـ أريد أن تقدّم لي في طبق من الفضّة... رأسَ يحيى.
ـ لا... لا ياسالومي.
ـ ولكنك أقسمت بآلهتك!
ـ لن أفعل! اطلبي منّي شيئاً آخر. أُعطيك نصف مملكتي.
ـ أريد رأس يحيى.
لعبت الخمرة برأسه، وانتزعت أصابع (ابنة بابل) خاتم الموت من يده، وسقط رأس يحيى بن زكريا عند قدَمي «سالومي».
في طبَق من الفضة كان رأس يحيى يتألّق في الظّلام.
وقالت «سالومي» منتشية:
ـ إنّ عينيك اللتين كانتا مخيفتين قد أُغلقتا الآن، ولسانك لا يتحرّك، لن يقول شيئاً هذا اللسان... أنا سالومي ابنة بابل... الأميرة اليهودية... ما زلت أحيا... أمّا أنت فقد مُتّ... لقد أصبح رأسك مُلكاً لي أفعل به ما أشاء. سوف أرميه لنسور السماء.
ارتجف هيرودس لهذه الراقصة تتشفّى من يحيى... صرخ بهلع:
ـ هذه المرأة تعجّ بالشرور...
وخاطب جنوده:
ـ أطفئوا المشاعل.
كان يريد الهروب ... وفيما هو يغادر قاعة الحفل، حانت منه التفاتة. كانت سالومي ما تزال تخاطب رأس النبيّ. كانت تحمل طبق الفضة، وتدور به ـ مجنونة ـ في أروقة القصر.
صاح هيرودس بجنوده:
ـ اقتلوا هذه المرأة.
وتدافع الجنود لسحْق امرأة داعرة، فسقطت ممزَّقة، وعلى وجهها آثارُ رعب وخوف، وكان وجه يحيى يسطع نوراً.
وبدا قصر هيرودس مخيفاً... نوافذه مشرَعة تعصف بها الريح من كل مكان.
رأس الحسين ما يزال مصلوباً على باب جيرون، الرهبان ينظرون اليه من بعيد، فيرون ملامح يحيى بن زكريا، فتفيض أعينهم من الدمع حزناً.

* * *
رأس الحسين في طبق من ذهب بين يدَي يزيد... وكان ابن معاوية ينكت ثغر السبط بقضيب في يده.
التفتَ إلى ابن بشير، وكان يوماً ما أميراً على الكوفة:
ـ الحمدلله الّذي قتله.
قال الأنصاري بحزن:
ـ قد كان أبوك يكره قَتْلَه.
ـ قد كان ذلك قبل أن يشهر سيفه، ولو شهر سيفه على أبي لقتله.
وقال رجل رأى النبيّ وسمع حديثه:
ـ أشهد لقد رأيتُ النبيّ يرشف ثناياه وثنايا أخيه الحسن، ويقول: أنتما سيدا شباب أهل الجنّة. قَتلَ اللهُ قاتلكما.
استشاط سليل آكلة الأكباد. وما أسرع أن تناوشته الجلاوزة، وسُحل الى خارج القيصر. وكان رسول القصير يتأمّل رأس الحسين، وفي أعماقه تموج تساؤلات:
ـ إنّ عندنا في بعض الجزر حافِرَ حمارِ عيسى، ونحن نحجّ اليه في كل عام ونهدي اليه النذور، وأنتم تقتلون ابن نبيّكم ؟!
نهض النصراني، وتقدّم بخشوع ليقبّل رأس الحسين.
تخيّل نفسه يعانق يحيى بن زكريا، أو المسيح بن مريم.
استشاط ابن معاوية غضباً، فتدحرج رأس النصراني الى جانب رأس الحسين، وسمع مَن له أذن واعية رأس السبط يتمتم:
ـ لا حول ولا قوّة إلاّ بالله.
والتفت يزيد إلى فتى الحسين:
ـ أرأيت صُنع الله بأبيك ؟!
قال الفتى:
ـ رأيتُ قضاءَ الله.
تمتم يزيد بنفاق:
ـ ما أصابكم من مصيبة فبما كسبت أيديكم.
قال سليل الأنبياء:
ـ ما أصابَ مِن مصيبةٍ في الأرض ولا في أنفسِكُم إلاّ في كتابٍ مِن قبلِ أن نبرأها إنّ ذلكَ على الله يَسير. لكي لا تأسَوا على ما فاتكم ولا تفرحوا بما آتاكم .
وبدا الفتى ـ وهو في الأغلال ـ كأسد أوثقه الصيادون، فخاطب يزيدَ:
ـ ما ظنُّكَ برسول الله لو يراني على هذه الحال !
ونهض خطيب السلاطين، وأمعن في مدح معاوية ويزيد وسبِّ عليّ والحسين، فصاح به الفتى:
ـ لقد اشتريت مرضاةَ المخلوق بسخطِ الخالق، فتبوّأْ مَقعدكَ من النار.
وكان رجل شامي ما برِح يتطلّع الى بنات محمّد، فنظر إلى فاطمة بنت الحسين، وتمنّى أن يهبها له الخليفة جاريةً تخدمه.
تعلّقت الفتاة بعمّتها زينب كغريق يتشبّث بعمود من أعمدة سفينة محطّمة تتقاذفها أمواج الطوفان.
قالت زينب بثبات:
ـ لا تخافي. لن يكون ذلك أبداً.
ردّ يزيد متغطرساً:
ـ لو شئتُ لفعلت.
ـ فقالت ابنة علي:
ـ الاّ أن تخرج من ديننا.
ـ إنّما خرج من الدين أبوكِ وأخوك!
ـ بدِينِ الله ودين جدّي وأبي وأخي اهتديتَ أنت وأبوك، إنْ كنتَ مسلماً.
ـ كذبتِ يا عدوّة الله.
ـ أنت أمير مسلّط تشتم ظالماً وتقهر بسلطانك.
عاود الشامي الأحمق:
ـ هَبْها لي يا أميرالمؤمنين.
ودّ يزيد لو يُسحق هذا الأحمق، فنهره بشدّة:
ـ وَهبَ الله لك حتفاً قاضياً!
أطبق الصمت على المكان، وكان التاريخ يتساءل عن المنتصر في كربلاء؛ يزيد أم الحسين. فنهضت امرأة رافقت الحسين على قدر تقول كلمتها معبّرة خالدة:
ـ صدق الله سبحانه حيث يقول: ثمّ كان عاقبةَ الّذين أساؤوا السُّوأى أنْ كذّبوا بآيات الله و كانوا بها يستهزئون ... أظننتَ يا يزيد ـ حيث أخذتَ علينا أقطار الأرض وآفاق السماء فأصبحنا نُساق كما تُساق الأسارى ـ أنّ بنا على الله هواناً وبك عليه كرامة ؟!... فمهلاً مهلاً! أنسِيتَ قول الله تعالى: ولا تَحسبنّ الّذين كفروا أنّما نُملي لهم خيرٌ لأنفسهم إنّما نُملي لهم ليزدادوا إثماً و لهم عذابٌ مُهين ، فو الله ما فَرَيتَ إلاّ جِلدَك، ولا حَزَزتَ إلاّ لحمَك. ولَترِدَنّ على رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلم بما تحمّلتَ من سفك دماء ذريّته، وانتهكتَ حُرمتَه في عترته... وحسْبُك بالله حاكماً، وبمحمّدٍ خصيماً، وبجبريلَ ظهيراً، وسيعلم مَن سوَّل لك ومكَّنك من رقاب المسلمين بئس للظالمين بَدَلاً. وأيّكم شرٌّ مكاناً وأضعف جُنداً.
ولئن جَرَّتْ عليَّ الدواهي ـ يا يزيد ـ مُخاطبتَك، إنّي لاَستصغِرُ قَدْرك. فكِدْ كيدَك، واسعَ سَعْيك، فو اللهِ لا تمحو ذِكرنا ولا تُميت وحيَنا، ولا يرحض عنك عارُها. وهل رأيُكَ إلاّ فنَد، وأيامك إلاّ عَدَد، وجمعك الاّ بَدَد، يوم ينادي المنادي: ألا لعنةُ الله على الظّالمين.
تضاءل يزيد حتّى أصبح كذبابة أو يكاد؛ وربّما لأوّل مرّة أيقن أن الحسين لم يُقتل بعدُ وأنه ما يزال يقاتل في كربلاء، وها هو الآن على أبواب دمشق. فلعن في نفسه ذلك الأرقطَ الأحمق لأنّه لم يقتلهم جميعاً، ها هي زينب تحمل قلب الحسين وفصاحة عليّ وهيبة محمّد. وها هي الشام تتساءل عن رجل اسمه الحسين وعن امرأة اسمها زينب.

* * *
غادرت القافلة ربوع الشام في طريقها إلى كربلاء، وعرف الدليل الطريق، وراحت القافلة تسابق أمواج الفرات.
وتساءل الأطفال عن جنودٍ ورماح كانوا يحرسون النهر.. يحرمون القلوب الظامئة والأكباد الحرّى من قطرة ماء.
وكانت الطيور والغِزلان تمرح في الشواطئ.. ترتاد النهر بحرّية.
ـ لو تدري أيها النهر! عن قلوب ذوَتْ عطشاً على شطآنك!!
كان الحسين يذوب ظمأً.. قلبه يتفطّر، وأنت تجري.. تنثال مياهك على الشواطئ.. تهبها الحياة، وتمنح الأرض السمراء عشبك الأخضر.. وفي عاشوراء تركتَ قلوباً صغيرة تتلوّى عطشاً، وكان « الرضيع » يمدّ يداً صغيرة؛ يطلب قطرة ماء.. ما تزال يده ممدودة تستفهم التاريخ والانسان.
لاحت أرض كربلاء من بعيد.. الأرض التي شهدت قبل أربعين يوماً مصرع الحسين.
سهام مغروسة في الرمال.. سيوف مهشّمة وبقايا رماد..
قفزت الحوادث الرهيبة إلى الذاكرة. تجسّدت أمام العيون. وتردّد صداها في القلوب.
هرولَت «الرَّباب» إلى كومة رمل صغيرة.. تضمّ رضيعها الشهيد! احتضنت الرمل.. راحت تحثوه فوق رأسها:
ـ هلمّ إليّ يا صغيري..
وتساقطت قطرات من لبن سائغ فوق الثرى، فامتزجت مع الدموع.
كان الرضيع غافياً في أحضان الأرض التي لوّنها بدمه الرائق؛ وعندما هوّمت عيناها، رأت نافورة ماء تنبجس من نحر الرضيع الشهيد. وكان الأطفال يدورون بين القبور كحمائمَ برّية تبحث عن أعشاشها.
ووقفت زينب تتأمّل الصمت المهيمن.. وهي تستيعد حوادث يومٍ طويل.. يومَ حطّم الحسينُ شبَحَ الموت.. يرسم بدمائه الطريق.. الطريق إلى جنان تجري من تحتها الأنهار.. وشواطئ الفرات تختزن الملح... أمواجه سراب، وظلال الخيل رماد، والنهر حيّة يقهرها الظمأ.
والحسين يهوي بسيفه على صخور الزمن، فتنبجس منها ينابيع الخلود... والحسين يقهر الموت، ينتزع من بين طواياه الحياة.
من بعيدٍ لاح «جابر».. رجل نصَر النبيّ، وجاء اليوم يزور سِبطه. وكان مع الأنصاري عصبة من بني هاشم.. شمّ جابر رائحة النبيّ فهوى يقبل قبر الحسين:
ـ يا حسين.. يا حسين.. يا حسين.. حبيب لا يجيب حبيبه، وأنّى لك بالجواب وقد فُرِّق بين رأسك وبدنك!.. أشهد أنك مضيت على ما مضى عليه أخوك يحيى بن زكريا.
وأجال جابر بصره الواهن بين القبور:
ـ السّلام عليكم أيتها الأرواح التي حَلّت بفِناء الحسين وأناخَت برَحله.. أشهد أنكم أقمتم الصلاة، وآتيتم الزكاة، وأمرتم بالمعروف ونهيتم عن المنكر، وجاهدتم الملحدين. والذي بَعثَ محمداً صلّى الله عليه وآله وسلّم بالحق نبياً، لقد شاركناكم فيما دخلتم فيه.
فقال رجل كان معه، وقد اتّسعت عيناه دهشة:
ـ كيف ولم نَهبط وادياً ولم نَعلُ جبلاً ولم نضربْ بسيف ؟!
وتداعت في أعماق جابر كلماتٌ قالها محمد من قبل:
ـ سمعتُ حبيبي رسول الله يقول: «مَن أحبّ قوماً كان معهم، ومن أحبّ عمل قوم أُشرِك في عملهم»... والذي بعث محمداً بالحق نبياً، إن نيّتي ونيّة أصحابي على ما مضى عليه الحسين وأصحابه.
كانت الشمس على وشك أن تغيب وقد بدت حمراء.. حمراء كعين تسحّ دموعاً ثقالاً.
نهض جابر وقد تعفّر وجهه بتراب الحسين. تمتم بحديث لحبيبه كان قد سمعه قبل أكثر من خمسين سنة، كان النبيّ يداعب صبياً في ربيعه الخامس ويقول: حسين مني وأنا من حسين...
هتف جابر وسط الصمت وكان الفرات يجري.. تتدافع أمواجه:
ـ أشهد أني قد سمعت ذلك من حبيبي محمّد.
غابت الشمس خلف الرمال الممتدّة، ونشر المساء ستائره الرمادية فوق الأرض، وانبرى رجال يدقّون أوتاد خيام صغيرة...
فزينب تريد البقاء إلى جنب أخيها الحسين.

* * *
مضى يومان والقافلة التي غادرت الشام وما تزال في كربلاء تسقي رمالها دموعاً ساخنة بعد أن ارتوت من دماء الحسين وسبعين من حواريّيه.انطلق الأطفال إلى الفرات، وقد بدا.. والنخيل تحفّ شاطئيه: حورّية نهضت لتوِّها من النوم.
غمس الصغار أرجلهم في المياه، وكانت الأمواج تغسل أقدامهم برفق... كأنّ النهر يعتذر إليهم عن يوم حرَمهم فيه من قطرة ماء.
تذكّروا أيّام العطش. كانوا ينظرون جهة النهر... وكان النهر أسيراً تحرسه رماح وسهام. تذكروا صرخاتهم.. بكاءهم وهم يصيحون:
ـ العطش.. العطش!
وعادت صورة عمّهم «أبي الفضل» وقد اعتلى صهوة جواده.. حمَلَ القِربة واتّجه صوب الفرات.. كانوا يترقّبون عودته يحمل إليهم الماء.. ولكن عمَّهم ذهب ولم يَعُد... وظلّوا ينتظرون.
وبدت السماء في أعينهم صحراء ملتهبة، فلا مُزنة تحمل إليهم الوَدْق. وكانت نُتَف الغيوم تعبر السماء كسفنٍ تائهة.
وقفت زينب تتأمّل الفرات وقد بدا مرثية غارقة في الحزن.. وكانت الشواطئ تبكي.. تسحّ دموعاً فوق الرمال، وحفيف النخيل يردّد صوت امرأة تنوح بصمت.
استند طفل إلى جذع نخلة سمراء بلون الصحراء.
كان يصغي إلى نشيج الفرات وبكاء النخيل.. ينظر إلى المياه المتألّقة، فيشاهد نجوماً وقمراً منيراً. هوّمت عيناه فرأى حصاناً أبيض ينبثق من النهر.. ينقل خطاه، والمياه تنثال منه.. ترسم درباً نديّاً.. ورأى الحصان يضرب الأرض.
عمّه «أبو الفضل» يعتلي صهوة الحصان، وينطلق صوب الفرات والقِربة على كتفه.. كان الحصان يصهل، وعمّه يبتسم، وقد عاد يحمل الماء... راح يعبّ منه دون ارتواء.. وعندما فتح الطفل عينيه، وجد زينب أمامه، وفي يديها قربة تموج بمياه الفرات.
هَوَت الشمس باتّجاه المغيب.. جمرة متّقدة.. جرح راعف....
لحظات، وحلّ الظلام، فتصاعد الأنين.. أنين النهر.. النخيل.. الرمال.. وذهب الطفل يتلمّس طريقه بين نخيل الشاطئ. بدا القمر جميلاً في أحضان الماء. رأى وجه أبيه الشهيد منعكساً فيه كمرآة صافية.. ودّ في أعماقه لو يحمله النهر بعيداً إلى عالمٍ جميل.. إلى مدينة ترقد في أحضان النهر؛ وهناك يلتقي أباه، ثمّ ينطلقان معاً إلى البحر الكبير.
استيقظ الطفل على صوت من وراء النخيل يناديه:
ـ أين أنتَ يا بقية أخي ؟
ونهض الصغير مسرعاً نحو جهة الصوت. إنها عمّته زينب.
ارتمى في أحضانها، وكان القمر يغمر الرمال بلونه الفضّي المتألّق.
العيون الساهرة تراقب نجوم السماء، والأطفال يناغون القمر.. وتألّقت في الرمال سبعون نجمة أو تزيد.. وانطوى الليل على جراحٍ روّت الأرض.
وخُيِّل للقلوب الكسيرة أن قلباً كبيراً ينبض في أعماق الأرض فاهتزّت ورَبَتْ، وكان صدى صهيلٍ يأتي من جهة الفرات.
وفي قلب الظلام، كان الحسين على فرسه يتألّق في وجهه نور النبوّات.. يحمل في يديه الورد والزيتون والماء، ويحمل القرآن.
بدت كربلاء ـ تلك الليلة ـ مسرحاً كبيراً يستوعب الحياة... وظهر التاريخ يئنّ من عواء الذئاب.. يستنجد بجواد الحسين. وكان الجواد يصهل، فتفرّ الذئاب مذعورة.
وينطلق التاريخ.. يعتلي صهوة الجواد.. يسابق الزمن. وكانت الذئاب تطارده لاهثة.

