العودة   منتديات احباب الحسين عليه السلام > القسم الاسلامي > منتدى السيدة زينب (سلام الله عليها)
منتدى السيدة زينب (سلام الله عليها) السيده - زينب - بنت امير المؤمنين - الصابره - المحتسبه - جبل الصبر - العقيله - عقيلة الهاشميين - عليها السلام


حياة زينب ع 2

منتدى السيدة زينب (سلام الله عليها)


إضافة رد
قديم 02-08-2015, 11:19 PM   المشاركة رقم: 1
معلومات العضو
الشيخ عباس محمد

إحصائية العضو







 
 


التوقيت

التواجد والإتصالات
الشيخ عباس محمد غير متواجد حالياً

المنتدى : منتدى السيدة زينب (سلام الله عليها)
افتراضي حياة زينب ع 2


الصفحة (109)

قائلاً : (( بمَنْ العزاء يا بنت محمّد ؟ كنتُ بكِ أتعزّى ، ففيم العزاء من بعدك ؟! )) .
وخفّ مسرعاً نحو البيت وهو يذرف أحرّ الدموع ، وألقى نظرة على جثمان حبيبة رسول الله () وهو يقول :
لكلّ اجتماعٍ من خليلينِ فرقةٌ وكلّ الذي دونَ الفراقِ قليلُ
وإنّ افتقادي فاطماً بعد أحمدٍ دليلٌ على أن لا يدومَ خليلُ

وكانت العقيلة زينب إلى جانبها اُمّها وهي تعجّ بالبكاء , قد ذاب قلبها ؛ فقد فقدت جميع آمالها ، وليس شيء أوجع على الطفل من فراق اُمّه .
وهرع الناس من كلّ صوب نحو بيت الإمام ، وقد ساد فيهم وجوم رهيب ، وعهد الإمام () إلى سلمان الفارسي أن يخبر الجماهير بأنّ مواراة جثمان بضعة الرسول قد اُجّل هذه العشية , فقفلوا إلى منازلهم .

وأقبلت عائشة وهي تريد الدخول إلى بيت الإمام () لتشاهد جثمان حبيبة رسول الله () , فحجبتها أسماء ومنعتها من الدخول قائلة : قد عهدت إليّ أن لا يدخل عليها أحد(1) .
ولمّا مضى شطر من الليل قام الإمام أمير المؤمنين () فغسّل الجسد الطاهر ، ومعه الحسنان () , وأسماء , وزينب وهي تنظر إلى جثمان اُمّها وقد نخب الحزن قلبها ، وتبكي عليها كأقسى وأمرّ ما يكون البكاء .

وبعد الفراغ من الغسل أدرجها في أكفانها ، ودعا بأطفالها الذين لم ينتهلوا من حنان اُمّهم ؛ ليلقوا عليها نظرة الوداع ، فألقوا بنفوسهم على جثمان اُمّهم وهم يوسعونها تقبيلاً , وقد مادت الأرض من كثرة صراخهم وبكائهم ، وبعد انتهائهم من الوداع عقد الإمام () عليها الرداء ، ولمّا حلّ
ـــــــــــــــــــــ
(1) مناقب ابن شهر آشوب 3 / 365 .
الصفحة (110)

الهزيع الأخير من الليل قام فصلّى على الجسد الطيب ، وعهد إلى مَنْ كان معه من خلّص صحابة رسول الله () أمثال سلمان الفارسي وبني هاشم فحملوا الجثمان المقدّس إلى مثواه الأخير ، وأودعها في قبرها ، وأهال عليها التراب ، وعفى موضع قبرها ؛ ليكون دليلاً حاسماً على غضبها ونقمتها على مَنْ غصب حقّها .

ووقف الإمام الثاكل الحزين على حافة القبر وهو يروي ثراه بدموع عينيه ، وقد طافت به موجات من الحزن والألم القاسي ، فأخذ يؤبّن زهراء الرسول بهذه الكلمات التي تحكي لوعته وأساه على هذا الرزء القاصم ، وقد وجّه خطابه إلى رسول الله () يعزّيه قائلاً : (( السلام عليك يا رسول الله عني وعن ابنتك النازلة في جوارك , السريعة اللحاق بك .

قلّ يا رسول الله عن صفيتك صبري ، ورقّ عنها تجلّدي ، إلاّ أنّ في التأسّي بعظيم فرقتك وفادح مصيبتك موضع تعزٍّ ؛ فلقد وسّدتك في ملحودة قبرك ، وفاضت بين نحري وصدري نفسك ، إنّا لله وإنّا إليه راجعون . لقد استرجعت الوديعة ، وأخذت الرهينة ؛ أمّا حزني فسرمد ، وأمّا ليلي فمسهّد إلى أن يختار الله لي دارك التي أنت بها مقيم ، وستنبئك ابنتك بتضافر اُمّتك على هضمها ، فأحفها السؤال ، واستخبرها الحال ، هذا ولم يطل العهد , ولم يخل منك الذكر ، والسلام عليكما سلام مودّعٍ لا قالٍ ولا سئم ؛ فإن أنصرف فلا عن ملالة ، وإن اُقم فلا عن سوء ظنٍ بما وعد الله الصابرين ))(1) .
وحكت هذه الكلمات الحزن العميق والألم الممض الذي في نفس الإمام () ؛ فقد أعلن شكواه إلى رسول الله () على ما مُنيت به حبيبته من الخطوب والنكبات ، ويطلب منه أن يلحّ في السؤال منها لتخبره بما جرى عليها من الظلم في الفترة القصيرة التي عاشتها بعده .
ـــــــــــــــــــــ
(1) نهج البلاغة ـ محمّد عبده 2 / 207 .
الصفحة (111)

كما أعلن الإمام عن أساه وشجاه على فقده لبضعة الرسول ، فهو في حزن دائم وليل مسهّد ، لا تنطفئ عنه نار اللوعة عليها حتّى يلتحق إلى جوار الله ، وإنّه إذ ينصرف عن قبرها المقدّس فليس ذلك عن سأم ولا عن ملالة وكراهية ، ولكن استجابة لتعاليم الإسلام الآمرة بالخلود إلى الصبر ، ولولا ذلك لأقام عنده ولا يريم عنه .
وعاد الإمام إلى داره بعد أن وارى جثمان سيّدة نساء العالمين في مثواها الأخير ، وقد نخب الحزن فؤاده ينظر إلى أطفاله وهم يبكون اُمّهم أمرّ البكاء ، وأشجاه خصوصاً العقيلة زينب فكادت تندب اُمّها بذوب روحها تبكي عليها صباحاً ومساءً قد خلدت إلى الأسى والحزن .
لقد قطعت عقيلة بني هاشم دور طفولتها الحزينة وقد طافت بها الآلام القاسية والرزايا الموجعة ؛ فقد فقدت جدّها رسول الله () الذي كان يفيض عليها بعطفه وحنانه ، ولم تمض بعد وفاته إلاّ أيام يسيرة حتّى فقدت اُمّها الرؤوم التي عاشت في هذه الدنيا وعمرها كعمر الزهور ، وفاجأها الموت وهي في شبابها الغضّ الأهاب ؛ فقد صُبّت عليها الكوارث والمصائب ، والتي كان من أقساها جحد القوم لحقّها , وإجماعهم على هضمها وهي ابنة نبيّهم الذي برّ بدينهم ودنياهم .
لقد وعت حفيدة الرسول () وهي في سنّها الباكر الأهداف الأساسية التي دعت القوم إلى هضم اُمّها وجحد حقوقها وإقصاء أبيها عن قيادة الاُمّة ، كلّ ذلك طمعاً بالحكم والظفر بالإمرة والسلطان .
وفاة أبي بكر

ولم يطل سلطان أبي بكر فقد ألمّت به الأمراض بعد مضي ما يزيد على سنتين من حكمه ، وقد قلّد صاحبه عمر شؤون الخلافة ، وقد لاقى معارضة شديدة من أعلام
الصفحة (112)

الصحابة , كان من بينهم طلحة ؛ فقد قال له : ماذا تقول لربّك وقد ولّيت علينا فظّاً غليظاً ، تفرق منه النفوس ، وتنفض منه القلوب ؟(1) .
وسكت أبو بكر , فاندفع طلحة يشجب عهده لعمر قائلاً : يا خليفة رسول الله ، إنّا كنّا لا نحتمل شراسته وأنت حيّ تأخذ على يده ، فكيف يكون حالنا معه وأنت ميّت وهو الخليفة ؟

وسارع أكثر المهاجرين والأنصار إلى أبي بكر وهم يعلنون رفضهم وسخطهم وكراهيتهم لخلافة عمر , قائلين : نراك استخلفت علينا عمراً وقد عرفته وعلمت بوائقه فينا وأنت بين أظهرنا ، فكيف إذا ولّيت عنّا ؟! وأنت لاق الله عزّ وجلّ فسائلك ، فما أنت قائل ؟
فأجابهم أبو بكر : لئن سألني الله لأقولنّ استخلفت عليهم خيرهم من نفسي(2) .
وكان الأجدر به أن يستجيب لعواطف أكثر المسلمين ورغباتهم إلاّ أنّه لم يحفل بهم ، وأقام صاحبه خليفة من بعده ، وتوفّي أبو بكر وانتهت بذلك خلافته القصيرة الأمد ، وقد حفلت بأحداث رهيبة كان من بينها معاملة العترة الطاهرة التي هي وديعة النبي () في اُمّته كأشخاص عاديّين ؛ فقد جرّد عنها هالة التقديس الذي أضفاه عليها النبي () ، كما فتحت الباب للحكومات التي تلت حكومة الخلفاء إلى ظلم آل البيت (عليهم السّلام) والإمعان في قتلهم تحت كلّ حجر ومدر .

ولعلّ أقسى ما جرى عليهم من الكوارث فاجعة كربلاء الخالدة في دنيا الأحزان ؛ فقد استشهد الإمام الحسين
ـــــــــــــــــــــ
(1) شرح نهج البلاغة 1 / 55 .
(2) شرح نهج البلاغة 6 / 343 ، دار إحياء الكتب العربية .
الصفحة (113)

ريحانة رسول الله () بصورة مروّعة , ومُثّل بجثمانه المقدّس بوحشية لم يعهد لها مثيل ، وسُبيت عائلته ومعها حفيدة الرسول وعقيلة بني هاشم من كربلاء إلى الشام .

كلّ هذه الرزايا كانت ناجمة عن إقصاء أهل البيت (عليهم السّلام) عن مركز القيادة العامة للمسلمين .
في عهد عمر

وتولّى عمر بعد وفاة أبي بكر شؤون الدولة الإسلاميّة ، وقد قبض على الحكم بيد من حديد ، وساس البلاد بعنفٍ حتّى تحامى لقاءه أكابر الصحابة ؛ فإنّ درّته ـ فيما يقول المؤرّخون ـ كانت أهيب من سيف الحجّاج ، حتّى إنّ ابن عباس مع قربه للنبي () , ومكانته العلميّة لم يستطع أن يجهر برأيه في حلّية المتعة إلاّ بعد وفاته , كما تحاماه أهله وعياله فلم يستطع أحد منهم أن يجهر برأيه أو يفرض إرادته عليه .
وعلى أيّ حال , فقد نهج عمر في سياسته منهجاً خاصاً لا يتّفق في كثير من بنودها مع سياسيّة أبي بكر ، خصوصاً في السياسة المالية ؛ فقد كان السائد في سياسة أبي بكر المساواة بين المسلمين إلاّ أنّ عمر عدل عنها ، وميّز بعض المسلمين على بعض ؛ ففضّل العرب على الموالي ، وقريشاً على سائر العرب ، وقد أدّى ذلك إلى إيجاد الطبقية بين المسلمين(1) .
اعتزال الإمام ()

واعتزل الإمام أمير المؤمنين () عن الحياة الاجتماعية والسياسيّة طيلة خلافة عمر كما اعتزل في أيام أبي بكر ، وقد انطوت نفسه على حزن عميق وأسى مرير على
ـــــــــــــــــــــ
(1) حياة الإمام الحسين () 1 / 284 .
الصفحة (114)

ضياع حقّه وسلب تراثه ؛ فقد جهد القوم على الغضّ من شأنه ، وعزله عن جميع ما يتعلّق بأمر الدولة ، حتّى ألصق خده بالتراب على حدّ تعبير بعض المؤرّخين .

يقول محمّد بن سليمان في أجوبته عن أسئلة جعفر بن مكي : إنّ عليّاً وضعه الأوّلون ـ يعني الشيخين ـ وأسقطاه وكسرا ناموسه بين الناس ، فصار نسياً منسيّاً(1) .
وقد صار جليس بيته تساوره الهموم ، ويسامر النجوم ، ويتوسّد الأرق ، ويتجرّع الغصص ، قد كظم غيظه ، وأسلم أمره إلى الله . وانطوت نفوس أبنائه على حزن لاذع وأسىً عميق على عمر ؛ فقد روى المؤرّخون أنّ الحسين () خفّ إلى عمر وكان على المنبر يخطب , فصاح به : (( انزل ، انزل عن منبر أبي واذهب إلى منبر أبيك )) .
وبهت عمر ، واستولت عليه الحيرة ، وراح يقول : صدقت , لم يكن لأبي منبر . وأخذه فأجلسه إلى جنبه , وجعل يفحص عمّن أوعز إليه بذلك قائلاً : مَنْ علّمك ؟
ـ (( والله ما علّمني أحد )) .
شعور طافح بالأسى والألم انبعث عن إلهام وعبقرية ، رأى الإمام الحسين () منبر جدّه الملهم الأوّل لقضايا الفكر الإنساني , وأنّه لا يليق أن يرقاه غير أبيه باب مدينة علم النبي () , ورائد العلم والحكمة في دنيا الإسلام .
وعلى أيّ حال , فقد كان هذا الشعور سائداً عند ذرّية رسول الله () ، ولم يقتصر على الإمام الحسين () وإنّما كان شاملاً للعقيلة زينب كما يدلّل على ذلك
ـــــــــــــــــــــ
(1) نهج البلاغة 9 / 28 .
الصفحة (115)

خطابها الرائع في البلاط الاُموي ؛ فقد قالت ليزيد : وسيعلم مَنْ سوّل لك ومكّنك من رقاب المسلمين ... وهذه الكلمات صريحة فيما ذكرناه .
وقد بحثنا عن شؤون عمر وأيام حكومته في كتابنا (حياة الإمام الحسين) ، فلا نعيد تلك البحوث .
اغتيال عمر

وبقي عمر على دست الحكم يتصرّف في شؤون الدولة حسب رغباته وميوله ، وكان فيما يقول المؤرّخون : شديد البغض والكراهية للفرس ، يبغضهم ويبغضونه ؛ فقد حظر عليهم دخول يثرب إلاّ مَنْ كان سنّه دون البلوغ(1) .

وتمنّى أن يحول بينهم وبينه جبل من حديد ، وأفتى بعدم إرثهم إلاّ مَنْ ولد منهم في بلاد العرب(2) ، وكان يُعبّر عنهم بالعلوج(3) .
وقد قام باغتياله أبو لؤلؤة وهو فارسي ، أمّا السبب في اغتياله له فهو أنّه كان فتى متحمّساً لوطنه واُمّته ، ورأى عمر قد بالغ في احتقار الفرس وإذلالهم ، وقد خفّ إليه يشكو ممّا ألمّ به من ضيق وجهد من جرّاء ما فرض عليه المغيرة من ثقل الخراج ، وكان مولى له ، فزجره عمر وصاح به : ما خراجك بكثير من أجل الحِرف التي تُحسنها .
وألهبت هذه الكلمات قلبه , فأضمر له الشرّ ، وزاد في حنقه عليه أنّه اجتاز على عمر فسخر منه , وقال له : بلغني أنّك تقول : لو شئت أن أصنع رحى تطحن بالريح لفعلت .
ـــــــــــــــــــــ
(1) شرح نهج البلاغة 1 / 185 .
(2) الموطّأ 2 / 12 .
(3) شرح نهج البلاغة 12 / 185 .
الصفحة (116)

ولذعته هذه السخرية , فخاطب عمر : لأصنعنّ لك رحى يتحدّث الناس بها .
وفي اليوم الثاني قام بعملية الاغتيال(1) ، فطعنه ثلاث طعنات إحداهن تحت السرّة فخرقت الصفاق(2) ، وهي التي قضت عليه ، ثمّ هجم على مَنْ في المسجد فطعن أحد عشر رجلاً ، وعمد إلى نفسه فانتحر(3) ، وحُمل عمر إلى داره وجراحاته تنزف دماً ، فقال لمَنْ حوله : مَنْ طعنني ؟
ـ غلام المغيرة .
ـ ألم أقل لكم : لا تجلبوا لنا من العلوج أحداً فغلبتموني ؟(4) .
وأحضر أهله له طبيباً , فقال له : أيّ الشراب أحبّ إليك ؟
ـ النبيذ .
فسقوه منه فخرج من بعض طعناته صديداً ، ثم سقوه لبناً فخرج من بعض طعناته ، فيئس منه الطبيب ، وقال له : لا أرى أن تُمسي(5) .
الشورى

ولمّا أيقن عمر بدنوّ الأجل المحتوم منه أخذ يطيل التفكير فيمَنْ يتولّى شؤون
ـــــــــــــــــــــ
(1) مروج الذهب 2 / 212 .
(2) الصفاق : الجلد الأسفل الذي تحت الجلد .
(3) شرح نهج البلاغة 12 / 185 .
(4) شرح نهج البلاغة 12 / 187 .
(5) الاستيعاب (المطبوع على هامش الإصابة) 2 / 461 .
الصفحة (117)

الحكم من بعده ، وقد تذكّر أعضاء حزبه الذين شاركوه في تمهيد الحكم لأبي بكر ، فأخذ يُبدي حسراته عليهم ؛ لأنّهم جميعاً قد اقتطفتهم المنيّة ، فقال بأسى وأسف : لو كان أبو عبيدة حيّاً لاستخلفته ؛ لأنّه أمين هذه الاُمّة ، ولو كان سالم مولى أبي حذيفة حيّاً لاستخلفته ؛ لأنّه شديد الحبّ لله تعالى .
لقد استعرض الأموات وتمنّى أن يقلّدهم الحكم , ولم يعرض لسيّد العترة الإمام أمير المؤمنين () , ولا للصفوة الطاهرة من صحابة النبي () أمثال عمّار بن ياسر الطيّب ابن الطيّب ، ولا لأبي ذرّ ، ولا لرؤساء الأنصار من الذين ساهموا في بناء الإسلام واستشهد أبناؤهم في سبيله .
لقد تمنّى حضور أبي عبيدة وسالم يقلّدهما منصب رئاسة الدولة ، مع العلم أنّهما لم يكن لهما أيّة سابقة تُذكر في خدمة الإسلام .
لقد رأى عمر أن يجعلها شورى بين المسلمين وانتخب مَنْ يمثّلهم ، وهم ستة :
1 ـ الإمام أمير المؤمنين () .
2 ـ عثمان بن عفان الاُموي .
3 ـ طلحة .
4 ـ عبد الرحمن بن عوف .
5 ـ الزبير .
6 ـ سعد بن أبي وقاص .
وقد اختار عمر هؤلاء النفر لصرف الخلافة عن الإمام أمير المؤمنين () ؛ فقد كان معظم أعضائها من المنحرفين عن الإمام والموالين لبني اُميّة ، ولم يكن مع الإمام سوى الزبير , وهو لا يغني شيئاً . وقد جمع عمر أعضاء الشورى ، وقدّم في كلّالصفحة (118)

واحد منهم سوى الإمام , فانصرف عنه ، فقال عمر لمَنْ حضر عنده : والله إنّي لأعلم مكان رجل لو ولّيتموه أمركم لحملكم على المحجّة البيضاء .
فقالوا له : مَنْ هو ؟
ـ هذا المولّي من بينكم .
ـ ما يمنعك من ذلك ؟
ـ ليس إلى ذلك من سبيل(1) .
ودعا عمر بأبي طلحة الأنصاري فعهد إليه بما يحكم أمر الشورى , فقال له : يا أبا طلحة ، إنّ الله أعزّ بكم الإسلام , فاختر خمسين رجلاً من الأنصار , فالزم هؤلاء النفر بإمضاء الأمر وتعجيله . والتفت إلى المقداد فعهد إليه بمثل ما عهد إلى أبي طلحة ، ثمّ قال له : إذا اتفق خمسة وأبى واحد منهم فاضربوا عنقه ، وإن اتّفق أربعة وأبى اثنان فاضربوا عنقيهما ، وإن اتّفق ثلاثة على رجل ورضي ثلاثة منهم برجلٍ آخر فكونوا مع الذين فيهم عبد الرحمن بن عوف , واقتلوا الباقين إن رغبوا عمّا اجتمع عليه الناس .
والتاع الإمام () وعرف أنّها مكيدة دُبّرت ضدّه ؛ فقد قال لعمّه العباس : (( يا عمّ ، لقد عُدلت عنّا )) .
وسارع العباس قائلاً : مَنْ أعلمك بذلك ؟
وكشف الإمام () الغطاء عمّا دبّره عمر ضدّه قائلاً : (( لقد قرن بي عثمان ، وقال : كونوا مع الأكثر ، ثمّ قال : كونوا مع عبد الرحمن ،
ـــــــــــــــــــــ
(1) شرح نهج البلاغة 12 / 195 .
الصفحة (119)

وسعد لا يخالف ابن عمّه عبد الرحمن ، وعبد الرحمن صهر لعثمان , وهم لا يختلفون ؛ فإمّا أن يولّيها عبد الرحمن عثمان , أو يولّيها عثمان عبد الرحمن )) .
وصدق تفرّس الإمام ؛ فقد ولاّها عبد الرحمن لعثمان إيثاراً لمصالحه ، وابتغاءً لرجوعها إليه من بعده .
إنّ أدنى تأمّل في وضع الشورى يتّضح منه صرف الخلافة عن الإمام أمير المؤمنين () ، ووضعها عند القوى المنحرفة عنه .
وعلى أيّ حال ، فإنّ الشورى بأسلوبها الهزيل قد ألقت الاُمّة في شرّ عظيم ، وفرّقت كلمتها ، وأشاعت الطمع والتهالك على الحكم والسلطان بين أبنائها ، وقد أعلن هذه الظاهرة معاوية بن أبي سفيان ؛ فقد قال لأبي الحصين : بلغني أنّ عندك ذهناً وعقلاً , فأخبرني عن شيء أسألك عنه .
ـ سلني عمّا بدا لك .
ـ أخبرني ما الذي شتّت شمل أمر المسلمين وملأهم وخالف بينهم ؟
ـ قتل الناس عثمان .
ـ ما صنعت شيئاً .
ـ مسير عليّ إليك وقتاله إياك .
ـ ما صنعت شيئاً .
ـ مسير طلحة والزبير وعائشة وقتال عليّ إيّاهم .
ـ ما صنعت شيئاً .
ـ ما عندي غير هذا .
وطفق معاوية يبيّن أسباب الخلاف والفرقة بين المسلمين قائلاً : أنا اُخبرك ؛ إنّه لم يُشتّت بين المسلمين ولا فرّق أهواءهم إلاّ الشورى التي جعلها عمر إلى ستة نفر .
وأضاف يقول :الصفحة (120)

ثمّ جعلها ـ عمر ـ شورى بين ستّة نفر ، فلم يكن رجل منهم إلاّ رجاها لنفسه ورجاها له قومه ، وتطلّعت إلى ذلك نفسه(1) .
لقد شاعت الأطماع السياسيّة بشكل سافر عند بعض أعضاء الشورى وغيرهم ، فاندفعوا إلى خلق الحزبية في المجتمع الإسلامي للوصول إلى كرسي الحكم والظفر بخيرات البلاد .
وعلى أيّ حال , فقد ذكرنا بصورة موضوعية وشاملة آفات الشورى في كتابنا (حياة الإمام الحسين) ، وقد ألمحنا إليها في هذه البحوث ؛ وذلك لأنّها تُلقي الأضواء على الحياة الاجتماعيّة والسياسيّة في ذلك العصر الذي عاشت فيه عقيلة بني هاشم ، والتي أدّت إلى ما عانته من الأهوال والكوارث التي تذهل كلّ كائن حيّ .
انتخاب عثمان وحكومته

واجتمع أعضاء الشورى في بيت المال ، وقيل في بيت مسرور بن مخرمة ، وتداولوا الحديث عمّن أحقّ بأمر المسلمين ، وكثر الجدل فيما بينهم ، فانبرى الإمام أمير المؤمنين () فحذّرهم من الخلاف والفتنة إن استجابوا لعواطفهم ، ولم يؤثروا المصلحة العامة للمسلمين , قائلاً : (( لم يسرع أحد قبلي إلى دعوة حقّ , وصلة رحم , وعائدة كرم ، فاسمعوا قولي وعوا منطقي عسى أن تروا هذا الأمر من بعد هذا اليوم تنتطي فيه السيوف ، وتخالف منه العهود , حتّى يكون بعضكم أئمّة لأهل الضلال , وشيعة لأهل الجهالة )) .
ولم يعوا منطق الإمام ونصيحته ؛ فقد استجابوا لعواطفهم ، وكان الاُمويّون قد حفوا بأهل الشورى وهم يقدّمون لهم الوعود المعسولة إن انتخبوا عميدهم عثمان .
ـــــــــــــــــــــ
(1) العقد الفريد 3 / 73 ـ 74 .
الصفحة (121)

وانقضت الثلاثة أيام التي حدّدها عمر ولم ينتخب أعضاء الشورى أحداً منهم ، فحذّرهم أبو طلحة الأنصاري وجعل يتهدّهم ويتوعدّهم إن لم ينتخبوا أحداً منهم ، انبرى طلحة فوهب حقّه لعثمان ؛ لأنّه كان شديد الكراهية للإمام أمير المؤمنين () ؛ لأنّه نافس ابن عمّه أبا بكر على الخلافة .

