سِورُ القرآن كانت محدَّدة ومرسومة منذُ العهد النبويِّ
بسم الله الرحمن الرحيم
اللهمَّ صلِّ على محمد وآل محمد
المسألة:
هل سور القرآن في عهد النبيِّ الكريم (ص) كما هي عليه الآن أو أنَّ الآيات صنِّفت إلى سورٍ في عهدٍ لاحق؟
الجواب:
السورة القرآنية هي مجموعة من الآيات منها ما نزل دفعةً واحدة كالكثير من قصار السور، ومنها ما نزل منجَّماً على دفعات، وكان النبيٌّ الكريم (ص) يأمر كتَّاب الوحي عند الشروع في سورةٍ جديدة بتصديرها بالبسملة ثم يأمرُ كتَّاب الوحي كلَّما نزلت آيةٌ أو مقطوعةٌ من الآيات أنْ تُضاف إلى تلك السورة إلى أنْ تنزل خاتمة تلك السورة، وقد يأمرُ (ص) بالشروع في سورةٍ جديدة قبل أنْ تُختم التي قبلها، وقد يأمرُ (ص) بالشروع في سورةٍ ثالثة قبل أن تُختم السورة أو السورتان أو الثلاث التي سبقتها ثم إذا نزلت آية أو مقطوعةٌ من الآيات يأمرُ كتَّاب الوحي أن تُضاف إلى إحدى السور التي لم تُختم يُحدِّدها لهم إلى أنْ يُبيِّن لهم أنَّها خُتمت، وهكذا كانت الكيفيَّة في تصنيف السِور وترتيب آياتها وضبط مقدارها إلى أنْ تمَّ نزول القرآن كاملاً.
فسِوَرُ القرآن التي هي عليه الآن هي ذاتُها السِوَر التي كانت على عهد رسول الله (ص) فهو مّن أشرف -بأمر الله تعالى- على تصنيفها وترتيب آيات كلِّ سورة، نعم قد لا تكون السور مرتَّبة في مصاحف الصحابة بالنحو الذي عليه الترتيب الفعلي، فقد يتَّفق أنْ تكون سورةُ النساء -مثلاً- في بعض مصاحف الصحابة قبل سورة آل عمران، وقد تكون سورة هود قبل سورة يونس وهكذا، فالاختلاف إنَّما هو في ترتيب السور، وأما ترتيب آيات كلِّ سورة وتحديد مقدار ما هي مشتملةٌ عليه من الآيات فهو مِن فعل رسول الله (ص) وأمرِه المستنِد إلى أمر الله جلَّ وعلا.
نصُّ القرآن على عنوان السورة والسِوَر:
ويؤكِّد ذلك أنَّ عنوان السورة والسور قد تمَّ النصُّ عليه في العديد من الآيات كقوله تعالى: ﴿وَيَقُولُ الَّذِينَ آَمَنُوا لَوْلَا نُزِّلَتْ سُورَةٌ فَإِذَا أُنْزِلَتْ سُورَةٌ مُحْكَمَةٌ وَذُكِرَ فِيهَا الْقِتَالُ رَأَيْتَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ﴾(1) وكقوله تعالى: ﴿سُورَةٌ أَنْزَلْنَاهَا وَفَرَضْنَاهَا وَأَنْزَلْنَا فِيهَا آَيَاتٍ بَيِّنَاتٍ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ﴾(2) فهذه الآية والتي قبلها ظاهرة في معهودية عنوان السورة وأنَّها المشتملة على مجموعة من الآيات.
وكقوله تعالى: ﴿أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ قُلْ فَأْتُوا بِعَشْرِ سُوَرٍ مِثْلِهِ﴾(3) فالقرآن تحدَّى في هذه الآية بالإتيان بعشر سور من مثل سِور القرآن، ومعنى ذلك أنَّ السُور القرآنية كانت محدَّدة ومشخصة منذ العهد النبوي، ولهذا صحَّ التحدي بها إذ لا معنى للتحدي بعشر سور لو لم تكن السور مصنفة وقابلة لأن يُشار إليها.
الروايات تدلُّ على أنَّ السور كانت محدَّدة في العهدِ النبوي:
ويؤكِّد أنَّ السور كانت محدَّدة منذ العهد النبوي الكثير من الروايات الواردة من طريق الفريقين:
أقول: هذه الرواية صريحةٌ في أنَّ السِوَر كانت قائمة وأنَّ كلاً منها كانت ذات هويَّة مشخصة محدَّدة في عهد النبيِّ الكريم (ص) بالنحو الذي عليه الآن.
والمراد من السبع الطوال هي سورةُ البقرة، وسورة آل عمران، وسورة النساء وسورة المائدة وسورة الأنعام، وسورة الأعراف، فهذه سورٌ ستٌّ، والسورةُ السابعة من الطوال قيل هي سورة يونُس، وقيل هي سورة التوبة.
وأمَّا المئين من السور فهي التي يصلُ عددُ آياتِها إلى مائة أو يزيد قليلاً أو ينقص قليلاً، وهي سبعُ سورٍ -كما قيل- أولُها سورة بني إسرائيل وهي سورةُ الإسراء وآخرها سورة المؤمنون، وقيل إنَّ المئين هي السور التي تقع بعد السبع الطوال ممَّا يصل عددُ آياتها مائة أو يزيد قليلاً.