* * *
استيقظت يثرب كئيبة، وقد صبغت الشمس جدارنها بحمرة ملتهبة، وكان غراب ينعب فوق أحد المنازل.
ارتاعت فاطمة الصغرى، وهي تراقب الغراب، وقد كان يلطّخ جداراً يحيط باحة البيت.بدا البيت خاوياً على عروشه، فلا أحد يؤنس الفتاة الوحيدة مذ تخلّفت عن القافلة لعلّةٍ أنهكتها.
تركوها وحيدةً، وانطلقوا إلى أرض السَّواد. وكانت تترقب بريداً يأتي من قِبل أبيها، وها هو نذير الشؤم يحطّ على المنزل.. يملأ الفِناء بنعيقه، ويصبغ الجدار بدم هابيل.
وتمرّ الأيّام كالحةً سوداء، كأسراب غربان مهاجرة.
وذات صباح حزين، سمعت الصبيّة صوتاً ينعى والدها العظيم. كان الصوت يتردّد بين منازل المدينة المنكوبة:

يا أهلَ يثربَ لا مُقامَ لكم بهاقُتل الحسينُ فأدمعي مِدرارُالجسمُ منه بكربلاءَ مُضرَّجٌوالرأسُ من فوقِ القناة يُدارُ
هبّت يثرب عن بكرة أبيها. اليوم مات رسول الله!
واتجهت الجموع المدهوشة إلى الصحراء للقاء قافلة عَصَفتْ بها الأيّام.
وخرج فتى في العشرين من خيمته وهو يكفكف دموعه ويشهق في عبرته. ودارت عيناه في رجال صحبوا النبيّ. كان ينعى إليهم سبط صاحبهم العظيم.
ودخل الفتى بعياله مدينة جدّه... وبكت زينب عندما لاحت لها البيوت من بعيد، فأجهشت بالبكاء. ولأول مرّة بانَ الانكسار على وجهها، وهي تردد:

مـدينـةَ جـدّنا لا تَـقبلينافبالحسراتِ والأحزانِ جِيناخَرَجنا منكِ بالأهلين جمعاًفعُدنـا لا رجـالَ ولا بَنينا
وعندما وصل الركب إلى المسجد، أخذت أخت الحسين بعُضادتَي باب المسجد، وهتفت:
ـ يا جدّاه، إني ناعية إليك أخي الحسين.
وصاحت سكينة بلوعة:
ـ يا جدّاه، إليك المشتكى مما جرى علينا، فو الله ما رأيتُ أقسى من يزيد، ولا رأيت كافراً ولا مشركاً شرّاً منه، ولا أجفى وأغلظ، فلقد كان يقرع ثغر أبي بمخصرته ويقول: كيف رأيتَ الضرب يا حسين ؟!
وناحت الرباب بنت امرئ القيس بقلب كسير:

قد كنتَ لي جَبَلاً صَعباً ألوذ بهِوكنتَ تَصحبُنا بـالرحم والدِّينِمَن لليتامى ومَن للسائليـن ومَنيُغْني ويُؤوي إليه كلَّ مسكينِ ؟!واللهِ لا أبتغي صهراً بصهركمُحتى أُغيَّبَ بين الرمـل والطينِ
ودخل رجل من أولاد طلحة على بقية آل محمد وسأل شامتاً:
ـ مَن الغالب ؟
فأجاب الفتى وهو يزيح عن العيون حجب الزمان:
ـ إذا دخل وقت الصلاة فأذّنْ وأقِمْ تَعرف الغالب.
اهتز الأشدق شماتة وهو يصغي تشفياً إلى مناحة بني هاشم، وتمتم:
ـ واعية بواعية عثمان!
والتفت إلى قبر النبي وأردف:
ـ يا محمد، يوم بيوم بدر!
واتجه الأشدق إلى المنبر، وراحت كلماته تخرج شظايا يتهدّد أهل المدينة بالويل والثبور، ثمّ أصدر أمره إلى قائد شرطته بهدم دُور بني هاشم، فهرول الشرطة يحملون آلات الدمار، فأمعنوا في خرابها حتّى غادروها أطلالاً أو خرائب خلّفها الزمن الراحل.
ولاذت بنات محمد بالقبر الشريف، وهي تستصرخ الضمير النائم:

ماذا تقولـون إن قـال النـبيّ لكم:مـاذا فـعـلتم وانتم آخـر الأمـمِبعـتـرتـي وبـأهلي بعد مُفتقَديمنهم أسارى ومنهم ضُرِّجوا بدمِ ؟!ما كان هذا جزائي إذ نصحتُ لكمأن تخلفوني بسوء في ذوي رحِمي
كان الحزن يطوف بيوت يثرب، كغيوم رمادية مثقلة بدموع السماء، وكانت عجائز المدينة يحدّثن حفيداتهن عن أحزان قديمة لأمّ الحسين يوم ودّع أبوها الدنيا إلى الرفيق الأعلى.
وتهامسنَ عن حزن جديد.. حزن زينب.
ـ إن القدر لن يمهلها كما لم يمهل أمها من قبل.
ـ سرعان ما رحلت الزهراء.... التحقت بأبيها..
ـ لن تعيش زينب أكثر من عام.
إنها تذوي لحظة بعد أخرى، كشمعة تذوب في قلب الظلام.

* * *
نهض الأشدَق من سريره المذهّب؛ كان الليل قد ذهب ثلثاه، وهو ما يزال يتقلّب في فراشه يصغي إلى صدى مناحة تأتي من بعيد.
ما يزال بنو هاشم ينوحون على الحسين، وما تزال المدينة تجترّ آلامها بصمت... كان الأشدّق فيما مضى يطرب لبكائهم، وينتشي لمناحتهم، أما الآن فبدأت تؤرّقه.. تقضّ مضجعه.. تسلب من عينيه حلاوة النوم. إنه يرى تململ المدينة.. يصغي إلى أصوات تلعنه وتلعن بني أمية أجمعين، وكان الحسين على الشفاه.ضغط الأشدق على أسنانه حانقاً، وراح يحدّق ـ من خلال نافذة في القصر ـ في الظلام الدامس. تراءت له اشباح في الظلام.. اشباح مخيفة ليس لها شكل.. تحمل في أيديها سيوفاً وخناجر..
ارتدّ الأشدق مذعوراً، وشعر بفمه يزداد اعوجاجاً، حتّى لقد صعب عليه أن يصرخ بحاجبه.
وقعت عيناه على كأسٍ فيها ثمالة، فأفرغها في جوفه دفعة واحدة.
منذ مدّة وهو لا يفارق هذه البيضاء التي تحرق جوفه وتغرقه في بحر من الخيال.
ولكن ماذا يفعل لهذه المرأة ؟!... زينب تسلبه حلاوة العيش.. تقضّ مضجعه.. المدينة تستيقظ على مناحتها.. وهو يخاف لحظة الانتقام. لعن في أعماقه يزيد وابن زياد. كان عليهما أن يقتلا زينب... الحسين لا يموت إلاّ بقتل هذه المرأة. إنها ابنة عليّ.. عليّ الذي ما يزال الناس يردِّدون كلماته؛ ومحمد يهتف به الناس كل يوم خمس مرّات.
شعر بدوارٍ في رأسه، ورغبة في القيء. لقد أكثر من الشراب هذه الليلة.
استيقظ الفجر على صياح الديكة. ونعب غراب، قبل أن يغادر وكره. وناحت حمامة بصوت حزين.
صرخ الأشدق بكاتبه بصوت يشبه فحيح الأفاعي:
ـ اكتب إلى الخليفة:
«إذا كانت لك بالحجاز حاجة فاقتل زينب».
وانطلق ذئب أغبر يحمل رسالة الموت. الأشدق ما يزال متعطّشاً للدماء.
لم تروهِ دماء كربلاء، فراح ينشد المزيد.
ما تزال هند تلوك كبد حمزة، وتشتهي كبد عليّ..
كلمات الحسين تدور في بيوت «الأنصار» من سكان المدينة ممزوجة بدموع زينب.. تتحوّل إلى روح تنشد الحرية..
والذين صحبوا النبيّ يتذكرون عهوداً قديمة تحت الشجرة وفي العقبة كانوا قد نسوها، وها هم يستيقظون ليجدوا راية «العقاب» في أيدي الذين حاربوها عشر سنين.
الخلافة تتحول إلى مُلك والخليفة يصير هرقل.. والمنبر ينقلب إلى عرش... ويكون معاوية أمين الوحي، ويُشتم أبو تراب ليل نهار، ويعود طريد الرسول إلى المدينة، وتُنفى زينب من كل الحجاز.
استوت «العقيلة» فوق ناقتها، وألقت نظرة حزينة على ربوع مدينة جدّها، متوجهة صوب مصر.
قالت امرأة هاشمية، وهي تودّعها:
ـ لقد صدق الله وعده: وأورَثنا الأرضَ نتبوّأُ من الجنّةِ حيث نشاء فطيبي نفساً، وقَرّي عيناً، وسيجزي الله الظالمين.
وانطلقت سفينة الصحراء تقطع الفيافي.. تحمل امرأة اسمها زينب، امرأة لن يمهلها القدر سوى سنة واحدة، فقد فاضت روحها في أول ذكرى لعاشوراء.
في الفسطاط قلب مصر، مكثت زينب عاماً واحداً. وعندما أغمضت عينيها الدامعتين، تفتّحت ملايين العيون، وملايين القلوب على نداء الحرّية. فما يزال الحسين يقاتل.. يهتف في سمع الزمن:
ـ إني لا أرى الموت إلاّ سعادة.... والحياة مع الظالمين إلاّ برَما.
وما يزال التاريخ يردد كلمات قالتها زينب في كربلاء:
ـ لقد اخذ الله ميثاق أناس لا تعرفهم فراعنة هذه الأرض، وهم معروفون في أهل السماوات أنهم يجمعون هذه الأعضاء المقطّعة والجسوم المضرّجة، فيوارونها وينصبون بهذا الطف علَماً لا يُدرس أثره، ولا يُمحى رسمه على كرور الليالي والأيّام.

* * *
مرّات أعوام والمهرة التي وُلدت لحظة عاشوراء أضحت فرَساً تسابق الريح.. ودارت الأرض دَوْر الرَّحى.
يثرب تلعق جراحها العميقة. أغار عليها جند الشام واستباحوها ثلاثة أيّام بلياليها... قُتل رجال كانوا حول النبيّ... كانوا سبع سنابل خضر؛ في كل سنبلة مائة حبّة.
السيوف الأُموية تحصد بلا رحمة حتّى رؤوس الاطفال. بَقَرَت بطون الحبالى، واستُبيحت ألف عذراء.. وبايعت المدينة يزيدَ جاريةً ذليلة.
عاد أبو سفيان يقود القبائل وهو يهتف: اُعلُ هُبل؛ والأحزاب يعبرون خندق النبيّ بعد أن ردموه في كربلاء، ونادى منادٍ.
ـ يا أهل يثرب لا مُقامَ لكم بها.
المدينة تحصد بذار «السقيفة».
وفي مكة، كانت المجانيق تقصف الكعبة من فوق رؤوس الجبال، فاحترق جانب منها.. الشيطان يصب حِممَه فوق بيت الله.. وجند الشام يرمون الكعبة بكتل النار الملتهبة، ثمّ يتجهون إليها وقت الصلاة.
ويزيد في رحلة صيد أسكرته نشوة الانتصار، والأرقط ما يزال جاثماً على صدر الكوفة يسومها سوء العذاب.. يذبّح أبناءها ويستحيي نساءها.
الضمير الذي خدّره «معاوية» يستيقظ في قلب الليل، يتململ.. يبحث عن جحيم يتطهر فيه.. يتخفف من إثم رهيب حوّل الحياة إلى ذلّ لا يطاق.
لقد وُلد الحسين من جديد.. وها هي بنت محمد تُقدّم وليدها إلى الدنيا شعلةً متوقِّدة يحملها الأحرار في كل زمان ومكان.
الأفاعي ما تزال تتلوّى في قصر الإمارة.. تلدغ كل من يصادفها. وقد فّر الأرقط إلى الشام بعد أن هلك سيّده، وظهر في الكوفة رجل يصرخ: يا لَثاراتِ الحسين.. رجل ذرّف على الستين؛ يُدعى «المختار».
قال ابن سعد محذّراً:
ـ أيها الأمير، إن المختار أشدّ خطراً من سليمان، فابنُ صُرَد قد خرج من الكوفة يروم قتال أهل الشام.
وقال الأبرص:
ـ أجل أيها الأمير، أرى أن تُودِعَه السجن.. أو تقتله.. نتغدّى به قبل أن يتعشّى بنا.
لا أحد يدري كيف استيقظت الكوفة.. نفضت عن نفسها العار وهبّت بشعارٍ كانت قد نامت عنه خمس سنين؛ يوم كان مسلم بن عقيل سفير الحسين ينادي في دروب الكوفة وحيداً: يا منصورُ أمِتْ.
هبّت الكوفة تصرخ مجنونة: يا لَثاراتِ الحسين.
وسقط قصر الإمارة في أيدي الثائرين؛ فيما فرّ الجلادون لا يلوون على شيء.
كان الأبرص قد فرّ باتجاه الجنوب مشدوهاً يفكّر بكلمات قالها الحسين في كربلاء:
ـ والله لا تَلبثون بعدها إلاّ كريثما تُركَبُ الفَرَس حتّى تدورَ لكم دَورَ الرَّحى وتَقلقَ بكم قَلقَ المحور.. عهدٌ معهود عَهِده إليّ أبي عن جدّي رسول الله.
وتجسدت صورة الحسين وهو يرفع يديه إلى السماء كنبيٍّ يستمطر اللعنة على قوم كذبوه:
ـ اللّهم احبِس عنهم قَطْر السماء، وابعَثْ عليهم سنين كسني يوسف، وسلط عليهم غلام ثقيف يسقيهم كأساً مُصبَّرة.. والله لا يَدَعُ أحداً منهم إلاّ انتقم لي منه.. قتلةً بقتلة، وضربة بضربة، وأنّه لَينتصر لي ولأهل بيتي وأشياعي.
تحققت نبوءة الحسين. صارت المُهرة فرساً تُركب، تسابق الريح وظهَر «المختار الثقفي» في قبضته سيف الانتقام.
فرّ الجلاّدون.. تحولوا إلى فئران خائفة اختبأت في جحورها ترتجف، وكان سيف المختار يطاردها.. يحقق نبوءات الحسين.
وفي ساعة غضبٍ مقدس، تحولت جحور الفئران إلى انقاض وركام.
قال المختار وهو يودّع «ابن الاشتر» قائده الشجاع:
ـ بقي رأس الافعى.. بقي رأس الارقط:
هزّ إبراهيم رايته بشدّة.
تحرّك سبعة آلاف مقاتل يحملون في صدورهم قبساً من روح الحسين، وصهيل فرس غاضبة تدوّي في الأعماق.

* * *
غادر ابن زياد الشام على رأس جيش تجاوز الثمانين الف مقاتل يحملون سيوفاً أموية تنذر الكوفة بالويل والثبور، يقودها «الارقط» وقد بايع مروان على الطاعة... ومروان طريد رسول الله، أُمويّ سامريّ منعه النبيّ أن يغادر الطائف. ولمّا أغمضَ النبيُّ عينيه جاء مختبئاً تحت عباءة عثمان.
وتمرّ الأعوام تِلو الأعوام، وإذا بالطريد يسرق منبر محمد في وضح النهار.
سقطت الموصل في قبضة الأرقط... وعلى ضفاف نهر الخازر في ضواحي الموصل التقت فئةٌ قليلةٌ فئةً كبيرةً وحدثت ملحمة رهيبة.. كان الأشتر يقاتل بشجاعة أبيه.. يستعيد بطولاته على شاطئ الفرات بصِفِّين وليشهد «الخازر» أنّ الولد على سرّ أبيه.
طاحونة الموت تدور عند ضفاف الخازر، وسقط رأس الأرقط وتمزّقت جيوشه.
كان المختار جالساً في القصر عندما وضع بين يديه رأس الأرقط.. كان يشبه رأس الأفعى يسيل من أنيابه الصديد.. عيناه زائغتان تعكس آثار رعب ودناءة.
وتساقطت رؤوس الجلاّدين.. رأس الأبرص ورأس رجل كان يحلم بالري وجرجان، رأس سنان و «حرملة» ورؤوس عفنة كثيرة.. سقطت كما تتساقط الثمار الفاسدة عند هبوب الزوبعة وفي فجر يوم باسم، وقد تطهّرت الكوفة من رجس الشيطان. كان فارسٌ قد غادرها توّاً يحمل معه رؤوس الأفاعي، ويكاد أن يسبق الريح، وجهته «يثرب» المدينة المنكوبة.
دخل الرجل الكوفي منزل عليّ بن الحسين وهتف مبهور الأنفاس:
ـ يا أهل بيت النبوة ومعدن الرسالة ومهبط الوحي، أنا رسول المختار إليكم ومعي رأس ابن مرجانة ورأس ابن سعد و....
وعادت الفرحة إلى المدينة.. تجدّدت ذكريات بدر يوم تساقطت رؤوس الشرك في «القَليب».
وفي تلك الليلة تذكّرت نسوة بني هاشم الحِنّاء، وعدد المِروَد يدور في العيون يمسح آثار حزن متجدد.. وشقّ المشط طريقه في ليل الشعر ليل حالك أو ربما اشتعل شيباً. وهوى فتى الحسين ساجداً لله الذي يمهل ولا يهمل:
ـ اللّهم وفّقه لما تحبّ وترضى، واغفر له في الآخرة والأولى.
عادت البسمة تطوف في بيوت بني هاشم.. تمسح الدموع، وتمنح الأطفال الأمل، والنسوة كُحلاً ومَراود... ومن بين كل العيون بقيت عينان حزينتان تدمعان..
فلقد أغمضهما القدر بمصر قبل أن تَرَيا تَساقُطَ رؤوس الجلاّدين.
غير أنّ التاريخ ما يزال يردّد بطولات امرأة اسمها «زينب».