ووهب سعد بن أبي وقّاص حقّه لابن عمّه عبد الرحمن بن عوف ، وأصبح رأيه هو الفيصل ؛ لأنّ عمر وضع ثقته به ، وكان رأيه مع عثمان ؛ لأنّه صهره , وقد زهّده القرشيون في الإمام وحرّضوه على انتخاب عثمان ؛ لأنّه يحقّق رغباتهم وأطماعهم .

وأمر عبد الرحمن مسوراً بإحضار أمير المؤمنين () وعثمان بن عفان , فلمّا حضرا عنده في الجامع النبوي التفت إلى الحاضرين فقال لهم : أيّها الناس ، إنّ الناس قد اجتمعوا على أن يرجع أهل الأمصار إلى أمصارهم , فأشيروا عليّ .
وانبرى الطيّب ابن الطيّب عمّار بن ياسر فأشار عليه بما يضمن للاُمّة مصالحها ويصونها من الاختلاف والفرقة قائلاً : إن أردت أن لا يختلف المسلمون فبايع علياً .
وأيّد المقداد مقالة صاحبه عمّار , فقال : صدق عمّار ، إن بايعت علياً سمعنا وأطعنا .
وشجبت الاُسر القرشيّة المعادية للإسلام والحاقدة عليه مقالة عمار ، ورشحّت عميد الاُمويِّين عثمان بن عفان ، وقد كان الممثل لها عبد الله بن أبي سرح فخاطب ابن عوف قائلاً : إن أردت أن لا تختلف قريش فبايع عثمان .
وكأنّ شؤون الخلافة ومصير المسلمين موكول إلى قريش وهي التي حاربت رسول الله () , وناهضت دعوته , وعذّبت أنصاره حتّى هرب منها ، وتابعته إلى يثرب
الصفحة (122)

بجيوش مكثفة لاستئصال دعوته ومحو دينه ، ولكنّ الله تعالى ردّ كيدهم وأفشل خططهم ، ونصر نبيّه العظيم ، ولولا سماحة النبي () ورأفته لأجرى عليهم حكم بني قريضة ، ولكنّه عفا عنهم وجعلهم من الطلقاء .
وعلى أيّ حال , فقد اندفع عبد الله بن أبي ربيعة فأيّد مقالة ابن سرح قائلاً : إن بايعت عثمان سمعنا وأطعنا . وانبرى الصحابي الجليل عمّار بن ياسر فردّ على ابن أبي سرح قائلاً : متى كنت تنصح للمسلمين ؟
وصدق عمّار , فمتى كان ابن أبي سرح ينصح المسلمين وهو من ألدّ أعداء رسول الله () , وقد أمر بقتله ولو كان متعلّقاً بأستار الكعبة(1) ؟
واحتدم الجدال بين الهاشميين وخصومهم الاُمويِّين ، وانبرى ابن الإسلام البار عمّار بن ياسر فجعل يدعو لصالح المسلمين قائلاً : أيّها الناس ، إنّ الله أكرمنا بنبيّه ، وأعزّنا بدينه , فإلى متى تصرفون هذا الأمر عن أهل بيت نبيّكم ؟
وانبرى رجل من مخزوم فقطع على عمّار كلامه قائلاً : لقد عدوت طورك يابن سميّة ، وما أنت وتأمير قريش لأنفسها !
وطفحت الروح الجاهليّة على هذه الكلمات ، فليس فيها إلاّ الدعوة إلى الباطل ؛ فقد اعتبر المخزومي أمر الخلافة وشؤونها إلى قريش التي ما آمنت بالله وكفرت بقيم الإسلام ، فأيّ حقّ لها في خلافة المسلمين ؟ وقبله أعلن أحد أعلام القرشيين : أبت قريش أن تجتمع النبوّة والإمامة في بيت واحد .
إنّ أمر الخلافة بيد جميع المسلمين يشترك فيه ابن سميّة وغيره من الضعفاء
ـــــــــــــــــــــ
(1) الاستيعاب 2 / 375 .
الصفحة (123)

الذين أعزّهم الله بدينه ، وليس لأيّ قرشي الحقّ في التدخّل بشؤون المسلمين لو كان هناك منطق وحساب .
وعلى أيّ حال , فقد احتدم النزاع بين القوى الإسلاميّة وبين القرشيّين ، فخاف سعد أن يفلت الأمر من أيديهم وتفوز الاُسرة النبويّة بالحكم فالتفت إلى عبد الرحمن قائلاً له : يا عبد الرحمن ، افرغ من أمرك قبل أن يفتتن الناس .
والتفت عبد الرحمن إلى الإمام () فقال له : هل أنت مبايعي على كتاب الله وسنة نبيه , وفعل أبي بكر وعمر ؟
فرمقه الإمام بطرفه وأجابه بمنطق الإسلام قائلاً : (( بل على كتاب الله وسنّة رسوله ، واجتهاد رأيي )) .
إنّ ابن عوف يعلم علماً جازماً أنّ الإمام لا يسوس المسلمين بسيرة الشيخين , ولا يحفل بها ، وإنّما يسوسهم بكتاب الله وسنّة نبيّه , ورأيه المشرق الذي هو امتداد ذاتي لرأي النبي () ، وإنّما شرط عليه ذلك لصرف الخلافة عنه .
ولو كان الإمام ممّن يبغي الحكم والسلطان لوافق على هذا الشرط ثمّ خالفه ، ولكنّه (سلام الله عليه) في جميع أدوار حياته واكب الصدق والحقّ , ولم يحد عنهما مهما كانت الظروف .
وعلى أيّ حال ، فإنّ عبد الرحمن لمّا يئس من إجابة الإمام اتّجه صوب عثمان فعرض عليه شروطه فأجابه بلا تردّد ، فصفق بكفّه على يده وقال له : اللّهمّ إنّي قد جعلت ما في رقبتي من ذاك في رقبة عثمان .
والتاع الإمام فخاطب ابن عوف : (( والله , ما فعلتها إلاّ لأنّك رجوت منه ما رجا صاحبها من صاحبه ، دقّ الله بينكما عطر منشم )) .
الصفحة (124)

لقد رجا ابن عوف من بيعته لعثمان أن يكون خليفة من بعده كما كان ذلك بالنسبة للشيخين ، واتّجه الإمام صوب القرشيّين فقال لهم : (( ليس هذا أوّل يوم تظاهرتم فيه علينا ، فصبر جميل , والله المستعان على ما تصفون )) .

ولذع منطق الإمام ابن عوف فراح يهدّده : يا عليّ ، لا تجعل على نفسك سبيلاً . وغادر الإمام المظلوم قاعة الاجتماع وهو يقول : (( سيبلغ الكتاب أجله )) .
والتفت الصحابي العظيم عمّار بن ياسر فخاطب ابن عوف : يا عبد الرحمن ، أما والله لقد تركته ، وإنّه من الذين يقضون بالحقّ وبه كانوا يعدلون .
وانبرى المقداد فرفع صوته قائلاً : تالله , ما رأيت مثل ما أُتي إلى أهل هذا البيت بعد نبيّهم ! وا عجباً لقريش ! لقد تركت رجلاً ما أقول ولا أعلم أنّ أحداً أقضى بالعدل , ولا أعلم ولا ولا أتقى منه ! أما والله لو أجد أعواناً !

وصاح به عبد الرحمن : اتّق الله يا مقداد ؛ فإنّي خائف عليك الفتنة .

وانتهت بذلك مأساة الشورى التي وضعها عمر لصرف الخلافة عن أهل بيت النبوّة ومنحها لبني اُميّة ، وقد رأت عقيلة الوحي السيدةزينب (عليها السّلام) أضغان القرشيّين وحقدهم على أبيها ، وأنّهم قد عملوا جاهدين على إطفاء نور الله ، والإجهاز على رسالة الإسلام الهادفة لتطوير الوعي الاجتماعي ، وإشاعة الخير والهدى بين الناس .
الصفحة (125)

لقد خلقت الشورى العمرية الفتن والضغائن بين المسلمين , وحجبت الاُسرة النبويّة عن القيادة العامة للعالم الإسلامي ، وسلّطت عليهم شرار خلق الله ؛ فأمعنوا في ظلمهم والتنكيل بهم .

وما كارثة كربلاء وما عانته عقيلة بني هاشم السيّدة زينب (عليها السّلام) من صنوف الظلم والكوارث التي هي ـ من دون شك ـ من النتائج المباشرة لأحداث الشورى والسقيفة , فإنّهما الأساس لكلّ ما لحق بآل النبي () من الكوارث والخطوب .
حكومة عثمان

وتسلّم عثمان قيادة الاُمّة ، وقد احتفّ به بنو اُميّة وآل أبي معيط ، وأخذوا يتصرّفون في شؤون الدولة حسب رغباتهم وميولهم ، ولا شأن لعثمان في جميع المناحي السياسيّة والاقتصادية ؛ فقد كان بمعزل عنها ، وقد سيطر عليها وتسلّم قيادتها مروان بن الحكم الوزغ بن الوزغ ، والذي يسمّيه معاصروه بالخيط الباطل ؛ وذلك لخبثه وسوء سريرته ، فكان وزيره ومستشاره . وقد هام عثمان بحبّ اُسرته ، وتفانى في الولاء لهم فكان يقول : لو كانت مفاتيح الجنّة بيدي لأعطيتها لبني اُميّة(1) .

وقد أسند مناصب الدولة لهم ، كما عيّنهم ولاة في معظم الأقاليم الإسلاميّة ، ووهبهم الثراء العريض فكانوا في طليعة الرأسماليين في العالم الإسلامي ، وقد عرضنا في بعض كتبنا(2) بصورة موضوعية وشاملة إلى الهبات المالية الهائلة التي منحها عثمان لاُسرته ، كما عرض لها الحجّة الأميني , والدكتور طه حسين , والعقّاد وغيرهم .

وقد أدّت هباته ومنحه الامتيازات الخاصة لهم إلى نقمة المسلمين ,
ـــــــــــــــــــــ
(1) مسند أحمد 1 / 62 .
(2) حياة الإمام الحسن ، وحياة الإمام الحسين () .



الصفحة (126)

وشيوع السخط والتذمّر عليه في معظم الأقاليم الإسلاميّة .
الجبهة المعارضة

ونقمت على عثمان وسخطت على سياسته معظم الصحابة وأعلام الإسلام , وفي طليعتهم :
1 ـ أبو ذرّ الغفاري
2 ـ عمّار بن ياسر
3 ـ السيّدة عائشة
4 ـ طلحة
5 ـ الزبير
6 ـ عبد الرحمن بن عوف
7 ـ عبد الله بن مسعود ، وغيرهم من أقطاب الإسلام وحماته

وقد نكّل عثمان بالكثيرين من معارضيه ؛ فقد نفى الصحابي العظيم أبا ذرّ الغفاري إلى الشام ، ثمّ نفاه إلى الربذة ، وهي صحراء قاحلة خالية من جميع مقوّمات الحياة ، وقد أنهكه الجوع حتّى توفي غريباً جائعاً مظلوماً ، كما نكّل بالصحابي الجليل عبد الله بن مسعود ، وقطع عنه مرتبه فلم يسعفه شيء حتّى أهلكه الفقر وفي يد عثمان ذهب الأرض وخيراتها .

كما نكّل بأعظم صحابي وأجلّ مجاهد إسلامي , وهو الطيّب ابن الطيّب عمّار بن ياسر ؛ فقد ضربه ضرباً مبرحاً حتّى أصابه فتق واُغمي عليه .
وقد رفعت السيدة عائشة قميص رسول الله () وهي تقول : هذا قميص رسول الله () لم يبلَ وعثمان قد أبلى سنّته ! كما أفتت بحلّية قتله فقالت : اقتلوا نعثلاً فقد كفر .

وقد اشتدّت عليه المعارضة وقويت وامتدّت إلى معظم الأقاليم الإسلاميّة ، وقد استجارت المعارضة بالعراق ومصر وغيرها لإنقاذ المسلمين من
الصفحة (127)

عثمان وبطانته ، فخفّت بعض الكتائب العسكريّة فزحفت إلى يثرب ، وأحاطت بدار عثمان وطلبت منه إبعاد مروان وإقصاء بني اُميّة عنه , أو الاستقالة من منصبه ، فوعدهم بتنفيذ أهم متطلباتهم , وهي إقصاء بني اُميّة , إلاّ أنّه خان بوعده ، وكتب إلى ولاته على الأقطار بالتنكيل بمَنْ استجاب للمعارضة ممّن قدموا إلى يثرب .
وقبض الثوار في أثناء رجوعهم إلى مدنهم على رسائله التي بعثها إلى ولاته في التنكيل بهم , ففزعوا وقفلوا راجعين إلى يثرب ، وعرضوا عليه رسائله وطالبوه بالاستقالة الفورية من منصبه فلم يستجب لهم ، وأصرّ على الاحتفاظ بكرسي الحكم ، فعمدوا إلى الإجهاز عليه فقتلوه شرّ قتلة ، وتركوا جسده مرمياً على مزبلة من مزابل يثرب ؛ استهانة به ، ولم يسمحوا بمواراته إلاّ أنّ الإمام أمير المؤمنين () توسّط في دفنه , فاستجاب له الثوار على كره , فدفنوه في حش كوكب .
لقد انتهت حكومة عثمان , وقد أخلدت للمسلمين المصاعب والفتن وألقتهم في شرّ عظيم ؛ فقد اتّخذت عائشة قتله وسيلة لتحقيق مآربها وأطماعها السياسيّة , فراحت تُطالب الإمام بدمه ، وهي التي أفتت بقتله وكفره ، كما اتّخذ الذئب الجاهلي معاوية بن هند قتل عثمان ورقة رابحة للتمرّد على حكومة الإمام والمطالبة بدمه .
وعلى أيّ حال , فقد رأت حفيدة النبي () السيّدة زينب (عليها السّلام) هذه الأحداث الجسام ووعت أهدافها السياسيّة , فكان لها أعمق الأثر في نفسها ؛ فقد كان لها من المضاعفات السيئة ما اهتز من هولها العالم الإسلامي ، والتي كان من نتائجها كارثة كربلاء التي رُزئت فيها السيدة زينب ؛ فقد عانت من الكوارث والخطوب ما تذوب من هولها الجبال .
حكومة الإمام ()

وبعدما أطاح الثوار بحكومة عثمان أحاطوا بالإمام أمير المؤمنين () وهم يهتفون
الصفحة (128)

بحياته ، ويعلنون ترشيحه لقيادة الاُمّة فليس غيره أولى وأحق بهذا المركز الخطير ، فهو ابن عمّ النبي () وأبو سبطيه ، ومَنْ كان منه بمنزل هارون من موسى ، وهو صاحب المواقف المشهورة في نصرة الإسلام والذبّ عنه ، وليس في المسلمين مَنْ يساويه في فضائله وعلومه وعبقرياته ، إلاّ أنّ الإمام رفض دعوتهم ولم يستجب لهم ؛ لعلمه بما سيواجهه من الأزمات السياسيّة ، فإنّ منهجه في عالم الحكم يتصادم مع رغبات الاُسر القرشيّة التي تريد السيطرة على السلطة وإخضاعها لرغباتها الخاصة .

فقال () للثوار : (( لا حاجة لي في أمركم , فمَنْ اخترتم رضيت به )) .

فهتفوا بلسان واحد : ما نختار غيرك .

وعقدت القوات المسلحة مؤتمراً خاصاً عرضت فيه ما تواجهه الاُمّة من الأخطار إن بقيت بلا إمام يدير شؤونها ، وقد قرّرت إحضار المدنيّين وإرغامهم على انتخاب إمام المسلمين ، فلمّا حضروا هدّدوهم بالتنكيل إن لم ينتخبوا إماماً وخليفة للمسلمين ، ففزعوا إلى الإمام أمير المؤمنين () وأحاطوا به رافعين عقيرتهم : البيعة , البيعة .

فامتنع الإمام () من إجابتهم ، فأخذوا يتضرّعون إليه قائلين : أما ترى ما نزل بالإسلام ، وما ابتلينا به من أبناء القرى ؟!

فأجابهم الإمام بالرفض الكامل قائلاً : (( دعوني والتمسوا غيري )) . ثمّ أعرب لهم الإمام () عمّا ستعانيه الاُمّة من الأزمات قائلاً : (( أيّها الناس ، إنّا مستقبلون أمراً له وجوه وله ألوان , لا تقوم به القلوب ، ولا تثبت له العقول )) .
الصفحة (129)

لقد كشف الإمام عمّا سيواجهه المسلمون من الأحداث المروّعة التي تعصف بالحلم وتميد بالصبر ، الناجمة من الحكم المباد الذي عاث فساداً في الأرض ؛ فقد أقام عثمان اُسرته حكّاماً وولاةً على الأقاليم الإسلاميّة فاستأثروا بأموال المسلمين واحتكروها لأنفسهم ، وإنّهم حتماً سيقاومون كلّ مَنْ يريد الإصلاح الاجتماعي ؛ فلذلك امتنع الإمام من إجابة القوم .

ثمّ عرض الإمام على القوات المسلحة وعلى الصحابة وغيرهم منهجه فيما إذا ولي اُمورهم قائلاً : (( إنّي إن أجبتكم ركبت بكم ما أعلم ، وإن تركتموني فإنّما أنا كأحدكم ، ألا وإنّي من أسمعكم وأطوعكم لمَنْ ولّيتموه )) . واستجاب الجميع لما عرضه الإمام عليهم قائلين : ما نحن بمفارقيك حتّى نبايعك .

وأجّلهم الإمام إلى الغد لينظر في الاُمور ، ولمّا أصبح الصبح هرعت الجماهير إلى الجامع الأعظم ، فأقبل الإمام () فاعتلى أعواد المنبر فخطب الناس ، وكان من جملة خطابه : (( أيّها الناس ، إنّ هذا أمركم ليس لأحد فيه حقّ إلاّ مَنْ أمّرتم ، وقد افترقنا بالأمس وكنت كارهاً لأمركم فأبيتم إلاّ أن أكون عليكم ، ألا وإنّه ليس لي أن آخذ درهماً دونكم ، فإن شئتم قعدت لكم , وإلاّ فلا آخذ على أحد )) .
وتعالى هتاف الجماهير بالتأييد والرضا قائلين : نحن على ما فارقناك عليه بالأمس . وطفق الإمام قائلاً : (( اللّهمّ اشهد عليهم )) .

وقد اتّجهت الناس كالموج صوب الإمام لتبايعه ، وأوّل مَنْ بايعه طلحة , فبايعه
الصفحة (130)

بيده الشلاّء التي سرعان ما نكث بها عهد الله , فتطيّر منها الإمام وقال : (( ما أخلفه أن ينكث ))(1) .
ثمّ بايعه الزبير وهو ممّن نكث بيعته ، وبايعته القوات العسكريّة ، كما بايعه مَنْ بقي من أهل بدر والمهاجرين والأنصار كافة(2) .

ولم يظفر أحد من خلفاء المسلمين بمثل هذه البيعة في شمولها ، وقد فرح بها المسلمون وابتهجوا , ووصف الإمام () مدى سرورهم بقوله : (( وبلغ من سرور الناس ببيعتهم إيّاي أن ابتهج بها الصغير , وهدج إليها الكبير ، وتحامل نحوها العليل ، وحسرت إليها الكعاب )) .
لقد ابتهج المسلمون ، وعمّت الفرحة الكبرى جميع الأوساط الإسلاميّة بخلافة الإمام أمير المؤمنين () رائد العدالة الاجتماعيّة ، والمتبنّي لحقوق الإنسان الذي شارك البؤساء والمحرومين في سغبهم ومحنهم ، القائل : (( أأقنع من نفسي بأن يُقال : أمير المؤمنين , ولا اُشاركهم في مكاره الدهر ، أو أكون اُسوة لهم في جشوبة العيش ؟! )) .
وجوم القرشيّين

واستقبلت قريش خلافة الإمام أمير المؤمنين () بكثير من الوجوم والقلق والاضطراب كما استقبلوا نبوّة رسول الله () ؛ فإنّ الروح الجاهليّة بما تحمل من عادات وتقاليد وكراهية للحقّ لم تزل مائلة فيهم , ولم يغيّر الإسلام من طباعهم أيّ شيء .
وقريش تعرف الإمام جيداً ؛ فهو الذي حصد رؤوس أعلامهم بسيفه ، ومحق
ـــــــــــــــــــــ
(1) العقد الفريد 3 / 93 .
(2) حياة الإمام الحسن () 1 / 376 .
الصفحة (131)

كبرياءهم في سبيل الإسلام الذي ناهضوه ، وقد خفّ إليه الاُمويّون وفي طليعتهم الوليد فقال للإمام : إنّك قد وترتنا جميعاً ؛ أمّا أنا فقتلت أبي صبراً يوم بدر ، وأمّا سعيد فقتلت أباه يوم بدر ، وكان أبوه من نور قريش ، وأمّا مروان فشتمت أباه ، وعبت على عثمان حين ضمّه إليه , فنبايع على أن تضع عنّا ما أصبنا ، وتعفو عنّا عمّا في أيدينا ، وتقتل قتلة صاحبنا .
فردّ الإمام عليه مقالته التي لا بصيص فيها من نور الحقّ قائلاً : (( أمّا ما ذكرت من وتري إيّاكم فالحقّ وتركم ؛ وأمّا وضعي عنكم عمّا في أيديكم فليس لي أن أضع حقّ الله ؛ وأمّا إعفائي عمّا في أيديكم فما كان لله وللمسلمين فالعدل يسعكم ؛ وأمّا قتلي قتلة عثمان فلو لزمني قتالهم اليوم لزمني قتالهم غداً ، ولكن لكم أن أحملكم على كتاب الله وسنّة نبيّه ، فمَنْ ضاق عليه الحقّ فالباطل عليه أضيق ، وإن شئتم فالحقوا بملاحقكم ))(1) .
إنّ الاُمويِّين أرادوا المساومة فيما نهبوه من أموال المسلمين وما اختلسوه من بيت المال ، وهيهات أن يستجيب لهم رائد الحقّ والعدالة في دنيا الإسلام الذي لا تساوي السلطة عنده قيمة حذائه الذي كان من ليف ، وقد انصرفوا عنه وقلوبهم مترعة بالحقد والكراهية له .
وعلى أيّ حال , فقد فزع القرشيّون من حكومة الإمام () وخافوا على مصالحهم ونفوذهم وامتيازاتهم التي ظفروا بها في عهد الخلفاء .

لقد أيقنوا أنّ الإمام سيعاملهم معاملة عادية ، ولا يميّزهم على أيّ أحد من المسلمين ، وقد كان سيء الظنّ بهم ، وقد أعرب عن مدى استيائه منهم بقوله : (( ما لي ولقريش ! لقد قاتلتهم كافرين , ولأقتلنهم مفتونين . والله لأبقرنّ الباطل
ـــــــــــــــــــــ
(1) تاريخ اليعقوبي 2 / 155 .


يتبع












عرض البوم صور الشيخ عباس محمد   رد مع اقتباس
قديم 02-08-2015, 11:21 PM   المشاركة رقم: 2
معلومات العضو
الشيخ عباس محمد

إحصائية العضو







 
 


التوقيت

التواجد والإتصالات
الشيخ عباس محمد غير متواجد حالياً

كاتب الموضوع : الشيخ عباس محمد المنتدى : منتدى السيدة زينب (سلام الله عليها)
افتراضي

حتى يظهر الحقّ من خاصرته ، فقل لقريش فليضج ضجيجها )) .
لقد حقدت قريش على الإمام كما حقدت على ابن عمّه رسول الله () ، وقد صرفت الخلافة تارة عنه إلى تيم ، وإلى عدي اُخرى ، وإلى بني اُميّة ثالثة .

وقد جهدت على محاربته وإشاعة التمرّد في أيام خلافته ، وقد ظهرت بوادر ذلك في حرب الجمل وصفين .
إجراءات حاسمة

وقام الإمام رائد العدالة الاجتماعيّة بإجراءات حاسمة ضدّ الحكم المباد كان منها :
1 ـ مصادرة الأموال المنهوبة

وأوّل عمل قام به الإمام أنّه أصدر أوامره بمصادرة القطائع التي اقتطعها عثمان ، وباسترجاع الأموال التي استأثر بها لنفسه ، والأموال التي منحها لبني اُميّة وآل أبي معيط ؛ لأنّها أُخذت بغير وجه مشروع ، وقد صودرت أموال عثمان حتّى سيفه ودرعه .