وأما المثاني فهي السورُ التي هي دون المِئين في الطول وفوق المفصَّل وقيل غير ذلك.
وأما المفصَّل من السور فهي الواقعة بعد الحواميم من السور إلى آخر القرآن، وسُمِّيت كلُّ سورةٍ من هذه السور بالمفصَّل لقصرها ممَّا يقتضي الفصل بينها وبين السورة التي تليها بالبسملة.
أقول : مقتضى أمر النبيِّ (ص) بتعليم البنت سورة النور هو أنَّ سورة النور كانت ذات هويَّة محدَّدة ومشخَّصة، إذ لا معنى للأمر بتعليمها وهي غيرة ذات وجود متعيِّن ومشخَّص يمكن الرجوع إليه.
ومنها: ما أورده القاضي النعمانُ المغربي في دعائم الإسلام قال: وعن عليٍّ ( ع ) أنَّ رسول الله ( ص) قال: من ولد له مولود، فليؤذِّنْ في أُذنِه اليمنى وليُقِم في اليسرى، فإنَّ ذلك عصمةٌ له من الشيطان .. وأنْ يقرأ مع الأذان والإقامة في آذانهما فاتحةَ الكتابِ وآيةَ الكرسيِّ وآخِرَ سورةِ الحشر، وسورة الاخلاص والمعوِّذتين"(8).
أقول : التعبير من قبل النبيِّ (ص) بآخر سورة الحشر معناه أنَّ ثمة سورة كاملة لها كيانٌ محدَّد -افتتحاية وخاتمة- اسمُها سورة الحشر.
ومنها: ما أورده الشيخ الصدوق في الخصال بسنده جابر بن عبد الله قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وآله): "أنا أشبه الناس بآدم .. وأنا القيم الكامل الجامع ومنَّ علي ربِّي، وقال: يا محمد صلى الله عليك قد أرسلتُ كلَّ رسولٍ إلى أُمتِه بلسانها وأرسلتُك إلى كلِّ أحمرٍ وأسود مِن خلقي، ونصرتُك بالرعب الذي لم أنصر به أحداً، وأحللت لك الغنيمة، ولم تحلَّ لاحدٍ قبلك، وأعطيتُ لك ولأُمَّتِك كنزاً من كنوز عرشي فاتحةَ الكتاب وخاتمةَ سورة البقرة .."(9).
أقول: الامتنان على النبيِّ (ص) بخاتمة سورة البقرة يقتضي أن تكون سورة البقرة ذات شخصيَّة محدَّدة ومنضبطة وأنَّ لها افتتاحيَّة وخاتمة.
ومنها: ما أرده القاضي النعمانُ المغربي في دعائم الإسلام قال: روينا عن رسول الله (ص): أنَّه زوَّج امرأةً رجلاً مِن أصحابه على أنْ يُعلِّمها سورةً من القرآن"(10).
أقول: هذه الرواية وشبهها تدلُّ على أنَّ القرآن كان مصنَّفاً إلى سورٍ منذُ العهد النبوي ولم يكن مجرَّد آيات متناثرة .
ومنها: ما أورده الشيخ الصدوق في عيون أخبار الرضا (ع) بأسانيد متعدِّدة عن الرضا (ع) عن آبائه عن علي بن أبي طالب (ع) قال: قال رسول الله (ص): "من قرء سورة إذا زلزلت الأرض أربع مرات كان كمن قرأ القرآن كله"(11).
أقول : الحثُّ من قبل النبي(ص) على قراءة سورة إذا زلزلت فرع وجودها وانضباط آياتها في عهده الشريف.
ومنها: ما في صحيح مسلم عن عبد الله بن مسعود قال: "فلقد قرأتُ على رسول الله (صلَّى الله عليه وآله وسلم) بضعًا وسبعين سورة .."(12) قال عبد الله بن مسعود كما في المعجم الكبير للطبراني: "قرأتُ على رسول الله (صلَّى الله عليه وآله وسلم) سبعين سورةً وختمتُ القرآن على خير الناس عليِّ بن أبي طالب"(13) وفي رواية: ".. فأخذتُ من فِي رسول الله (صلَّى الله عليه وآله وسلم) سبعين سورة وأخذتُ سائر القرآن من أصحابه"(14).
هذه مجموعة مستفيضة من الروايات -وثمة الكثير غيرها- تدلُّ على أنَّ سور القرآن كانت محدَّدة ومنضبطة ومشخَّصة منذُ العهد النبويِّ الشريف، نعم لم تكن أسماء السور توقيفيَّة، وإنَّما يتمُّ تشخيصها بمثل السورة التي ذُكرت فيها البقرة والسورة التي ذكرت فيها الأعراف أو يتمُّ تشخيصها بصدر السورة كأنْ يُقال سورة إذا زلزلت أو سورة ألهكم التكاثر وسورة قل يا أيها الكافرون، وثمة سور كانت تعرَّف بأكثر من اسم مثل سورة الفاتحة وسورة قل هو الله أحد، وسورة براءة.