( رواية: امرأة اسمها زينب. تأليف: كمال السيّد )













عرض البوم صور أصغر ملك   رد مع اقتباس
قديم 23-11-2012, 03:15 AM   المشاركة رقم: 5
معلومات العضو
أصغر ملك

إحصائية العضو







 
 


التوقيت

التواجد والإتصالات
أصغر ملك غير متواجد حالياً

كاتب الموضوع : أصغر ملك المنتدى : منتدى السيدة زينب (سلام الله عليها)
افتراضي

زينب عليها السّلام.. شهيدة الاحزان

غريبة تلك المرأة ( زينب بنت عليّ، بنت فاطمة )، في جميع حالاتها وأدوارها التي انشطرت إلى مرحلتين:
الأُولى: منذ ولادتها عليها السّلام إلى أواخر عام 60 من الهجرة النبوية، عاشت فيها في محضر االنبيّ الأكرم صلّى الله عليه وآله وسلّم، وفي حِجر فاطمة البتول عليها السّلام وفي كَنف أمير المؤمنين عليه السّلام. ودرجت في بيت الوحي والرسالة مع أخوَيها الحسن والحسين عليهما السّلام.. فارتشفت من المعارف الإلهية ما حُرمت منه النساء جميعاً إلاّ أمَّها الزهراء عليها السّلام.
وقد عايشت أهلَ بيت المصطفى صلّى الله عليه وآله وسلّم في محنهم ومهمّاتهم، وودّعت جدها وأمها وأباها وأخاها الحسن، شهداء، الواحد بعد الآخر، حتّى بقي لها قرةُ العين، أخوها أبو عبدالله الحسين، يملأ قلبها ونفسها، ويطيّب حياتها المفجوعة بأخلاقه الشريفة، كما بقي لها إخوتها من أمّ البنين: العباس وإخوته رضي الله عنهم، هي لهم أخت وعقيلة فاضلة ترعاهم ويُجلّونها.
وفي هذه المرحلة صدر عنها من العلوم القرآنية والأخبار والروايات ما ثبّتت به حقائق كثيرة في حياة الرسالة وضمائر المسلمين، فهي التي روت لنا خطبة أمها الصديقة فاطمة عليها السّلام والتي احتجّت بها على مَن غصب فدكاً، روتها بحذافيرها وطولها ولم تكن تبلغ السابعة من عمرها الشريف حين سمعت الخطبة تلك. كما روت قصة ولادة الإمام الحسين، نقلتها عن أمها، وعن العقيلة زينب رواها ابن أخيها عليّ بن الحسين عليه السّلام. ولا بأس للاطلاع الوافي على جملة من روايات السيدة زينب عليها السّلام أن تُراجَع المصادر التالية:
بلاغات النساء، لابي الفضل أحمد بن أبي طاهر بن طيفور


الخصائص الزينبية، للسيّد نور الدين الجزائري

زينب الكبرى بنت أمير المؤمنين عليه السّلام، للشيخ جعفر النقدي
السيدة زينب الكبرى عليها السّلام من المهد إلى اللحد، للسيّد محمد كاظم القزويني ـ الفصل الثامن: مسانيدها 109 ـ 120، نقل لنا سبع روايات مهمة ومطولة.
الثانية: فبدأت من يوم رحيلها إلى أرض كربلاء برفقة أخيها سيّد الشهداء الحسين عليه السّلام تؤازره وتنصره، وتقدّم أولادها بين يديه ضحايا فداء لإمامته، فقطعت ذلك الطريق الصعب من المدينة المنورة إلى طفّ الغاضرية حيث مصارع الأحبة الكرام، إخوتِها وبني عمومتها وولْدها وأصحاب أهل بيتها، وبني إخوتها وآل أبي طالب وبني هاشم.
فكانت نعمت الأخت المواسية لأخيها، ونعمت الموالية المضحية للإمامة. أقدمت على يقين وبصيرة وإيمان، واصطحبت ركب الإمام الحسين وعقائل الوحي، وكان عليها أن ترى الفجائع بأمّ عينيها، وكُتِب عليها أن تجلس عند الضحايا، أشلاء مُجزّرين على صعيد المنايا، وتشاهد مصارع الشهداء، وبينهم سيدهم ريحانة المصطفى.
وقدمت القرابين شاكرة لله: إلهي تقبّلْ منا هذا القربان. وأيّ قربان كان! سيّد شباب أهل الجنة. وهانت عليها المصائب والرزايا رغم عِظَمها، لأنها في عين الله، ولأنها خالصة لوجه الله.
ثمّ كان السبي، وما أدرانا ما السبي! ثمّ كان عليها أن تخطب في الكوفة والشام، وأن تواجه الطغاة، وأن تحفظ وديعة الله وإمام عصرها السجاد عليّ بن الحسين عليه السّلام، وأن ترعى العيال وهم جمع من الأرامل واليتامى يتصارخون مما لاقوا.
ثمّ كان عليها عليها السّلام أن تصدع بقصة الطف الرهيبة، تطبّق بها الآفاق. فتبعث الرسائل الحسينية إلى حيث استطاعت، فتنزل بذلك على الحكم الأُموي دمغات ولعنات، وهي ما تزال اللَّبوة الحيدرية، مع جراحاتها البالغة وقد جاوزت الرابعة والخمسين من عمرها، فترى تلك النوازل. ومنها أن يُشهَر أمامها راس أخيها الحسين عليه السّلام، فضربت جبينها بمَقْدم المحمل حتّى سال الدم من تحت قناعها، ثمّ أومات إليه بحرقة:



يا هلالاً لمّا استتمّ كمـالاغالَه خسفُه فأبدى غروبـاما توهّمتُ يا شقيقَ فؤاديكان هذا مقـدَّراً مكتوبـا

ولم تمض سنة ونصف السنة على واقعة كربلاء وفاجعتها حتّى ضاق البلاط الأُموي بالعقيلة زينب عليها السّلام؛ فهي سفيرة الحسين وراوية قصته قصة الشهادة العظمى بلسانها ونحيبها وجميع حالاتها، فأُبعدت عن موطن جدها، إلى أين ؟ إلى الشام من جديد، حيث ذكريات السبي والدخول وسط الشامتين والمجابهة في قصر الطاغية يزيد، وحيث هناك عُلِّق رأس الشهيد على شجرة أيّاماً مُرّة، فأجهشت، ثمّ شهقت، ثم غصّت غصة الحزن العميق كانت فيها نفسُها الطاهرة الزكية.
فكانت شهيدةَ بيت الوحي أيضاً، لا بسيف ولا برمح ولا سُمّ، ولكن بمصائب عجيبة، فقضت حزناً على حبيب المصطفى صلّى الله عليه وآله وسلّم وحباً له وشوقاً إليه. ورسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم هو القائل ( من مات على حُبّ آل محمّد مات شهيدا ).

















عرض البوم صور أصغر ملك   رد مع اقتباس
قديم 23-11-2012, 03:16 AM   المشاركة رقم: 6
معلومات العضو
أصغر ملك

إحصائية العضو







 
 


التوقيت

التواجد والإتصالات
أصغر ملك غير متواجد حالياً

كاتب الموضوع : أصغر ملك المنتدى : منتدى السيدة زينب (سلام الله عليها)
افتراضي

هكذا تحدّثوا في.. زينَب الكبرى عليها السّلام

يكفي زينبَ الكبرى سلام الله عليها شرفاً أنّها سليلة النبوّة وربيبة الإمامة، وفخر الطالبيّين، وعمّة الأئمّة الميامين صلوات الله عليهم أجمعين. ويكفيها شأناً وعزّاً أن الأمام زين العابدين عليّ بن الحسين عليه السّلام خاطبها بقوله: أنتِ ـ بحمد الله ـ عالمة غير مُعلَّمة، وفَهِمةٌ غير مُفهَّمة .
ثمّ كلّ من جاء بعد الإمام عليه السّلام يُثني على زينب العقلية صلوات الله ويطري فضائلها ومناقبها.. فذلك شرف له وكرامة وتوفيق وحظوة إلهيّة عزيزة، وفخر يكتسبه ويتباهى به على مدى التاريخ. وكان منهم:
1. ابن عبّاس، إذا تحدّث عنها قال: حدّثَتْني عقيلتُنا زينب بنت عليّ .
2. بشير بن حُذَيم الأسديّ: لم أرَ خَفِرةً أنطقَ منها، كأنّما تنطق عن لسان أمير المؤمنين عليها السّلام وتُفرغ عنه .
3. الشيخ الصدوق: كانت لها نيابة خاصة عن الحسين عليه السّلام، وكان الناس يرجعون إليها في الحلال والحرام حتّى برئ زين العابدين عليه السّلام .
4. ابن الأثير: كانت زينب امرأةً عاقلة لبيبة جزلة .
5. الشيخ عبدالله المامقاني: حازت من الصفات الحميدة ما لم يَحُزه بعد أُمّها أحد، حتّى حقَّ أن يُقال: هي الصدّيقة الصغرى.. وهي من الصبر والثبات وقوّة الإيمان والتقوى وحيدة .
6. محمّد فريد وجدي: من فُضلَيات النساء وجليلات العقائل .
7. الدكتور علي إبراهيم حسن: هي أشهر نساء العرب فصاحةً، وأكثرهنّ تعبّداً... النقيّة القلب، الشُّجاعة .
8. عمر أبو النصر: أظهرت أنّها من أكثر أهل البيت جرأةً وبلاغة... حتّى ضُرب بها المثل، وشهد لها المؤرّخون والكُتاب .
9. خير الدين الزِّرَكْليّ: كانت ثابتة الجَنان، رفيعة القَدْر، فصيحة .
10. عمر رضا كحّالة: سيّدة جليلة، ذات عقل راجح، ورأيٍ وفصاحة وبلاغة .
11. السيّد عبدالحسين شرف الدين: كانت في الهاشميّات كالتي أنجبتها ( أي الزهراء عليها السّلام ).. تنطق الحكمةُ والعصمة من محاسن خلالها، ويتمثّلان وما إليها من أخلاق في منطقها وأفعالها... آية من آيات الله في صفاء النفس، وثبات الفؤاد، في أروع صورة من صور الشجاعة والإباء والترفّع .
12. محمّد عليّ المصري: هي ابنة سيّد سادات الأمّة عليّ كرّم الله وجهه، وابنة السيّدة فاطمة الزهراء بنت رسول الله. وهي من أجلّ أهل البيت حسَباً، وأعلاهم نسباً. خيرة السيّدات الطاهرات.. فاقتِ الفوارسَ في الشجاعة، واتّخذت طول حياتها تقوى الله بضاعةَ... لُقِّبت بـ « صاحبة الشورى »، وكفاها فخراً أنّها فرعٌ من شجرة أهل بيت النبوّة الذين مدحهم الله في كتابه العزيز .
13. الدكتورة بنت الشاطئ: كانت زينب عقيلةُ بني هاشم في تاريخ الإسلام وتاريخ الإنسانيّة بطلةً استطاعت أن تثأر لأخيها الشهيد العظيم، وأن تسلّط معاول الهدم على دولة أُميّة، وأن تغيّر مجرى التاريخ .
14. خالد محمّد خالد: السيّدة زينب.. التي جلست تستقبل الضحايا، وتبصر المصائر في تفويضٍ لله ورضىً بقضائه .















عرض البوم صور أصغر ملك   رد مع اقتباس
قديم 23-11-2012, 03:27 AM   المشاركة رقم: 7
معلومات العضو
أصغر ملك

إحصائية العضو







 
 


التوقيت

التواجد والإتصالات
أصغر ملك غير متواجد حالياً

كاتب الموضوع : أصغر ملك المنتدى : منتدى السيدة زينب (سلام الله عليها)
افتراضي

خصائص السيّدة زينب الكبرى عليها السّلام

أمام الباحث المتأمّل في شخصيّة عقيلة الهاشميّين عليها السلام طريقان لتحديد ملامح تلك الشخصيّة الفذّة:
أ ـ دراسة سيرتها الذاتيّة وكلامها وخُطبها عليها السّلام.
ب ـ دراسة كلام المعصومين عليهم السّلام في شأنها، وكيفيّة تعاملهم معها.
في هذه المقالة نتحدّث عن شخصيّة السيّدة زينب عليها السلام من خلال كلمات النبيّ صلّى الله عليه وآله وأئمّة الهُدى عليهم السّلام في شأنها عليها السّلام والطريقة التي كانوا يتعاملون بها معها.

النبيّ صلّى الله عليه وآله يسمّي زينب عليها السّلام:
أطلّت السيّدة زينب عليها السّلام على الدنيا في الخامس من شهر جمادى الأولى في السنة الخامسة للهجرة في بيتٍ أذن اللهُ أن يُرفع ويُذكر فيه اسمُه، وفتحت الوليدة المباركة عينيها تتطلّع إلى وجوهٍ أكرمها ربّ العزّة عن أن تسجد لصنمٍ قطّ، مُتسلسلةً في أصلاب الطاهرين وأرحام المطهّرات.
وحَمَلت سيّدةُ نساء العالمين: فاطمة عليها السّلام وليدتها إلى خير الخلق بعد رسول الله صلّى الله عليه وآله: أميرِ المؤمنين عليّ بن أبي طالب عليه السّلام تسأله أن يختار للنسمة الطاهرة المباركة اسماً، فأبى أن يَسبِق رسولَ الله صلّى الله عليه وآله ـ وكان غائباً يومذاك ـ في تسميتها، ثمّ عاد النبيُّ صلّى الله عليه وآله إلى المدينة، فحملت الزهراء عليها السّلام وليدتها إلى أشرف الكائنات وخاتم الرسل صلّى الله عليه وآله من الوحي اسماً لها، فسمّاها « زينب » .

لماذا بكى رسول الله صلّى الله عليه وآله في ولادة زينب ؟
من غير المعهود أنّ الأب أو الجدّ إذا رُزِق ولداً أو حفيداً بكى وانتحب وذرف الدموع سِخاناً، فلماذا يحدّثنا التاريخ أن الحسين عليه السّلام حَمَل إلى أبيه أمير المؤمنين عليه السّلام بشارةَ ولادة أخته زينب، وأنّ أمير المؤمنين عليه السّلام بكى ـ بأبي هو وأمّي ـ لمّا بُشّر بولادتها، فسأله الحسينُ عليه السّلام عن علّة بكائه، فأخبره أنّ في ذلك سرّاً ستبيّنه له الأيّام.
ثمّ حُملت الوليدة الطاهرة إلى جدّها الحبيب محمّد صلّى الله عليه وآله، فاحتضن رسولُ الله صلّى الله عليه وآله الطفلةَ الصغيرة وقبّل وجهها، ثمّ لم يتمالك أن أرخى عينَيه بالدموع.
وكان جبرئيل عليه السّلام الذي هبط باسم « زينب » من ربّ العزّة قد أخبر حبيبه المصطفى صلّى الله عليه وآله بأنّ هذه الوليدة ستشاهد المصائب تلو المصائب، وأنّها ستُفجَع بجدّها رسول الله صلّى الله عليه وآله، وبأمّها فاطمة سيّدة النساء عليها السّلام، وبأبيها أمير المؤمنين عليه السّلام، وبأخيها الحسن المجتبى عليه السّلام سِبطِ رسول الله صلّى الله عليه وآله، ثمّ تُفجع بمصيبةٍ أعظمَ وأدهى، هي مصيبة قتل أخيها الحسين عليه السّلام سيّد شباب أهل الجنّة في أرض كربلاء .

أُمّ المصائب :

تُسمّى العقيلة زينب سلام الله عليها أمَّ « المصائب »، وحقّ لها أن تُسمّى بذلك، فقد شاهَدَت مصيبةَ جدّها رسول الله صلّى الله عليه وآله، ومحنةَ أمّها فاطمة الزهراء سلام الله عليها، ثمّ وفاتها؛ وشاهدت مقتلَ أبيها الإمام عليّ بن أبي طالب سلام الله عليه، ثمّ شاهدت محنةَ أخيها الحسن سلام الله عليه ثمّ قَتْله بالسمّ، وشاهدت أيضاً المصيبةَ العظمى، وهي قتل أخيها الحسين عليه السّلام وأهل بيته، وقُتل ولداها عَونٌ ومحمّد مع خالهما أمام عينها، وحُملت أسيرةً من كربلاء إلى الكوفة، وأُدخلت على ابن زياد في مجلس الرجال، وقابلها بما اقتضاه لُؤمُ عنصره وخِسّةُ أصله من الكلام الخشن الموجع وإظهار الشماتة المُمِضّة. وحُملت أسيرةً من الكوفة إلى ابن آكلة الأكباد بالشام، ورأسُ أخيها ورؤوس ولدَيها وأهل بيتها أمامها على رؤوس الرماح طول الطريق، حتّى دخلوا دمشق على هذه الحالة، وأُدخلوا على يزيد في مجلس الرجال وهم مُقرّنون بالحبال .

ثواب البكاء على مصائب زينب عليها السّلام:

روي أنّ جبرئيل عليه السّلام لمّا أخبر النبيّ صلّى الله عليه وآله بما يجري على زينب بنت أمير المؤمنين عليهما السّلام من المصائب والمحن، بكى النبيّ صلّى الله عليه وآله وقال: من بكى على مصاب هذه البنت، كان كمن بكى على أخوَيها الحسن والحسين عليهما السّلام .
ومن الجليّ أنّ البكاء على مصائب أهل البيت عليهم السّلام والتلهّف والتوجّع لِما أصابهم، يتضمّن معنى مواساتهم والوفاء لهم وأداء بعض حقوقهم التي افترضها الله تعالى في آية المودّة وغيرها، فقال عزّ مِن قائل: قُل لا أسألُكُم عليه أجراً إلاّ المودّةَ في القُربى ، وقد روى علماء المسلمين أنّه لمّا نزلت هذه الآية الكريمة قالوا: يا رسول الله، مَن قَرابتُك الذين وَجَبَت علينا مودّتُهم ؟ قال صلّى الله عليه وآله: عليّ وفاطمة وابناهما .
كما يتضمّن البكاء على مصائب العترة الطاهرة انتماءً من المؤمن الباكي إلى صفّ أهل البيت عليهم السّلام، وإعلاناً منه لنفوره من أعداء أهل البيت عليهم السّلام وقتلتهم، وإدانةً منه لتلك الجرائم البشعة التي ارتُكبت في حقّ العترة الطاهرة، وإعلاناً من الباكي عن استعداده للسير تحت لوائهم والانضواء في رَكبهم والالتزام بنهجهم صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين.

احترام الإمام الحسين عليه السّلام لأخته زينب عليها السّلام:

نُقل عن الإمام الحسين عليه السّلام أنّه كان إذا زارته زينب عليها السّلام، يقوم إجلالاً لها، وكان يُجلِسُها في مكانه .
وقال السيّد جعفر آل بحر العلوم الطباطبائي: « ويكفي في جلالة قَدْرِها ونَبالةِ شأنها ما ورد في بعض الأخبار من أنّها دخلت على الحسين عليه السّلام، وكان يقرأ القرآن، فوضع القرآن وقام لها إجلالاً.

السيّدة زينب عليها السّلام مفسّرة القرآن:

ذكر أهلُ السِّيَر أنّ العقيلة زينب عليها السّلام كان لها مجلس خاصّ لتفسير القرآن الكريم تحضره النساء، وليس هذا بمُستكثَر عليها، فقد نزل القرآن في بيتها، وأهلُ البيت أدرى بالذي فيه، وخليقٌ بامرأةٍ عاشت في ظِلال أصحاب الكساء وتأدّبت بآدابهم وتعلّمت من علومهم أن تحظى بهذه المنزلة السامية والمرتبة الرفيعة.
ذكر السيّد نور الله الجزائري في كتاب « الخصائص الزينبيّة » أنّ السيّدة زينب عليها السّلام كان لها مجالس في بيتها في الكوفة أيّام خلافة أبيها أمير المؤمنين عليه السّلام، وكانت تفسّر القرآن للنساء. وفي بعض الأيّام كانت تفسّر « كهيعص » إذ دخل عليها أمير المؤمنين عليه السّلام فقال لها: يا قرّةَ عيني، سمعتكِ تفسّرين « كهيعص » للنساء، فقالت: نعم.
فقال عليه السّلام: هذا رمز لمصيبة تُصيبكم عترة رسول الله صلّى الله عليه وآله. ثمّ شرح لها تلك المصائب، فبكت بكاءً عالياً .

السيّدة زينب عليها السّلام المحدِّثة العالِمة:


رُوي أن العقيلة زينب عليها السّلام خَطَبت في الكوفة خُطبتَها الغرّاء فتركت أهل الكوفة يَموجُ بعضُهم في بعض، قد رَدُّوا أيديهم في أفواههم، حيارى يبكون وقد تمثّل لهم هولُ الجناية التي اقترفوها، قال الإمام زين العابدين عليه السّلام لعمّته زينب عليها السّلام: أنتِ بحمد الله عالِمةٌ غيرُ مُعلَّمة، فَهِمةٌ غيرُ مُفهَّمة .
وكلام الإمام زين العابدين عليه السّلام يدلّ ـ بما لا غبار عليه ـ على المنزلة العلميّة الرفيعة التي ارتقت إليها عقيلة الهاشميّين عليها السّلام، فهي عالمة بالعلم اللدُنّيّ المُفاض من قِبل ربّ العزّة تعالى وليس بالعلم المتعارَف الذي يُكتسب بالدرس والبحث.
وقال الشيخ المامقانيّ في ( تنقيح المقال ) في معرض حديثه في السيّدة زينب عليها السّلام: زينب، وما زينب! وما أدراك ما زينب! هي عقيلة بني هاشم، وقد حازت من الصفات الحميدة ما لم يَحُزْها بعد أمّها أحد، حتّى حقّ أن يُقال: هي الصدّيقة الصغرى، هي في الحجاب والعفاف فريدة، لم يَرَ شخصَها أحدٌ من الرجال في زمان أبيها وأخوَيها إلى يوم الطفّ، وهي في الصبر والثبات وقوّة الإيمان والتقوى وحيدة، وهي في الفصاحة والبلاغة كأنّها تُفرِغ عن لسان أمير المؤمنين عليه السّلام كما لا يَخفى على مَن أنعم النظر في خُطبتها. ولو قلنا بعصمتها لم يكن لأحد أن يُنكر ـ إن كان عارفاً بأحوالها في الطفّ وما بعده. كيف ولولا ذلك لما حمّلها الحسين عليه السّلام مقداراً من ثقل الإمامة أيّام مرض السجّاد عليه السّلام، وما أوصى إليها بجملة من وصاياه، ولَما أنابَها السجّادُ عليه السّلام نيابةً خاصّة في بيان الأحكام وجملة أخرى من آثار الولاية .