وقد كتب عمرو بن العاص إلى معاوية رسالة جاء فيها : ما كنت صانعاً فاصنع إذا قشّرك ابن أبي طالب من كلّ مال تملكه كما تُقشّر عن العصا لحاها .
وعمّ الذعر والخوف جميع الرأسماليين القرشيّين الذين أقطعهم عثمان ووهبهم الثراء العريض ؛ فقد خافوا من مصادرتها وتأميمها للدولة كما صنع الإمام بأموال عثمان ؛ فلذا أعلنوا التمرّد والبغي على حكومة الإمام () .
2 ـ عزل الولاة

وقام رائد العدالة الاجتماعيّة بعزل ولاة عثمان ؛ لأنّهم أظهروا الجور والفساد
الصفحة (133)

في الأرض ؛ فقد عزل معاوية بن هند ، وقد نصحه جماعة من المخلصين له وطلبوا منه إبقاء معاوية , فأبى وامتنع من المداهنة في دينه ، وكيف يُبقي الإمام في جهاز حكمه هذا الذئب الجاهلي ، ويقرّه على عمله وهو رأس المنافقين ومصدر قوّتهم .
وكذلك عزل غير معاوية من ولاة عثمان ، ولم يُبقِ واحداً منهم والياً على قطر من الأقطار .
3 ـ المساواة بين المسلمين

وأعلن الإمام () المساواة العادلة بين جميع المسلمين ، مساواة في العطاء , ومساواة في الحقوق وغيرهما من الشؤون الاجتماعيّة ، وقد عوتب على مساواته في العطاء ، فأجاب : (( أَتَأْمُرُونِّي أَنْ أَطْلُبَ النَّصْرَ بِالْجَوْرِ فِيمَنْ وُلِّيتُ عَلَيْهِ ؟! وَاللَّهِ لا أَطُورُ بِهِ مَا سَمَرَ سَمِيرٌ , وَمَا أَمَّ نَجْمٌ فِي السَّمَاءِ نَجْماً . لَوْ كَانَ الْمَالُ لِي لَسَوَّيْتُ بَيْنَهُمْ , فَكَيْفَ وَإِنَّمَا الْمَالُ مَالُ اللَّهِ ؟ أَلا وَإِنَّ إِعْطَاءَ الْمَالِ فِي غَيْرِ حَقِّهِ تَبْذِيرٌ وَإِسْرَافٌ , وَهُوَ يَرْفَعُ صَاحِبَهُ فِي الدُّنْيَا وَيَضَعُهُ فِي الآخِرَةِ , وَيُكْرِمُهُ فِي النَّاسِ وَيُهِينُهُ عِنْدَ اللَّهِ ... )) .
وهكذا سلك عليّ في أيام حكومته مسلكاً مشرقاً لا التواء ولا منعطف فيه ؛ فطبّق العدل ونشر المساواة ، فلم يؤثر أيّ أحد من أبنائه وأرحامه على غيرهم ، ولم يمنحهم أيّ امتياز في دولته .

وكان من بوادر عدله أنّه دخل بيت المال فقسّمه , فجاءت طفلة إمّا للحسن أو للحسين , فتناولت منه شيئاً , فلمّا بصر بها أسرع إليها فأخذه منها وأرجعه إلى بيت المال ، فقال له أصحابه : يا أمير المؤمنين ، إنّ لها فيه حقّاً .
فأنكر عليهم ذلك , وقال :
الصفحة (134)

(( إذا أخذ أبوها منه فليعطها منه ما شاء ))(1) .
لقد تحرّج في سلوكه كأشدّ وأقسى ما يكون التحرّج , وأرهق نفسه إرهاقاً شديداً ، فلم يرَ الناس مثل عدله في جميع فترات التاريخ .
على خطّة العدل والشرف غذّى أبناءه ، وقد رأت ابنته حفيدة الرسول زينب (عليها السّلام) هذه السيرة المشرقة التي تأخذ بأعماق القلوب قد سار عليها أبوها , فكانت من عناصر تربيتها ومن مقوّمات ذاتها ، وهي التي خلقت له الخصوم والأعداء .
ـــــــــــــــــــــ
التمرّد على حكومة الإمام ()

وثارت القوى المنحرفة عن الحقّ والمعادية للإصلاح الاجتماعي على حكومة الإمام رائد الحقّ والعدالة في دنيا الإسلام ، وقد أرادوا منه أن يعدل عن منهجه ، ويسير وفق مخطّطاتهم الهادفة إلى ضمان مصالحهم ، ومنحهم الامتيازات الخاصة فأبى () إلاّ أن يسير بسيرة رسول الله () ، ويطبّق قانون الإسلام وتعاليم القرآن .

ونشير إلى بعض هؤلاء المتمرّدين الذين شقّوا صفوف المسلمين ، وأغرقوا البلد في المحن والاضطراب ، وأشاعوا بين المسلمين الحزن والحداد ، وهم :
طلحة والزّبير

وبايع طلحة والزّبير الإمام أمير المؤمنين () ، وانعقدت بيعته في أعناقهما ، ولكنّ الأطماع السياسيّة والشورى العمرية التي نفخت فيهما روح الطموح ، وساوت بينهما وبين بطل الإسلام وأخي رسول الله () هي التي دفعتهما إلى إعلان التمرّد ، وقد خفّا إلى الإمام () وقد أترعت نفوسهما بالأطماع والكيد للإسلام ، فقالا للإمام : هل تدري على ما بايعناك يا أمير المؤمنين ؟
فأسرع الإمام قائلاً : (( نعم , على السمع والطاعة ، وعلى ما بايعتم عليه أبا بكر وعمر وعثمان )) .
فرفضا ذلك ، وقالا :
الصفحة (136)

لا ، ولكن بايعناك على أنّا شريكاك في الأمر .
فرمقهما الإمام بطرفه ، وأوضح لهما ما ينبغي أن يكونا شريكين له قائلاً : (( لا ، ولكنّكما شريكان في القول والاستقامة ، والعون على العجز والأولاد )) .

لقد أعربا عن أطماعهما وأنّ بيعتهما للإمام لم تكن من أجل صالح المسلمين وجمع كلمتهم ، وقاما مغضبين ، فقال الزّبير في ملأ من قريش : هذا جزاؤنا من عليّ ، قمنا له في أمر عثمان حتّى أثبتنا عليه الذنب ، وسبّبنا له القتل وهو جالس في بيته , وكُفي الأمر ، فلمّا نال بنا ما أراد جعل دوننا غيرنا .

وقال طلحة : ما اللوم إلاّ أنّا كنّا ثلاثة من أهل الشورى كرهه أحدنا(1) وبايعناه ، وأعطيناه ما في أيدينا ومنعنا ما في يده ، فأصبحنا قد أخطأنا ما رجونا .

والشيء المؤكّد أنّهما لم يعرفا عليّاً ، ولم يعيا أهدافه في عالم الحكم ، ولو عرفاه ما نازعاه ، أو أنّهما عرفاه وحالت أطماعهما وجشعهما على منازعته ، وانتهى حديثهما إلى الإمام () , فاستدعى مستشاره عبد الله بن عباس فقال له : (( بلغك قول الرجلين ؟ )) .

ـ نعم , أرى أنّهما أحبّا الولاية فولّ البصرة الزّبير ، وولّ طلحة الكوفة .

ولم يرتضِ الإمام رأي ابن عباس ، فقال مفنّداً لرأيه : (( ويحك ! إنّ العراقين ـ البصرة والكوفة ـ بهما الرجال والأموال ، ومتى تملّكا رقاب الناس يستميلا السفيه بالطمع ، ويضربا الضعيف بالبلاء ، ويقويا على القوي بالسلطان . ولو كنت مستعملاً أحداً لضرّه ونفعه لاستعملت معاوية على الشام ،
ـــــــــــــــــــــ
(1) يريد به سعد بن أبي وقّاص , فإنّه امتنع عن بيعة الإمام () , والذي دفعه على ذلك حقده له .
(1) أنساب الأشراف 1 / 160 ، القسم الأوّل .



ولولا ما ظهر لي من حرصهما على الولاية لكان لي فيهما رأي )) .
لقد كان الإمام () عالماً بأطماعهما وما انطوت عليه نفوسهما من التهالك على الإمرة والسلطان ، ولو كان يعلم نزاهتهما واستقامتهما لولاّهما البصرة والكوفة .

ولمّا علم طلحة والزّبير أنّ الإمام لا يولّيهما على قطر من أقطار المسلمين خفّا إليه طالبين منه الإذن بالخروج قائلين : ائذن لنا يا أمير المؤمنين .

ـ (( إلى أين ؟ )) .

ـ نريد العمرة .

فرمقهما الإمام بطرفه ، وعرّفهما ما يريدان قائلاً لهما : (( والله ما العمرة تريدان , بل الغدرة ونكث البيعة )) . فأقسما له بالأيمان المغلّظة أنّهما لا يخلعان بيعته ، وأنّهما يريدان أن يعتمرا بالبيت الحرام ، وطلب منهما الإمام أن يُعيدا له البيعة ثانياً ففعلا دون تردد ، ومضيا منهزمين إلى مكة يثيرا الفتنة ، ويلحقا بعائشة ليتّخذوها واجهة لتمرّدهما على الحقّ وشقّ كلمة المسلمين .
تمرّد عائشة

ويجمع المؤرّخون على أنّ عائشة في طليعة مَنْ أشعل نار الثورة على عثمان ؛ فقد أفتت بقتله ومروقة من الدين ، وكانت تسمّيه نعثلاً ، ولمّا أحاط به الثوار خرجت إلى مكة ، وبعد أدائهما لمناسك الحج قفلت راجعة إلى يثرب ، وهي تجدّ في السير لتنظر ما آل إليه أمر عثمان ، فلمّا انتهت إلى سرف لقيها رجل من أخوالها كان قادماً من المدينة ، فأسرعت قائلة : مهيم(1) .
ـــــــــــــــــــــ
(1) مهيم : كلمة استفهام , من معانيها : ما وراؤك .
الصفحة (138)

ـ قتلوا عثمان .
وأسرعت قائلة : ثمّ صنعوا ماذا ؟
ـ واجتمعوا على بيعة عليّ فجازت بهم إلى خير مجاز .
ولمّا سمعت أنّ الخلافة قد آلت إلى الإمام أمير المؤمنين () انهارت أعصابها , وتحطّمت قواها ، وهتفت وهي حانقة , وبصرها يشير إلى السماء ثمّ ينخفض فيشير إلى الأرض , قائلة : والله , ليت هذه انطبقت على هذه إن تمّ الأمر لابن أبي طالب ! قُتل عثمان مظلوماً ، والله لأطلبنّ بدمه .
وبُهر عبيد من منطقها ، فقال لها باستهزاء وسخرية : ولِمَ ؟ فوالله إنّ أوّل مَنْ أمال حرفه لأنت ، ولقد كنت تقولين : اقتلوا نعثلاً فقد كفر !
وانبرت عائشة تبرّر هذا التناقض في كلامها وسلوكها ، فقالت له : إنّهم استتابوه ثمّ قتلوه ، وقد قلت وقالوا ، وقولي الأخير خير من قولي الأوّل .
وهي حجّة واهية لا واقع لها ، فهل أنّها كانت حاضرة حينما أحاط الثوار بعثمان فأعلن لهم توبته فلم يحفلوا بها , وعدوا عليه فقتلوه كما تقول ؟!

ولم يخفَ على ابن خالها هذا التناقض الصريح في قولها ، فراح يردّ عليها :
فمـنكِ البداء ومنكِ الغِيَرْ ومنكِ الرياح ومنكِ المطرْ
وأنـتِ أمرتِ بقتلِ الإمام وقُـلتِ لـنا إنّـه قد كفرْ
فهبنا(1) أطعناكِ في قتلِه وقـاتِلُه عـندنا مَنْ أمرْ
ـــــــــــــــــــــ
(1) في رواية : ( ونحن ) .
الصفحة (139)
ولـم يسقُطِ السقفُ من فوقنا ولـم تنكسف شمسُنا والقمرْ
وقد بايعَ الناسُ ذا تُدرَأٍ(1) يُـزيلُ الـشبا ويقيمُ الصَّعرْ
و يـلبسُ لـلحربِ أثـوابها وما مَنْ وفى مثلُ مَنْ قد غدرْ

وغاظها قوله فأعرضت عنه , وقفلت راجعة إلى مكة(2) وهي كئيبة حزينة ؛ لأنّ الخلافة آلت إلى باب مدينة علم النبي () وأبي سبطيه , وراحت تندب عثمان ؛ فقد اتّخذت قتله ورقة رابحة للإطاحة بحكم الإمام ، يقول شوقي :
أثأرُ عثمانَ الذي شجاها أم غصّةٌ لم ينتزع شجاها
ذلـك فتقٌ لم يكن بالبالِ كيدُ النساءِ موهنُ الجبالِ

إنّ دم عثمان لا يصلح بأيّ حال من الأحوال أن يكون من بواعث ثورتها على حكومة الإمام ؛ فقد كانت هناك أسباب وثيقة دعتها إلى هذا الموقف الذي لا تُحمد عليه ، وقد ذكرناها بالتفصيل في كتابنا (حياة الإمام الحسن) .
الزحف إلى البصرة

وانضمّ طلحة والزّبير إلى عائشة ومعهما جميع رجال الحكم المُباد من ولاة عثمان وغيرهم من المعادين لحكومة الإمام () ، وقد قرّر زعماء الفتنة الزحف إلى البصرة لاحتلالها ، ونادى المنادي في مكة : أيّها الناس ، إنّ اُمّ المؤمنين وطلحة والزّبير شاخصون إلى البصرة ، فمَنْ كان يريد إعزاز الإسلام , وقتال المحلّين , والطلب بدم عثمان ، ولم يكن عنده مركب
ـــــــــــــــــــــ
(1) ذو تُدرأٍ : أي ذو عزيمة ومنعة . الشبا : المكرون . الصعر : ميل في الوجه أو في أحد الشفتين ، والمراد أنّه يقيم الشيء الملتوي .
(2) تاريخ الطبري 3 / 454 ، وغيره .
الصفحة (140)

ولا جهاز , فهذا جهازه وهذه نفقته .
وزوّدوا الجند بالسلاح والعتاد والأموال ، وقد كان قسم من النفقات من يعلي بن اُمية والي عثمان ؛ فقد أعان بأربعمئة ألف , وحمل سبعين رجلاً(1) .
واعتلت عائشة على جملها ولم ترغب فيه ، وصادفوا في الطريق العرني , وكان عنده جمل اُعجب به أتباع عائشة ، فقالوا للعرني : يا صاحب الجمل , تبيع جملك ؟
ـ نعم .
ـ بِكَم ؟
ـ بألف درهم .
ـ مجنون أنت ، جمل يباع بألف درهم !
ـ نعم ، جملي هذا .
ـ وممّ ذلك ؟
ـ ما طلبت عليه أحداً إلاّ أدركته ، ولا طلبني وأنا عليه قطّ إلاّ فتّه .
ـ لو تعلم لمَنْ نريده لأحسنت بيعنا .
ـ لمَنْ تريده ؟
ـ لاُمّك .
ـ قد تركت اُمّي في بيتها قاعدة ما تريد براحاً .
ـ إنّما نريده لاُمّ المؤمنين عائشة .
ـ هو لكم ، خذوه بغير ثمن .
ـ لا , ارجع معنا إلى الرحل نعطيك ناقة ونزيدك دراهم .
ـــــــــــــــــــــ
(1) تاريخ الطبري 3 / 454 ، وغيره .
الصفحة (141)

ورجع معهم فأعطوه ناقة مهرية , وزادوه أربعمئة أو ستمئة درهم(1) .
واعتلت عليه عائشة وقد احتفى بها أنصارها من الاُمويِّين وغيرهم من الطامعين في الحكم .
ماء الحوأب

وسارت قافلة عائشة تجدّ في السير لا تلوي على شيء ، فاجتازت على مكان يُقال له الحوأب ، فتلقّت كلاب الحيّ القافلة بهرير وعواء ، فذعرت عائشة من شدّة ذلك النباح ، فقالت لمحمد بن طلحة : أيّ ماء هذا ؟
ـ ماء الحوأب .
فذعرت عائشة ، وقالت : ما أراني إلاّ راجعة .
ـ لِمَ يا اُمّ المؤمنين ؟
ـ سمعت رسول الله () يقول لنسائه : (( كأنّي بإحداكنَّ قد نبحتها كلاب الحوأب(2) ، وإيّاك أن تكوني يا حُميراء )) .
فردّ عليها محمّد وقال لها : تقدّمي رحمك الله ، ودعي هذا القول . ولم تقتنع عائشة , وذاب قلبها أسى على ما فرّطت في أمرها .
ـــــــــــــــــــــ
(1) تاريخ الطبري 3 / 475 .
(2) روى ابن عباس عن النبي () أنّه قال يوماً لنسائه وهنّ جميعاً عنده : (( أيّتكنّ صاحبة الجمل الأدبب , تنبحها كلاب الحوأب ، يُقتل عن يمينها وشمالها قتلى كثيرة كلّهم في النار ، وتنجو بعد ما كادت ؟ )) . جاء ذلك في شرح النهج 2 / 497 ، وهذا الحديث من أعلام النبوّة ، ومن إخباره بالمغيّبات .
الصفحة (142)

وعلم طلحة والزّبير بإصرارها على الرجوع إلى يثرب , فأقبلا يلهثان ؛ لأنّها متى انفصلت عن الجيش تفرّق وذهبت آمالهما أدراج الرياح ، فتكلّما معها في الأمر فامتنعت من إجابتهما ، فجاؤوا لها بشهود اشتروا ضمائرهم فشهدوا عندها أنّه ليس بماء الحوأب . وهي أوّل شهادة زور تُقام في الإسلام(1) ، وبهذه الشهادة الكاذبة استطاعوا أن يحرفوها عمّا صمّمت عليه .
في ربوع البصرة

وأشرفت قافلة عائشة على البصرة ، فلمّا علم ذلك عثمان بن حنيف والي البصرة أرسل إلى عائشة أبا الأسود الدؤلي ليسألها عن قدومها ، ولمّا التقى بها قال : ما أقدمك يا اُمّ المؤمنين ؟

ـ أطلب بدم عثمان .

فردّ عليها من منطقه الفيّاض قائلاً : ليس في البصرة من قتلة عثمان أحد .

ـ صدقت , ولكنّهم مع علي بن أبي طالب بالمدينة ، وجئت أستنهض أهل البصرة لقتاله ، أنغضب لكم من سوط عثمان ولا نغضب لعثمان من سيوفكم ؟!

فردّ عليها أبو الأسود ببالغ الحجّة قائلاً : ما أنتِ من السوط والسيف , إنّما أنتِ حبيبة رسول الله () ، أمرك أن تقرّي في بيتك وتتلي كتاب ربّك , وليس على النساء قتال ، ولا لهنّ الطلب بالدماء ، وأنّ عليّاً لأولى منكم وأمسّ رحماً ؛ فإنّهما ابنا عبد مناف ؟!

ولم تقنع عائشة وأصرّت على محاربة الإمام () ، وقالت لأبي الأسود : لست بمنصرفة حتّى أمضي لما قدمت إليه ، أفتظنّ [يا] أبا الأسود أنّ أحداً يقدم
ـــــــــــــــــــــ
(1) مروج الذهب 2 / 342 ، تاريخ اليعقوبي 2 / 181 .على قتالي ؟

فأجابها أبو الأسود : أما والله لتقاتلنَ قتالاً أهونه الشديد .

ثمّ تركها وانصرف صوب الزّبير , فقابله وذكّره بماضي جهاده وولائه للإمام أمير المؤمنين () قائلاً له : يا أبا عبد الله ، عهد الناس بك وأنت يوم بويع أبو بكر آخذ بقائم سيفك تقول : لا أحد أولى بهذا الأمر من ابن أبي طالب ، وأين هذا المقام من ذاك ؟

فأجابه الزّبير : نطلب بدم عثمان .

ونظر إليه أبو الأسود فأجابه بسخرية : أنت وصاحبك ولّيتماه فيما بلغنا .

ورأى الزّبير في كلام أبي الأسود النصح والسداد فانصاع لقوله ، إلاّ أنّه طلب منه مواجهة طلحة , وعرض الأمر عليه ، فمضى أبو الأسود مسرعاً نحو طلحة وكلّمه في الأمر فلم يجد منه أيّة استجابة ، وقفل أبو الأسود راجعاً إلى ابن حنيف فأخبره بنيّة القوم وإصرارهم على الحرب .

وعقد الفريقان هدنة مؤقتة ، وكتبا في ذلك وثيقة وقّعها كلا الطرفين على أن لا يفتح أحدهما على الآخر باب الحرب حتّى يستبين في ذلك رأي الإمام أمير المؤمنين () .
مظاهرة نسوية لتأييد عائشة

وقامت بعض السيّدات من النساء بمظاهرة لتأييد عائشة وهنَّ يجبنَ في شوارع يثرب ويضربنَ بالدفوف ، وقد رفعنَ أصواتهنَّ بهذا النشيد : ما الخبر ، ما الخبر ، إنّ عليّاً كالأشقر ، إن تقدّم عقر ، وإن تأخّر نحر .
الصفحة (144)

ولمّا سمعت ذلك اُمّ المؤمنين السيدة اُمّ سلمة خرجت هي وحفيدة الرسول العقيلة زينب (عليها السّلام) تحفّ بها إماؤها , فجعلت توبّخهنّ ، وقالت لهنّ : إن تظاهرتنَ على أبي فقد تظاهرتنَ من قبل على جدّي رسول الله () . فاستحيت النساء وتفرّقنَ ، وعادت السيدة زينب(عليها السّلام) إلى بيتها(1) .
نقض الاتفاق

وعمل حزب عائشة إلى نقض الهدنة ؛ فقد هجموا على والي البصرة ابن حنيف , وكان مقيماً في دار الإمارة , فاعتقلوه ونكّلوا به ، فنتفوا شعر رأسه ولحيته وحاجبيه ، ونهبوا ما في بيت المال ، وثارت الفتنة في البصرة ؛ فقد قتلوا خزّان بيت المال وبعض الشرطة ، ووقعت معركة رهيبة بين أنصار الإمام () وحزب عائشة ، وقد حملوها على جمل ، وسُمّيت تلك الوقعة بيوم الجمل الأصغر ، وقد استشهد فيها جمع من المسلمين(2) .
زحف الإمام () إلى البصرة

وزحف الإمام أمير المؤمنين () بجيوشه إلى البصرة للقضاء على هذا الجيب المتمرّد الذي ينذر بانتشار التمرّد وسقوط الحكم ، وحينما انتهى إلى البصرة بعث عبد الله بن عباس وزيد بن صوحان إلى عائشة وطلحة والزّبير يدعوهم إلى السلم وعدم إراقة الدماء ، فلم يستجيبوا لدعوته وأصرّوا على التمرّد والبغي ومناجزة الإمام () .

وأرسل الإمام فتىً نبيلاً وأمره أن يحمل كتاب الله تعالى ويدعوهم إلى تحكيمه ، فأخذ الفتى الكتاب العزيز وجعل يلوّح به أمام عسكر عائشة , وهو يدعوهم إلى العمل بما فيه ويدعوهم إلى السلم والوئام ، فحملوا عليه فقطعوا
ـــــــــــــــــــــ
(1) زينب الكبرى / 25 .
(2) عرضنا لهذه الأحداث بصورة مفصّلة في كتابنا حياة الإمام الحسن () .
الصفحة (145)

يمينه ، فأخذ المصحف بيساره , وجعل يدعوهم إلى السلم والعمل بما في الكتاب ، فحملوا عليه فقطعوا يساره ، فأخذ المصحف بأسنانه ، وجعل يناديهم : الله في دمائنا ودمائكم .
فانثالوا عليه يرشقونه بسهامهم حتّى سقط إلى الأرض جثة هامدة ، ولم تُجْدِ معهم هذه الدعوة الكريمة , وأصرّوا على الحرب .
إعلان الحرب

ولم تُجب مع عائشة وحزبها دعوة الإمام () إلى السلم وعدم إراقة الدماء ؛ فقد أصرّوا على الحرب والتمرّد على الحقّ ؛ فاضطرّ الإمام إلى مناجزتهم ، فعبّأ جنوده ، ونظرت إليه عائشة وهو يجول بين الصفوف , فقالت : انظروا إليه كأنّ فعله فعل رسول الله () يوم بدر ! أما والله ما ينتظر بكم إلاّ زوال الشمس .

ومع علمها بأنّ فعله كفعل رسول الله () , كيف ساغ لها أن تحاربه ؟!وخاطبها الإمام () , فقال لها : (( يا عائشة ، عمّا قليل ليصبحنَّ نادمين ))(1) .