العقيلة تُحدِّث بعهد رسول الله صلّى الله عليه وآله:

للسيّدة زينب عليه السّلام مواقف عديدة في الذبّ عن إمام زمانها، فنراها تستمر في مواقفها في المنافحة عن الإمام زين العابدين عليه السّلام بعد استشهاد أبيه سيّد الشهداء الحسين عليه السّلام، تعزّيه تارةً وتصبّره، وتحافظ عليه من القتل وتَفديه بنفسها تارة أخرى. وقد نقل لنا التاريخ ـ من ضمن مواقفها ـ أنّها شاهدت حزنَ الإمام زين العابدين عليه السّلام الشديد على أبيه الحسين عليه السّلام، فقالت له: ما لي أراك تجود بنفسك يا بقيّةَ جدّي وأبي وإخوتي؟
فقال عليه السّلام: وكيف لا أجزَع وأهلَع وقد أرى سيّدي وأخوتي وعُمومتي ووُلد عمّي مُصرَّعين بدمائهم مُرمَّلين بالعراء مُسلَّبين لا يُكفَّنون ولا يُوارَون ولا يُعرّج عليهم أحد، ولا يَقرَبُهم بشرٌ، كأنّهم أهلُ بيتٍ من الدَّيلم والخَزَر ؟!
فقالت عليها السّلام: لا يُجزعَنّك ما تَرى، فواللهِ إنّه لَعهدٌ من رسولِ الله صلّى الله عليه وآله إلى جدّكَ وأبيكَ وعمّك، ولقد أخذ اللهُ ميثاقَ أُناسٍ من هذه الأمّةِ لا تَعرِفُهم فَراعنةُ هذه الأمّة، وهم معروفون في أهل السماوات، أنّهم يجمعون هذه الأعضاءَ المتفرّقةَ فيوارونها، وهذه الجسومَ المضرّجة، ويَنصِبون بهذا الطفّ عَلماً لقبرِ أبيك سيّد الشهداء لا يُدرَسُ أثرُه، ولا يَعفو رسمُه على كُرور الليالي والأعوام، ولَيجهَدَنّ أئمّةُ الكفر وأشياعُ الضلالةِ في مَحوه وتَطميسه، فلا يزدادُ إلاّ ظهوراً، وأمرُه إلاّ عُلوّاً .

إخبار أمير المؤمنين عليه السّلام ابنتَه العقيلةَ بواقعة الطفّ:

روى الشيخ المجلسيّ عن السيّدة زينب عليها السّلام ـ في حديث طويل ـ أنّها قالت: لمّا ضَرَب ابنُ مُلجَم لعنه الله أبي عليه السّلام، ورأيتُ أثرَ الموت منه، قلت له: يا أبَه، حَدَّثَتني أمُّ أيمن بكذا وكذا، وقد أحببتُ أن أسمعه منك.
فقال: يا بُنيّة، الحديثُ كما حدّثتكِ أمُّ أيمن، وكأنّي بكِ وببنات أهلكِ سبايا بهذا البلد أذلاّء خاشعين تخافون أن يَتخطّفكم الناس، فصبراً صبراً! فَوَالذي فَلَق الحبّةَ وبرأ النسمةَ، ما للهِ على ظهر الأرض يومئذٍ وليٌّ غيركم وغير محبّيكم وشيعتكم، ولقد قال لنا رسولُ الله صلّى الله عليه وآله حين أخبرَنا بهذا الخبر: إنّ إبليسَ في ذلك اليوم يطير فَرَحاً فيجول الأرضَ كلَّها في شياطينه وعَفاريته فيقول: يا معشرَ الشياطين، قد أدركنا من ذريّةِ آدم الطَّلِبَة، وبَلَغنا في هلاكهم الغايةَ، وأورثناهُمُ النارَ إلاّ من اعتصمَ بهذه العصابة، فاجعلوا شُغلكم بتشكيك الناس فيهم، وحَملِهم على عداوتهم، وإغرائهم بهم وأوليائهم، حتّى تستحكمَ ضلالةُ الخلق وكُفرهم، ولا ينجو منهم ناجٍ، ولقد صَدّق عليهم إبليسُ وهو كذوب، أنّه لا ينفع مع عداوتكم عملٌ صالح، ولا يضرّ مع محبّتكم وموالاتكم ذنب ( من ) غير الكبائر .

السيّدة زينب عليها السّلام تنقل خطبة أمّها الزهراء عليها السّلام:

قال أبو الفرج الإصفهانيّ: والعقيلةُ هي التي روى ابنُ عبّاس عنها كلامَ فاطمةَ عليها السّلام في فدك، فقال: حَدّثتني عقيلتُنا زينبُ بنت عليّ عليه السّلام .
وروى الشيخ الصدوق بإسناده عن أحمد بن محمّد بن جابر، عن زينب بنت عليّ عليه السّلام قالت: قالت فاطمة عليها السّلام في خطبتها في معنى فدك:
للهِ فيكم عَهدٌ قَدَّمه إليكم، وبقيّةٌ استخلفها فيكم: كتاب الله بيّنة بصائره، وآيٌ منكشفة سرائره، وبرهان متجلّية ظواهره، مديمٌ للبريّة استماعُه، وقائد إلى الرضوان اتّباعُه، ومُؤدٍّ إلى النجاة أشياعَه، فيه تِبيانُ حُجج الله المنيرة ومَحارمِه المحرّمة، وفضائله المدوّنة، وجُمَله الكافية، ورُخَصه الموهوبة، وشرائعه المكتوبة، وبيّناته الجالية؛ فَفَرَض الإيمانَ تطهيراً من الشِّرك، والصلاةَ تنزيهاً من الكِبْر، والزكاةَ زيادةً في الرزق، والصيامَ تثبيتاً للإخلاص، والحجَّ تسيليةً للدِّين، والعدلَ مَسْكاً للقلوب، والطاعةَ نظاماً للملّة، والإمامةَ لَمّاً من الفُرقة، والجهادَ عِزّاً للإسلام، والصبرَ مَعونةً على الاستيجاب، والأمرَ بالمعروف مصلحةً للعامّة، وبِرَّ الوالدين وِقايةً عن السخط، وصِلةَ الأرحام مَنْماةً للعَدد، والقِصاصَ حَقْناً للدماء، والوفاءَ للنَذرِ تعرّضاً للمغفرة، وتوفيةَ المكائيل والموازين تغييراً للبخسة، واجتنابَ قَذف المُحصَناتِ حَجْباً عن اللعنة، واجتنابَ السرقةِ إيجاباً للعِفّة، ومُجانبةَ أكلِ أموالِ اليتامى إجارةً عن الظلم، والعدلَ في الأحكامِ إيناساً للرعيّة، وحرّمَ اللهُ عزّوجلّ الشِّركَ إخلاصاً للبربويّة، فاتّقوا الله حقَّ تُقاته فيما أمَرَكم به، وانتَهُوا عمّا نهاكم عنه.
ثمّ ذكر الشيخ الصدوق أنّه يروي هذا الحديث بطريقين آخرين عن السيّدة زينب عليها السّلام .

السيّدة زينب عليها السّلام تروي قصّة ولادة أخيها الحسين عليه السّلام:

روى الخزّاز القمّي بإسناده عن الإمام زين العابدين عليه السّلام، عن عمّته زينب بنت عليّ عليها السّلام، عن فاطمة عليها السّلام، قالت: دخل إليَّ رسولُ الله صلّى الله عليه وآله عند ولادة ابني الحسين، فناولتُه إيّاه في خِرقةٍ صفراء، فرمى بها وأخَذ خِرقةً بيضاءَ فلفّه ( بها )، ثمّ قال: خُذيه يا فاطمة، فإنّه الإمام وأبو الأئمّة؛ تسعةٌ من صُلبه أئمّة أبرار، والتاسع قائمهم .

العقيلة تروي عبادةَ أمّها الزهراء عليها السّلام:

وروي عن عبدالله بن الحسن، عن أمّه فاطمة الصغرى، عن أبيها الحسين عليه السّلام وعمّتها زينب بنت أمير المؤمنين عليه السّلام، أنّ فاطمة عليها السّلام قامت في محرابها في جُمعتِها، فلم تَزَل راكعةً ساجدةً حتّى اتّضحَ عمود الصبح، وكانت تدعو للمؤمنين والمؤمنات وتُسمّيهم وتُكثِرُ الدعاءَ لهم ولا تَدعو لنفسِها بشيء، فقال لها الحسين عليه السّلام: ألا تَدعِينَ لنفسكِ كما تَدعِينَ لغيرِك ؟
فقالت: الجارُ ثمّ الدار .

العقيلة تروي قصّة دفن أمير المؤمنين عليه السّلام:

وروي عن السيّدة زينب عليها السّلام أنّها قالت: كان آخر عهدِ أبي إلى أخوَيّ عليهما السّلام أنّه قال لهما: يا بَنيّ، إذا أنا متُّ فغَسِّلاني ثمّ نَشّفاني بالبُردةِ التي نُشّفَ بها رسول الله صلّى الله عليه وآله وفاطمة، وحيِّظاني وسَجّياني على سريري، ثمّ انظُرا حتّى إذا ارتَفَع لكما مُقدَّمُ السرير فاحمِلا مؤخَّره.
قالت: فخرجتُ أُشيّعُ جنازةَ أبي، حتّى إذا كنّا بظهرِ الكوفة وقَدِمنا بظهرِ الغَريّ ركزَ المقدَّم، فوَضَعنا المؤخّر، ثمّ بَرَز الحسنُ عليه السّلام مُرتدياً بالبُردةِ التي نُشِّف بها رسولُ الله صلّى الله عليه وآله وفاطمةُ وأميرُ المؤمنين عليهما السّلام، ثمّ أخذَ المِعوَلَ فضرَبَ ضربةً فانشَقّ القبرُ عن ضريح، فإذا هو بساجةٍ مكتوبٍ عليها سطران بالسُّريانيّة: بسم الله الرحمن الرحيم، هذا قبرٌ حَفَره نوحٌ النبيّ لعليٍّ وصيِّ محمّدٍ قَبلَ الطُّوفان بسبعمائة عام.
قالت عليها السّلام:... سمعتُ ناطقاً لنا بالتعزية وهو يقول: أحسَنَ اللهُ لكم العزاءَ في سيّدكم وحجّة الله على خلقه .

السيّدة زينب عليها السّلام تروي قصّة نزول طعام الجنّة:

روى عماد الدين الطوسيّ عن زينب بنت عليّ عليهما السّلام، قالت: صلّى رسول الله صلّى الله عليه وآله صلاة الفجر ثمّ أقبل على أمير المؤمنين عليه السّلام فقال: هل عندكم طعام ؟
فقال: لم آكل منذ ثلاثة أيّام طعاماً، وما تركتُ في بيتنا طعاماً.
فقال صلّى الله عليه وآله: سِرْ بنا إلى فاطمة!
فلمّا دخلا على فاطمة نظرا إليها وقد أخَذَها الضَّعف من الجوع وحولَها الحَسَنان عليهما السّلام، فقال رسول الله صلّى الله عليه وآله: يا فاطمة فِداكِ أبوكِ، هل عندكِ شيء من الطعام ؟
فاستَحيَت فاطمةُ أن تقول لا.. وقامت واستقبلت القِبلة لتصلّي ركعتَين، فأحسّت بحسيس، فالتفتت وإذا بصُحفة ملأى ثَريداً ولحماً، فأتت بها ووضعتها بين يدَي أبيها صلّى الله عليه وآله، فدعا رسولُ الله صلّى الله عليه وآله بعليّ والحسن والحسين، ونظر عليّ عليه السّلام إلى فاطمة متعجّباً وقال:
يا بنتَ رسول الله، أنّى لكِ هذا ؟
فقالت: هو من عند الله، إنّ الله يَرزقُ من يشاء بغير حساب .

العقيلة زينب عليها السّلام المتهجّدة العابدة:

أشبَهَت عقيلةُ بني هاشم عليها السّلام أمَّها سيّدةَ نساء العالمين فاطمةَ الزهراء عليها السّلام في عبادتها، فكانت تقضي ليلها بالصلاة والتهجّد، ولم تترك نوافلها حتّى في أحلَك الظروف وأصعبها، فقد روي عن الإمام زين العابدين عليه السّلام أنّه قال إنّ عمّته زينب ما تَرَكت نوافلها الليليّة مع تلك المصائب والمحن النازلة بها في طريقهم إلى الشام .
لم تَقعُد بها تلك المصائب الراتبة التي تَهدّ الجبالَ عن أن تتهجّد وتُناجي ربّها الكريم.
ونُقل عن ريحانة رسول الله صلّى الله عليه وآله، الإمام الحسين عليه السّلام، أنّه لمّا ودّع أخته زينب عليها السّلام وَداعَه الأخير قال لها: يا أُختاه، لا تنسيني في نافلة الليل .
وروى الجواهري في ( مثير الأحزان ) عن فاطمة بنت الإمام الحسين عليه السّلام أنّها قالت:... وأمّا عمّتي زينب فإنّها لم تَزَل قائمةً في تلك الليلة ـ أي ليلة العاشر من المحرّم ـ في محرابها تستغيث إلى ربّها، فما هدأت لنا عين ولا سكنت لنا رَنّة .
وروي عن الإمام زين العابدين عليّ بن الحسين عليه السّلام إنّه قال: إنّ عمّتي زينب كانت تؤدّي صلواتها من قيام ـ الفرائض والنوافل ـ عند سير القوم بنا من الكوفة إلى الشام، وفي بعض المنازل كانت تصلّي من جلوس، فسألتها عن سبب ذلك، فقالت: أصلّي من جلوس لشدّة الجوع والضعف منذ ثلاث ليال؛ لأنّها كانت تُقسّم ما يُصيبها من الطعام على الأطفال، لأنّ القوم كانوا يدفعون لكلّ واحد منّا رغيفاً واحداً من الخبز في اليوم والليلة .
وفي هذه الأخبار دلالة لا أوضح منها على أنّ السيّدة زينب عليها السّلام كانت من القانتات اللائي وَقَفنَ حركاتهنّ وسكناتهنّ وأنفاسهنّ للباري تعالى، فحصلن بذلك على المنازل الرفيعة والدرجات العالية التي حَكَت برفعتها منازلَ المُرسلين ودرجات الأوصياء عليهم الصلاة والسلام.

العقيلة زينب عليها السّلام وصيّة الإمام الحسين عليه السّلام:

ومن الشرف الذي لا يَلحقه شرفٌ أنّ الإمام الحسين عليه السّلام ائتمن أختَه العقيلةَ عليها السّلام على أسرار الإمامة، فقد روى الشيخ الصدوق بإسناده إلى أحمد بن إبراهيم، قال:
دخلتُ على حكيمة بنت محمّد بن عليّ الرضا أخت أبي الحسن ( عليّ الهادي ) العسكريّ عليهم السّلام في سنة 262 هـ بالمدينة، فكلّمتُها من وراء حجاب وسألتُها عن دِينها، فسَمَّت لي مَن تأتمّ بهم، ثمّ قالت: فلان ابن الحسن عليه السّلام، فسَمّته ( يقصد سَمَت الإمام الحجّة بن الحسن العسكريّ عليه السّلام ).
فقلتُ لها: جَعَلني اللهُ فِداكِ، مُعايَنةً أو خَبَراً ؟
فقالت: خبراً عن أبي محمّد عليه السّلام كَتَب به إلى أمّه.
فقُلت لها: فأين المولود ؟
فقالت: مستور.
فقلت: فإلى مَن تَفَزَعُ الشيعة ؟
فقالت: إلى الجدّةِ أمّ أبي محمّد عليه السّلام.
فقلت لها: أقتدي بمَن وصيّتُه إلى امرأة ؟!
فقالت: اقتداءً بالحسين بن عليّ عليه السّلام؛ إنّ الحسين بن عليّ عليه السّلام أوصى إلى أخته زينب بنت عليّ بن أبي طالب عليه السّلام في الظاهر، وكان ما يخرج عن عليّ بن الحسين عليه السّلام من عِلم يُنسَب إلى زينب بنت عليّ، سَتراً على عليّ بن الحسين عليه السّلام. ثمّ قالت: إنّكم قومٌ أصحابُ أخبار، أما رَوَيتُم أنّ التاسع من وُلد الحسين عليه السّلام يُقسّم ميراثَه وهو في الحياة ؟
وروي أنّه كانت لزينب عليها السّلام نيابة خاصّة عن الحسين عليه السّلام، وكان الناس يرجعون إليها في الحلال والحرام، حتّى برئ زينُ العابدين عليه السّلام من مرضه .

السيّدة زينب عليها السّلام المدافعة عن حريم الولاية:

أ. مع أمير المؤمنين عليه السّلام:
نافحت عقيلة الهاشميين عليها السّلام عن حريم الولاية، ووقفت إلى صفّ إمام زمانها عليه السّلام تدافع عنه وتجاهد في الذبّ عنه، فقد رُويَ أنّ أمير المؤمنين عليه السّلام لمّا توجّه لقتال الناكثين الذين نكثوا بيعته وألّبُوا عليه في البصرة، وقال في حقّهم كلاماً جاء فيه «... واللهِ، إنّ طلحة والزبير لَيعلَمان أنّهما مُخطئان وما يَجهلان، ولربّما عالم قَتَلَه جَهْلُه وعِلْمُه معه لا ينفعه! واللهِ لَينبحنّها كلابُ الحَوْأب، فهل يَعتبر مُعتبر، أو يَتفكّر متفكّر ؟! ثمّ قال: قد قامت الفئةُ الباغية، فأين المُحسنون ؟
ونُقل أنّ عائشة أرسلت إلى حفصة كتاباً تقول فيه: ما الخبر ما الخبر ؟‍! إنّ عليّاً كالأشقر، إن تَقَدّم عُقِر، وإن تأخّر نُحِر. فجمعت حفصةُ نساءَ قومها وصِرن يَضرِبنَ بالدُّفوف ويَردِّدنَ ذلك الكلام، فأُخبِرت زينب عليها السّلام بذلك، فعمدت إلى الخروج إليهنّ وخرجت تَحفُّ بها الإماء ومعها أمّ سَلَمة زوجةُ رسولِ الله صلّى الله عليه وآله وأمّ أيمن، حتّى دخلت على النسوة، فلمّا رأتها حفصةُ استحيت وفَرّقت النساء، فقالت لها زينب عليها السّلام: إن تَظاهرتُما على أبي فلقد تَظاهرتُما على رسول الله صلّى الله عليه وآله مِن قبلُ .
ب. مع الحسين الشهيد عليه السّلام:
أمّا دفاعها عن أخيها وإمامها الحسين الشهيد عليه السّلام، فقد رافقته إلى كربلاء، ووقفت إلى جانبه خلال تلك الشدائد التي يَشيبُ لها الوِلدان، وقدّمت ابنَيها ( عوناً ومحمّداً ) شهيدَين في طفّ كربلاء، ولم يُنقَل عنها عليها السّلام أنّها نَدبت ابنَيها بكلمةٍ ولا ذَرَفت لفقدهما دمعة، فقد كان همّها الشاغل مواساة أخيها الحسين عليه السّلام بكلّ وجودها.
روي أنها عليه السّلام دخلت على أبي عبدالله الحسين عليه السّلام في خِبائه ليلةَ عاشوراء، فوجدته يَصقِلُ سَيفاً له ويقول:
يا دهرُ أُفٍّ لك من خليلِ... الأبيات، فذُعِرت وعَرَفت أنّ أخاها قد يئس من الحياة، وأنّه مقتول لا محالة، فصرخت نادبةً أخاها وقالت: وا ثُكلاه! ليتَ الموتَ أعدَمني الحياة! اليومَ ماتت فاطمةُ أمّي وعليٌّ أبي وحسن أخي، يا خليفةَ الماضي وثُمالَ الباقي 0
وروي أنّ عليّ الأكبر ابن الإمام الحسين عليه السّلام لما بَرَز إلى القوم وقاتل حتّى استُشهد، جاء إليه الحسين عليه السّلام وهو يقول: قَتَل اللهُ قوماً قتلوك، ما أجرأهُم على الرحمان وعلى رسوله وعلى انتهاكِ حُرمةِ الرسول، على الدنيا بَعدَك العَفا.
قال الراوي: فكأنّي أنظر إلى أمرأةٍ مسرعةٍ تنادي بالويل والثبور وتقول: يا حبيباه! يا ثمرةَ فؤاداه! يا نورَ عيناه!
فسألتُ عنها فقيل: هي زينب بنت عليّ عليه السّلام. فجاءت وانكبّت عليه، فجاء الحسين عليه السّلام فأخذ بيدها ورَدَّها إلى الفِسطاط .
وروى أصحابُ المقاتل أنّ الإمام الحسين عليه السّلام لمّا هَوى من ظهر جوادِه وقد أثخنته الجراح، دون أن يُضعِف ذلك من عزمه أو يَفُتّ في عَضُده، حتّى قال عنه أحدُ الذين قاتَلوه: فواللهِ ما رأيتُ مكسوراً ( مكثوراً ) قطُّ قد قُتِل وُلدُه وأهلُ بيته وأصحابُه، أربَطَ جأشاً، ولا أمضى جَناناً، ولا أجرأ مَقدَماً منه، واللهِ ما رأيتُ قَبلَه ولا بعدَه مِثلَه، إن كانت الرجّالةُ لَتنكشِفُ من عن يمينه انكشافَ المِعزى إذا شَدَّ فيها الذئب.
قال: فواللهِ إنّه لكذلك إذ خرجت زينبُ ابنةُ فاطمة أختُه... وهي تقول: لَيتَ السماء تَطابقتْ على الأرض! ثمّ خاطبت عمر بن سعد وقد دنا من الحسين، فقالت: يا عمر بن سعد! أيُقتَلُ أبو عبدالله وأنت تَنظر إليه ؟!
فصرف عمر بن سعد وجهَه عنها .
وروى المجلسي أنّ الإمام الحسين عليه السّلام لمّا طُعن في خاصرته فسقط عن فرسه إلى الأرض على خدّه الأيمن، خرجت زينب من الفسطاط وهي تنادي: وا أخاه واسيّداه وا أهلَ بيتاه! لَيت السماء أطبقت على الأرض، وليت الجبال تدكدكت على السهل .
وروي أنّ جيش عمر بن سعد أخرجوا النساء من الخيمة وأشعلوا فيها النار، فخَرجنَ حَواسِرَ حافياتٍ باكياتٍ، وقُلنَ: بحقِّ الله إلاّ ما مَررتُم بنا على مصرع الحسين.
قال الراوي: فواللهِ لا أنسى زينبَ بنت عليّ عليه السّلام وهي تندبُ الحسينَ وتنادي بصوتٍ حزين وقلبٍ كئيب:
وا محمّداه! صلّى عليك مَليكُ السماء، هذا حسينٌ مُرمَّلٌ بالدماء، مُقَطَّعُ الأعضاء، وبَناتُك سبايا، إلى الله المُشتكى... وا محمّداه هذا حُسين بالعراء، يَسفي عليه الصَّبا، قتيلُ أولادِ البغايا، يا حُزناه يا كَرباه! اليوم مات جدّي رسول الله. يا أصحابَ محمّداه، هؤلاء ذريّةُ المصطفى يُساقُونَ سَوقَ السبايا!
ج. مع الإمام زين العابدين عليه السّلام:
تولّت عقيلة بني هاشم عليها السّلام تمريضَ الإمام زين العابدين عليه السّلام ورعايتَه والمحافظةَ عليه في كربلاء والكوفة والشام. وكان من المواقف التي خلّدها لها التاريخ في دفاعِها عن إمام زمانها: الإمام زين العابدين عليه السّلام بعد شهادة أبي عبدالله الحسين عليه السّلام، موقفٌ في مجلس ابن زياد في الكوفة، فقد خاطبها ابن زياد فقال: الحمد لله الذي فضحكم وأكذب أُحدوثتكم! فقالت: إنّما يُفتَضَحُ الفاسقُ ويُكذَبُ الفاجرُ، وهو غيرنا.
فقال ابن زياد: كيف رأيتِ صُنعَ الله بأخيكِ وأهل بيتكِ ؟
فقالت: ما رأيتُ إلاّ جميلاً. هؤلاءِ قومٌ كَتَب اللهُ عليهم القتلَ فبَرزوا إلى مَضاجِعهم، وسيجمعُ اللهُ بينك وبينهم فتُحاجَّ وتُخاصَم، فانظُرْ لِمَن الفَلج يومئذٍ ثَكَلَتْكَ أمُّك يا ابنَ مَرجانة!
ثم التفتَ ابنُ زياد إلى عليّ بن الحسين فقال: مَن هذا ؟
فقيل: عليّ بن الحسين.
فقال: أليس قد قَتلَ اللهُ عليَّ بن الحسين ؟!
فقال عليّ: قد كان لي أخ يُسمّى عليّ بن الحسين قَتَله الناس.
فقال ابن زياد: بل اللهُ قَتَله!
فقال عليّ عليه السّلام: اللهُ يَتوفّى الأنفُسَ حينَ مَوتِها والتي لَم تَمُت في مَنامِها.
فقال ابنُ زياد: ولكَ جرأةٌ على جوابي ؟! اذهَبوا به فاضربوا عُنُقَه!
فسَمِعَت عمّتُه زينبُ ذلك فقالت: يا ابنَ زياد، إنّك لَم تُبقِ منّا أحداً، فإن عَزَمتَ على قتلهِ فاقتُلني معه .
وقد تطرّقنا إلى خطبتَي عقيلة بني هاشم عليها السّلام في الكوفة وفي الشام، اللتين أبانت بهما حقيقةَ النهضة الحسينيّة، وفضحت مَكْر بني أميّة ومحاولتهم تصوير الإمام الحسين عليه السّلام بأنّه خارجيّ خرج على خليفة زمانه، فكانت كلمات العقيلة عليها السّلام استمراراً لنهضة أخيها الشهيد عليه السّلام، وكان ثباتها وصمودها وصبرها السُّورَ الحصين الذي صان مُعطيات الثورة الحسينيّة المباركة، والترجمانَ الصادق الذي نقل للأجيال تفاصيل تلك النهضة الظافرة.

فسلام الله عليكِ يا عقيلةَ الهاشميّين يوم وُلدتِ، ويوم التَحقتِ بالرفيقِ الأعلى، ويوم تُبعثينَ حيّةً فيوفّيكِ اللهُ تبارك وتعالى جزاءك بالكأسِ الأوفى مع جدّكِ المصطفى، وأبيكِ المرتضى، وأمّكِ الزهراء، وأخيك الحسن المجتبى، وأخيكِ الشهيد بكربلاء














عرض البوم صور أصغر ملك   رد مع اقتباس
قديم 23-11-2012, 03:28 AM   المشاركة رقم: 8
معلومات العضو
أصغر ملك

إحصائية العضو







 
 


التوقيت

التواجد والإتصالات
أصغر ملك غير متواجد حالياً

كاتب الموضوع : أصغر ملك المنتدى : منتدى السيدة زينب (سلام الله عليها)
افتراضي

ملامح عقيلة الهاشميّين السيّدة زينب الكبرى

من خلال التعرّف على خطبتَين جليلتَين لسليلة بيت النبوّة السيّدة زينب الكبرى عليها السّلام نحاول الاقتراب من بعض ملامح شخصيّتها العظيمة ولو على سبيل الإشارة، وفقاً لكلام أمير المؤمنين عليّ عليه السّلام: « اللسانُ ميزان الأعمال » .
وعلى الرغم من كثرة ما نُقل عن السيّدة زينب عليها السّلام، إلاّ أنّنا آثَرنا الكلام على هاتين الخطبتين لجُملة أمور، منها: أنّ سنَدَي هاتين الخطبتَين على درجة عالية من الوثاقة والاعتبار، وأنّ الخطبتَين أُلقيتا في ظروف خطيرة وحسّاسة، بحيث لا نبالغ إذا ما قُلنا إنّ كلّ مُفردة استُعملت فيهما هي ذات دلالة على بعد من أبعاد العظمة الروحيّة والوجوديّة لهذه السيّدة الجليلة التي جسّدت ملحمة للإيمان والصبر والثبات في أشدّ الظروف واللحظات.
ونُشير إشارات سريعة وعابرة إلى بعض هذه الأبعاد:

أولاً ـ الشجاعة:

العامل الأساس، أو أحد أهمّ العوامل التي أفضَتْ إلى ظفر نهضة الإمام الحسين عليه السّلام ـ التي تحمّلت السيّدة زينب عليها السّلام ظهر يوم عاشوراء عبء رسالتها ـ هو شجاعة هذه السيّدة العظيمة وثباتها في مواقفها أمام الطاغية يزيد الذي حاول مع أزلام حكومته ـ عن طريق القمع والبطش والإرعاب المشفوع بتيّار واسع من الإعلام الكاذب ـ أن يُلقي في أذهان عامة الناس أنّ الإمام الحسين عليه السّلام الثائر في طلب إصلاح أمّة جدّه رسول الله صلّى الله عليه وآله هو خارجيّ تمرّد على وليّ الأمر ولم يخضع لخليفة عصره، وكان من الطبيعيّ على مثل هؤلاء المتمرّدين أن تقمعهم قوى الحكومة الإسلاميّة الشجاعة!
وفي هذا السياق، كان موكب السبايا ـ سبايا أهل بيت النبوّة عليهم السّلام ـ إذا دخل مدينة من المدن، طوال المسيرة المُرهقة التي امتدّت من كربلاء إلى الكوفة ثمّ من الكوفة إلى الشام، قيل لأهل تلك المدينة إنّ هؤلاء السبايا هم سبايا وأسرى من الخوارج!
وكانوا في الشام ـ وقد أثملهم غرور النصر الدمويّ الذي حقّقوه في كربلاء ـ يُعدّون العدّة لحفلٍ كبير دَعَوا إليه كبار رجال الحكم وسفراء الدول الأجنبيّة. وخُيِّل ليزيد أنّ أحداً لن يجرؤ ـ بعد استشهاد الإمام الحسين عليه السّلام ـ على زعزعة دعائم حُكمه، وكان جنوده المدجّجون بالسلاح لا يتورّعون عن سفك دم كلّ مَن تسوّل له نفسه أن يعترض بكلمة.
أُدخل موكب السبايا على يزيد وهو في مجلسه، بعد أن حُملوا آلاف الكيلومترات على إبل مهزولة بغير وِطاء، قد هدّهم المصاب الجَلَل: فَقْدُ ريحانة رسول الله صلّى الله عليه وآله وسِبطه الأثير لديه، الذي ترعرع على صدر رسول الله صلّى الله عليه وآله وشبّ في حِجره، والذي أخذه رسول الله صلّى الله عليه وآله معه ـ إلى جانب أبيه وأمّه وأخيه ـ ليُباهل نصارى نجران، فقال كبيرُهم حين تأمّل فيهم: أرى وجوهاً لو سألوا الله أن يُزيل جبلاً لأزاله من مكانه، فلا تبتهلوا فتهلكوا!
وأرهقهم بعد الشقّة، بعد أن أعنف بهم الحادي، فساقهم على غير رِفق، ولم ينزل بهم إلاّ على غير ماء ولا عُشب، ثمّ أُدخلوا على يزيد ولمّا يستريحوا من عناء الطريق بعدُ، عسى أن يَفُتّ ذلك في عضدهم ويُوهن من جَلَدهم، ويُضعف منطقهم.
ونهضت عقيلة بني هاشم عليها السّلام في وقار، وخاطبت يزيد دون أن تكثرت له ولا لزبانيته، في فصاحةٍ وبلاغة وَرِثَتهما من أمير الفصاحة والبلاغة أبيها أمير المؤمنين عليه السّلام، فأعادت إلى الأذهان وقفةَ أمّها الزهراء عليها السّلام وخطبتها الشهيرة في مسجد رسول الله صلّى الله عليه وآله؛ وكان من جُملة خطبتها أن قالت:
أظننتَ يا يزيدُ أنّك حين أخذتَ علينا أقطارَ الأرض، وضَيّقتَ علينا آفاقَ السماء، فأصبَحنا لك في إسارِ الذلّ.. أنّ بنا من اللهِ هَواناً وعليكَ منه كرامةً وامتناناً، وأنّ ذلك لِعِظَم خَطرِك وجلالةِ قَدْرك، فشَمَختَ بأنفِك، ونَظَرت في عِطفِك!... فمَهْلاً مَهلاً، لا تَطِش جَهلاً!
أنَسِيتَ قولَ الله عزّوجلّ ولا يَحسَبنَّ الذين كَفَروا أنّما نُملي لهم خيرٌ لأنفُسِهم إنّما نُملي لهم لِيزَدادوا إثماً ولهم عذابٌ مُهين ؟!
أمِنَ العدل ـ يا ابنَ الطُلقاء ـ تَخديرُكَ حرائرَكَ وإماءَكَ، وسَوقُكَ بناتِ رسولِ الله صلّى الله عليه وآله، يَحدوا بهنّ الأعداءُ من بلدٍ إلى بلد، ويَستَشرِفُهنَّ أهلُ المَناقِل، ويُبرَزنَ لأهل المَناهل ، ويَتَصفّحُ وُجوهَهُنَّ القريبُ والبعيد... عُتُوّاً منك على الله وجُحوداً لرسولِ الله صلّى الله عليه وآله، ودَفعاً لِما جاء به من عند الله...
ثمّ اندفعت العقيلة زينب عليها السّلام تُقرّع يزيد وتفضح نَسَبه الوضيع، وتذكّره بجرائم أسلافه الذين اقتفى آثارَهم وسار على حذوهم، فقالت:
وأنّى يُرتجى الخيرُ ممّن لَفَظ فُوهُ ( أي فمه ) أكبادَ الشهداء، ونَبَتَ لحمُه بدماء السُّعداء، ونَصَب الحربَ لسيّد الأنبياء، وجَمَع الأحزابَ، وشَهَر الحِرابَ، وهَزّ السيوفَ في وجه رسول الله صلّى الله عليه وآله، أشدّ العرب لله جُحوداً، وأنكرهم له رسولاً، وأظهرهم له عُدواناً، وأعتاهم على الربّ كفراً وطُغياناً.
لَعَمري لقد نَكأتَ القَرحةَ ، واستأصلتَ الشأفة ، بإراقتكَ دمَ سيّدِ شبابِ أهل الجنّة، وابنِ يَعسوبِ العرب، وشمسِ آل أبي طالب، وهَتَفتَ بأشياخِك، وتَقَرّبتَ بدمهِ إلى الكفَرة من أسلافِكَ... وما فَرَيْتَ إلاّ جِلدَك، وما جَزَزْتَ إلاّ لحمَك، وستَرِدُ على رسول الله صلّى الله عليه وآله بما تحمَّلتَ من دم ذُرّيّتِه، وانتهكتَ من حُرمتِه، وسَفَكتَ من دماء عِترته ولُحمته... فلا يَستفزّنّكَ الفرحُ بقتلِهم ولا تَحسَبَنَّ الذينَ قُتِلوا في سبيلِ اللهِ أمواتاً بل أحياءٌ عندَ ربِّهم يُرزَقون * فَرِحين بما آتاهُمُ اللهُ مِن فضلهِ
وحَسْبُك بالله وليّاً وحاكماً، وبرسولِ الله صلّى الله عليه وآله خَصيماً، وبجبرئيل ظهيراً.
ولئن جَرَّت عَلَيَّ الدَّواهي مُخاطبتَك، إنّي لأستصغِرُ قَدْرَكَ، وأستَعظِمُ تَقريَعكَ، وأستَكِبرُ تَوبيخَك، لكنّ العيونَ عَبرى، والصدور حَرّى... فكِدْ كَيْدكَ واسْعَ سَعْيَكَ وناصِبْ جُهْدَكَ، فواللهِ لا تَمحْو ذِكرَنا، ولا تُميتُ وَحيَنا، ولا تُدرِكُ أمَدَنا، ولا تُرحِضُ عنك عارَها؛ وهل رَأيُك إلاّ فَنَد ، وأيّامُك إلاّ عَدَد، وجَمْعُك إلاّ بَدَد، يومَ يُنادي المنادِ: ألا لَعنةُ اللهِ على الظالمين .
ومِن قَبْلُ في مجلس عُبيد الله بن زياد كان للعقيلة زينب عليها السّلام كلام جَبَهَت به ابنُ زياد حين سألها متشفّياً: كيف رأيتِ صُنْعَ الله بأخيكِ وأهل بيتِك ؟! فقالت:
ما رأيتُ إلاّ جميلاً! هؤلاء قَومٌ كَتَب اللهُ عليهم القتلَ فبرزوا إلى مَضاجِعهم، وسيَجمعُ اللهُ بينَكَ وبينهم فتُحاجُّ وتُخاصَم، فانْظُر لِمَن الفُلْجُ يومئذٍ ثَكَلَتْكَ أُمُّك يا ابنَ مَرجانة!
فبُهت الذي كَفَر، وتَلَجلج واستَخذى بعد عُنفوانه، وتصاغرَ بعد شُموخه وإدلاله بنفسه، بعد أن مَلَكَت عليه العقيلةُ المفوّهة البليغة أقطارَ الأرض والسماء، فتمنّى في خِزيه لو انشقّت الأرض من تحته فابتلعته.
وروى أصحاب التواريخ والسِّير أن يزيد بن معاوية لمّا فضحته عقيلة بني هاشم عليها السّلام بخطبتها أنحى باللأئمّة على ابن زياد، وقال: قَبَّح اللهُ ابنَ مَرجانة، لو كانت بينكم وبينه قرابةٌ ورِحم ما فعل هذا بكم، ولا بَعَث بكم على هذا!
فتأمّل كيف كشفت هذه السيّدة الجليلة بمنطقها الجزل عن حقيقة مقام يزيد وهو في أوّج عزّه الظاهريّ، فإذا به يتصاغر ويتضاءل حتّى ينتحل الأعذار أمامها كالعبد الذليل المذنب أمام سيّدته، وشهد لها المؤالف والمخالف بأنّ كلامها ليزيد بن معاوية يدلّ على عقل وقوّة جَنان .