وأعطى الإمام خطته العسكريّة لجنوده ، فقال لهم : (( أيّها الناس ، إذا هزمتموهم فلا تجهزوا على جريح ، ولا تقتلوا أسيراً ، ولا تتّبعوا مولّياً ، ولا تطلبوا مدبراً ، ولا تكشفوا عورة ، ولا تمثّلوا بقتيل ، ولا تهتكوا ستراً ، ولا تقربوا من أموالهم إلاّ ما تجدونه في معسكرهم من سلاح أو كراع , أو عبد أو أمة ، وما سوى ذلك فهو ميراث لورثتهم على كتاب الله )) .
ومثّلت هذه الوصية الشرف والرأفة والرحمة ، كما وضعت الأصول الفقهية في حرب المسلمين بعضهم مع بعض ، كما أعلن ذلك بعض الفقهاء .
ـــــــــــــــــــــ
(1) حياة الإمام الحسن () 1 / 447 .
الصفحة (146)

واعتلت عائشة جملها المسمّى بعسكر وأخذت كفّاً من حصباء فرمت به أصحاب الإمام () , وقالت : شاهت الوجوه . فأجابها رجل من شيعة الإمام : يا عائشة ، وما رميت إذ رميت ولكنّ الشيطان رمى .

وتولّت عائشة القيادة العامة للقوات المسلحة ، فكانت هي التي تصدر الأوامر للجيش . وبدأ القتال كأشدّه ، وقد حمل الإمام () على معسكر عائشة وقد رفع العلم بيسراه ، وشهر بيمينه ذا الفقار الذي طالما كشف به الكرب عن رسول الله () .

واشتدّ القتال ، وقد بان الانكسار في جيش عائشة , وقد قُتل طلحة والزّبير والكثيرون من قادة عسكر عائشة ، وأخذت عائشة تبثّ في نفوس عسكرها روح التضحية والنضال ، وقد دافعوا عنها بحماس بالغ ، وقد شاعت القتلى بين الفريقين .
عقر الجمل

وأحاط أصحاب عائشة بجمل اُمّهم ، فدعا الإمام () عمّار بن ياسر ومالك الأشتر ، وأمرهما بعقر الجمل قائلاً : (( اذهبا فاعقرا هذا الجمل ؛ فإنّ الحرب لا يخمد ضرامها ما دام حيّاً ؛ فإنّهم قد اتّخذوه قبلة لهم )) .
وانطلق الأشتر وعمّار ومعهما فتية من مراد ، فوثب فتى يُعرف بمعمر بن عبد الله إلى الجمل فضربه على عرقوبه فهوى إلى الأرض , وله صوت منكر لم يُسمع مثله ، وتفرّق أصحاب عائشة حينما هوى الصنم الذي قدّموا له آلاف القتلى ، وأمر الإمام () بحرقه وذرّ رماده في الهواء ؛ لئلا تبقى منه بقيّة يفتتن بها الغوغاء ، وبعدما فرغ من ذلك قال : (( لعنه الله من دابة ، فما أشبهه بعجل بني إسرائيل ! )) .
الصفحة (147)

ثمّ مدّ بصره نحو الرماد الذي تناهبته الريح وتلا قوله تعالى : ( وَانْظُرْ إِلَى إِلَهِكَ الَّذِي ظَلْتَ عَلَيْهِ عَاكِفاً لَنُحَرِّقَنَّهُ ثُمَّ لَنَنْسِفَنَّهُ فِي الْيَمِّ نَسْفاً )(1) .
وانتهت بذلك حرب الجمل التي أثارتها الأحقاد والأطماع ، وقد أشاعت بين المسلمين الضغائن والفتن , وألقتهم في شرّ عظيم .
العفو العام

وأصدر الإمام () أوامره بالعفو العام عن جميع أعدائه وخصومه ، وطلبت عائشة من الإمام أن يعفو عن ابن أختها عبد الله بن الزّبير وهو من ألدّ أعدائه فعفا عنه ، وكذلك عفا عن مروان بن الحكم ، وقد توسّط في أمره الحسن والحسين () ، وآمن الأسود والأحمر ـ على حدّ تعبير اليعقوبي ـ ، ولم ينكّل بأيّ أحد من خصومه وأعدائه .
تسريح عائشة

وسرّح الإمام () عائشة وردّها إلى يثرب ، ولم يعرض لها بأيّ مكروه أو أذى ، وقد غادرت البصرة ونشرت في ربوعها الحزن والحداد والثكل ، وتصدّعت الوحدة بين المسلمين ، وشاعت بينهم الكراهية والبغضاء .
وعلى أيّ حال , فقد وعت سيّدة النساء زينب (عليها السّلام) هذه الأحداث , وعرفت ما تحمله الاُسر القرشيّة من العداء العارم والبغض الشديد لأبيها () ، وأنّها قد شنّت الحرب عليه كما شنّته على أخيه رسول الله () من قبل .
تمرّد معاوية

ومهّدت عائشة الطريق إلى معاوية ، وفتحت له أبواب المعارضة لحكومة الإمام
ـــــــــــــــــــــ
(1) سورة طه / 97 .
الصفحة (148)

أمير المؤمنين () ، فلولاها لما تمكّن ابن هند من مناجزة الإمام ورفضه لبيعته .
وقد اتّخذ معاوية دم عثمان ورقة رابحة للمطالبة بدمه ، ومن المؤكّد زيف هذه الدعوى وعدم واقعيتها ؛ فقد استنجد به عثمان حينما حوصر وطلب منه أن يسعفه بقوّة عسكرية لرفع الحصار عنه فلم يستجب له حتّى أجهز عليه الثوار .

إنّ الذي دعا معاوية إلى التمرّد على حكومة الإمام () هو ما يعلمه من سيرة الإمام وسياسته الهادفة إلى إقامة الحقّ وتدمير الباطل ؛ فالإمام لا يُبقي معاوية في جهاز الحكم لحظة واحدة ، ويُجرّده من جميع أمواله التي اختلسها من بيت مال المسلمين ، ويُحاسبه حساباً عسيراً على جميع تصرّفاته المجافية لروح الإسلام ؛ من لبس الحرير والديباج , واستعمال أواني الذهب والفضة ، والإسراف الفظيع في بناء القصور ، ولا يقرّ شرعيّة دعم عمر له وثنائه عليه ومبالغته في تأييده ؛ فهو الذي لم يحاسبه على أعماله التي تصادمت مع تعاليم الإسلام , وقال فيه : إنّه كسرى العرب . واعتبر الإمام ذلك تعدٍّ على سياسة العدل التي تبنّاها في جميع مراحل حكمه وحياته .

وعلى أيّ حال , فقد بعث الإمام إلى معاوية جرير بن عبد الله البجلي وزوّده برسالة يدعوه فيها إلى مبايعته والدخول في طاعته ، إلاّ أنّ معاوية أصرّ على غيّه ورفض الاستجابة لدعوة الحقّ والوئام ؛ فقد توفّرت عنده القوّة العسكريّة التي يستطيع بها على محاربة الإمام .
زحف معاوية لصفّين

وبعدما توفّرت لمعاوية الإمكانيات العسكريّة والقوى المكثفة زحف بها إلى صفّين وأقام فيها ، وكان أوّل عمل قام به احتلال الفرات , واعتبر ذلك أوّل الفتح ؛ لأنّه حبس الماء على عدوّه ، وظلّت جيوشه مقيمة هناك تصلح أمرها وتنظّم قواها لتستعدّ إلى حرب وصيّ رسول الله () وباب مدينة علمه .
الصفحة (149)
مسير الإمام () إلى صفّين

وتهيّأ الإمام () للخروج إلى صفّين ، وأمر الحارث بن الأعور أن ينادي في الناس بالخروج إلى معسكرهم في النخيلة , فعجّت الكوفة بالنفار ، وخرج الإمام أمير المؤمنين () تحفّ به البقية الخيرة من صحابة رسول الله () وفي طليعتهم الصحابي العظيم عمّار بن ياسر .
ولزمت جيوش الإمام () في زحفها السريع الفرات حتّى انتهت إلى صفّين ، فلم يجدوا شريعة يستقون منها الماء إلاّ وعليها الحرس الكثير وهم يُمانعونهم أشدّ الممانعة من الوصول إليه ، فأخبروا الإمام () , فدعا صعصعة بن صوحان وأمره بمقابلة معاوية ليسمح لجنوده بورود الماء ، وسار إليه صعصعة وعرض عليه مقالة الإمام ، فامتنع من إجابته , واعتبر ذلك أوّل الفتح .

وحملت جيوش الإمام حتّى احتلت الفرات وانهزمت جيوش معاوية ، وطلب أصحاب الإمام منه أن يمنع الماء عن عسكر معاوية فأبى () ، وأبى أن يكيل لهم الصاع بالصاع ، وقابلهم مقابة المحسن الكريم إلى أعدائه وخصومه.
الحرب

وأوفد الإمام إلى معاوية رسل السّلام رجاءً في الصلح وحقن الدماء ، فردّهم بعنف وأعلمهم أنّه مصمّم على الحرب ، ورجعت كتائب السلام إلى الإمام ، وعرّفته برفض معاوية لدعوته وإصراره على الحرب .

ولم يجد الإمام بدّاً من الحرب ، فأصدر تعاليمه لعموم جيشه بعدم قتل المدبر ، وعدم الإجهاز على الجريح ، وعدم المُثلة بأيّ قتيل منهم ، وعدم أخذ أموالهم إلاّ ما وجد في معسكرهم ، وغير ذلك من صنوف الشرف والرحمة التي لم يعهد لها نظير في عالم الحروب .

وبدت الحرب بين جيش الإمام () وجيش معاوية , فكانت كتائب من عسكر



الصفحة (150)

الإمام تخرج إلى فرق من أهل الشام فيقتتل الفريقان نهاراً كاملاً أو طرفاً منه ، ولم يرغب الإمام () أن تقع حرب عامة بين الفريقين ؛ رجاء أن يجيب معاوية إلى الصلح .
وخرج الزعيم الكبير مالك الأشتر يتأمّل في رايات أهل الشام فإذا هي رايات المشركين التي خرجت لحرب رسول الله () فراح يقول لأصحابه : أكثر ما معكم رايات كانت مع رسول الله () ، ومع معاوية رايات كانت مع المشركين على عهد رسول الله () ، فما يشكّ في قتال هؤلاء إلاّ ميّت القلب .
وخطب الصحابي العظيم عمّار بن ياسر فجعل يبيّن للمسلمين واقع معاوية , وأنّه جاهلي لا إيمان له ، وأنّه معاد لله ورسوله .
وعلى أيّ حال ، فلم تقع حرب عامة بين الفريقين ، وقد سئم الجيش العراقي هذه الحرب وآثر العافية ، كما سئم ذلك جيش أهل الشام .
الحرب العامة

ولمّا رأى الإمام () أنّه لا أمل في الإصلاح وجمع الكلمة عبّأ أصحابه وتهيّأ للحرب العامة ، وفعل معاوية مثل ذلك ، وبدأ الهجوم العام ، وبذلك فقد استعرت نار الحرب واشتدّ أوارها ، وقد خيّم الذعر والفزع على كلا الجيشين ، وقد انكشفت ميمنة الإمام وتضعضع قلب جيشه إلاّ أنصار ربيعة قد ثبتت في الميدان ، وأخذت على عاتقها أن تقوم بحماية الإمام ونصرة الحقّ .
وقد استشهد في المعركة بطل الإسلام المجاهد العظيم عمّار بن ياسر ، وقد حزن عليه الإمام كأشدّ ما يكون الحزن ، وكذلك استشهد غيره من أعلام الإسلام وكان لفقدهم أثر كبير في انهيار الجيش العراقي .
هزيمة معاوية

وبدا الانكسار في جيش ابن هند وكاد أصحابه يبلغون فسطاطه ، وهمّ بالفرار إلاّ أنّه
الصفحة (151)

تذكر قول ابن الإطنابة :
أبت لي عفّتي وحياءُ نفسي وإقدامي على البطلِ المشيحِ
وإعطائي على المكروهِ مالي وأخذي الحمدَ بالثمنِ الربيحِ
وقولي كلّما جشأت وجاشتْ مكانك تحمدي أو تستريحي

فردّه هذا الشعر إلى الثبات وعدم الهزيمة كما كان يتحدّث بذلك أيام العافية .
مكيدة رفع المصاحف

ولم تكن مكيدة رفع المصاحف وليدة الساعة , ولم تأت عفواً ، وإنّما كانت نتيجة مؤامرة سرّية بين عمرو بن العاص وبعض قادة الجيش العراقي , وعلى رأسهم الخائن العميل الأشعث بن قيس . لقد رفع أهل الشام المصاحف على أطراف الرماح وهم يدعون الجيش العراقي إلى تحكيم كتاب الله ، فاندفعت كتائب من عسكر الإمام () وهم يهتفون : لقد أعطى معاوية الحقّ ؛ دعاك إلى كتاب الله فاقبل منه .
لقد استجاب لهذه الدعوة الكاذبة السذّج , والسائمون من الحرب , والطامعون في الحكم , وعملاء الحكم الاُموي ، وجعل الأشعث بن قيس يشتدّ كالكلب رافعاً صوته ليُسمع الجيش : ما أرى الناس إلاّ قد رضوا ، وسرّهم أن يجيبوا القوم إلى ما دعوهم إليه من حكم القرآن ، فإن شئت أتيت معاوية فسألته ما يريد .
وأخذ الأشعث يلحّ على الإمام () وهو يمتنع من إجابته وكثرة إلحاحه ، وقد استجابت له فرق من الجيش فلم يجد الإمام بُدّاً من إجابته ، فمضى مسرعاً نحو معاوية فقال له : لأي شيء رفعتم هذه المصاحف ؟
الصفحة (152)

والأشعث يعلم لِمَ رفعوا المصاحف ولاذوا بها , فأجابه معاوية : لنرجع نحن وأنتم إلى أمر الله عزّ وجلّ في كتابه ؛ تبعثون منكم رجلاً ترضون به ونبعث منّا رجلاً ، ثمّ نأخذ عليهما أن يعملا بما في كتاب الله لا يعدوانه ، ثم نتّبع ما اتّفقنا عليه .
وهل ابن هند يؤمن بكتاب الله ويتّبع ما حكم به ؟! أوَليس خروجه على السلطة الشرعيّة مجافية لتعاليم القرآن ؟!
وعلى أيّ حال , فقد انبرى الخائن الأشعث يصدّق مقالة معاوية قائلاً : هذا هو الحقّ .
وانبرى الإمام () فزيّف دعوة التحكيم ، وعرّف الجماهير أنّها خدعة ومكيدة ، وأنّ معاوية وحزبه لا يؤمنون بالقرآن ، وأنّهم على ضلالهم القديم .

وأصرّ جيش الإمام على الاستجابة لدعوة معاوية , وهدّدوه بالقتل إن رفض ما أرادوه ؛ فاستجاب () مرغماً مكرهاً على ذلك ، وقد أشرفت بعض قطعات جيشه بقيادة الزعيم الكبير مالك الأشتر على الفتح ، ولم يبقَ بينها وبين القبض على معاوية إلاّ مقدار حلبة شاة ، فطلب منه الإمام () في تلك الساعة الحرجة أن يسحب الجيش ويوقف القتال ، فلم يستجب أوّلاً إلى ذلك ، فأمره الإمام () ثانياً بالانسحاب ؛ لأنّ جيشه قد أحاط به وأعلنوا العصيان وهدّدوه بالقتل ، فاستجاب الأشتر وانسحب عن ميدان القتال .
وعلى أيّ حال , فقد أوقف القتال ، وكان ذلك فوزاً ساحقاً لمعاوية ؛ فقد سلم من الخطر المحدق به ، ومُني جيش الإمام بالتمرّد والعصيان ، وشاعت في جميع قطعاته التفرقة والخلاف .
انتخاب الأشعري

وأصرّ المتمرّدون على انتخاب الأشعري ليكون ممثلاً للجيش العراقي ، فرفض
الصفحة (153)

الإمام ذلك ورشّح عبد الله بن عباس أو مالك الأشتر فلم يستجيبوا له وأرغموه ثانياً على انتخابه فخلّى بينهم وبين رغباتهم ، وقد ذابت نفسه أسى وحسرات على ذلك ؛ فقد أيقن بانتهاء حكومته وفوز معاوية بالحكم .
وانتخب الشاميون عمرو بن العاص ممثّلاً لهم ، وهو أدهى سياسي في ذلك العصر ، وبذلك فقد عُقدت هدنة مؤقتة راح فيها معاوية يبني جيشه ويُصلح شؤونه . وأمّا جيش الإمام فقد مُني بالتفكّك والانحلال والتخاذل ، وانتشرت في جميع قطعاته الفكرة الهدّامة , وهي فكرة الخوارج كما سنتحدّث عن ذلك .
اجتماع الحكمين

وأوفد معاوية إلى الإمام () رسله يستنجزه الوفاء بالتحكيم ، وإنّما طلب منه ذلك لعلمه بما اُصيب به جيش الإمام من التخاذل والفتن والانحلال ، وأجابه الإمام إلى ذلك ؛ فأوفد أربعمئة رجل عليهم شريح بن هانئ الحارثي وهو من أجلّ أصحاب الإمام ، كما كان معهم عبد الله بن عباس حبر الاُمّة ، ومعهم قاضي التحكيم الخامل الغبي أبو موسى الأشعري , فأرشاه ابن العاص بالولائم , وقابله بمزيد من الحفاوة والتكريم ليجعله طوع إرادته ، وقد اتّفق معه على أن يعزل كل صاحبه ويرشّحا عبد الله بن عمر .

وقدّم ابن العاص الأشعري فاعتلى المنبر فخلع عليّاً عن منصبه , وكذلك خلع معاوية ورشّح ابن عمر ، وقام بعده ابن العاص فأقرّ صاحبه وخلع عليّاً . ولمّا أعلن ابن العاص خلعه لعليّ وإقامته لمعاوية انطلق صوبه الأشعري فقال له : ما لك عليك لعنة الله ؟! ما أنت إلاّ كمثل الكلب تلهث . فصاح ابن العاص : لكنّك مثل الحمار يحمل أسفاراً .
نعم ، هما كلب وحمار ، وهرب الأشعري إلى مكة يصحب معه الخزي والعار
الصفحة (154)

بعدما أحدث الفتنة والانشقاق بين جيش الإمام () ، وقد أكثر شعراء ذلك العصر في ذمّه . يقول فيه أيمن بن خزيم الأسدي :
لـو كانَ للقومِ رأيٌ يعصمونَ بهِ مـن الضلالِ رموكم بابنِ عباسِ
لـلـهِ درّ أبـيـهِ أيّـما رجـلٍ ما مثلهُ لفصالِ الخطبِ في الناسِ
لـكن رموكم بشيخٍ من ذوي يمنٍ لم يدرِ ما ضرب أخماسٍ بأسداسِ
إن يـخلُ عمرو به يقذفهُ في لججٍ يـهوي بهِ النجمُ تيساً بين أتياسِ
أبـلغ لـديكَ عـلياً غـير عاتبه قولَ امرئ لا يرى بالحقِّ من باسِ
مـا الأشـعري بمأمونٍ أبا حسنٍ فاعلم هُديتَ وليس العجزُ كالراسِ
فـاصدم بصاحبكَ الأدنى زعيمهمُ إنّ ابـنَ عـمِّكَ عباسٌ هو الآسي

لقد امتحن الإمام () كأشدّ وأقسى ما يكون الامتحان بهؤلاء الأوغاد الذين وقفوا أمام الإصلاح الاجتماعي ، ومكّنوا الظالمين والمنحرفين من الاستبداد باُمور المسلمين .
فتنة الخوارج

وتمرّد الخوارج على الإمام () وألزموا بأمر التحكيم ، وهم الذين أرغموه على ذلك وهدّدوه بالقتل إن لم يوقف القتال مع معاوية ، وأخذوا يعيثون في الأرض فساداً ؛ فقد رحلوا عن الكوفة وعسكروا في النهروان ، فاجتاز عليهم الصحابي الجليل عبد الله بن خبّاب بن الأرت فأحاطوا به قائلين : مَنْ أنت ؟
ـ رجل مؤمن .
ـ ما تقول في عليّ بن أبي طالب ؟
ـ إنّه أمير المؤمنين ، وأوّل المسلمين إيماناً بالله ورسوله .
ـ ما اسمك ؟
الصفحة (155)

ـ عبد الله بن خباب بن الأرت صاحب رسول الله .
ـ أفزعناك ؟
ـ نعم .
ـ لا روع عليك , حدّثنا عن أبيك بحديث سمعه عن رسول الله () لعلّ الله أن ينفعنا به .
ـ نعم ، حدّثني عن رسول الله () أنّه قال : (( ستكون فتنة بعدي يموت فيها قلب الرجل كما يموت بدنه ، يُمسي مؤمناً ويُصبح كافراً )) .
فهتفوا جميعاً : لهذا الحديث سألناك , والله لنقتلنّك قتلة ما قتلنا بمثلها أحداً . وعمدوا مصرّين على الغيّ والعدوان , فأوثقوه كتافاً وأقبلوا به وبامرأته ، وكانت حبلى قد أشرفت على الولادة ، فأنزلوهما تحت نخل , فسقطت رطبة منها , فبادر بعضهم إليها فوضعها في فيه ، فأقبل إليه بعضهم منكراً عليه قائلاً : بغير حلّ أكلتها ! فألقاها بالوقت من فيه .

واخترط بعضهم سيفه فضرب به خنزيراً لأهل الذمّة فقتله ، فصاح به بعضهم : إنّ هذا من الفساد في الأرض ! فبادر الرجل إلى الذمّي فأرضاه ، ولمّا نظر عبد الله بن خباب احتياط هؤلاء في هذه الاُمور سكن روعه , وقال لهم : لئن كنتم صادقين فيما أرى ما عليَّ منكم بأس ؛ ووالله ما أحدثت حدثاً في الإسلام ، وإنّي لمؤمن , وقد آمنتموني وقلتم لا روع عليك .
فلم يعنَ هؤلاء الأخباث الذين هم صفحة خزي وعار على البشرية ، فجاؤوا به وبامرأته فأضجعوه على شفير النهر و ووضعوه على ذلك الخنزير الذي قتلوه , ثمّ ذبحوه ، وأقبلوا على امرأته وهي ترتعد من الخوف , فقالت لهم مسترحمة :
الصفحة (156)

إنّما أنا امرأة ، أما تتّقون الله ؟
فلم يعنوا باسترحامها , وأقبلوا عليها كالكلاب فقتلوها وبقروا بطنها ، وانعطفوا على ثلاث نسوة فقتلوهنّ ، وفيهنّ اُمّ سنان الصيداوية , وكانت قد صحبت النبي () ، ولم يقف شرّ هؤلاء الأرجاس عند هذا الحدّ ، وإنّما أخذوا يذيعون الذعر وينشرون القتل والفساد في الأرض .
واقعة النهروان

وبعدما أعلن الخوارج تمرّدهم على حكومة الإمام () ، ورفعوا شعارهم ( لا حكم إلاّ لله ) , ولكنّه لم يعد في جميع تصرفاتهم وشؤونهم ظلاً وواقعاً لهذا الشعار ؛ فقد كان شعارهم الحقيقي لا حكم إلاّ للسيف والفساد .
ولمّا أراد الإمام () الخروج إلى محاربة معاوية ، وعبّأ أصحابه وجنوده لذلك ، أشار عليه بعض أصحابه بمناجزة الخوارج ؛ فإنّ خطرهم أعظم من خطر معاوية ، وإنّهم إذا نزحوا من الكوفة يُحدثون القتل والدمار فيها .

فاستصوب الإمام () رأيهم , وتحرّكت قوات الإمام لقتالهم ، وقبل أن تندلع نار الحرب وجّه الإمام () إليهم الحارث بن مرّة يطلب منهم قتلة عبد الله بن خباب ليقتصّ منهم , فأجابوا جميعاً : إنّا كلّنا قتلناهم ، وكلّنا مستحلّ لدمائكم ودمائهم .
وأقبل الإمام () بنفسه فوجّه لهم خطاباً رائعاً يدعوهم فيه إلى الطاعة ورفض التمرّد ، فلم يفهموا خطاب الإمام ونصيحته ، وطلبوا منه أن يشهد على نفسه بالكفر ويتوب إلى الله تعالى على قبوله للتحكيم ، فامتنع الإمام من إجابتهم ؛ فإنّه لم يقترف أيّ ذنب في أمر التحكيم , وإنّما هم أرغموه على ذلك .
ولمّا يئس الإمام () من إرجاعهم إلى الحقّ عبّأ جنوده لحربهم ، وفعل الخوارج مثل ذلك ، وهتف بعضهم :


يتبع














عرض البوم صور الشيخ عباس محمد   رد مع اقتباس
قديم 02-08-2015, 11:22 PM   المشاركة رقم: 3
معلومات العضو
الشيخ عباس محمد

إحصائية العضو







 
 


التوقيت

التواجد والإتصالات
الشيخ عباس محمد غير متواجد حالياً

كاتب الموضوع : الشيخ عباس محمد المنتدى : منتدى السيدة زينب (سلام الله عليها)
افتراضي

هل من رائح إلى الجنّة ؟
فأجابوه جميعاً : الرواح إلى الجنّة ، وهم يهتفون بشعارهم ( لا حكم إلاّ لله ) . وحملوا حملة منكرة على جيش الإمام ، وما هي إلاّ ساعة حتّى قُتلوا عن آخرهم , ولم يفلت منهم إلاّ تسعة ، وبذلك فقد انتهت حرب النهروان , وقد أعقبت هي وحرب صفّين تمرّد الجيش العراقي ؛ فقد مُني بالتمرّد والانحلال والسئم من الحرب ، وأصبح الإمام () يدعوهم فلا يستجيبون له ، كما فقد الإمام في هذين الحربين أعلام أصحابه وخيارهم الذين يعتمد على إخلاصهم وتفانيهم في الولاء له .
وعلى أيّ حال , فقد رجع الجيش من النهروان إلى الكوفة , وجبن عن ملاقاة معاوية ، وأخذ الإمام () يدعوهم إلى حربه فامتنعوا من إجابته .
اُفول دولة الحقّ

وأفلت دولة الحقّ التي تبنّت حقوق الإنسان وقضاياه المصيرية ، وواكبت العدل الاجتماعي والعدل السياسي ، وأقامت صروح الحقّ ومعاقل الشرف والفضيلة لكلّ إنسان .
ولم يعهد الشرق في جميع مراحل تأريخه حكماً نزيهاً وعادلاً كحكم الإمام أمير المؤمنين () الذي لم يخضع في جميع فتراته لأيّة عاطفة لا تتّصل بالحقّ ؛ فقد تجرّد حكمه عن كلّ نزعة يؤول أمرها إلى التراب .