ثانياً ـ الفصاحة والبلاغة:

من السمات التي امتازت بها السيّدة زينب عليها السّلام: فصاحتُها وبلاغتُها ومنطقُها الرصين الجَزل؛ فقد أشار علماء الأدب الذين نقلوا خُطبَها إلى أنّها أشبَهَت أباها أمير المؤمنين عليه السّلام في هذه المَلَكة، حيث أشبَهَته في ثراء المحتوى وجمال التعبير، وفي رعاية ما يُناسب كلّ مقامٍ من مَقال وكلام:
أ ـ تأمّل ـ على سبيل المثال لا الحصر ـ في أنواع السَّجع الذي وظّفته في عباراتها، كقولها « قد هَتكتَ سُتورَهُنّ، وأبدَيتَ وجوهَهُنّ »، وقولها « نتيجة خِلالِ الكُفر، وحبّ يُجرجر في الصدرِ لقتلى بدر ».
ب ـ وانظر تشبيهاتها التي أوردتها في كلامها فضاعفت روعته، كقولها لأهل الكوفة « إنّما مَثَلكُم كمَثَلِ التي نَقَضَت غَزْلَها من بَعد قوّةٍ أنكاثاً »، فقد شبّهتهم فيه بالعجوز الحمقاء التي تَغزِل الصوف، حتّى إذا شارف عملُها على الكمال عَمَدت إليه فنَقَضته وأهدَرته. وكقولها لأهل الكوفة بأنّ مَثَلهم « كمرَعى على دِمنة »، إذ شبّهتهم فيه بالمرعى ذي الظاهر الزاهي الجميل، الذي تضرب جذوره في دِمنة قذرة خبيثة.
ج ـ وتأمّل إلى استخدامها فنّ « تَجاهُل العارِف »، في قولها « هل فيكم إلاّ الصَّلف والعجب والشّنف والكذب ؟! »، وقولها « أمِن العدلِ ـ يا ابنَ الطُّلقاء ـ تَخديرُكَ حرائرَك وإماءَك، وسَوقُك بناتِ رسول الله صلّى الله عليه وآله سَبايا ؟! ».
وقد زخرت هاتان الخطبتان بالكناية والإيجاز والاستعارة وسائر فنون البلاغة، حتّى لُقّبت السيّدة زينب عليها السّلام في حياتها بألقاب: « البليغة »، و « الفصيحة »، و « وليدة الفصاحة ».
وقد روى السيّد ابن طاووس عن بشير بن خُزَيم الأسدي أنّه قال في صِفة عقيلة بني هاشم عليها السّلام: « كأنّها تُفرِغُ عن لسان أمير المؤمنين عليّ بن أبي طالب عليه السّلام، وقد أومَأتْ إلى الناس أنِ: اسكُتوا، فارتَدَّت الأنفاس، وسَكَنَت الأجراس » .
وقال النيشابوري في « الرسالة العلويّة »: « كانت زينب ابنة عليّ عليه السّلام في فصاحتها وبلاغتها وزُهدها وعبادتها كأبيها المرتضى وأمّها الزهراء عليها السّلام » .
وروى المجلسيّ أنّ ابن زياد قال لمّا قَرعته زينب عليها السّلام بكلامها المتين: هذه سَجّاعة! ولَعَمري لقد كان أبوكِ سَجّاعاً شاعراً!!
قالت: إنّ لي عن السَّجاعةِ لَشُغلاً، وإنّي لأعجَبُ ممّن يَشتَفي بقتلِ أئمّته، ويَعلَم أنّهم مُنتقمون منه في آخرتِه!

ثالثاً ـ الحياء والعفّة:

العقيلة زينب عليها السّلام فرعٌ شامخ من فروع الدَّوحة النبويّة الوارفة، تَرَعرعت في بيتٍ رفيع من بيوت أذِن الله أن تُرفَع ويُذكر فيها اسمُه، ونشأت في بيتٍ كانت الملائكةُ تختلف إليه وتُقدّسه ليلَ نهارَ، وتَرَبّت في حُجُورٍ طابَت وطَهُرت، ورَضَعت الإيمان والطُّهر والعفاف من صدرٍ مُفعَمٍ بحبّ الله والإيمان به: صدر الزهراء البتول عليها السّلام، فلا غَرْوَ أن تلقّت منذ نعومةِ أظفارها دروسَ الحياء والعفّة من أمٍّ ترى أن ليس أفضل للمرأة من أن لا تَرى رجُلاً ولا يراها رجُل، ومن أمٍّ تلتزم الحجاب حتّى أمام الأعمى، وتقول إنّه وإن كان لا يُبصر، إلاّ أنّه يشمّ الرائحة ويحسّ بوجود المرأة وحضورها.
ويحدّثنا التاريخ أنّ العقيلة زينب عليها السّلام كانت إذا أرادت الخروج لزيارة قبر جدّها رسول الله صلّى الله عليه وآله تَقَدّمها أميرُ المؤمنين عليه السّلام وسار خلفها أخوها العبّاس عليه السّلام واكتَنَفها أخَواها الحسنان عليهما السّلام من اليمين والشمال، كي لا تَلمح عينُ ناظرٍ لها شخصاً ولا خيالاً، حتّى إذا اقتربوا من القبر المطهّر أسرع أمير المؤمنين عليه السّلام فأخمَد نورَ المصابيح زيادةً في رعاية الستر والحجاب لكريمته عقيلة بني هاشم وفخرهم سلام الله عليها .
وروي عن يحيى المازنيّ أنّه قال: كنتُ في جِوارِ عليّ عليه السّلام في المدينة مدّةً مديدةً بالقرب من البيت الذي تَسكنُه زينبَ ابنته، فلا واللهِ ما رأيتُ لها شَخصاً ولا سَمِعتُ لها صوتاً .
ومن هنا نُدرك عَظَمة المصاب الذي تعرّضت له بناتُ الرسالة ـ ومنهنّ العقيلة عليها السّلام ـ حين فُجِعْنَ بمقتلِ إخوانهنّ وأولادهنّ وأنصارهنّ بتلك الصورة المؤلمة، ثمّ تعرّضن لهجوم جيش عمر بن سعد الطَّغام الأجلاف، فنهبوا رِحالَهُنّ وسلَبوا أغلب ما عليهنّ من الأردية التي يَستَترنَ بها، فصارَت الواحدةُ منهنّ تلوذ بالأخرى، وصِرنَ يَستُرنَ وجوهَهُنّ بأيديهنّ من نظرات طَغامِ جيش ابن سعد، ثمّ حُملن على نُوقٍ هزيلة بغير وِطاءٍ ولا محمل، وساقوهنّ كما يُساق سَبيُّ الترك والروم، حتّى إذا اقترب بهنّ الحادي من الكوفة، وخرج أهل الكوفة ينظرون إلى موكب السبايا، صرخت بهم إحدى المخدّرات: غُضُّوا أبصارَكُم عنّا! ألا تَستَحْيون من اللهِ ومن رسولِه أن تنظروا إلى حَرَمِ رسولِ الله وعيالاتِه ؟!
وجاء في مصادر التاريخ أنّ السيّدة زينب عليها السّلام قَرَنت في شكواها إلى جدّها رسول الله صلّى الله عليه وآله المصابَ الذي لَقُوه بين مقتل سيّد الشهداء عليه السّلام وبين سَبي كرائم أهل بيت النبوّة، وشَهِد لها المؤرّخون أنّها لمّا مَرَّت بأخيها الحسين عليه السّلام صريعاً، نادت:
يا محمّداه، يا محمّداه! صلّى عليك ملائكةُ السماء، هذا حسينُك بالعَراء مُرمَّلٌ بالدماء مُقطَّعُ الأعضاء؛ يا محمّداه، وبناتُك سَبايا، وذُرّيّتك مُقَتّلةٌ تَسفي عليها الصَّبا!
ورُوي أنّه لما أُدخل السبايا على عبيدالله بن زياد في الكوفة تنكّرت زينب عليها السّلام وحَفَّت بها إماؤها، فلمّا دَخَلت جَلَسَت ( زيادةً في التستّر والحجاب )، فقال ابن زياد: مَن هذه الجالسة ؟ فلَم تُكلّمه، فقال ذلك ثلاثاً، فقال بعض إمائها: هذه زينبُ ابنةُ فاطمة، فقال ابنُ زياد: الحمد لله الذي فضحكم وقتلكم وأكذَبَ أُحدوثتكم! فردّت عليه بخطبتها الشهيرة .
وكان من جُملة اعتراضاتها الشديدة على يزيد، أن قالت:
أمِن العَدِل ـ يا ابنَ الطُّلقاء ـ تَخديرُكَ حرائرَك وإماءَك، وسَوقُكَ بناتِ رسولِ الله صلّى الله عليه وآله سبايا، قد هَتَكتَ سُتورَهُنّ، وأبدَيتَ وُجوهَهنّ، يَحدو بهنّ الأعداءُ مِن بلدٍ إلى بلد...
وهي كلمات تنضح من قلب اعتصره الألم ممّا يشاهد من هتكٍ لحُرمات الرسالة، وحطٍّ من شأنها؛ كيف وقد وصف العلماء صاحبة هذا القلب الأسيف بقولهم: « هي في الحجاب والعَفاف فريدة، لم يَرَ شخصَها أحد من الرجال في زمان أبيها وأخوَيها إلى يوم الطفّ » .
ومن الطبيعيّ أنّ مثل هذه السيّدة المصونة لمّا دخلت مجلس يزيد « وهي تستر وجهَها بكُمّها » ، كانت إذا ذَكرَت وقائعَ الشام حَزنت وتألّمت وتجدّدت أحزانها.
ويحدّثنا التاريخ أنّ عقائل الرسالة لمّا بَعث معهنّ يزيد مَن يردّهنّ إلى مدينة جدّهنّ الرسول صلّى الله عليه وآله، فلم يضيّق عليهنّ في الطريق، وكانوا إذا نزلوا في منزل تفرّق هو وأصحابه حولهم كهيئة الحرس لهم، بحيث إذا أراد إنسان منهم الوضوء أو قضاء حاجة لم يحتشم، فلمّا بلغوا المدينة أخرجنَ إليه حُليهنّ فبَعثنَ بها إليه وقُلنَ: هذا جزاؤك بصُحبتك إيّانا بالحَسَنِ من الفِعل، فقال: لو كان الذي صَنَعُتُ إنّما هو للدنيا كان في حُليكنّ ما يُرضيني ودونه؛ ولكن ـ واللهِ ـ ما فعلتُه إلاّ لله، ولقرابتكم من رسول الله صلّى الله عليه وآله .

رابعاً ـ معرفة الإمام:

من القضايا التي وردت في خطبتَي السيّدة زينب عليها السّلام معرفتها لإمام زمانها، ودفاعها المستميت عن حريم الولاية. ولقد كانت مرافقة السيّدة عقيلة الهاشميّين عليها السّلام لأخيها الإمام الحسين عليه السّلام في حركته من المدينة إلى مكّة، ومن مكّة إلى كربلاء، بياناً لا أوضح منه ولا أجلى عن المعرفة الكاملة التي امتلكتها السيّدة العقيلة عليها السّلام عن إمام زمانها، وعن وفائها تجاهه.
وقد روي أنّ الإمام الحسين عليه السّلام لمّا عزم على السير إلى العراق جاءه ابنُ عبّاس فأشار عليه أن يترك عيالاته ولا يحملهنّ معه، فردّت عليه السيّدة معترضةً بأنهنّ لن يتركنَ مولاهنّ الحسين عليه السّلام أبداً، وأنهنّ سيعشن معه، ويَمُتن معه .
وقد شهد التاريخ أنّ السيّدة زينب عليها السّلام بقيت مع أخيها الحسين عليه السّلام وشاركته في جميع ما تَحمّله، وأنّها كانت سنده وعضده في رسالته، حتّى أنّها قدّمت وَلدَيها شهيدَين في كربلاء، ثمّ إنّها أضحت ـ بعد شهادة الإمام الحسين عليه السّلام ـ المشاورَ الأمين والممرّض الحنون والعضيد المخلص للإمام زين العابدين عليّ بن الحسين عليه السّلام، فقد وقفت إلى جانبه مراراً ووقَتْه الموتَ بنفسها، منها يوم عاشوراء لمّا هجم جيش ابن سعد على مخيَّم الحسين عليه السّلام ـ وليس فيه إلاّ النساء والأطفال ـ فأحرقوه على مَن فيه. يقول حميد بن مسلم: رأيت امرأةً ألقَت نفسَها على النار، فجاءت بجسدٍ كأنّه ميّت، ورِجلاه تجرّان على الأرض، فسألتُ عنهما فقيل: هذه زينب أخت الحسين، وهذا المريض عليّ بن الحسين .
والمرّة الثانية التي فَدَت فيها السيّدة زينب إمامَها زين العابدين عليه السّلام بنفسها، لمّا ردّ زين العابدين عليه السّلام على أسئلة ابن زياد بأجوبة نضحت ثباتاً وقوّة، فأمر زبانيته بقتله، فاعتنقته عمّته زينب عليها السّلام وقالت: أسألك بالله إن قتلتَه لمّا قَتلتَني معه! فنظر ابن زياد ساعة، ثمّ قال: عَجَباً للرَّحِم! واللهِ إنّي لأظنّها ودّت لو أنّي قتلتُه أنّي قتلتُها معه! ثمّ خلّى عنه .
وفي رواية الطبريّ أنّها عليها السّلام قالت: يا ابن زياد، إنّك لم تُبقِ منّا أحداً؛ فإن عزمتَ على قتله فاقتُلني معه .
ووقفت العقيلة عليها السّلام في الشام لتقول ليزيد ـ وقد أمر بقتل زين العابدين عليه السّلام: حسبُك يا يزيد من دمائنا! ناشدتُك الله إن قتلتَه فاقتُلنا!
وكانت في فترة الأسر تَتعاهدُ الإمامَ زينَ العابدين عليه السّلام وتقول له: يَعِزُّ علَيَّ أن أراك بهذه الحال يا ابن أخي!
وكان لوقفة العقيلة عليها السّلام في الكوفة والشام وفضحها مكيدة ابن زياد ويزيد بن معاوية في تسمية الإمام الحسين عليه السّلام وصحبه الأبرار بالخوارج، الأثر الكبير في تحقيق أهداف النهضة الحسينيّة العظيمة، ولقد وقفت تخاطب أهل الكوفة وتقول:
« وأنى ترحضون قَتْلَ سليلِ خاتم النبوّة ومَعدِنِ الرسالة وسيّد شباب أهل الجنّة، وملاذ حربكم، ومعاذ حِزبكم، ومقرّ سِلمكم، وآسي كلمكم، ومفزع نازلتكم، والمرجع إليه عند مقالتكم، ومِدرَة حججكم، ومنار محجّتكم » .
لنتأمّل كيف تصف الإمامَ عليه السّلام، وتبيّن للغافلين الخاطئين عِظَم الهوّةِ التي انحطّوا إليها، والخسارة الفادحة التي ألحقوها بأنفسهم، حين صاروا إلباً لأعدائهم على أوليائهم، وجنوداً للجناة الظلمة يقاتلون الإمام البَرَّ العادل الذي هو أرحم بهم من أنفسهم، الإمام الذي ناشدوه التوجّه إليهم لتخليصهم من ظُلم بني أميّة، فلمّا لبّى نداءهم انقلبوا على أعقابهم، ومن يَنقلبْ على عقبَيه فلن يضرّ الله شيئاً، ولبئس ما سوّلت لهم أنفسهم.

خامساً ـ فضح حقيقة الحكم الأمويّ:

تطالعنا في خطبتَي العقيلة زينب عليها السّلام فقراتٌ تدلّل بما لا مزيد عليه على أنّها عليها السّلام أرادت ببيانها وكلماتها فضحَ الحكم الأمويّ الجائر وكشفه لجمهور المسلمين يومذاك من جهة، وإجهاض محاولة ذلك الحكم التلبّس بلباس مَن يُدافع عن الإسلام والمسلمين أمام مَن خرج على الحاكم يجاهد في سبيل الله.
وقد شهد التاريخ أنّها عليها السّلام وُفّقت في ذلك أيّما توفيق، وأنّ ردود الفِعل التي أحدثتها كلماتها أسقطت رموز الحكم الأمويّ في أعين المسلمين، حتّى اضطُرّ يزيد إلى إخراجهم من عاصمته دمشق وإعادتهم إلى مدينة الرسول صلّى الله عليه وآله، تحسّباً من تفاقم الأوضاع في دمشق إلى حدٍّ خطير.
ولقد كان وضع النقاط على الحروف في حادثة كبرى مثل حادثة كربلاء أمراً من الضرورة بمكان، ولولا الخُطَب الغرّاء للإمام زين العابدين عليه السّلام وعمّته الحوراء عليها السّلام لَكان من الممكن أن تتكرّر واقعة الطفّ مرّات ومرّات، وأن تضيع الحقيقة بين دم المظلوم وسيف الظالم الباغي المدّعي.
ومن يتأمّل في خطبتي عقيلة الهاشميّين عليها السّلام، يجد أنّها تناولت في خطبتها في الكوفة وصف السمات الروحيّة والأخلاقيّة لأهل الكوفة يومذاك، فوصفتهم بأنّهم أهل الخَتل والغَدر، وأنّ مَثَلهم مثل العجوز التي انعطفت على غَزْلها الذي سهرت في إتمامه الليالي فنكثَتْه ونقضته، وأنّ الشّقّة بعيدة بين ظاهرهم الجميل وباطنهم المنطوي على الغدر، مما يجعلهم أشبه بمرعى نَبَت على دِمنة أو كفضّة على قبرٍ!
كما يُلاحظ أنّها عليها السّلام تحدّثت في خطبتها التي ألقتها في مجلس يزيد عن سيرة يزيد وعائلته الأمويّة وعقائدهم وسماتهم، فدمغتهم بأنهم « الطُّلقاء » الذين لاحظّ لهم في الدين والجهاد والإيمان، وقدّمت يزيد لملأ المسلمين على حقيقته المخزية: سليل مَن لفَظَ فمُه أكباد الشهداء ( إشارة إلى جدّته هند التي لاكت كبِدَ حمزة عمّ النبيّ صلّى الله عليه وآله يوم أُحد ) ونَصَب الحربَ لسيّدِ الأنبياء ( إشارة إلى جدّه أبي سفيان وأبيه معاوية اللذينِ حاربا رسول الله صلّى الله عليه وآله ثمّ أسلما ظاهراً بعد فتح مكّة ) وجَمَع الأحزاب ( إشارة إلى أبي سُفيان الذي جمع الأحابيش وجيّش الجيوش لغزو المدينة في حرب عُرفت باسم حرب الأحزاب ).
• ثمّ بيّنت العقيلة أنّ الشِّعر الذي هتف به يزيد وهو ينكث بعصاه ثنايا السبط الشهيد أبي عبدالله الحسين عليه السّلام، وهو قوله:

لَعِبت هـاشـمُ بالمُـلكِ فـلاخبـرٌ جـاء ولا وَحْـيٌ نَزَلْ!لَيـت أشيـاخي ببـدرٍ شَهِدواجَزَع الخزرج من وَقـع الأسَلْلأهلّـوا واستـهـلّـوا فَـرَحاًولقـالوا: يـا يزيـدُ لا تُشَـلّفَـجَـزَينـاهـم ببـدرٍ مَثَـلاًوعَـدَلْنـا مَيْل بـدرٍ فـاعتدلْلستُ من خِندِفَ إن لـم أنتـقممِن بني أحمدَ ما كان فَعَل

إنّما هو النتيجة الطبيعيّة للكُفر وبُغض أهل البيت، ونرى أنّ أغلب علماء المسلمين كفّروا يزيد بأبياته التي أظهرت مكنون صدره الذي تبدّى يوم عاشوراء، من خلال شماتته بقتل ريحانة رسول الله صلّى الله عليه وآله ومعه أهل بيته، وسبي عيالات رسول الله صلّى الله عليه وآله، وإنكاره صراحةً وحيَ السماء، وتسميته نبوّة خاتم الأنبياء صلّى الله عليه وآله بأنّها مُلك لعبت به بنو هاشم!
• ثمّ أشارت عقيلة الهاشميّين في خطبتها إلى انحراف يزيد عن أحكام الله عزّوجلّ، وبغيه وظُلمه وابتعاده عن جادّة العدل والانصاف، في قولها:
أمِن العدل ـ يا ابنَ الطُّلقاء ـ تخديرُك حرائرك وإماءَك، وسَوقُك بناتِ رسول الله صلّى الله عليه وآله سبايا قد هَتكتَ ستورَهنّ...
• وعَزَت عليها السّلام فِعل يزيد إلى كُفره وطغيانه، فقالت:... عُتوّاً منكَ على الله، وجُحوداً لرسولِ الله، ودَفعاً لِما جاء به من عِند الله.
• ثمّ قارنَتْ بنت الرسالة عليها السّلام بين المقتول الطهر الطاهر، وبين القاتل الفاجر الكافر، في تعجّب يستنهض الهمم الخامدة، ويُشعل نار الغضب في صدور المسلمين الموتورين بإمامهم:
فالعَجَبُ كلُّ العَجَبِ لقتلِ الأتقياءِ وأسباطِ الأنبياء وسَليل الأوصياء، بأيدي الطُّلقاء الخبيثةِ، ونسلِ العَهَرة الفَجَرة!
• ثمّ أنهت خطبتها بالتحدّي لهذا الطاغية المغرور، مستمدّة قوّةً من القوّي الذي لا يُغلَب، ومؤمّلة وَعدَ من لا يُخلف وعدَه، فخاطبت يزيد:
كِد كَيدَك واجهَدْ جُهدك! فواللهِ الذي شَرّفنا بالوحي والكتابِ والنبوّةِ والانتجاب، لا تُدرِكُ أمَدَنا، ولا تَبلُغ غايتَنا، ولا تمحو ذِكرَنا، ولا يُرحِضُ عنك عارَنا. وهل رأيُك إلاّ فَنَد، وأيّامُك إلاّ عَدَد، وجَمْعُك إلاّ بَدَد، يوم يُنادي المنادي: ألا لُعِن الظالمُ العادي !
















عرض البوم صور أصغر ملك   رد مع اقتباس
قديم 23-11-2012, 03:29 AM   المشاركة رقم: 9
معلومات العضو
أصغر ملك

إحصائية العضو







 
 


التوقيت

التواجد والإتصالات
أصغر ملك غير متواجد حالياً

كاتب الموضوع : أصغر ملك المنتدى : منتدى السيدة زينب (سلام الله عليها)
افتراضي

من كرامات عقيلة الهاشميين السيّدة زينب عليها السّلام

مزار العقيلة زينب عليها السّلام في الشام من البقاع التي يُستجاب فيها الدعاء ويُغاث فيها الملهوف، ويشفى فيها المرضى، وتُقضى فيها الحاجات، فصاحبة المزار سيّدة جليلة من سلالة النبوّة ومن كرائم أهل البيت الذين أذهب الله تعالى عنهم الرجسَ وطهرّهم تطهيراً.
وإذا ما حفّت الرحمة بمثوى هذه السيّدة الجليلة، وكان ضريحها الطاهر مَطافاً للملائكة، فقد سبق لها أن عاشت في بيوتٍ أذِن اللهُ أن تُرفع ويُذكر فيها اسمُه، يُسبحّ له فيها بالغدوّ والآصال رجالٌ لا تُلهيهم تجارةٌ ولا بيع عن ذِكر الله وإقام الصلاة، وفي بيوتِ ألِفَ أهلُها تردّد الملائكة وسمعوا هَينَمتهم.
فلا غزو إذاً إن قَصَد هذا المزارَ المبارك ذو معضلة وتوسّل إلى الله عزّوجلّ بحقّ نبيّه وأهل بيته صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين، ففرّج الله عنه وكشف ما به من ضُرّ.
ولا يرتاب المؤمن أنّ الكرامات من جُمل المواهب الإلهيّة التي يمنّ بها الله تبارك وتعالى على عباده المخلَصين المطيعين، الذين بلغوا الذروة في الطاعة واليقين؛ ومَن أولى بهذا اللطف وبهذه المواهب من خاتمِ المرسلين حبيبِ الله وصفوتهِ من خلقه محمّدٍ صلّى الله عليه وآله.. ومعه أهلُ بيته الأطهار الذين صرّح صلوات الله عليه وآله بأنّهم معه في درجته يوم القيامة.
ومن هؤلاء العباد المطهّرين المخلَصين: عقيلة الهاشميين السيّدة زينب بنت أمير المؤمنين سلام الله عليها؛ فقد ورثت أمَّها سيّدة نساء العالمين فاطمة الزهراء عليها السّلام في التقوى والفضيلة، وترعرعت في بيت أمير المؤمنين عليه السّلام وسيّد الموحّدين، أوّلِ الخلق إسلاماً بعد رسول الله صلّى الله عليه وآله، وكَبُرت مع سِبطَي نبيّ الهُدى: الحسنِ المجتبى والحسينِ الشهيد بكربلاء سلام الله عليهما، فاشتهرت ـ بعد أمّها ـ بأنّها سيّدةُ بني هاشم في العبادة والطاعة والتقوى، ولُقّبت لكمالها وعلمها وحِلمها ووفور عقلها بـ « عقيلة بني هاشم ».
وروي أنّها لم تترك تلاوةَ القرآن ونافلة الليل حتّى ليلة الحادي عشر من المحرّم سنة 61 هـ، على الرغم من أنّها عايَنَت إخوتها وابنَيها وأهل بيتها مُجزَّرين على رمضاء كربلاء كالأضاحي تَصهرهم الشمس وتسفي عليهم رمالُ الصحراء.
فكانت هذه المرأة الجليلة في إيمانها وتسليمها وعبادتها مدعاةً لمباهاة النساء المؤمنات، وفخراً تفتخر به العابدات الصالحات الموقنات.. ومَبعثاً لدهشة الرجال من أولي الصبر والرضى.
وكان من الطبيعيّ لمثل هذه السيرة العطرة والعبوديّة المخلصة، أن تستمطر شآبيب الرحمة الإلهيّة، فتنهمر وتتدفّق لترفع منزلةَ هذه السيّدة إلى أعلى عِلّيّين، وتجعل مزارَها مناراً في بلدٍ أرادت فيه عُصبة أُمويّة أن تُطفئ نور الله جاهدةً، فأبى الله إلاّ أن يُتمّ نورَه ولو كره المشركون.
وهكذا تحوّل مزار السيّدة التي ساقها الظَلَمة أسيرةً منكوبة محزونة، إلى محلّ قدسٍ تتلألأ منه أنوار القُدس، وتُشَدّ إليه رحالُ الزوّار والوافدين، وتتشرّف بلثم أعتابه وفودُ محبّي أهل البيت من أقاصي البلاد.

فيض الكرامات
ـ السيّدة تشفي صبيّاً باكستانيّاً مُقعَداً:

نشرت جريدة « الزمان » الصادرة في دمشق مقالةً بمناسبة وصول ضريح فضّيّ من مدينة كراجي الباكستانيّة، أهداه أحد وجهاء كراجي ـ واسمه الحاج محمّد علي حبيب ـ ليكون ضريحاً لعقيلة الهاشميّين السيّدة زينب عليها السّلام بدل الضريح السابق، ونقلت عن مُهدي الضريح الجديد قوله:
تزوّجت قبل مدّة، وكان الثمرة الوحيدة لزواجي طفلاً جميلاً مَنّ الله تعالى عليَّ به، وقد شَبّ هذا الطفل وترعرع، وكنت وزوجتي نُحيطه برعايتنا، ونُغدِق عليه ألوانَ المحبّة، وكان يَحظى بحبِّ ورعاية جميع أفراد العائلة.
ثمّ شاء التقديرُ الإلهيّ لهذا الطفل أن ينشب المرضُ فيه أظفارَه، فلزم الفراش بُرهة من الزمن ثمّ تحسنّت حاله تدريجاً لكنّه ظلّ يلازم الفراش لا يبرح، وبعد ذلك اكتشفنا ـ ويا لَلْهَول ـ أن الطفل الجميل قد أُصيب بالشلل في ساقَيه، فغدا مُقعَداً لا يقوى على النهوض على قدميه!
وهالَتني الصَّدمة، لكنّني لم أيأس، وسُرعانَ ما صَحِبتُه إلى أبرع أطبّاء الهند والباكستان، فاتّفقَتْ كلمتُهم على أنّ الأمر خارج من أيديهم، وأنّ علاج مثل هذه الحالات يعجز عنه الطبّ، فلا فائدة في استمرار المعالجة.
أمّا عاطفة الأب والأم فهيهات لها أن تستسلم لنصيحة طبيب أو لقول مختص حاذق! وسُرعانَ ما شَدَدتُ الرحال إلى أوروبا، فقد قيل إنّ فيها إمكانات لا تتوفّر في بلادنا.
في أوروبا


حملتُ طفلي الوحيد ودُرتُ به على أمهَر أطباء أوروبا، فأخضعوه لأدقِّ الفحوصات، وبَقِيتُ أتأرجح بين اليأس والأمل مدّةَ عامين كاملين لم يهدأ لي فيهما قرار، ولم يَطِب لي فيهما نوم! كيف وأنا أرى هذا البناء الذي كنت آمل أن يكون امتداداً لحياتي وهو يتهاوى، وأرى العينين البريئتين الواسعتين تنضحان ألماً وعذاباً مع كلّ حركة وسكنة.
وتصرّم العامان دون أن أُلقي بالاً إلى تكاليف علاج، أو التفتَ إلى تمشية أموري التجاريّة، ثمّ أعلن الأطباء ـ بعد لأيٍ ـ إفلاسَهم وعجزهم، فلم أجد بُدّاً من أن أحمل الطفل المُقعد وأعود به إلى كراجي وفوق كتفيّ جبالٌ من ضَنىً وعذابٍ وألم لا يعلمها إلاّ الله تعالى.
اللجوء إلى أعتاب السيّدة ثمّ اتّفق لي أن سافرتُ إلى أوروبا مُجدّداً للتجارة، فعرّجت في عودتي على مدينة دمشق، وأومَضَ في خاطري فجأة خاطر: سأزور قبرَ السيّدة زينب عليها السّلام! وبسرعة توجّهت إلى الزيارة، ولَفَّ وجودي خشوع عجيب وأنا أُتَمتم بكلماتِ الزيارة، وأفتح أبوابَ القلب المُضنى على مِصراعَيها لكريمةِ أهلِ البيت عليهم السّلام. هؤلاء قومٌ ضَرَبت جذورُهم في النُّبل والكرم؛ قومٌ إذا ذُكر الخير كانوا أوَّلَه وآخره وغايته ومُنتهاه، قومٌ شأنُهم الرِّفقُ والحِلمُ والكرم.
أذلَلتُ دموعي على أعتابِ السيّدة الكريمة، وأرخَيتُ العِنانَ لعَبراتي كي تنهمر سخيّة وأنا أتمثّلُ وقوفَ العقيلة عليها السّلام ضارعةً أمام بَدَنٍ زكي مسلوب العمامة والرّداء، محزوزِ الرأس من القَفا.
هيهاتَ لأحدٍ غير هؤلاء القوم أن يَضع على جُرحي النازف بَلسماً، وأنّى لسواهم أن يجد لعظمي الكسير مَرهماً!
تكلّمتُ مع السيّدة وبَثَثتُها همّي وحزني دون أن أنطق بكلمة، فقد تَرجَمَت الدموعُ الحرّى مقالتي، وتكفّلتْ آهاتي وزفراتي ببيان بُغيتي.
لم أدرِ كيف تَصرَّم الليل وأنا أتوسّلُ إلى الله تعالى وأُقسِم عليه بحُرمةِ صاحبة هذا القبر النورانيّ المحفوف بالملائكة أن يكشف عنّي ما قد تكّأدَني ثِقلُه وأبهَضَني حَمْلُه.
البشارة


أعادني إلى نفسي أذانُ الفجر، واستمعتُ لصوت المؤذّن وهو يشهد في دمشق بالنبوّةِ لخيرِ خلق الله، وبالولاية لوصيّهِ خيرِ البريّة بعد رسول الله، وعُدت إلى كراجي وفي قلبي نورٌ خَلَّفتْه زيارةُ كريمة أمير المؤمنين عليه السّلام، وفي صدري براعمُ آمالٍ زَرَعتها يداها الطاهرتان.
وتطلّعت من بعيد في وجوه المستقبِلِين.. الواحد تلو الآخر، كانت وجوههم تضجّ بالبُشرى... ولم أجد طفلي بينهم، وسرعان ما داهمتني البشارة السارّة: لقد نهض الطفلُ العليل الكسيح في نفس الليلة التي بِتُّ فيها عند ضريح كريمةِ أهل البيت عليها السّلام، وصرخَ ينادي أمَّه، ثمّ قال للممرّضات اللاتي هُرِعنَ نحوه بأنّه يريد أن يسير، فهناك قوّة دَبّت في عظامه الكسيحة، أحسّ معها أنّ حمل هذا البدن الصغير لم يَعُد عسيراً. وهكذا خَطا الطفل خطواتٍ وخطوات... ثمّ أُخبِرت الأمّ، فجاءت على جناحِ السرعة لترى المعجزة!
ويومها صَمّمتُ ـ والكلامُ للحاج محمّد علي حبيب ـ على إهداء هذا الضريح الفضّي عِرفاناً منّي للجميل الذي غَمَرتني به عقيلةُ الهاشميّين عليها السّلام، وأرجو أن تحظى هذه الهديّةُ اليسيرة بالقبول، وقد عمل في صُنع هذا الضريح عدد من أصحاب المهارة الحذق والفنّ .
السيّدة العقيلة عليها السّلام تُشفي امرأة لبنانيّة مُقعدة
تناقلت الجرائد والمجلاّت الصادرة في لبنان كرامةً للسيّدة عقيلة بني هاشم عليها السّلام، شُفيت على أثرها امرأةٌ لبنانيّة مُقعدة تدعى ( فوزية بنت سليم زيدان )، من أهالي قرية « جوَيّا » التابعة لمدينة صُور، وكانت هذه المرأة قد أُصيبت بروماتيز مُزمن مدة 13 سنة ألزمها الفراش، وكان الأطباء قد أعلنوا يأسهم من علاجها.
في أحد أيّام محرّم الحرام.. قالت المرأة المقعدة لأخيها: خُذني إلى قبر مولاتي زينب عليها السّلام في الشام!
فاعتذر أخوها منها بأعذارٍ شتّى، وكان حَملُها أمراً غير يسير بطبيعة الحال.
قالت المرأة في محاولة لإثارة حميّة أخيها الهامدة: سأستأجر امرأتين تحملاني إلى سيّدتي!
ردّ الأخ ـ محاولاً صرفَ أخته العليلة عن عزمها ـ بمنطقه المشكّك: لو شاءت السيّدة أن تشفيك فلا فرق في الأمر أن تكوني هنا في بيتك أو في حرمها في الشام!
ما الذي بإمكان امرأة كسيحة وحيدة أن تفعله في مقابل من لا يَعي لغة القلب ؟!
وإذا كان بإمكان هذه الروماتيز أن تأسر الأرجل وتقيّد البدن، فإنّها ـ لا ريب ـ عاجزة أن تقيّد القلب النابض لينطلق فيطوي المسافات ويختزل الحُجب...
عادت المرأة تتوسّل: فلتحملوني إلى باب الدار لأتفرّج على مراسم العزاء في المسجد المقابل!
ألقَت العينانِ الكئيبتانِ نظراتٍ تحملُ الكثير من المعاني على الجمهور المتوافد على المسجد.. وأحسّت من أعماق قلبها المُضنى أنّها تُشاطر أصحابَ العزاء عزاءهم، وذَرَفت الدموعَ السِّخان لمصابِ قتيلِ الطفِّ المظلوم: سيّدِ الشهداء الحسين عليه السّلام، وعَزَّت جدَّه المصطفى صلّى الله عليه وآله وأباه المرتضى وأمَّه الزهراء وأخاه المجتبى وأختَه العقيلة عليهم السّلام في مصابهم بخامسِ أهلِ الكساء الشهيد المُرمَّل بالدماء... ونادت تندب سيّدتها العقيلة عليها السّلام: يا مولاتي، يا أختَ الحسين، يا مظلومةَ كربلاء!
حين يبكي القلب يتوقّف الزمن، وتندهش الملائكة... فقد طرقت أسماعها لُغةُ الإخلاص... لغةٌ تتجاوز الحدود والشكليّات...
طلبت الأم من فوزية الكسيحة أن تدخل البيت، فقد حلّ الظلام... لكنّ فوزية استأذنت أمَّها أن تسمح لها بالبقاء ريثما تنتهي مراسم العزاء...
كانت المرأة العليلة تشاطر سيّدتها العقيلة عزاءها بأخيها المذبوح عطشاناً على شاطئ الفرات. ترى.. كيف ينصرف أصحاب العزاء، والمعزُّون لم يبرحوا بعد ؟!
حلّ الفجر... وانتصبت فجأة سيّدةٌ جليلة عليها سيماء الوَقار، تلفّها نورانيّةٌ عجيبة... تقدّمت السيّدة نحو فوزيّة المسجّاة ونادتها برفق: انهضي على قَدَمَيك! أنا زينبُ ابنةُ أمير المؤمنين عليّ!
ثمّ أردفت السيّدة ـ وهي تضع يديها تحت كتفَي المريضة الكسيحة: قولي لأخيك: إنّ ما نفعله مرهونٌ بإذنِ الله تبارك وتعالى!
تقول فوزيّة التي عُوفِيت على يد السيّدة العقيلة عليها السّلام:
أحسست فجأة أنّ قوّةً لم أعهدها مِن قَبلُ قد تغلغلت في ساقَيّ الكسيحتين، فنهضتُ وصرختُ: أُمّاه! هلمّي لاستقبال مولاتِنا زينب!
وهُرعت أمّي وهي تمسح عن عينيها بقايا النوم، لكنّ السيّدة الجليلة كانت قد اختفت عن ناظري.
ورافقتني أمّي في تلك الساعة إلى بيت أخي حسن، وطَرَقنا البابَ لنُبلِغه النبأَ السعيد، فاستبق أخي وزوجته ( كريمة السيّد نور الدين ) أيُّهما يفتح الباب، ومَسحَ أخي عينيه غير مرّة وهو يُحدِّقُ في دهشة، وتلقّى نبأ شفائي على يدِ كريمةِ أهل البيت السيّدة زينب عليها السّلام.
هذا، وقد تقاطَر أهلُ القرية على بيتِ هذه المرأة التي شُفيت بكرامة السيّدة العقيلة عليها السّلام، وقَدِم لزيارتها أطباؤها الذين تولَّوا علاجَها طوال سنواتِ مرضها، وعاينوا الكرامة التي تحقّقت على يدَي كريمة أهل البيت عليهم السّلام .