وقد نقمت عليه كأشدّ ما يكون الانتقام الرأسمالية القرشيّة ؛ فقد خافت على مصالحها , وخافت على أموالها التي استولت عليها بغير حقّ ، فوضعت الحواجز والسدود أمام مخطّطاته السياسيّة الهادفة إلى الإصلاح الشامل ، واتّهمته بالتآمر على قتل عثمان عميد الاُسرة الاُمويّة ، واتّخذت من قتله ورقة رابحة لفتح أبواب الحرب عليه ، فكانت حرب الجمل وصفين والنهروان .

وقد انهارت حكومة الإمام () ، وبقي في أرض الكوفة يصعّد زفراته وآهاته ، وقد استفحل شرّ معاوية وقوي سلطانه , واتّسع نفوذه ,
الصفحة (158)

وزادت قواته العسكريّة وتسلّحت بجميع المعدّات الحربية في ذلك العصر ، وأخذ معاوية يشنّ الغارات على معظم الأقاليم الإسلاميّة الخاضعة لحكم الإمام ، فكانت جيوشه تقتل وتنهب الأموال ؛ وذلك لإسقاط هيبة حكومة الإمام , وأنّها لا تقدر على حماية الأمن العام للمواطنين .

وقد انتهت الغارات إلى الكوفة والإمام () يدعو جيشه لحماية البلاد وصدّ العدوان الغادر على الناس فلم يستجيبوا له ؛ فقد خلدوا إلى الراحة وسئموا الحرب وشاعت في أوساطهم أوبئة الخوف من معاوية . وأخذ الإمام الممتحن يناجي ربّه ويدعوه أن ينقذه من ذلك المجتمع الذي لم يعِ مبادئه وسياسته الهادفة إلى نشر العدل وإشاعة المساواة بين الناس .
وتوالت المحن الشاقة يتبع بعضها بعضاً على الإمام () ، وكان من أشقّها عليه الغارات المتّصلة التي تشنّها قوات معاوية على أطراف البلاد الإسلاميّة ، وترويعها للنساء والأطفال والعُجّز ، والإمام مسؤول عن توفير الأمن لهم وحمايتهم من كلّ أذى أو مكروه ، ولكنّه لم يجد سبيلاً لذلك ؛ لأنّ جيشه قد تمرّد عليه ، وسرت فيه أوبئة الخوف وأفكار الخوارج ممّا جعلته أعصاباً رخوة لا حراك فيها ولاحياة .

وكان من بين الذين اعتنقوا مبادئ الخوارج الأثيم المجرم عبد الرحمن بن ملجم ، فنزح مع عصابة من الخواج إلى مكة , وعقدوا فيها مؤتمراً عرضوا فيه ما لاقاه حزبهم من القتل والتنكيل ، وما مُني به العالم الإسلامي من الفتن والخطوب ، وعزوا ذلك إلى الإمام () ومعاوية وابن العاص , فصمّموا على اغتيالهم , فقال ابن ملجم : أنا أكفيكم عليّ بن أبي طالب .

وقال عمرو بن بكير التميمي : أنا أكفيكم عمرو بن العاص . وضمن الحجّاج بن عبد الله الصريمي اغتيال معاوية ، واتّفقوا على يوم معيّن وهو يوم الثامن عشر من شهر رمضان سنة أربعين من الهجرة ، كما عيّنوا ساعة الاغتيال وهي ساعة خروجهم إلى صلاة الصبح .

وقفل ابن ملجم إلى الكوفة ، وهو يحمل معه الشرّ والشقاء لجميع سكّان الأرض ، والتقى بقطام وكان هائماً في حبّها ، وكانت تعتنق فكرة الخوارج ؛ فقد قُتل أبوها وأخوها في واقعة النهروان ، وعرض عليها الزواج ،
الصفحة (159)

فشرطت عليه مهراً وهو ثلاثة آلاف درهم ، وعبد وقينة ، وقتل الإمام أمير المؤمنين () ، واتّفقا على هذا المهر المشؤوم , وفيه يقول الفرزدق :
ولـم أرَ مـهراً سـاقهُ ذو سماحةٍ كـمهرِ قـطامٍ مـن فصيحٍ وأعجمِ
ثـلاثـة آلافٍ وعـبـد وقـيـنة وضـرب عـليّ بـالحسامِ المسمّمِ
فـلا مهرَ أغلى من عليّ وإن غلا ولا فتكَ إلاّ دونَ فتك ابن ملجمِ (1)

ولمّا أطلّت ليلة الثامن عشر من شهر رمضان المبارك اضطرب الإمام () ، وجعل يمشي في صحن الدار وهو محزون النفس خائر القوى ، وهو ينظر إلى الكواكب ويتأمّل فيها فيزداد قلقه , وهو يقول : (( ما كذبتُ ولا كُذّبت ، إنّها الليلة التي وُعدت فيها )) .
وصادفت تلك الليلة ليلة الجمعة ، وقد أحياها بالصلاة وتلاوة كتاب الله ، ولمّا عزم على الخروج إلى الجامع ليؤدّي الصلاة صاحت في وجهه وزّ اُهديت إلى الإمام الحسن () ، فتنبّأ عن وقوع الحادث العظيم قائلاً : (( لا حول ولا قوّة إلاّ بالله ، صوائح تتبعها نوائح ))(2) .
وأقبل الإمام () على الباب ليفتحه فعسر عليه ؛ لأنّها كانت من جذوع النخل لا من الساج , فاقتلعها فانحلّ إزاره , فشدّه وهو يقول :
اشدد
حيازمكَ للموتِ فـإنّ الـموتَ لاقيكا
ولا تجزع من الموتِ إذا حـلّ بناديكا(3)

وخرج الإمام () , فلمّا انتهى إلى بيت الله جعل على عادته يوقظ الناس لصلاة الصبح ، وشرع الإمام في أداء الصلاة ، فلمّا استوى من السجدة الأولى هوى عليه
ـــــــــــــــــــــ
(1) مستدرك الحاكم 3 / 143 .
(2) مروج الذهب 3 / 291 .
(3) حياة الإمام الحسن () 1 / 557 .
الصفحة (160)

الوغد الأثيم ابن ملجم بسيفه وهو يهتف بشعار الخوارج : ( الحكم لله لا لك ) .
وضرب الإمام () على رأسه فقدّ جبهته الشريفة ، وانتهت الضربة القاسية إلى دماغه المقدّس الذي ما فكّر إلاّ في إقامة العدل وتدمير الظلم وإسعاد البؤساء والفقراء .
ولمّا أحسّ الإمام () بلذع السيف , رفع صوته قائلاً : (( فزت وربّ الكعبة )) .
لقد فزت يا إمام المتّقين ويعسوب الدين ، فأيّ فوز أعظم من فوزك ؟ لقد أقمت الإسلام بسيفك ، وجاهدت في سبيل الله كأعظم ما يكون الجهاد ، وحطّمت الشرك وأفكار الجاهليّة وتقاليدها ، ورفعت كلمة الله مع ابن عمّك رسول الله () عالية في الأرض .
لقد فزت أيّها الإمام العظيم ، فأنت أوّل حاكم في دينا الإسلام طلّقت الدنيا ثلاثاً فلم تغرّك مباهجها ، ولم تخدعك السلطة ، فلم تبنِ لك بيتاً ، ولم تدّخر لعيالك وأبنائك شيئاً من حطام الدنيا .
لقد فزت , فقد كانت نهايتك المشرّفة في أقدس بيت من بيوت الله ، وفي أعظم شهر من شهور الله ، فبداية حياتك في الكعبة , ونهايتها في هذا الجامع العظيم ، ولسانك يلهج بذكر الله .
ولمّا رُفع الإمام () صريعاً في محرابه هتف معرّفاً بقاتله قائلاً : (( قتلني ابن اليهودية عبد الرحمن بن ملجم فلا يفوتنّكم )) .
وهرع الناس من كلّ جانب , قد أذهلهم الخطب وأضناهم المصاب ، وبلغ بهم الحزن إلى قرار سحيق ، فوجدوا الإمام صريعاً في محرابه , فأخذوا يندبونه بذوب أرواحهم , ولم يستطع الإمام () الصلاة بالناس ، فصلّى وهو جالس والدم ينزف منه ، وأمر ولده الإمام الحسن فصلّى بالناس ، وحُمل الإمام إلى منزله ، واُلقي القبض على الوغد ابن ملجم فجيء به مخفوراً إلى الإمام () , فقال له بصوت خافت :
الصفحة (161)

(( لقد جئت شيئاّ إدّاً ، وأمراً عظيماً ! ألم أشفق عليك واُقدّمك على غيرك في العطاء , فلماذا تجازيني بهذا الجزاء ؟ )) .
والتفت الإمام () إلى ولده الحسن () فأوصاه بالبرّ والإحسان بابن ملجم قائلاً : (( يا بُني ، ارفق بأسيرك وارحمه ، واشفق عليه )) .
فبُهر الحسن () وقال : (( يا أبتاه ، قتلك هذا اللعين ، وفجعنا بك ، وأنت تأمرنا بالرفق به ! )) . فأجابه الإمام () بما انطوت عليه نفسه من المُثل العليا قائلاً : (( يا بُني ، نحن أهل بيت الرحمة والمغفرة ؛ أطعمه ممّا تأكل ، واسقه ممّا تشرب ، فإن أنا متّ فاقتصّ منه بأن تقتله ، ولا تمثّل بالرجل ؛ فإنّي سمعت جدّك رسول الله () يقول : إيّاكم والمُثلة ولو بالكلب العقور . وإن أنا عشت فأعلم ما أفعله به ، وأنا أولى بالعفو ؛ فنحن أهل بيت لا نزداد على المذنب إلينا إلاّ عفواً وكرماً )) .
أيّ نفس ملائكية هذه النفس التي توصي بالبرّ والإحسان لقاتلها ؟!
السيّدة اُمّ كلثوم مع ابن ملجم

وبكت السيّدة اُمّ كلثوم , وأخذت تندب أباها بأشجى ما تكون الندبة ، وأكبر الظنّ أنّها العقيلة الزينب , فقالت للباغي الأثيم ابن ملجم : يا عدو الله ، قتلت أمير المؤمنين ! فردّ عليها الباغي الزنيم : لم أقتل أمير المؤمنين , ولكن قتلت أباك . فردّت عليه : والله , إنّي لأرجو أن لا يكون عليه بأس . فأجابها ابن ملجم بصلف وشماتة :


فلِمَ تبكين إذاً ؟ عليَّ تبكين ؟! والله لقد أرهقت السيف ، ونفيت الخوف ، وخسئت الأجل ، وقطعت الأمل ، وضربته ضربة لو كانت بأهل عكاظ ـ وقيل : بربيعة أو مضر ـ لأتت عليهم . والله , لقد سممته شهراً , فإن أخلفني فأبعده سيفاً وأسحقه(1) !
لك الويل أيّها الأثيم ! فقد عمدت لاغتيال أقدس إنسان بعد الرسول () ، أراد أن يُقيم الحقّ ويوزّع خيرات الله في الأرض على المحرومين والمضطهدين ، لقد خسرت صفقتك وبئت بغضب الله وعذابه الدائم .
العقيلة مع أبيها

وهرعت عقيلة بني هاشم السيدة زينب (عليها السّلام) إلى أبيها وهي تبكيه وتندبه ، وقد ذابت نفسها حزناً وألماً ، وطلبت منه أن يحدّثها بالحديث الذي سمعته من المرأة الصالحة اُمّ أيمن عن رسول الله () عمّا يجري عليها من الكوارث والخطوب ، ولم يكن عند الإمام () قوّة على الكلام , فقال لها : (( الحديث كما حدّثتك اُمّ أيمن ، وكأنّي بك وبنساء أهلك سبايا بهذا البلد ، أذلاّء خاشعين , تخافون أن يتخطفكم الناس ، فصبراً صبراً ؛ فوالذي فلق الحبّة وبرأ النسمة ، ما لله على ظهر الأرض يومئذ وليّ غيركم وغير محبّيكم وشيعتكم .

ولقد قال لنا رسول الله () حين أخبرنا بهذا الخبر : إنّ إبليس (لعنه الله) في ذلك اليوم ـ أي يوم قتل الحسين ـ يطير فرحاً , فيجول الأرض كلّها بشياطينه وعفاريته ، فيقول : يا معاشر الشياطين ، قد أدركنا من ذرّيّة آدم الطلبة ، وبلغنا في هلاكهم الغاية ، وأورثناهم النار ، ألا مَنْ اعتصم بهذه العصابة فاجعلوا شغلكم بتشكيك الناس فيهم , وحملهم على عداوتهم ، وإغرائهم بهم وأوليائهم حتّى تستحكم ضلالة الخلق
ـــــــــــــــــــــ
(1) أنساب الأشراف 1 / 216 ، القسم الأوّل .
الصفحة (163)

وكفرهم ، ولا ينجو منهم ناج . ولقد صدّق عليهم إبليس ـ وهو كذوب ـ أنّه لا ينفع مع عداوتكم عمل صالح ، ولا يضرّ مع محبّتكم وموالاتكم ذنب غير الكبائر ))(1).
وصاياه

وجعل الإمام () وهو في الساعات الأخيرة من حياته يوصي أبناءه , وفي طليعتهم سيّدا شباب أهل الجنّة الإمام الحسن والحسين () بمكارم الأخلاق والزهد في الدنيا .

ومن بنود وصيّته هذه الوصايا الخالدة ، قال () : (( اُوصيكما بتقوى الله ، وأن لا تبغيا الدنيا وإن بغتكما ، ولا تأسفا على شيء زُوي عنكما ، وقولا للحقّ ، واعملا للأجر ، وكونا للظالم خصماً , وللمظلوم عوناً .
اُوصيكما وجميع ولدي وأهلي ومَنْ بلغه كتابي بتقوى الله ونظم أمركم ، وصلاح ذات بينكم ؛ فإنّي سمعت جدّكما () يقول : صلاح ذات البين أفضل من عامّة الصلاة والصيام .

الله الله في الأيتام فلا تغبّوا أفواههم(2) ، ولا يضيعوا بحضرتكم . الله الله في جيرانكم ؛ فإنّهم وصيّة نبيّكم ، ما زال يوصي بهم حتّى ظننا أنّه سيورّثهم . والله الله في القرآن , لا يسبقكم بالعمل به غيركم . الله الله في الصلاة ؛ فإنّها عمود دينكم . الله الله في بيت ربّكم لا تخلوه ما بقيتم ؛ فإنّه إن تُرك لم تُناظروا ـ أي لم ينظر إليكم بالكرامة ـ . الله الله في الجهاد بأموالكم وأنفسكم وألسنتكم في سبيل الله ، وعليكم بالتواصل والتباذل(3) ، وإيّاكم والتدابر والتقاطع ، لا تتركوا الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ؛ فيتولّى عليكم شرارُكم ثمّ تدعون فلا يُستجاب لكم )) .
ثمّ وجّه وصيته إلى آله وذويه قائلاً :
ـــــــــــــــــــــ
(1) كامل الزيارات / 266 .
(2) لا تغبوا أفواههم : أي لا تقطعوا صلتكم عنهن ، وصلوا أفواههم بالطعام دوماً .
(3) التباذل : العطاء والصلة .
الصفحة (164)

(( يا بني عبد المطلب ، لا ألفينكم تخوضون دماء المسلمين خوضاً تقولون : قُتل أمير المؤمنين ، قُتل أمير المؤمنين(1) ؛ ألا لا تقتلنَّ بي إلاّ قاتلي . انظروا إذا أنا متّ من ضربته هذه فاضربوه ضربة بضربة ، ولا يُمثّل بالرجل ؛ فإنّي سمعت رسول الله () يقول : إيّاكم والمُثلة ولو بالكلب العقور ))(2) .
وحفلت هذه الوصية بالقيم الخالدة التي هي من أروع ما خلّفه الأنبياء والمصلحون لاُممهم وشعوبهم .
إقامة الحسن () من بعده

وأقام الإمام أمير المؤمنين () خليفة على المسلمين من بعده ولده الأكبر سبط رسول الله () الإمام الحسن () ، وأجمعت الشيعة على ذلك .

وذهب بعض أهل السُنّة إلى أنّ الإمام () لم يستخلف أحداً من بعده ، مستدلّين على ذلك بما رواه شعيب بن ميمون الواسطي أنّه قيل لعليّ : ألا تستخلف ؟ فقال : إن يرد الله بالاُمّة خيراً يجمعهم على خيرهم . وهذه الرواية من موضوعات شعيب ومن مناكيره كما نصّ على ذلك ابن حجر(3) .
إنّ الإمام الحسن () هو أفضل إنسان في المجتمع الإسلامي ، فهو سيّد شباب أهل الجنّة ، وإمام إن قام أو قعد على حدّ تعبير رسول الله () ، وقد توفّرت فيه جميع الصفات الكريمة والنزعات الرفيعة ، فكيف لا يُرشّحه الإمام لهذا المنصب الخطير ؟ ومَنْ هو أحقّ به منه ؟!
ـــــــــــــــــــــ
(1) يشير بذلك إلى مصرع عثمان الذي اتّخذ الاُمويّون دمّه ورقة رابحة في سبيل أطماعهم السياسيّة .
(2) نهج البلاغة 3 / 85 .
(3) تهذيب التهذيب 4 / 357 .
الصفحة (165)
الوصية الأخيرة للإمام ()

أمّا الوصية الأخيرة للإمام أمير المؤمنين () فقد روتها عقيلة بني هاشم السيّدة زينب (عليها السّلام) , قالت : كان آخر عهد أبي إلى أخوي الحسن والحسين () , أنّه قال لهما : (( يا بنيَّ ، إذا أنا متّ فغسّلاني ، ثمّ نشّفاني بالبردة التي نُشّف بها رسول الله () وفاطمة (عليها السّلام) ، وحنّطاني وسجّياني على سريري ، ثمّ انظروا حتّى إذا ارتفع لكما مقدّم السرير فاحملا مؤخّره ))(1) .
إلى جنّة المأوى

ولمّا أدلى الإمام () بوصاياه أخذ يُعاني آلام الموت وهو يتلو آيات الذكر الحكيم , ويُكثر من الدعاء والاستغفار ، ولمّا دنا منه الأجل المحتوم كان آخر ما نطق به : (( لمثل هذا فليعمل العاملون ))(2) . ثمّ فاضت روحه الزكية إلى جنّة المأوى .

لقد ارتفع ذلك اللطف الإلهي الذي أضاء الدنيا بعدله وعمله وكماله ، فما أظلّت سماء الدنيا قطّ أفضل ولا أسمى منه ما عدا أخاه وابن عمّه رسول الله () .
لقد مادت أركان العدل ، وانطمست معالم الحقّ ، ومات أبو الغرباء والبؤساء .
سيّدي أبا الحسن ، لقد مضيت إلى عالم الخلود ، وأنت مكدود مجهود ، قد جُهل حقّك ، واُبعدت عن مقامك الذي أقامك فيه رسول الله () ، وقد تظافرت الاُسر القرشيّة على حربك ، ووضعت الحواجز والسدود أمام مخطّطاتك الإصلاحية ، كما فعلت مثل ذلك مع ابن عمّك رسول الله () ، فإنّا لله وإنّا إليه راجعون .
ـــــــــــــــــــــ
(1) زينب الكبرى / 38 .
(2) سورة الصافات / 61 .تجهيزه ودفنه ()

وقام الإمام الحسن () مع بقية إخوانه بتجهيز أبيه ، فغسّلوا الجسد الطاهر وأدرجوه في أكفانه وصلّوا عليه ، وفي الهزيع الأخير من الليل حملوا الجثمان المقدّس إلى مقرّه الأخير ، وكانت معهم العقيلة زينب(1) وهي تذرف الدموع , وقد نخب الحزن فؤادها ، ودفنوا الجثمان المعظّم في النجف الأشرف حيث مقرّه الآن كعبة للوافدين , وجامعة من أهم الجامعات في الإسلام .
لقد شاهدت السيّدة زينب الكوارث والخطوب التي أحاطت بأبيها , فملأت قلبها الزاكي أسى وحزناً ، وعرفتها بما تكنّه قريش من الحقد والحسد لأبيها ، وسائر أبناء الاُسرة النبويّة .
عهد الإمام الحسن ()

وفي صبيحة اليوم الذي وارى فيه الإمام الحسن () جثمان أبيه انبرى إلى جامع الكوفة يحفّ به إخوته وسائر بني هاشم ، وقد اكتظّ الجامع بمعظم قطعات الجيش وقادة الفرق والوجوه والأشراف ، فاعتلى المنبر فابتدأ خطابه بتأبين أبيه عملاق الفكر الإسلامي ، وكان تأبينه منسجماً تمام الانسجام مع سموّ شخصية أبيه ؛ فقد وصفه بأبلغ وأروع ما يكون الوصف .

وصفه بهذه الكلمات الذهبية : (( لقد قُبض في هذه الليلة رجل لم يسبقه الأوّلون بعمل ، ولم يُدركه الآخرون بعمل )) .
ومعنى ذلك أنّ أباه نسخة فريدة لا مثيل لها في تأريخ الإنسانيّة في جميع الأزمان والآباد ؛ فإنّ من المحقّق أنّه ليس في ميدان الإصلاح الاجتماعي والسياسي زعيم كالإمام أمير المؤمنين () في نزاهته وتجرّده من جميع النزعات المادية ؛ فقد
ـــــــــــــــــــــ
(1) زينب الكبرى / 38 .تقلّد زمام الحكم وكان معظم الشقّ خاضعاً لحكمه ، وكانت الأموال تُجبى له كالسيل فلم يؤثر نفسه وأهله بشيء منها ، ولم يخلّف صفراء ولا بيضاء سوى سبعمئة درهم كان قد ادّخرها من راتبه ليشتري بها عبداً يستعين به أهله في حاجاتهم إلاّ أنّه عدل عن ذلك ، وأمر ولده الحسن () بإرجاعها إلى بيت المال ، كما أعلن ذلك الإمام الحسن () في خطابه .

استمعوا له ، قال () : (( وما خلّف صفراء ولا بيضاء إلاّ سبعمئة درهم فضلت من عطائه أراد أن يبتاع بها خادماً لأهله ، وقد أمرني أن أردّها إلى بيت المال )) .
وكان ذلك حقّاً هو منتهى السموّ والعظمة ، ومنتهى التجرّد عن الدنيا والزهد في جميع مظاهرها وملاذّها .
ولمّا أنهى الإمام الحسن () خطابه الرائع بايعه الجمهور , وكانوا أصنافاً , وهم :
1 ـ قادة الفرق والزعماء ، وهؤلاء كان معظمهم مع معاوية ؛ فقد استمالهم بأمواله وذهبه ، ووعدهم بالمناصب العالية إن انضموا إليه .
2 ـ الخوارج ، وهم من ألدّ أعدائه وأعداء أبيه ، وكانوا يكيدون له في وضح النهار وغلس الليل .
3 ـ المؤمنون من شيعته ممّن عرفوا حقّه ، ودانوا له بالولاء والطاعة ، وهم قلّة قليلة .
وعلى أيّ حال , فقد علم معاوية ما مُني به جيش الإمام الحسن () من الضعف والانحلال والتمرّد على قيادته ، فكتب إلى الإمام () يستنجزه الحرب ، وزحف بجيوشه الذين تسودهم الطاعة والإخلاص له , فانتهى إلى المدائن فعسكر فيها .

ولمّا اُذيع ذلك سرت أوبئة الرعب والخوف في نفوس جيش الإمام () ، وقد دعاهم إلى مناجزة معاوية فلم يستجب له سوى بعض المؤمنين من أصحابه ، وجعل يستحثّ الناس على الخروج لحرب معاوية ، وبعد جهد شاق خرج معه أخلاط من الناس ـ على حدّ تعبير الشيخ المفيد ـ متباينون في أفكارهم وميولهم ، وأخذوا
الصفحة (168)

يجدّون في السير لا يلوون على شيء حتّى انتهوا إلى المدائن فعسكروا فيها .
حوادث رهيبة

ومُني الإمام الحسن () بحوادث مروّعة حينما كان في مسكن , كان من أقساها وأفجعها ما يلي :
1 ـ خيانة القائد العام

وكان عبيد الله بن العباس قائداً لجميع القوات المسلّحة في جيش الإمام () ، ولمّا تيقّن أنّ الدنيا قد تنكّرت للإمام انحرف عنه ومال إلى معسكر معاوية بعد أن تسلّم الرشوة منه ، وقد اضطرب جيش الإمام () وماج بالفتن ، وكانت خيانته من أفجع النكبات التي مُني بها الإمام () .
2 ـ تسلل الوجوه إلى معاوية

وتسلّل الوجوه والأشراف في جيش الإمام () إلى معاوية بعد أن تسلّموا منه الأموال .
3 ـ خيانة ثمانية آلاف

والتحق بمعسكر معاوية ثمانية آلاف جندي مع قادتهم ، وأكبر الظنّ أنّهم من أتباع الخائن العميل الأشعث بن قيس ، وقد بان الانكسار والضعف بجيش الإمام () بعد خيانة هذا العدد الكبير منهم .
4 ـ خيانة ربيعة

وتعتبر قبائل ربيعة العمود الفقري في جيش الإمام () ؛ فقد أقبل زعيمها خالد بن معمر إلى معاوية فقال له : اُبايعك عن ربيعة كلّها . فبايعه على ذلك .

وفيه يقول الشاعر مخاطباً معاوية :
معاوي أكرم خالدَ بن معمّرٍ فـإنّك لولا خالدٌ لم تؤمّرِ
ولمّا انتهى الخبر إلى الإمام الحسن () انهارت قواه , واتّجه صوب الجيش
الصفحة (169)

فقال لهم : (( يا أهل العراق ، أنتم الذين أكرهتم أبي على القتال والحكومة ثمّ اختلفتم عليه ، وقد أتاني أنّ أهل الشرف منكم قد أتوا معاوية فبايعوه ، فحسبي منكم ! لا تغرّوني في نفسي وديني ))(1) .
وكذلك بايع معاوية سرّاً عثمان بن شرحبيل زعيم بني تميم(2) .
5 ـ نهب أمتعة الإمام ()

وعمدت تلك العصابة التي انمحت عن نفوسها جميع أفانين الشرف والكرامة إلى نهب أمتعة الإمام () وأجهزته ، وأكبر الظنّ أنّ للخوارج ضلعاً كبيراً في هذه الجريمة .
6 ـ محاولة اغتيال الإمام ()

ولم تقف محنة الإمام الحسن () في جيشه عند حدّ ؛ فقد عظم بلاؤه إلى أكثر من ذلك ؛ فقد قدم المرتشون والخوارج على اغتياله وذلك في عدّة محاولات ، وهي :

1 ـ إنّه كان يصلّي فرماه شخص بسهم
2 ـ طعنه الجرّاح بن سنان في فخذه
3 ـ طعنه بخنجر في أثناء الصلاة

واتّضحت للإمام () بعد هذه الاعتداءات الصارخة على حياته أنّه ليس عنده جيش يركن إليه لمناجزة معاوية .
7 ـ الحكم عليه بالكفر

ومن بين المحن الشاقة التي امتحن بها الإمام الحسن () أنّ بعض العناصر في جيشه حكموا عليه بالشرك والإلحاد ، وأكبر الظنّ أنّهم الخوارج الذين لا نصيب لهم
ـــــــــــــــــــــ
(1) أنساب الأشراف 1 / 223 ، القسم الأوّل .
(2) حياة الإمام الحسن () 2 / 127 .
الصفحة (170)

من الإيمان والإسلام .
وعلى أيّ حال , فقد انبرى الجرّاح بن سنان نحو الإمام وهو رافع صوته قائلاً : أشركت يا حسن كما أشرك أبوك من قبل !
إنّ مجتمعاً يضمّ أمثال هؤلاء الأوغاد لهو مجتمع غير سليم .
ضرورة الصلح

ودرس الإمام الحسن () الموقف من جميع جوانبه ووجوهه , ورأى أنّه بين محذورين ؛ وهما :
الأول : أن يناجز معاوية ويفتح معه باب الحرب ، وهذا ما يطلبه ويبغيه لإنقاذ العالم الإسلامي من هذا العدو الظالم الذي يكيد له في الليل إذا يغشى , وفي النهار إذا تجلّى ؛ فحربه أمر لازم وضروري , ولكن ذلك لا سبيل له ، ولا تساعده الحكمة وعمق النظر ؛ وذلك لما يلي :
1 ـ إنّه ليس عند الإمام () قوّة عسكرية يستطيع أن يخوض بها الحرب ؛ فإنّ الأكثرية الساحقة من جيشه قد استجابت لمعاوية ، وآثرت السلم والعافية .
2 ـ إنّ معاوية قد أرشى معظم قادة الفرق في جيش الإمام () ، فصاروا طوع إرادته ، وضمنوا إنجاز ما يريد من اغتيال الإمام () أو تسليمه له أسيراً .
3 ـ إنّ من المؤكد أنّ معاوية هو الذي ينجح في الحرب ـ حسب الفنون العسكريّة ـ فإذا استشهد الإمام () فإنّه لا يستشهد وحده , وإنّما يستشهد معه جميع أفراد اُسرته وخلّص شيعته ، ولا تستفيد القضية الإسلاميّة من تضحيتهم شيئاً ؛ فإنّ دهاء معاوية وما يتمتّع به من وسائل المكر والخداع يجعل تبعة ذلك على الإمام () ، وبذلك يخسر العالم الإسلامي أهم رصيد روحي وفكري .
4 ـ إنّ الإمام إذا لم يستشهد واُخذ أسيراً لمعاوية ، فإنّ من المحقّق أنّه يمنّ عليه ويوصمه مع بقية أهل البيت (عليهم السّلام) بالطلقاء ، ويسجّل له بذلك يداً على العلويِّين ,
الصفحة (171)

ويمحو عنه وعن الاُمويِّين وصمة الطلقاء التي أسداها عليهم النبي () حينما فتح مكة .
الثاني : أن يصالح معاوية على ما في الصلح من قذى العين وشجى الحلق ، وهذا هو المتعيّن في عرف السياسة وقوانين الحكمة ، وله مرجّحاته الواقعية والظاهرية التي أشرنا إليها .
وكان من أعظم فوائد الصلح ومن أهم ثمراته إبراز الواقع الاُموي الذي خفي على المسلمين ؛ فقد تظاهر الاُمويِّين بالإسلام ، وأشاعوا أنّهم حماة الدين ، وأقرب الناس إلى النبي () وأمسّهم رحماً به ، وبعد الصلح انكشف زيفهم ، وظهر واقعهم الجاهلي ؛ فقد تفجّرت سياسة معاوية بكلّ ما خالف كتاب الله وسنّة نبيّه ؛ فقد أعلن بعد الصلح مباشرة أمام الحشود فخاطب أهل العراق قائلاً : إنّي ما قاتلتكم لتصلّوا ولا لتصوموا ولا لتزكّوا ولا لتحجّوا وإنّما قاتلتكم لأتأمّر عليكم وقد أعطاني الله ذلك ، وإنّي قد أعطيت الحسن بن عليّ شروطاً لا أفي بواحد منها وها هي تحت قدمي .
ولو لم يكن للصلح من فائدة إلاّ إبراز حقيقة معاوية وتجريده من كلّ إطار ديني لكفى ؛ فقد أبرز معاوية واقعه بهذا الخطاب ، فهو لم يُقاتل أهل العراق من أجل الطلب بدم عثمان ، ولا من أجل ظاهرة إسلاميّة ، وإنّما قاتلهم من أجل الإمرة والسلطان ، ولو كان يملك ذرّة من الشرف والكرامة لما فاه بذلك ، ولما أعلن نقضه للعهود والمواثيق التي أعطاها للإمام الحسن () .
وعلى أيّ حال ، فإنّا قد بسطنا القول بصورة موضوعية وشاملة في بيان ضرورة الصلح ، وإنّه هو المتعيّن على الإمام () شرعاً وسياسة في كتابنا ( حياة الإمام الحسن () ) ، كما استوفينا البحث من الشروط التي شرطها الإمام () على معاوية والتي لم يفِ بشيء منها ، فمَنْ أراد الإلمام بهذه البحوث عليه بمراجعة هذا الكتاب .
الصفحة (172)
السفر إلى يثرب

وأخذ الإمام الحسن () يتهيّأ للسفر إلى يثرب ، ويترك البلد الذي خذله وخذل أباه من قبل ، ولمّا تمّت وسائل النقل خرج أهل الكوفة إلى توديعه وهم ما بين باك وآسف يندبون حظّهم التعيس ؛ فقد أصبحت بلدهم مصراً من الأمصار بعد أن كانت عاصمة الدولة الإسلاميّة ، وأصبحت القطع السورية من الجيش تدخل مصرهم وتسيطر عليهم ، ويُقام في بلدهم حكم إرهابي لا يعرف الرحمة ولا الرأفة .
وعلى أيّ حال , فقد انتهى الإمام () إلى يثرب فخفّ أهلها إلى استقباله ؛ فقد أقبل إليهم الخير وحلّت في ديارهم السعادة .
وعلى أيّ حال , فقد أفلت دولة الحقّ وقامت على أنقاضها دولة الباطل ، وكان ذلك من أعظم النكبات التي عانتها حفيدة الرسول () وعقيلة بني هاشم السيّدة زينب ، فكانت عالمة بمجريات الأحداث ونتائجها التي كان منها ما عانته من الرزايا والخطوب في كربلاء .



حكومة معاوية

واستقبل المسلمون حكومة معاوية بكثير من الوجوم والقلق والاضطراب واعتبروها نكسة للإسلام ، ونصراً حاسماً للقوى المعادية له والحاقدة عليه ، وفي طليعتها الاُسرة الاُمويّة ومَنْ شايعها من القبائل القرشيّة ؛ فقد انتعشت الأفكار الجاهليّة وعادت لها الحياة من جديد ، وانطوت الديمقراطية الإسلاميّة وما تنشده من التقدّم والتطوّر للإنسان في مجالاته الاجتماعيّة والاقتصادية والسياسيّة .

يقول السيد مير علي الهندي : ومع ارتقاء معاوية الخلافة في الشام عاد حكم التوليغارشية الوثنية السابقة ، فاحتلّ موقع ديمقراطية الإسلام ، وانتعشت الوثنية بكلّ ما يرافقها من خلاعات ، وكأنّها بُعثت من جديد ، كما وجدت الرذيلة والتبذّل الخُلقي لنفسها متّسعاً في كلّ مكان ارتادته رايات حكم الاُمويِّين من جند الشام(1) .
لقد وقعت الاُمّة فريسة تحت أنياب معاوية فساسها سياسة سوداء تفجّرت بكلّ ما خالف كتاب الله وسنّة نبيّه ، فأشاع فيها البؤس والحرمان والقتل والدمار .

ونعرض ـ بإيجاز ـ لبعض نزعاته وصورة عن سياسته :
عداؤه للنبيّ ()

وورث معاوية عداءه للرسول () من أبيه أبي سفيان الذي هو من ألدّ أعدائه
ـــــــــــــــــــــ
(1) روح الإسلام / 296 .
الصفحة (174)

وخصومه ، وقد ناجزه الحرب في بدر واُحد وغيرهما ، وقد حاول جاهداً أن يلفّ لواء الإسلام ويُطفئ نور الله ، ولكنّ الله تعالى ردّ كيده ونصر رسوله وأعزّ جنده .
وأمّا اُمّ معاوية فهي الباغية هند ، وهي التي عُرفت بالعداء العارم للاُسرة العلوية ، وهي التي حرّضت وحشيّاً على قتل سيّد الشهداء حمزة فقتله ، وبعد قتله مثّلت به شرّ تمثيل .
ولا يقلّ معاوية في عدائه للنبيّ () عن أبويه ؛ فقد اُترع بالكراهية والبغض له ، وكان من حقده له أنّه سمع المؤذّن يؤذّن : أشهد أنّ محمداً رسول الله () ، فلم يملك إهابه واندفع قائلاً : لله أبوك يابن عبد الله ! لقد كنت عالي الهمّة ، ما رضيت لنفسك إلاّ أن يُقرن اسمك باسم ربّ العالمين(1) .
وكان من حقده على النبي () ما حدّث به مطرف بن المغيرة و قال : وفدت مع أبي على معاوية , فكان يتحدّث عنده ثم ينصرف إليّ وهو يذكر معاوية وعقله , ويعجب بما يرى منه . وأقبل ذات ليلة وهو غضبان , فأمسك عن العشاء , فانتظرته ساعة وقد ظننت أنّه شيء حدث فينا أو في عملنا ، فقلت له : ما لي أراك مغتماً هذه الليلة ؟
ـ يا بُني ، جئتك من أخبث الناس .
ـ ما ذاك ؟
ـ خلوت بمعاوية فقلت له : إنّك قد بلغت مُناك يا أمير المؤمنين , فلو أظهرت عدلاً ، وبسطت خيراً ؛ فإنّك قد كبرت ، ولو نظرت إلى إخوتك من بني هاشم فوصلت أرحامهم ، فوالله ما عندهم اليوم شيء تخافه .
فثار معاوية وقال :
ـــــــــــــــــــــ
(1) شرح نهج البلاغة 10 / 101 .
الصفحة (175)

هيهات ، هيهات ! ملك أخو تيم فعدل ، وفعل ما فعل , فوالله ما عدا أن هلك فهلك ذكره إلاّ أن يقول قائل : أبو بكر ، ثمّ ملك أخو عدي فاجتهد وعمره عشر سنين ، فوالله ما عدا أن هلك فهلك ذكره إلاّ أن يقول قائل : عمر ، ثمّ ملك أخونا عثمان فملك رجل لم يكن أحد في مثل نسبه ، فعمل به ما عمل ، فوالله ما عدا أن هلك فهلك ذكره ، وإنّ أخا هاشم يصرخ به في كلّ يوم خمس مرّات أشهد أنّ محمّداً رسول الله ، فأيّ عمل يبقى بعد هذا ـ لا اُمّ لك ـ إلاّ دفناً دفناً ؟!(1)
وتحكي هذه البادرة مدى حقده وبغضه للنبي () ، وأنّه يسعى جاهداً لمحو ذكره وإطفاء نوره .
بغضه لآل النبيّ ()

وكان معاوية من أبغض الناس وأحقدهم على آل النبي () ، وقد قام بما يلي :
1 ـ ستر فضائلهم

وأوعز معاوية إلى جميع عمّاله وولاته بستر فضائل آل النبي () وحجبها عن الناس ، وقد حجّ بيت الله الحرام بعد عام الصلح , فقام إليه جماعة من الناس سوى ابن عباس , فبادره معاوية قائلاً : يابن عباس ، ما منعك من القيام كما قام أصحابك إلاّ لموجدة عليّ بقتالي إيّاكم يوم صفّين . يابن عباس ، إنّ ابن عمّي عثمان قُتل مظلوماً .
فردّ عليه ابن عباس : فعمر بن الخطاب قُتل مظلوماً ، فسلّم الأمر إلى ولده ؟ وهذا ابنه ـ وأشار إلى عبد الله بن عمر ـ .
فأجابه معاوية :
ـــــــــــــــــــــ
(1) شرح نهج البلاغة 2 / 297 .
الصفحة (176)

إنّ عمر قتله مشرك .
فانبرى ابن عباس قائلاً : فمَنْ قتل عثمان ؟
ـ قتله المسلمون .
وامسك ابن عباس بزمامه قائلاً : فذلك أدحض لحجّتك ؛ إن كان المسلمون قتلوه وخذلوه فليس إلاّ بحقّ .
ووجم معاوية ثمّ قال : إنّا كتبنا إلى الآفاق ننهى عن ذكر مناقب عليّ وأهل بيته , فكفّ لسانك يابن عباس .
فأجابه ابن عباس ببليغ منطقه : أفتنهانا عن قراءة القرآن ؟
ـ لا .
ـ أفتنهانا عن تأويله ؟
ـ نعم .
ـ فنقرأه ولا نسأل عمّا عنى الله به ؟
ـ نعم .
ـ فأيّهنّ أوجب علينا قراءته أو العمل به ؟
ـ العمل به .
ـ فكيف نعمل به حتّى نعلم ما عنى الله بما أنزل علينا ؟
ـ سل عن ذلك مَنْ يتأوّله على غير ما تتأوّله أنت وأهل بيتك .
ـ إنّما نزل القرآن على أهل بيتي , فأسأل عنه آل أبي سفيان وآل أبي معيط ؟
ـ فاقرؤوا القرآن ، ولا ترووا شيئاً ممّا أنزل الله فيكم , وممّا قاله رسول الله فيكم ، وارووا ما سوى ذلك .
الصفحة (177)

وسخر منه ابن عباس , وتلا قوله تعالى : ( يُرِيدُونَ أَنْ يُطْفِئُوا نُورَ اللَّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَيَأْبَى اللَّهُ إِلاّ أَنْ يُتِمَّ نُورَهُ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ )(1) .
وصاح به معاوية : اكفف نفسك ، وكفّ عنّي لسانك ، وإن كنت فاعلاً فليكن سرّاً ، ولا تسمعه أحداً علانية .
لقد جهد معاوية في ستر فضائل أهل البيت (عليهم السّلام) ومحو ذكرهم حتّى لا يبقى لهم أيّ رصيد شعبي في الأوساط الإسلاميّة .
2 ـ اضطهاد الشيعة

واضُطهدت الشيعة اضطهاداً مريراً وقاسياً في أيام معاوية ؛ فقد انتقم منهم كأقسى وأشدّ ما يكون الانتقام ، وكان ما عانوه منه لا يُوصف لشدّة قسوته ومرارته .

وهذه صورة موجزة لما عانوه :
أ ـ القتل الجماعي

وعهد معاوية إلى الجلاّدين من شرطته بقتل الشيعة وإبادتهم ؛ فقتل المجرم بسر بن أرطأة بعد التحكيم ثلاثين ألفاً عدا مَنْ أحرقهم بالنار(2) ، وقتل سمرة بن جندب ثمانية آلاف من أهل البصرة(3) ، وأمّا زياد ابن أبيه فقد اقترف أفظع الجرائم ؛ فقطع الأيدي والأرجل , وسمل العيون , وأنزل بالشيعة جميع صنوف العذاب .

كما صفّى معاوية جميع العناصر الواعية من الشيعة , وكان منهم :
ـــــــــــــــــــــ
(1) سورة التوبة / 32 .
(2) حياة الإمام الحسن () 2 / 343 .
(3) شرح نهج البلاغة 2 / 6 .
الصفحة (178)

1 ـ حجر بن عدي وجماعته
2 ـ عمرو بن الحمق الخزاعي
3 ـ رشيد الهجري
4 ـ أوفى بن حصن
5 ـ عبد الله الحضرمي وجماعته
6 ـ جويرية العبدي
7 ـ عبد الرحمن العنزي
8 ـ صيفي بن فسيل .
وقد ذكرنا بصورة مفصّلة كيفية شهادتهم , وما لاقوه من التنكيل من معاوية ؛ لمحبّتهم لأهل البيت (عليهم السّلام) .
ب ـ ترويع النساء

وروّع معاوية جمهرة من سيّدات نساء الشيعة , كان من بينهنّ :
1 ـ الزرقاء بنت عدي
2 ـ اُمّ الخير البارقية
3 ـ سودة بنت عمارة
4 ـ اُمّ البراء بنت صفوان
5 ـ بكارة الهلالية
6 ـ أروى بنت الحارث
7 ـ عكرشة بنت الأطرش
8 ـ الدرامية الحجونية
لقد لاقين هذه السيّدات التوهين والتقريع والترويع من معاوية ؛ لولائهنّ لأهل البيت (عليهم السّلام) .
الصفحة (179)
جـ ـ هدم دور الشيعة

وأوعز معاوية إلى عمّاله بهدم دور الشيعة فقاموا بهدمها(1) ، وتركوهم بلا مأوى يأوون إليه .
د ـ حرمان الشيعة من العطاء

وكتب معاوية إلى عمّاله نسخة واحدة بحرمان الشيعة من العطاء , وهذا نصها : وانظر إلى مَنْ قامت عليه البيّنة أنّه يحبّ عليّاً وأهل بيته فامحوه من الديوان , وأسقطوا عطاءه ورزقه(2) .
وقام عملاؤه بالفحص في سجلاتهم , فمَنْ وجدوه يتعاطف مع أهل البيت (عليهم السّلام) محوا اسمه ، وأسقطوا عطاءه .
هـ ـ رفض شهادة الشيعة

وعمد معاوية إلى إذلال الشيعة وتجريحهم فأوعز إلى ولاته بعدم قبول شهادة الشيعة في دور القضاء وغيره(3) ؛ مبالغة في التوهين بهم .
و ـ إبعاد الشيعة إلى خراسان

ومن الإجراءات القاسية التي اتّخذها زياد بن أبيه عمدة ولاة معاوية , وأخوه اللاّشرعي ضدّ شيعة أهل البيت (عليهم السّلام) , وكسر شوكتهم أنّه أجلى خمسين ألفاً منهم من الكوفة إلى خراسان , المقاطعة الشرقية في فارس(4) .

وقد عمل المبعدون على نشر التشيّع
ـــــــــــــــــــــ
(1) شرح نهج البلاغة 11 / 44 .
(2) المصدر نفسه .
(3) حياة الإمام الحسن () 2 / 178 .
(4) تاريخ الشعوب الإسلاميّة 1 / 147 .
الصفحة (180)

في تلك البلاد حتّى تحوّلت إلى جبهة قوية للمعارضة ضدّ الحكم الاُموي ، وقد استغلّها أبو مسلم الخراساني فجنّدها وحارب بها الاُمويِّين حتّى أطاح بدولتهم .
هذه بعض الإجراءات الرهيبة التي اتّخذها معاوية ضدّ الشيعة ، وهي تمثّل مدى حقده وعدائه لأهل البيت (عليهم السّلام) .
أمّا البحث عن نزعاته الشريرة وسائر أعماله المجافية لروح الإسلام والقانون فقد ذكرناها بصورة مفصّلة في الجزء الثاني من كتابنا (حياة الإمام الحسن () ) فلا حاجة لذكرها .
اغتيال الإمام الحسن ()

وأكبر موبقة اقترفها معاوية ضدّ الإسلام والمسلون اغتياله لسبط رسول الله () الإمام الحسن () ، الذي أعطاه عهداً بأن تكون الخلافة له من بعده إلاّ أنّه خان بعهده ، وراح يُنشئ دولة اُمويّة تنتقل بالوراثة إلى أبنائه وأعقابه .

وقد وصفه (الميجر أوزبورن) بأنّه مخادع , وذو قلب خال من كلّ شفقة ، وأنّه كان لا يتهيّب من الإقدام على أيّة جريمة من أجل أن يضمن مركزه ؛ فالقتل إحدى وسائله لإزالة خصومه ، وهو الذي دبّر تسميم حفيد الرسول () ، كما تخلّص من مالك الأشتر قائد عليّ بنفس الطريقة(1) .
واستعرض الطاغية السفّاك المجرمين ليعهد إلى أخسّهم باغتيال ريحانة رسول الله () ، فلم يجد أحداً خليقاً باقتراف هذه الجريمة سوى جعدة بنت الأشعث ، فهي من بيت جُبل على الجريمة , وطُبع على الغدر والخيانة ؛ فأرسل إلى مروان بن الحكم سمّاً فاتكاً كان قد جلبه من ملك الروم ، وأمره بإغراء جعدة بالأموال وزواج ولده يزيد إن استجابت له ، وعرض عليها مروان ذلك فاستجابت له ,
ـــــــــــــــــــــ
(1) روح الإسلام / 295 .


يتبع












عرض البوم صور الشيخ عباس محمد   رد مع اقتباس
قديم 02-08-2015, 11:23 PM   المشاركة رقم: 4
معلومات العضو
الشيخ عباس محمد

إحصائية العضو







 
 


التوقيت

التواجد والإتصالات
الشيخ عباس محمد غير متواجد حالياً

كاتب الموضوع : الشيخ عباس محمد المنتدى : منتدى السيدة زينب (سلام الله عليها)
افتراضي

فأخذت السمّ ودسّته للإمام () ، وكان صائماً في وقت شديد الحرّ ، وما إن وصل السمّ إلى جوف الإمام () لاحتّى تقطّعت أمعاؤه ، فالتفت () إلى الخبيثة الماكرة وقال لها : (( قتلتيني قتلك الله ! والله لا تصيبين منّي خلفاً ، لقد غرّك ـ يعني معاوية ـ وسخر منك , يخزيك الله ويخزيه ))(1) .
وأخذ ريحانة رسول الله () يعاني من شدّة السمّ وقسوته , وكان يتقيّأ قطعاً من الدم في طشت ، فدخلت عليه شقيقته سيّدة النساء العقيلة فأمر برفع الطشت ؛ لئلا ترى ما فيه فيذوب قلبها ، فنظرت العقيلة إلى أخيها وهو مصفرّ الوجه , قد فتك السمّ به ، فانهارت قواها , وطافت بها موجات مذهلة من الألم والحزن ؛ فقد علمت أنّ أخاها سيفارقها عمّا قريب .
وأخذ الإمام () يقبّل إخوته وخلّص أصحابه , وهو يوصيهم بمكارم الأخلاق ، ومحاسن الأعمال ، وتقوى الله ، والاجتناب عن معاصيه . واشتدّت حالته , وأخذ يتلو آيات من كتاب الله العزيز , ويطلب من الله تعالى أن يجعله في أعلى مراتب المتّقين والصالحين . ووافاه الأجل المحتوم ولسانه يلهج بذكر الله ، وقد سمت روحه العظيمة إلى بارئها وهي مليئة بالآلام التي عانتها من معاوية العدوّ الماكر للإسلام .