عرض البوم صور أصغر ملك   رد مع اقتباس
قديم 23-11-2012, 03:31 AM   المشاركة رقم: 10
معلومات العضو
أصغر ملك

إحصائية العضو







 
 


التوقيت

التواجد والإتصالات
أصغر ملك غير متواجد حالياً

كاتب الموضوع : أصغر ملك المنتدى : منتدى السيدة زينب (سلام الله عليها)
افتراضي

كيف نتحدّث إلى زينب عليها السّلام في زيارتها


كلمتان للأستاذ الدكتور أسعد علي

[1]
بسم الله الرحمن الرحيم
وصلِّ اللهم على محمد حبيبك المصطفى وآله الأطهار كما صليت وسلمت وباركت على خليلك المجتبى إبراهيم وآله الأطهار. والسلام عليكم وكل عام وأنتم بخير أيها الأخوات والإخوة الأحرار... كل عام وأنتم بألف ألف خير.
كيف تجمعون كلمة ( سلام ) ؟ هل تقولون ( سلامات ) ؟ إن ( سلامات ) جمع لكلمةٍ ( سلامة )، وهكذا يصير ( السلام ) متضمناً ( السلامة ) بكل ما تعنيه جسدياً واجتماعياً ومصيرياً.
يبدو أنني اخترت هذه الكلمة في رباعية تقول:



بالوحي الحيِّ علا الشانُذكـرٌ ثَبَّتـهُ الرحمـانُسلامـاتِ محمدَ زُرنـاوالـرادودُ بنـا لقمـانُ

لماذا يكون لقمان هو الرادود ؟ إن لقمان هو أبو المعمَّرين على سطح المعمورة وعاش عمر سبعة أنسُر، ثلاثة آلاف وخمسمائة سنة. وكما نقول ( إبراهيم أبو الأنبياء ) و ( آدم أبو البشرية ) نقول ( لقمان أبو الحكماء وأبو المعمَّرين ). وقد أحَبّ اليوم أن يتشرف بزيارة السيّدة زينب عليها السّلام والمشاركة في مولدها الجديد في هذه الحضرة الزينبية المقدسة.
لا يوجد في الشريعة حكم إلاّ وهناك استدلال عليه، ولا فرع إلا وهو مستخرج من أصل. وقد حضر لقمان اليوم لأن سورة لقمان رقمها 31 وفق ترتيب الجمع، وهذا الرقم هو السبب في فتح النافذة بيني وبين لقمان، وجئنا لتحيّتكم في مولد السيّدة زينب.
قد تتساءلون: ( ما علاقة الواحد والثلاثون اللقمانية بالسيّدة زينب ) ؟ والجواب: أنكم تزورون السيّدة زينب وتقرؤون الزيارة، فهل خطر لأحدكم أن يتأمل في مفاصل الزيارة واللازمة الموسيقية التي تتكرر بعد كل مقطع ؟ هل خطر لأحدكم أن كلمة ( السلام ) مكررة في الزيارة 31 مرة ولذلك جاء في الرباعية ( بسلاماتِ محمدَ زرنا والرادودُ بنا لقمانُ ). إن هذا الرادود غريب وعجيب، فهو يعلّمنا الحكمة عن طريق الشكر كما سمعتم اليوم من هذه الشلالات الهادرة بالبلاغة والفصاحة، وهذا نوع من الشكر تعبر عنه هذه ( الشلاّلية ) والحماسية. إذن الشكر يعبر عن الحكمة من جهة. ومن جهة أخرى فإنك مهما تحدّثت عن الفضل وعن ذي الفضل العظيم ولو أنّما في الأرض من شجرة إقلام والبحر يمدّه من بعده سبعةُ أبحر ما نفدت كلماتُ الله ، وهذا كلام لقمان سجّله الله له. ويقولون أن سبب عيش لقمان هذا العمر الطويل أنه كان قد اكتشف هذا السر.
اليوم وعلى غير المقاييس المعتادة أخَذَتني أوجادٌ مع السيّدة العظيمة العزيزة في هذا الميلاد العزيز وخطر لي أن أكتب شيئاً طالما حَضَرَت الحال. لكنني أريد اليوم أن أقف على خط الاستواء، وأين يقع هذا الخط في زيارة السيّدة زينب ؟.. أريدكم أن تفكروا مع السيّدة زينب في هذا اليوم، فقد جرى على لسان الشيخ محمد حبش كلام عجيب غريب فهمت منه أن هذه السيّدةٍ تفكّر، فقيادة الأحوال الاجتماعية في ظروف كظروف السيّدة زينب استدعى مخّاً كمخّ السيّدة زينب ندر أن حمل الأرض مثل في الإدارة الإعلامية والتنظيم الكلامي. وهناك سيدة إيطالية تدعي ( لاورا ) كتبت رسالة دكتوراه حول السيّدة زينب وفيها تقطع قطعاً أنه ( ما عرفت الأرضُ امرأةً مثل السيّدة زينب المقدسة )، وأعطيت العلامة التامة في إيطاليا وهي ( 110 ).
لنحاول أن نعلي من طريقة تنظيم السيّدة زينب بالكلمات والإشارات. وإذا أردنا أن نقف عند خط الاستواء من زيارتها فيجب أن نقف عند ( السلام السادس عشر ). ماذا يقول هذا السلام ؟ إنه يقول: ( السلام عليكِ يا من أرهَبَتِ الطغاة في صلابتها، وأدهشت العقول برباطة جأشها، ومثّلت أباها علياً في شجاعتها، وأشبهت أمّها الزهراء في عظمتها وبلاغتها ). السلام السادس عشر كعبة مرّبعة. وعلينا أن نلبي حول هذه الكعبة. ولكن كيف تكون التلبية ؟ وُلدت السيّدة زينب في الخامس من الشهر الخامس ( 5 / 5 ). وقد اجتمعت مؤخراً في بيروت 55 دولة تمثل الدول الفرنكوفونية أي التي تتحدث الفرنسية. ولو أردنا أن نزور السيّدة زينب باللغة الفرنسية لصار لزاماً علينا أن نقول ( لابّيه ) إحدى وثلاثين مرة وهنا يتبادر إلى الذهن ( لبيك اللهمّ لبيك ). إذن في كل مرة تردد ( السلام عليكِ يا زينب ) فإننا نلبي لرب زينب ورب أهل بيت زينب الذي أطعم هذا الخلق من جوع وآمنهم من خوف. وقد احتفل معنا في هذا اليوم أبو المعمرين في العالم إضافة إلى جميع اللغات التي يكون السلام عندها تلبية.
أعود إلى الرباعية. وهي كلام السيّدة زينب لكنها بحُلّة جديدة بناء على رأي أبيها أمير الكلام وحكيم الإسلام الذي يقول ( الأدب حُلَل مُجَدَّدة )...
بالوحي الحيّ ( فوالله لا تُميتُ وَحْيَنا ). علا الشان ( لا نُدرك أمَدَنا )... ذكرٌ ثبّته الرحمان ( ولا تمحو ذِكرَنا ).. بسلاماتِ محمدَ زُرنا.. والرادودُ بنا لقمانُ.
وأنا بكل لغات الأنام أقول: عليكم من زينب وآل بيت زينب سلام، بل سلامات.

* * *
[2]
بسم الله الرحمن الرحيم
بسم الله الذي لا يضر مع اسمه شيء، وصلِّ اللهم على حبيبك المصطفى أبي القاسم محمد وآل محمد كما صليت وسلمت على خليلك المجتبى إبراهيم وآل إبراهيم في العالمين إنك حميد مجيد. والسلام عليكم وعليكنّ ورحمة الله تعالى وبركاته، وكل عام وكل خاص وكل ثانية من ثواني صاحب الزمان وأنتم بألف ألف بخير...
لقد امتلأتُ بأرواح الكلم الطيّب الذي ألهمَه المتكلمون والمحبّون والمحتفون، ولكن تخطر لي أحياناً أرقام أحبّ أن أجعل قلبها مقرّاً لما ينبغي أن يبقى راسخاً. البارحة كان اليوم الأوّل من ولادة السيّدة زينب. وبين البارحة واليوم كبرت زينب وأصبحت في اليوم الثاني من عمرها بحساب هذا المولد الجديد. وقد كنت أفكر في معنى كلمة ( ذِبْح ) في قوله تعالى وفديناه بذِبْحٍ عظيم هو فداء لإسماعيل بن إبراهيم من هاجر وقد يكون من أجل كل الذريّة التي جاءت من إسماعيل. وقد فكرت وفق منهج النظرية النسبية التي تعني أننا نستخرج طاقة ما من كتلة بضرب هذه الكتلة مربع سرعة الضوء، أي أن نقدّم ذِبحاً ما لنستخرج أمةً ما. ونحن اليوم في مولد زينب بنت إسماعيل وبنت هاجر. وهذا قد يكون هذا شطحاً. ولكن كي أتحرّر من الشطح سأقول لكم رباعية اليوم. ونصطلح على هذه الكلمات التي ليست كثيرة وهي كل الكلام الذي أريد أن أقوله اليوم.



تتزيّى بهاجـر مَن تُحيّىزمزمت زينب السلام بُكِيّا

( بُكِيّا ) كلمة تصف زكريا ويحيى وإبراهيم وغيرهم من الأنبياء المذكورين قبل هذه الآية، والذين إذا تليت عليهم آيات القرآن خرّوا سجّداً وبُكيّاً. وقد كان للسيّدة زينب مجلس قرآني في الكوفة تجتمع عندها السيّدات فتشرح لهن سور القرآن. وقد ناقشها والدها أبو الحسن ذات مرة حول سورة مريم وكيف أنها سورة آل البيت. وفي هذه السورة نجد أن ( بُكيّا ) فيهم مَن قُطعت عنقه وسُلّم رأسه إلى سالومي البغيّ الراقصة، وفيهم من خرج من الأرض بلا موت. وهذان الرمزان ـ يحيى وإدريس ـ هما رمزان لوضع آل البيت. إذ يمكن أن تُحزّ أعناقهم في الأرض ولكنهم يرتفعون إلى الجنّة بلا موت.

كيف يبني محمد وعليٌّرحمةَ العالمين يا زكريا

لقد بكت هاجر قليلاً فتفجّر قلب الصحراء مشاركة، وكان زمرم إلى اليوم يسقي الناس. وكذلك بكت زينب ليتفجر زمزم المعرفة.. وزمزم الوعي.. وزمزم « ذِكرُ رحمةِ ربك عبدَه زكريّا ».. زمزم الذين يَخِرّون مع آيات الله سجّداً وبكيّا.. لذلك قلت زينب بنت إبراهيم.. وبنت هاجر.. وأخت إسماعيل. ارجعوا إلى قراءات السيّدة زينب لسورة مريم لتشاهدوا كيف زمزمت الآيات وجعلت من وعيها زمزماً حياً جارياً ومعرفة دائمة.
كيف يبني محمّد وعلي رحمة العالمين يا زكريا ؟ ذكر رحمة ربك عبده زكريا لقد ذكر الله تعالى زكريا بأمر سيجري؛ لأن زكريا كان يريد أن يلتقي بيحيى وأن يعرف لماذا كان يكتئب عندما يذكر الحسين. وهذا الذي بعث فيما بعد رحمة للعالمين رآه زكريا ورأى أسرته وآل بيته والحسين وكربلاء وزينب. لذلك فإن زكريا زكريانا ويحيى يحيانا ورأس يحيى عزيز علينا كرأس الحسين وكلاهما تاج التيجان.
إذا أردتم إكمال الدرس فاذهبوا إلى المقام واقرؤوا الزيارة، وعند السلام العشرين قفوا فهناك مغارة.. هناك زمزم لا يحسب وهو السلام مرتين على زين العابدين، لأنّه يبقى مختبئاً في حضن زينب وحضن البقاء، وإذا حسبناه فسيصبح لدينا 22 سلاماً أي الإخلاص وإذا حسبنا السلامين مع ما بقي من السلامات فسيصبح لدينا 13 سلاماً وهو مولد الأب الإمام علي بن أبي طالب في 13 رجب. أما العشرون السابقة فهي مولد الأم فاطمة الزهراء في 20 جمادى الأخرة والمجموع 33 وهذه الآية في سورة مريم تقول بلسان عيسى والسلام علَيَّ يوم وُلدتُ ويوم أموت ويوم أُبعثُ حَيّا .
إنني أدعو إلى قراءة كلام السيّدة زينب بكل معطيات العصر الجديد. وقراءة زيارتها وفق السلامات الموجودة وبطريقتنا التي بينّاها، وتأملوا أسرار هذا السلام لأن الإسلام هو السلام في أي مكان زرنا به أحداً من آل البيت، وليس إرهاباً كما أوصله إليه المسلمون الذين لمّا يدخل الإيمان في قلوبهم. وكل اللغات تؤكد هذا السلام. ويومياً نستعمل السلام لتحية الآخرين وتحية الملكَين بعد الصلاة، وأخيراً ننتظر الدخول في دار السلام وهي المستوى الثامن من فراديس الله.
السلام عليكم بكل ما في زيارة السيّدة زينب من معانٍ، والسلام عليكم بكل ما في حنان السيّدة زينب العنيف وعنفها الحنون في كل كلامها.
على الإعلام أن يتعلم من السيّدة زينب، فهذه السيّدة زينب وحيدة في دمشق وليس معها جيش بل مجموعة من السبايا وتتكلم مع من بيده الحل والربط وتقول له: ( ليس لك ذلك إلا أن تخرج من ديننا ) بعد أن طلب الشامي من يزيد أن يهبه إحدى السبايا. وعندما عرف الشامي أنهم أهل البيت استنكر ذلك، فما كان من يزيد إلا أن قتله فمات في سبيل حب أهل البيت. وهنا استطاعت السيّدة زينب أن تحوّل هذا الرجل وتدفعه إلى ان يستميت في سبيل شرف هذه الأسرة. وعندما تقول ليزيد ( فما فَرَيتَ إلاّ لحمك ) فهي تستفز به نخوة الإنسان جرياً على منهج أخيها الحسين عندما قال: ( يا شيعة آل أبي سفيان، إذا لم تكونوا تريدون الآخرة فكونوا أحراراً في دنياكم ).
الآن يقدّمون صورة العراقيين في الإعلام على أنهم لصوص. بينما كتابي ( أضواء القرآن ) أخرجه رجل عراقي في باريس، ونحن نتحدث اليوم وتَحدَّثنا البارحة في مهرجان ثاني عشر أقامه رجل عراقي من ( الشاميّة ) وهو الدكتور عصام عباس.
وقد أثارت جلسة الأمس دهشة الشيخ الدكتور محمد حبش فسألني: ( هل نحن في الأمم المتحدة ؟! لقد سمعت في هذا المهرجان أن القاهرة هي بنت السلمية وأن إخوتنا الموجدين هم أبناء فاطمة )! فقلت له ضاحكاً: ( أنتم لا تقرؤون إلا فقهاً وشريعة ) وطبعاً الشيخ حبش علاّمة ولكنه كان مندهشاً ولاحظتم اندهاشه في كلامه الذي كان كشلال الخصب.
في سورة مريم نقرأ: قال ربِّ اجعلْ لي آيةً قال آيتك ألاّ تكلم الناسَ ثلاثَ ليال سويّا وهنا أريد أن أشدد على أمور ثلاثة:
الأمر الأول: أن نقرأ كلمات السيّدة زينب في العراق والشام بلغة الإسلام الذي هو رحمة للعالمين. والأمر الثاني: أن نقرأ زيارتها ونتعلم كيف نتحدث إلى السيّدة زينب عندما ندخل إلى مقامها. أما الأمر الثالث: فأن تقع عيونكم على القرآن الكريم الذي تعمل من أجله كل العيون وتضيء وتُضاء. وهذا الكتاب النور هو الحبور.. وهو البقاء.. وهو النشور.. وهو كل شيء بالنسبة للذين يريدون أن يكونوا أهل الجنة.
أسأل الله لكم ما سألته زينب لأحباب الله. ونعرف أنه ( إن الله يحب أحدكم إذا عمل عملاً أن يتقنه ). وكل عام وأنتم بخير والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.

(عن مجلة النجمة المحمدية ص 47 ـ 52 / العدد الرابع)















عرض البوم صور أصغر ملك   رد مع اقتباس
إضافة رد


المواضيع المتشابهه
الموضوع كاتب الموضوع المنتدى مشاركات آخر مشاركة
يمه يايمه نعي حزين جدا للسيدة زينب عليها السلام عاشقة الوديعه احباب الحسين للمرئيات والصوتيات الاسلاميه 8 23-01-2012 05:13 PM
يمه يايمه نعي حزين جدا للسيدة زينب عليها السلام نقآء الروح احباب الحسين للمرئيات والصوتيات الاسلاميه 9 18-01-2012 04:13 PM
صفحه مخصصه للسيدة زينب سلام عليها الا تستحق هي ايضا دلك شيعيه وافتخر منتدى أهل البيت (عليهم السلام) 2 07-02-2010 04:18 AM
.• من ذكريآت الطفولة للسيدة زينب عليها السلام ♥ิ.• عاشقة النور منتدى أهل البيت (عليهم السلام) 1 29-04-2009 09:38 PM


أدوات الموضوع
انواع عرض الموضوع

تعليمات المشاركة
لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
لا تستطيع الرد على المواضيع
لا تستطيع إرفاق ملفات
لا تستطيع تعديل مشاركاتك

BB code is متاحة
كود [IMG] متاحة
كود HTML معطلة

الانتقال السريع

Loading...

Powered by vBulletin® Copyright ©2000 - 2024, Jelsoft Enterprises Ltd. TranZ By Almuhajir
جميع الحقوق محفوظة لمنتديات احباب الحسين