وقام الإمام الحسين () بتجهيز جثمان أخيه ، وبعد الانتهاء من مراسيم الغسل والتكفين رأى الإمام () أن يدفن أخاه بجوار جدّه رسول الله () ، فمنعته بنو اُميّة , وقد استعانوا بعائشة ؛ فقد خرجت على بغل وهي تقول : لا يُدفن الحسن بجوار جدّه أو بيتي هذه .وأومأت إلى شعر رأسها وصاحت بالهاشميّين : لا تدخلوا بيتي مَنْ لا اُحبّ .

وكادت الفتنة أن تقع وتُراق الدماء ، فعدل الإمام () عن دفن أخيه بجوار جدّه , ودفنه في البقيع ، وقد ذكرنا الأحداث التي رافقت دفن الإمام الحسن () في كتابنا (حياة الإمام الحسن) فلا نرى حاجة لذكرها .
ـــــــــــــــــــــ
(1) حياة الإمام الحسين () 2 / 317 .البيعة ليزيد (لعنه الله)

وختم معاوية حياته الملوّثة بالجرائم والموبقات بفرض ولده يزيد خليفة على المسلمين ، وقد استخدم جميع الوسائل المنحطّة في جعل الخلافة في أبنائه وتحويلها إلى ملك عضوض لا محلّ فيه لأي قيمة من القيم الدينية .
وقد ورث يزيد صفات جدّه أبي سفيان وأبيه معاوية من النفاق والغدر , والطيش والعداء للإسلام . يقول السيد مير علي الهندي : وكان يزيد غدّاراً كأبيه , ولكن ليس داهية مثله ، كانت تنقصه القدرة على تغليف تصرفاته القاسية بستار من اللباقة الدبلوماسية الناعمة ، وكانت طبيعته المنحلّة ، وخُلقه المنحطّ لا تتسرّب إليهما شفقة ولا عدل ؛ كان يقتل ويعذّب نشداناً للمتعة واللذّة التي يشعر بهما وهو ينظر إلى آلام الآخرين ، وكان بؤرة لأبشع الرذائل ، وها هم ندماؤه من الجنسين خير شاهد على ذلك , لقد كانوا من حثالة المجتمع(1) .
لقد كان يزيد مستهتراً بعيداً عن جميع القيم الإنسانيّة , لا يحفل بما يقترفه من الموبقات والرذائل ، وحسبه أنّه حفيد أبي سفيان وابن معاوية الذئب الجاهلي . ووصفه المؤرّخون بأنّه كان مُعرّى من كلّ صفة إنسانيّة ، وأنّه جاهلي بما تحويه هذه الكلمة من معنى .
ومن مظاهر استهتاره ولعه بشرب الخمر ، ويعزو بعض المؤرّخين سبب وفاته إلى أنّه شرب خمراً كثيراً حتّى أولد فيه انفجاراً في دماغه ، ومن أنّه كان ولعاً بالقرود ، فكان له فهد يجعله بين يديه ويُكنّيه بأبي قيس ، ويسقيه فضل كأسه ، ويقول : هذا شيخ من بني إسرائيل أصابته خطيئة فمُسخ .

وكان يحمله على أتان وحشية ويرسله مع الخيل في حلبة السباق ، فحمله يوماً فسبق الخيل , فسرّ بذلك ,
ـــــــــــــــــــــ
(1) روح الإسلام / 296 .
الصفحة (183)

وجعل يقول :
تمسّك أبا قيس بفضل زمامها فليس عليها إن سقطت ضمانُ
فقد سبقت خيلَ الجماعة كلَّها وخـيلَ أمـير المؤمنين أتانُ

وأرسله مرّة في حلبة السباق فطرحته الريح فمات , فحزن عليه حزناً شديداً , وأمر بتكفينه ودفنه ، وأوعز إلى أهل الشام أن يعزّوه بمصابه الأليم بهذا الفقيد العزيز , ورثاه بهذه الأبيات :


كـم مـن كرامٍ وقوم ذو محافظةٍ جـاؤوا لـنا لـيعزّوا في أبي قيسِ
شـيخ الـعشيرة أمضاها و أحملها على الرؤوس وفي الأعناق والريسِ
لا يـبعد الله قـبراً أنـت سـاكنه فـيه جـمالٌ وفيه لحيةُ التيسِ(1)

وشاع بين الناس ولعه بالقرود ، وقد هجاه [الشاعر] ابن تنوخ بقوله :


يزيد صديق القرد ملّ جوارنا فـحنّ إلى أرض القرود يزيدُ
فـتبّاً لـمَنْ أمسى علينا خليفةً صحابته الأدنون منه قرودُ(2)

وكان كلفاً بالصيد لاهياً به ، وكان يُلبس كلاب الصيد الأساور من الذهب والجلال المنسوجة منه , ويهب لكلّ كلب عبداً يخدمه(3) .
لقد كان يزيد عنواناً لكلّ رذيلة وموبقة , وهو أخبث إنسان على وجه الأرض ، وأصبح علماً للانحطاط الخُلقي والظلم الاجتماعي ، وحيث ما ذكر اسمه فإنّه مثال للفساد والاستبداد , والتهتك والخلاعة ، وقد ذكرنا المزيد من صفاته ونزعاته في كتابنا (حياة الإمام الحسين) .
ـــــــــــــــــــــ
(1) جواهر المطالب لمناقب الإمام علي بن أبي طالب () / 143 .
(2) أنساب الأشراف 2 / 2 .
(3) الفخري / 45 .
الصفحة (184)


الصفحة (185)
الحكم الأسود

وخيّم على العالم الإسلامي حكم إرهابي عنيف لا يخضع لعرف ولا لقانون ، ولا يستجيب لأيّة عاطفة إنسانيّة ، شعاره الظلم والاستبداد واللامبالاة . هذا هو السمت الظاهر والواقع لحكم يزيد بن معاوية الذي بُلي به المسلمون ، وامتحنوا امتحاناً عسيراً .
لقد عانت عقيلة بني هاشم السيّدة زينب في عهد هذا الطاغية أشقّ وأقسى ألوان المصائب والكوارث ، كما تعرّضت الاُسرة النبويّة إلى الإبادة الشاملة ؛ فقد جُزروا كالأضاحي ، ومثّلت الجيوش الاُمويّة أشرّ تمثيل بأجسامهم الطاهرة .

كلّ ذلك كان بمرأى من حفيدة الرسول () ؛ فذابت نفسها أسى وحسرات ، ولم تقتصر محنتها على ذلك , وإنّما تعدّت إلى ما هو أقسى وأشجّ ؛ فقد سُبيت مع عقائل الوحي ومخدّرات الرسالة ، يُطاف بهنّ من بلد إلى بلد ، فتارة يمثلنَ أمام ابن مرجانة ، واُخرى في مجلس يزيد ، فلم تبقَ محنة من محن الدنيا ، ولا فاجعة من فواجع الدهر إلاّ جرت على حفيدة الرسول () في عهد هذا الطاغية الأثيم .
وعلى أيّ حال , فقد تسلّم يزيد بعد هلاك أبيه قيادة الدولة الإسلاميّة وهو في غضارة العمر وريعان الشباب , لم تصقله التجارب ، ولم تُهذّبه الأيام ، قد استسلم لشهواته وملذّاته التي كان البارز منها سفك الدماء , وإشاعة الفزع والخوف بين الناس .
ولم يكن الطاغية حينما وافت المنية أباه في دمشق ، وإنّما كان في رحلات
الصفحة (186)

الصيف في حوارين الثنية ، فأرسل إليه الضحّاك بن قيس رسالة يعزّيه فيها بوفاة أبيه , ويهنّئه بالخلافة ، ويطلب منه الإسراع إلى عاصمته يتولّى شؤون الحكم ، وحينما انتهت إليه الرسالة أسرع نحو عاصمته ، ومعه أخواله وبنو اُميّة , والمغنّون والعابثون من أصحابه , وقد شعث في الطريق ، فأقبل الناس يسلّمون عليه ويعزّونه , وقد عابوا عليه ما هو فيه , فانتقدوه وقالوا : هذا الأعرابي الذي ولاّه معاوية أمر الناس , والله سائل عنه(1) .
ومضى صوب قبر أبيه فجلس عنده وهو باكي العين , وأنشأ يقول :
جـاءَ الـبريدُ بقرطاسٍ يخبّ به فأوجسَ القلبُ من قرطاسهِ فزعا
قـلنا لـكَ الويل ماذا في كتابكمُ قالَ الخليفَ أمسى مدنفاً وجعا(2)

ثمّ سار نحو القبّة الخضراء في موكب رسمي تحفّ به بنو اُميّة وأخواله وشرطته .
خطابه في أهل الشام

وخطب يزيد في أهل الشام خطاباً أعلن فيه عن عزمه على خوض حرب مدمّرة مع أهل العراق , جاء فيه : يا أهل الشام ، فإنّ الخير لم يزل فيكم ، وسيكون بيني وبين أهل العراق حرب شديدة ، وقد رأيت في منامي كأنّ نهراً يجري بيني وبينهم دماً عبيطاً ، وجعلت أجهد في منامي أن أجوز ذلك النهر فلم أقدر على ذلك , حتّى جاءني عبيد الله بن زياد فجازه بين يدي وأنا أنظر إليه .
وانبرى أهل الشام فأعلنوا دعمهم الكامل له قائلين :
ـــــــــــــــــــــ
(1) تاريخ الإسلام ـ الذهبي 1 / 267 .
(2) تاريخ ابن الأثير 3 / 266 .


يا أمير المؤمنين , امض بنا حيث شئت ، وأقدم بنا على مَنْ أحببت ، فنحن بين يديك ، وسيوفنا تعرفها أهل العراق في يوم صفّين .
وشكرهم يزيد على ولائهم ، وأثنى على إخلاصهم(1) .

وقد كشف خطابه عن تصميمه على حرب أهل العراق ؛ وذلك لعلمه بكراهيتهم له ، وتجاوبهم الكامل مع الإمام الحسين () .
مع المعارضة في يثرب

وكان يزيد يتحرّق غيظاً وغضباً على الجبهة المعارضة له في يثرب , والتي كانت لا تراه أهلاً لولاية أمير المسلمين .

أمّا أعلام المعارضة فهم :
1 ـ الإمام الحسين ()

وهو ابن رسول الله () وريحانته ، وكان يتمتّع بنفوذ واسع النطاق في معظم الأقاليم الإسلاميّة .
2 ـ عبد الله بن الزّبير

وهو من أعلام المعارضة ، إلاّ أنّه لم تكن له شعبية ولم يتمتّع بصفة فاضلة ، وكان يرى أنّه أفضل من يزيد وأحقّ بالبيعة والخلافة منه .
أوامره المشدّدة إلى الوليد

وأصدر الطاغية أوامره المشدّدة إلى الوليد بن عتبة عامله على يثرب بإرغام المعارضين له على أخذ البيعة منهم ، فإن امتنعوا نفّذ فيهم حكم الإعدام .

وقد جاء في رسالته : إذا أتاك كتابي فاحضر الحسين بن عليّ وعبد الله بن الزّبير فخذهما بالبيعة ،
ـــــــــــــــــــــ
(1) حياة الإمام الحسين 2 / 244 .
الصفحة (188)

فإن امتنعا فاضرب [ عنقيهما ] وابعث إليّ [ برأسيهما ] ، وخذ الناس بالبيعة , فمَنْ امتنع فأنفذ فيه الحكم ، وفي الحسين بن عليّ وعبد الله بن الزّبير , والسّلام(1) .
فزع الوليد

ولمّا انتهت رسالة يزيد إلى الوليد فزع فزعاً شديداً ؛ فإنّ التنكيل بالمعارضين وإنزال العقاب الصارم بهم ليس بالأمر السهل ؛ فإنّ معاوية مع ما يتمتّع به من القابليات الدبلوماسية لم يستطع إرغام الإمام الحسين () على أخذ البيعة منه ليزيد , فكيف يستطيع الوليد تنفيذ ذلك .
ورأى الوليد أن يعرض الأمر على مروان ـ عميد الاُسرة الاُمويّة ـ ويستشيره في الأمر ، فبعث خلفه وأطلعه على رسالة يزيد .

فقال له مروان : ابعث إليهم في هذه الساعة فتدعوهم إلى البيعة والدخول في طاعة يزيد ، فإن فعلوا قبلت منهم ذلك ، وإن أبوا قدّمهم واضرب أعناقهم قبل أن يدروا بموت معاوية ؛ فإنّهم إن علموا ذلك وثب كلّ رجل منهم فأظهر الخلاف ودعا إلى نفسه ، فعند ذلك أخاف أن يأتيك من قبلهم ما لا قِبَل لك به ، إلاّ عبد الله بن عمر فإنّه لا ينازع في هذا الأمر أحداً ، مع أنّي أعلم أنّ الحسين بن عليّ لا يُجيبك إلى بيعة يزيد ولا يرى له عليه طاعة . والله لو كنت في موضعك لم أراجع الحسين بكلمة واحدة حتّى أضرب رقبته كائناً في ذلك ما كان .

وعظم ذلك على الوليد ؛ فقد اختار له مروان هلاك دينه ودنياه ، فقال له : يا ليت الوليد لم يولد ، ولم يك شيئاً مذكوراً !
وسخر منه مروان ، وراح يندّد به قائلاً : لا تجزع ممّا قلت لك ؛ فإنّ آل أبي تراب هم الأعداء من قديم الدهر ولم
ـــــــــــــــــــــ
(1) تاريخ اليعقوبي 2 / 215 .
الصفحة (189)

يزالوا ، وهم الذين قتلوا الخليفة عثمان بن عفان ، ثمّ ساروا إلى أمير المؤمنين ـ يعني معاوية ـ فحاربوه .
ونهره الوليد ونصحه قائلاً : ويحك يا مروان عن كلامك هذا ! وأحسن القول في ابن فاطمة ؛ فإنّه بقيّة النبوّة(1) . واتّفق رأي الوليد ومروان على استدعاء الإمام الحسين () وابن الزّبير , وعرض الأمر عليهما والنظر في رأيهما .
استدعاء الحسين ()

وأرسل الوليد في منتصف الليل(2) عبد الله بن عمرو بن عفان خلف الإمام الحسين () وابن الزّبير ، ومضى الفتى يدعوهما فوجدهما في الجامع النبوي فعرض عليهما الأمر فأجاباه إلى ذلك وأمراه بالانصراف ، والتفت ابن الزّبير إلى الإمام () فقال له : ما تراه بعث إلينا في هذه الساعة التي لم يكن يجلس فيها ؟
فأجابه الإمام : (( أظنّ أنّ طاغيتهم ـ يعني معاوية ـ قد هلك , فبعث إلينا بالبيعة قبل أن يفشو بالناس الخبر )) . واستصوب ابن الزّبير رأي الإمام () قائلاً : وأنا ما أظنّ غيره ، فما تريد أن تصنع ؟

ـ (( أجمع فتياني في الساعة ثمّ أسير إليه ، وأجلسهم على الباب )) .
وانبرى ابن الزّبير يبدي مخاوفه على الإمام () قائلاً :
ـــــــــــــــــــــ
(1) الفتوح 5 / 12 ـ 13 ، ذكرنا عرضاً مفصّلاً للأسباب التي دعت مروان إلى هذا الموقف مع المعارضة في كتابنا ( حياة الإمام الحسين () ) .
(2) البداية والنهاية 8 / 160 .
الصفحة (190)

إنّي أخاف عليك إذا دخلت .
ـ (( لا آتيه إلاّ وأنا قادر على الامتناع ))(1) .
واتّجه الإمام الحسين () صوب الوليد ، فلمّا التقى به نعى إليه معاوية , فاسترجع الإمام () وقال له : (( لماذا دعوتني ؟ )) .
ـ دعوتك للبيعة .
فطلب منه الإمام تأجيل البيعة قائلاً : (( إنّ مثلي لا يُبايع سرّاً ، ولا يجتزئ بها منّي سرّاً ، فإذا خرجت إلى الناس ودعوتهم للبيعة دعوتنا معهم , فكان الأمر واحداً )) .
لقد أراد الإمام () أن يعلن رأيه أمام الجماهير في رفضه البيعة ليزيد ، وعرف مروان قصده , فصاح بالوليد : لئن فارقك ـ يعني الحسين ـ الساعة ولم يبايع لا قدرت منه على مثلها أبداً حتّى تكثر القتلى بينكم وبينه ؛ احبسه فإن بايع وإلاّ ضربت عنقه .
ووثب أبيّ الضيم كالأسد ، فقال للوزغ ابن الوزغ : (( يابن الزرقاء ! أأنت تقتلني أم هو ؟ كذبت والله ولؤمت ))(2) . وأقبل على الوليد فأخبره عن عزمه وتصميمه على رفضه الكامل لبيعة يزيد قائلاً : (( أيّها الأمير , إنّا أهل بيت النبوّة ، ومعدن الرسالة ، ومختلف الملائكة ، ومحلّ الرحمة ، بنا فتح الله وبنا ختم ، ويزيد رجل فاسق ، شارب الخمر ، وقاتل النفس المحرّمة ، معلن بالفسق ، ومثلي لا يبايع مثله ، ولكن نصبح وتصبحون ، وننظر وتنظرون أيّنا أحق بالخلافة والبيعة ))(3) .
ـــــــــــــــــــــ
(1)(2) تاريخ ابن الأثير 3 / 264 .
(3) حياة الإمام الحسين () 2 / 255 .
الصفحة (191)

وكان هذا أوّل إعلان من الإمام الحسين () بعد هلاك معاوية في رفضه البيعة ليزيد .

لقد أعلن ذلك في بيت الإمارة من دون مبالاة ولا خوف من السلطة ، كيف يبايع حفيد رسول الله () يزيد الفاسق , شارب الخمر , وقاتل النفس المحرّمة ؟

ولو بايعه فأقرّه إماماً على المسلمين ، عرّض العقيدة الإسلاميّة إلى الانهيار والدمار , وعصف بها في متاهات سحيقة من محامل هذه الحياة .
واستاء مروان من موقف الإمام () , ووجّه لوماً وعتاباً إلى الوليد قائلاً : عصيتني ! لا والله لا يمكّنك مثلها من نفسه أبداً .
وردّ عليه الوليد ببالغ الحجّة قائلاً : ويحك يا مروان ! أشرت عليّ بذهاب ديني ودنياي . والله ما أحبّ أن أملك الدنيا بأسرها وإنّي قتلت حسيناً . سبحان الله ! أأقتل حسيناً أن قال : لا أُبايع ؟! والله ما أظنّ أحداً يلقى الله بدم الحسين إلاّ وهو خفيف الميزان , لا ينظر الله إليه يوم القيامة ، ولا يزكّيه , وله عذاب أليم .
وسخر منه مروان وراح يقول : إذا كان هذا رأيك فقد أصبت(1) .
مغادرة الإمام () يثرب

وعزم الإمام () على مغادرة يثرب ليلوذ بالبيت الحرام ، وينشر دعوته فيه .
وداعه لقبر جدّه ()

وخفّ الإمام الحسين () إلى قبر جدّه وهو حزين كئيب , يشكو إلى الله ما ألمّ به من الخطوب قائلاً :
ـــــــــــــــــــــ
(1) تاريخ الطبري 5 / 340 .
الصفحة (192)

(( اللّهمّ إنّ هذا قبر نبيّك محمّد () ، وأنا ابن بنت محمّد ، وقد حضرني من الأمر ما قد علمت . اللّهمّ إنّي أحبّ المعروف وأنكر المنكر ، وأنا أسألك يا ذا الجلال والإكرام بحقّ هذا القبر ومَنْ فيه إلاّ ما اخترت لي ما هو لك رضاً , ولرسولك رضاً ))(1) .
ويُلمس في هذا الدعاء مدى انقطاعه الكامل إلى الله تعالى ، وحبّه العارم إلى إقامة المعروف وتدمير الباطل ، وهو يسأل الله بلهفة أن يختار له الصالح في دينه ودنياه .
وتوجّه الإمام () في غلس الليل البهيم إلى قبر اُمّه سيّدة نساء العالمين فودّعها الوداع الأخير ، ووقف قبال قبرها الشريف ، وتمثّلت أمامه ذكريات عواطفها الفيّاضة وشدّة حنوّها عليه فانفجر بالبكاء ، وذابت نفسه أسى وحسرات ، ثم ودّع القبر وداعاً حارّاً وانصرف إلى مرقد أخيه الزكي الإمام أبي محمّد () , فأخذ يروي ثراه بدموع عينيه , وقد طافت به الآلام ، ثمّ قفل راجعاً إلى منزله .
ـــــــــــــــــــــ
(1) حياة الإمام الحسين () 2 / 259 .
الصفحة (193)
إلى مكّة

وبعدما أعلن الإمام () رفضه الكامل لبيعة الطاغية يزيد عزم على مغادرة يثرب والتوجّه إلى مكة المشرّفة ليبثّ دعوته فيها ، وقد دعا العقيلة اُخته السيدة زينب (عليها السّلام) وعرّفها بعزمه وما سيجري عليه من الأحداث ، وطلب منها أن تشاركه في محنته فاستجابت له ، وصمّمت على مساعدته في نهضته وثورته التي يقيم فيها الحقّ ويدحر الباطل ، كما دعا أولاده وزوجاته , وإخوته وبني عمومته إلى مصاحبته , فلبّوا جميعاً ولم يتخلّف منهم أحد إلاّ لعذر قاهر .
ولمّا أصبحوا جاء الموالي بالإبل فحملوا عليها الخيام وأدوات المياه والأرزاق وغيرها , وأعدّوها للسفر ، وخرجت حفيدة الرسول السيدةزينب تجرّ أذيالها ونفسها مترعة بالهموم والآلام , وقد أحاطت بها جواريها ، وكان إلى جانبها أخوها أبو الفضل العباس قمر بني هاشم ، فكان هو الذي يتولّى رعايتها وخدماتها , وقد مُلئت نفسه إجلالاً وإكباراً وولاءً لها .

واستقلّت الإبل بعترة رسول الله () , وحدا بهم الحادي إلى مكّة المكرّمة ، وقد خيّم الحزن والأسى على المدنيّين حينما رأوا آل النبي () قد نزحوا عنهم إلى غير مئاب .
وكان سيد الشهداء () يتلو في طريقه قوله تعالى : ( رَبِّ نَجِّنِي مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ )(1) .
ـــــــــــــــــــــ
(1) سورة القصص / 21 .لقد شبّه خروجه بخروج نبي الله موسى بن عمران على فرعون زمانه ، وكذلك هو خرج على طاغية عصره حفيد أبي سفيان ليقيم الحقّ وينشر العدل بين الناس ، وسلك () في سفره الطريق العام من دون أن يتجنّب عنه كما فعل ابن الزّبير مخافة أن يدركه الطلب من قبل السلطة في يثرب ، فامتنع وأجاب : (( لا والله لا فارقت هذا الطريق أبداً أو أنظر إلى أبيات مكة ، أو يقضي الله في ذلك ما يحبّ ويرضى )) .
لقد رضي بما كتب الله وقدّر له ، لم تضعف همّته ولم توهن عزيمته ، ولم يبالِ بالأحداث المروعة التي سيواجهها ، وكان يتمثّل في أثناء مسيرته بشعر يزيد بن المفرغ :
لا ذعرتُ السوام في فلق الصبـ ـحِ مُغيراً ولا دعـيت يـزيدا
يوم اُعطى مخافة الموت ضيماً والمنايا ترصدنني أن أحيدا(1)

لقد كان على ثقة أنّ المنايا ترصده لا تحيد عنه ما دام مصمّماً على عزمه الجبّار في أن يعيش عزيزاً ولا يخضع لحكم يزيد .
احتفاف الحجاج والمعتمرين بالإمام ()

وانتهى الإمام () إلى مكة المكرّمة ليلة الجمعة لثلاث ليال مضين من شعبان(2) , وقد حطّ رحله في دار العباس بن عبد المطلب(3) ، وقد استقبله المكّيون استقبالاً حافلاً ، وجعلوا يختلفون إليه بكرةً وعشيةً وهم يسألونه عن أحكام دينهم ، كما يسألونه عن موقفه تجاه الحكم القائم .
ـــــــــــــــــــــ
(1) خطط المقريزي 2 / 285 .
(2) تاريخ الطبري 6 / 190 .
(3) تاريخ ابن عساكر 13 / 68 .
الصفحة (195)

وأخذ القادمون إلى بيت الله الحرام من الحجاج والمعتمرين يختلفون إليه ويطوفون حوله ، ويتبرّكون بتقبيل يده ويلتمسون منه العلم والحديث ، ولم يترك الإمام لحظة واحدة من الوقت تمرّ دون أن يبثّ الوعي الاجتماعي والسياسي في نفوس القادمين إلى بيت الله الحرام ، ويدعوهم إلى اليقظة والحذر من الحكم الاُموي الهادف إلى استعباد المسلمين وإذلالهم .
فزع السلطة المحلّيّة

وفزعت السلطة المحلية في مكة من قدوم الإمام () ، وخافت أن يتّخذها مقرّاً سياسياً لدعوته ومنطلقاً لإعلان الثورة على حكومة يزيد ، وقد خفّ حاكم مكة عمرو بن سعيد الأشدق إلى الإمام () ، وقال له : ما أقدمك ؟
ـ (( عائذاً بالله وبهذا البيت ))(1) .
لقد جاء الإمام () إلى مكة عائذاً ببيت الله الحرام الذي مَنْ دخله كان آمناً من كلّ ظلم واعتداء . ولم يحفل الأشدق بكلام الإمام () ، وإنّما رفع رسالة إلى يزيد أحاطه بها علماً بمجيء الإمام إلى مكّة واختلاف الناس إليه ، وازدحامهم على مجلسه , وإجماعهم على تعظيمه ، وأنّ ذلك يشكّل خطراً على الدولة الاُمويّة .

واضطرب يزيد حينما وافته رسالة عامله الأشدق ، فرفع إلى ابن عباس رسالة يُمنّي فيها الإمام الحسين () بالسلامة إن استجاب لبيعته , ويتهدّده إن لم يستجب لذلك .

وقد أجابه ابن عباس : أنّ الحسين إنّما نزح عن يثرب لمضايقة السلطة المحلّيّة له ، كما وعده أن يلقى الإمام ويعرض عليه ما طلبه منه ، وقد ذكرنا ذلك في (حياة الإمام الحسين ـ نصّ رسالة يزيد وجواب ابن عباس) .
ـــــــــــــــــــــ
(1) انظر تذكرة الخواصّ / 248 .
الصفحة (196)
إعلان التمرّد في العراق

وبعدما هلك معاوية أعلن العراقيون رفضهم لبيعة يزيد وخلعهم لطاعته ، فكانت أندية الكوفة تعجّ بمساوئ معاوية وابنه الخليع يزيد ، وذهب المستشرق (كريمر) إلى أنّ الأخيار والصلحاء من الشيعة ينظرون إلى يزيد نظرتهم إلى ورثة أعداء الإسلام(1) .
وعلى أيّ حال ، فإنّ أهل الكوفة لم يرضوا بحكم يزيد وأجمعوا على خلع بيعته ، وقد عقدت الشيعة مؤتمراً عاماً في بيت سليمان بن صرد الخزاعي ، وهو من أكابر زعمائهم ، وألقوا الخطب الحماسية التي أظهرت مساوئ الاُمويِّين وما اقترفوه من الظلم والجور ضدّ شيعة أهل البيت ، ودعوا إلى البيعة للإمام الحسين () .

وكان من جملة الخطباء سليمان بن صرد ، وقد جاء في خطابه : إنّ معاوية قد هلك ، وإنّ حسيناً قد قبض على القوم بيعته , وقد خرج إلى مكة ، وأنتم شيعته وشيعة أبيه ، فإن كنتم تعلمون أنّكم ناصروه ومجاهدو عدوّه فاكتبوا إليه ، وإن خفتم الوهن والفشل فلا تغرّوا الرجل من نفسه .
وتعالت أصواتهم من كلّ جانب ، وهم يقولون بحماس بالغ : نقتل أنفسنا دونه ، نقاتل عدوّه . وأظهروا بالإجماع دعمهم الكامل للحسين () ، ورغبتهم الملحّة في نصرته والدفاع عنه ، وأجمعوا على إرسال وفد إليه يدعونه للقدوم إليهم .
وفود أهل الكوفة للإمام ()

وأرسلت الكوفة وفوداً متعدّدة إلى الإمام () يدعونه إلى القدوم إلى مصرهم ؛ لينقذهم
ـــــــــــــــــــــ
(1) العقيدة والشريعة في الإسلام / 69 .
الصفحة (197)

من ظلم الاُمويِّين وجورهم ، ويعلنون دعمهم الكامل له ، وكان من بين الوافدين عبد الله الجدلي(1) .
رسائل أهل الكوفة

وعمد أهل الكوفة إلى كتابة جمهرة من الرسائل إلى الإمام () يحثّونه على القدوم إليهم ؛ لينقذ الاُمّة من شرّ الاُمويِّين .

وكان من بين تلك الرسائل رسالة بعثها جماعة من شيعة الإمام ، وجاء فيها بعد البسملة : من سليمان بن صرد ، والمسيب بن نجيّة ، ورفاعة بن شداد ، وحبيب بن مظاهر وشيعته والمسلمين من أهل الكوفة . أمّا بعد ، فالحمد لله الذي قصم عدوّك الجبّار العنيد ـ يعني معاوية ـ الذي انتزا على هذه الاُمّة فابتزّها أمرها ، وغصبها فيئها , وتأمّر عليها بغير رضاً منها ، ثمّ قتل خيارها واستبقى شرارها ، وجعل مال الله دولة بين جبابرتها وأغنيائها ، فبُعداً له كما بعدت ثمود !
إنّه ليس علينا إمام فاقبل لعلّ الله يجمعنا بك على الحقّ . واعلم أنّ النعمان بن بشير في قصر الإمارة لسنا نجتمع معه في جمعة ولا نخرج معه إلى عيد ، ولو بلغنا أنّك قد أقبلت إلينا أخرجناه حتّى نلحقه بالشام إن شاء الله ، والسّلام عليك ورحمة الله وبركاته(2) .
كما وردت إليه رسائل من الانتهازيين وشيوخ الكوفة ، كان منها ما أرسله شبث بن ربعي اليربوعي ، ومحمد بن عمر التميمي ، وحجّار بن أبجر العجلي ، ويزيد بن الحارث الشيباني ، وعزرة بن قيس الأحمسي ، وعمرو بن الحجّاج الزبيدي ، وهذا نصّها :
ـــــــــــــــــــــ
(1) مقاتل الطالبيّين / 95 .
(2) أنساب الأشراف / 157 .الصفحة (198)
أمّا بعد , فقد اخضرّ الجناب ، وأينعت الثمار ، وطمت الجمام(1) ، فاقدم على جند لك مجنّدة ، والسّلام عليك(2) .
وأعربت هذه الرسالة عن شيوع الأمل وازدهار الحياة ، وتهيئة البلاد عسكرياً للأخذ بحقّ الإمام () ومناجزة خصومه ، وقد وقّعها اُولئك الأشخاص الذين لا يؤمنون بالله ، وكانوا في طليعة القوى العسكريّة التي زجّها ابن مرجانة لحرب الإمام () .
وعلى أيّ حال , فقد توافدت الرسائل يتبع بعضها بعضاً على الإمام حتّى اجتمع عنده في نوب متفرّقة اثنا عشر ألف كتاب ، ووردت عليه قائمة فيها مئة وأربعة ألف اسم يعربون فيها عن نصرتهم واستعدادهم الكامل لطاعته حال ما يصل إلى مقرّهم .
ولكن بمزيد الأسف لقد انطوت تلك الصحيفة وتبدّلت الأوضاع إلى ضدّها ، وإذا بالكوفة تنتظر الحسين () لتثب عليه فتريق دمه ودماء أهل بيته وأصحابه , وتسبي عياله ، وهكذا شاءت المقادير ولا رادّ لأمر الله تعالى وقضائه .
إيفاد مسلم إلى العراق

وعزم الإمام () على أن يلبّي طلب أهل الكوفة ويستجيب لدعوتهم ، فأوفد إليهم ممثّله العظيم ابن عمّه مسلم بن عقيل ليعرّفه باتجاهاتهم وصدق نيّاتهم ، فإن رأى منهم عزيمة مصمّمة فيأخذ منهم البيعة .

وزوّده بهذه الرسالة : (( من الحسين بن علي إلى مَنْ بلغه كتابي هذا من أوليائه وشيعته بالكوفة , سلام عليكم . أمّا بعد , فقد أتتني كتبكم وفهمت ما ذكرتم من محبّتكم لقدومي عليكم ، وأنا باعث إليكم بأخي وابن عمّي وثقتي من أهلي مسلم بن عقيل ؛ ليعلم لي كُنه
ـــــــــــــــــــــ
(1) الجمام : الآبار .
(2) أنساب الأشراف / 158 ـ 159 .



الصفحة (199)

أمركم ، ويكتب إليّ بما يتبيّن له من اجتماعكم ؛ فإن كان أمركم على ما أتتني به كتبكم وأخبرتني به رسلكم أسرعت القدوم إليكم إن شاء الله ، والسّلام ))(1) .
مسلم في بيت المختار

وسار مسلم يطوي البيداء حتّى انتهى إلى الكوفة فنزل في بيت المختار الثقفي(2) ، وهو من أشهر أعلام الشيعة ، ومن أحبّ الناس وأنصحهم وأخلصهم للإمام الحسين () .
وفتح المختار أبواب داره لمسلم ، وقابله بمزيد من الحفاوة والتكريم , ودعا الشيعة لمقابلته ، فهرعوا إليه من كلّ حدب وصوب وهم يظهرون له الولاء والطاعة ، وكان مسلم يقرأ عليهم رسالة الإمام الحسين () وهم يبكون ، ويبدون تعطّشهم لقدومه والتفاني في نصرتهم له ؛ ليعيد في مصرهم حكم الإمام أمير المؤمنين () ، وينقذهم من جور الاُمويِّين وظلمهم.
البيعة للحسين ()

وانهالت الشيعة على مسلم تبايع للإمام الحسين () ، وكان حبيب بن مظاهر هو الذي يأخذ منهم البيعة للحسين ()(3) ، وكان عدد المبايعين أربعين ألفاً ، وقيل أقلّ من ذلك(4) .
رسالة مسلم للحسين ()

وازداد مسلم إيماناً ووثوقاً بنجاح الدعوة ، وبُهر من العدد الهائل الذين بايعوا
ـــــــــــــــــــــ
(1) الأخبار الطوال / 210 .
(2) الحدائق الوردية 1 / 125 ، (مخطوط) .
(3) حياة الإمام الحسين () 2 / 347 .
(4) وفي رواية البلاذري أنّ جميع أهل الكوفة معه .
الصفحة (200)

الحسين () فكتب له : أمّا بعد ، فإنّ الرائد لا يكذب أهله ، وقد بايعني من أهل الكوفة ثمانية عشر ألفاً(1) ، فعجّل حين يأتيك كتابي هذا ؛ فإنّ الناس كلّهم معك ليس لهم في آل معاوية رأي ولا هوى .
لقد حكت مسلم هذه الرسالة أنّ هناك إجماعاً عاماً على بيعة الإمام () , وتلهّفاً حارّاً لقدومه ، وقد حمل الرسالة جماعة من أهل الكوفة وعليهم البطل عابس الشاكري ، وعند ذلك تهيّأ الإمام الحسين () للخروج من مكة إلى العراق .
فزع يزيد

وفزع يزيد حينما وافته الأنباء من عملائه بمجيء مسلم بن عقيل إلى الكوفة وأخذه البيعة للإمام الحسين () ، واستجابة الجماهير لبيعة الإمام .

وشعر يزيد بالخطر الذي يهدّد ملكه , فاستدعى سرجون الرومي ، وكان مستودع أسرار أبيه , ومن أدهى الناس ، وعرض عليه الأمر قائلاً : ما رأيك ؟ إنّ حسيناً قد توجّه إلى الكوفة ، ومسلم بن عقيل بالكوفة يبايع للحسين ، وقد بلغني عن النعمان ـ وهو والي الكوفة ـ ضعف وقول سيِّئ ، فما ترى مَنْ استعمل على الكوفة ؟
وأخذ سرجون يُطيل التأمّل حتّى توصّل إلى نتيجة حاسمة , فقال له : أرأيت أنّ معاوية لو نُشر أكنت آخذ رأيه .
ـ نعم .
فأخرج سرجون عهد معاوية لعبيد الله بن زياد على الكوفة , وقال له : هذا رأي معاوية , وقد مات ، وقد أمر بهذا الكتاب(2) .
ـــــــــــــــــــــ
(1) تاريخ الطبري 6 / 224 .
(2) تاريخ ابن الأثير 3 / 268 .
الصفحة (201)

واستجاب يزيد لرأي مستشار أبيه ، فعهد بولاية الكوفة إلى ابن زياد .
ولاية ابن زياد على الكوفة

وكان يزيد ناقماً على ابن زياد , وأراد عزله عن ولاية البصرة(1) ؛ وذلك لموقف أبيه زياد من يزيد ؛ فقد عذل أباه معاوية عن ترشيحه للخلافة من بعده .
وعلى أيّ حال , فقد عهد يزيد بولاية البصرة والكوفة إلى ابن زياد ، وبذلك فقد خضع العراق بأسره لحكمه ، وكتب إليه ما يلي : أمّا بعد , فقد كتب إليّ شيعتي من أهل الكوفة يخبرونني أنّ ابن عقيل بالكوفة يجمع الجموع لشقّ عصا المسلمين ، فسر حين تقرأ كتابي هذا حتّى تأتي الكوفة فتطلب ابن عقيل كطلب الخرزة حتّى تثقفه فتوثقه , أو تقتله أو تنفيه ، والسّلام(2) .
وبعث إليه برسالة اُخرى يطلب فيها الإسراع منه إلى الكوفة ، وقد جاء فيها : إن كان لك جناحان فطر إلى الكوفة(3) .
وحمل رسالة يزيد مسلم بن عمرو الباهلي إلى ابن زياد ، وأخذ يجدّ في السير حتّى انتهى إلى البصرة , فسلّم الرسالة إلى ابن زياد وقد طار فرحاً ؛ فقد تمّ له الحكم على جميع العراق بعدما كان مهدّداً بالعزل عن ولاية البصرة .
ابن زياد في الكوفة

وسار ابن زياد إلى الكوفة وقد قطع الطريق بسرعة خاطفة فكان يسير ليلاً ونهاراً ؛ مخافة أن يسبقه الحسين إليها ، وقد صحب معه خمسمئة رجل من أهل البصرة كان
ـــــــــــــــــــــ
(1) البداية والنهاية 8 / 152 .
(2) حياة الإمام الحسين 2 / 354 .
(3) سير أعلام النبلاء 3 / 201 .
الصفحة (202)

فيهم شريك بن الأعور الحارثي , وهو من خلّص أصحاب الإمام الحسين ()(1) .

وقد لبس ثياباً يمانية وعمامة سوداء ليوهم مَنْ رآه أنّه الحسين () ، ودخل الكوفة ممّا يلي النجف ، وأسرع نحو قصر الإمارة وهو فزع مذعور ؛ مخافة أن يعرفه الناس ، وساءه كأشدّ ما يكون الاستياء من تباشير الناس بقدومه ظانّين أنّه الحسين () .
وانتهى ابن مرجانة إلى باب القصر فوجده مغلقاً ، والنعمان بن بشير حاكم الكوفة قد أشرف من أعلى القصر , وقد توهّم أنّ القادم هو الحسين () ؛ لأنّ أصوات الجماهير قد تعالت بالترحيب به والهتاف بحياته .

فانبرى مخاطباً له : ما أنا بمؤدّ إليك أمانتي يابن رسول الله ، وما لي في قتالك من إرب .
ولمس ابن مرجانة الضعف والانهيار في كلام النعمان , فصاح به : افتح لا فتحت ! فقد طال ليلك . ولمّا تكلّم عرفه الناس , فصاحوا : إنّه ابن مرجانة وربّ الكعبة ! وجفل الناس وخافوا وهربوا مسرعين إلى دورهم .

وبادر ابن زياد في ليلته فاستولى على المال والسلاح ، وأنفق ليله ساهراً قد جمع حوله عملاء الحكم الاُموي , وهم يحدّثونه عن الثورة ويعرّفونه بأعضائها البارزين ، ويضعون أمامه المخطّطات الرهيبة للقضاء عليها .
وقام ابن زياد في الصباح الباكر فأمر عملاءه بجمع الناس في المسجد الأعظم ، فاجتمعت الجماهير الحاشدة وقد خيّم عليها الذعر والخوف ، وخرج ابن زياد متقلّداً سيفه , ومعتمّاً بعمامة , فاعتلى المنبر وخطب الناس .

وكان من جملة خطابه : أمّا بعد ، فإنّ أمير المؤمنين يزيد ـ أصلحه الله ـ ولاّني مصركم وثغركم وفيئكم ، وأمرني بإنصاف مظلومكم , وإعطاء محرومكم ، والإحسان إلى سامعكم
ـــــــــــــــــــــ
(1) تاريخ الطبري 6 / 199 .
الصفحة (203)

ومطيعكم ، وبالشدّة على مريبكم ، فأنا لمطيعكم كالوالد البارّ الشفيق ، وسيفي وسوطي على مَنْ ترك أمري وخالف عهدي ، فليبق امرؤ على نفسه , الصدق يُنبئ عنك لا الوعيد(1) .
وقام بنشر الإرهاب وإشاعة الخوف بين الناس ، ويقول بعض المؤرّخين : إنّه لمّا أصبح ابن زياد ـ بعد قدومه إلى الكوفة ـ صال وجال , وأرعد وأبرق ، وأمسك جماعة من أهل الكوفة فقتلهم في الساعة(2) .
وفي اليوم الثاني أمر بجمع الناس وخرج إليهم بزيّ غير ما كان يخرج به ، فخطب خطاباً عنيفاً تهدّد فيه وتوعد ، وقال : أمّا بعد ، فإنّه لا يصلح هذا الأمر إلاّ في شدّة من غير عنف , ولين من غير ضعف ، وأن آخذ البريء بالسقيم ، والشاهد بالغائب ، والولي بالولي .
فردّ عليه رجل من أهل الكوفة يُقال له أسد بن عبد الله المرّي قائلاً : أيّها الأمير ، إنّ الله تبارك وتعالى يقول : ( وَلا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى ) , إنّما المرء بجده ، والفرس بشدّه ، وعليك أن تقول وعلينا أن نسمع ، فلا تقدم فينا السيّئة قبل الحسنة .
واُفحم ابن زياد , فنزل عن المنبر ودخل قصر الإمارة(3) .
مسلم في بيت هانئ

وبعدما كان مسلم في بيت المختار اضطر إلى تغيير مقرّه ؛ فقد شعر بالخطر الذي داهمه بقدوم الطاغية ابن مرجانة ، فهو يعلم أنّ هذا الوغد لا يتحرّج من اقتراف أيّ جريمة في سبيل الوصول إلى أهدافه .
ـــــــــــــــــــــ
(1) مقاتل الطالبيّين / 97 .
(2) الفصول المهمّة / 197 .
(3) حياة الإمام الحسين () 2 / 160 . والتجأ مسلم إلى دار الزعيم الكبير زعيم الكوفة هانئ بن عروة فهو سيّد مراد ، وعنده من القوّة ما يضمن حماية مسلم ، فاتّخذ داره معقلاً للثورة ومركزاً للدعوة ، وقد قابله هانئ بمزيد زائد من الحفاوة والتكريم ، وأخذ الكوفيون يتوافدون على مسلم زرافات ووحداناً ، وهم يلحّون عليه أن يكتب إلى الإمام الحسين () بالمجيء إليهم .
التجسّس على مسلم ()

وأوّل بادرة وأخطرها قام بها ابن زياد هي التجسّس على مسلم () ، ومعرفة نشاطاته السياسيّة , والوقوف على نقاط القوّة والضعف عنده .

وقد اختار للقيام بهذه المهمّة معقلاً مولاه , وكان فطناً ذكياً ، فأعطاه ثلاثة آلاف درهم وأمره أن يتّصل بالشيعة ويعرّفهم أنّه من أهل الشام ، وأنّه من موالي ذي الكلاع الحميري ، وإنّما أمره بالانتساب للموالي ؛ لأنّ الصبغة السائدة لهم هي الولاء لأهل البيت (عليهم السّلام) ، وقال له : إذا التقيت بأحد من الشيعة فقل له : إنّه ممّن أنعم الله عليه بحبّ أهل البيت ، وقد سمع أنّه قدم رجل منهم إلى الكوفة يدعو للإمام الحسين ، وعنده مال يريد أن يلقاه ليوصله إليه حتّى يستعين به على حرب عدوّه .

ومضى معقل في مهمّته , فدخل الجامع الأعظم وجعل يسأل عمّن له معرفة بمسلم , فأرشدوه إلى مسلم بن عوسجة ، وهو من ألمع شخصيات الشيعة في الكوفة ، فانبرى إليه يُظهر الإخلاص والولاء لأهل البيت (عليهم السّلام) قائلاً : إنّي أتيتك لتقبض منّي هذا المال ، وتدلّني على صاحبك لاُبايعه ، وإن شئت أخذت بيعتي قبل لقائي إيّاه .
وخدع مسلم بقوله ، فقال له : لقد سرّني لقاؤك إيّاي لتنال الذي تنال , والذي تحبّ ، وينصر الله بك أهل نبيّه ، وقد ساءني معرفة الناس إيّاي من قبل أن يتمّ ؛ مخافة هذا الطاغية وسطوته . ثمّ أخذ منه البيعة والمواثيق المغلّظة على النصيحة
الصفحة (205)

وكتمان الأمر(1) .
وفي اليوم الثاني أدخله على مسلم , فبايعه وأخذ منه المال وأعطاه إلى أبي ثمامة الصائدي ، وكان موكّلاً بقبض المال ليشتري به السّلاح والكلاع .

وكان هذا الجاسوس الخطير معقل أوّل داخل على مسلم وآخر خارج منه ، وقد أحاط بجميع أسرار الثورة , ونقلها إلى ابن زياد حتّى وقف على جميع مخطّطات الثورة وأعضائها .
اعتقال هانئ

وعرف ابن زياد أنّ أهم أعضاء الثورة هانئ بن عروة الزعيم الكبير , وفي بيته مسلم بن عقيل ، فأرسل وفداً خلفه كان منهم حسّان بن أسماء بن خارجة زعيم فزارة ، ومحمّد بن الأشعث زعيم كندة ، وعمرو بن الحجّاج وهو من زعماء مذحج ، ولمّا التقوا به قالوا له : ما يمنعك من لقاء الأمير ؛ فإنّه قد ذكرك وقال : لو علم أنّه شاكٍ لعدته .
فاعتذر لهم وقال : الشكوى تمنعني . فلم يقنعوا بذلك ، وأخذوا يلحّون عليه في زيارته ، فاستجاب لهم على كره وسار معهم ، فلمّا كان قريباً من القصر أحسّت نفسه بالشرّ ، فقال لحسان بن أسماء : يابن الأخ ، إنّي والله لخائف من هذا الرجل , فما ترى ؟

فقال له حسان : يا عمّ ، والله ما أتخوّف عليك شيئاً ، ولم تجعل على نفسك سبيلاً . وأخذ القوم يلحّون عليه بمقابلة ابن مرجانة فاستجاب لهم , ولمّا مثل أمامه استقبله ابن مرجانة بعنف ، وقال له : أتتك بخائن رجلاه .
وذعر هانئ فقال له :
ـــــــــــــــــــــ
(1) تاريخ ابن الأثير 3 / 269 .












عرض البوم صور الشيخ عباس محمد   رد مع اقتباس
إضافة رد


المواضيع المتشابهه
الموضوع كاتب الموضوع المنتدى مشاركات آخر مشاركة
حياة زينب ع 1 الشيخ عباس محمد منتدى السيدة زينب (سلام الله عليها) 3 02-08-2015 11:18 PM
حجاب فاطمه الزهراء والسيده زينب عليهما السلام الوردة الفاطمية منتدى الزهراء البتول (سلام الله عليها) 7 19-04-2014 10:04 AM
شذرات من حياة العقيله(زينب الكبرى)عليها السلام محب الرسول منتدى السيدة زينب (سلام الله عليها) 5 26-06-2013 01:50 AM
مشهد من حياة أم المصائب زينب عليها السلام الخادم الصغير منتدى أهل البيت (عليهم السلام) 11 09-06-2012 04:50 PM
نبذة مختصرة من حياة السيدة زينب(عليها السلام) عاشق ابي عبد الله منتدى الوصي المرتضى (سلام الله عليه) 5 17-10-2010 02:02 PM


أدوات الموضوع
انواع عرض الموضوع

تعليمات المشاركة
لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
لا تستطيع الرد على المواضيع
لا تستطيع إرفاق ملفات
لا تستطيع تعديل مشاركاتك

BB code is متاحة
كود [IMG] متاحة
كود HTML معطلة

الانتقال السريع

Loading...

Powered by vBulletin® Copyright ©2000 - 2024, Jelsoft Enterprises Ltd. TranZ By Almuhajir
جميع الحقوق محفوظة لمنتديات احباب الحسين